صناعة الإرهاب في العالم العربي
فئة : مقالات
صناعة الإرهاب في العالم العربي[1]
أصبح الإرهاب محط اهتمام جميع دول العالم، فتوسعه وقوة تأثيره عبر منظمات عابرة للحدود، جعلت منه أبرز ظاهرة في القرن الواحد والعشرين، حيث تخطى جميع الحدود الجغرافية، ولم يعد ارتباطه مقتصرا على منطقة معينة، بل ظاهرة عالمية تثير متابعة الباحثين، الكتاب والمثقفين، وتحظى كذلك بانتباه الفعاليات السياسية والدينية التي تسعى لتحليل الظاهرة ومعالجتها.
وقد شكلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001 نقطة تحول كبير في التعاطي مع الإرهاب خاصة في الجوانب السياسية والإعلامية؛ فالتداعيات كبيرة تمثلت في حروب إقليمية وأخرى ذات أبعاد عالمية، ناهيك عن تطور ظاهرة الإرهاب من خلال تنوعه، وإعادة انتشاره بأشكال مختلفة فتارة عبر انتحاريين، وتارة أخرى بتفجيرات استهدافية لمواقع استراتيجية للدول. وبالموازاة مع ذلك، صار الإرهاب مركز السياسات العالمية ومحورا رئيسا في السياسات العامة لكل دولة على حدة، كما ازداد التعاون والتنسيق الأمني بغرض صياغة الاستراتيجيات الأمنية لمكافحة الإرهاب، حماية الحدود والقيام بالحرب عليه.
وفي ذات السياق، تسلط الأضواء على المنطقة العربية عند الحديث عن الإرهاب، ويتم اتهامها ببؤرة الإرهابيين مشتل إنتاج الانتحاريين، ويعود ذلك للكم الهائل من الحروب التي مرت بها المنطقة على مر الزمن، الأمر الذي يجعل الرأي العام الغربي يتهمها بمنبع أغلب التنظيمات الإرهابية العالمية كالقاعدة وداعش اللتين قدّمتا أطروحاتهما بناء على رغبتهما في تحرير الأراضي المحتلة ونصرة الدين، خاصة في منطقة تعتمد على الدين والوطنية في تحفيز الناس وتقوية الجبهة الداخلية.
وإذا تأملنا في خلفية الإرهاب، فهو ذاك العمل الذي يهدف إلى ترويع فرد أو جماعة أو دولة بغية تحقيق أهداف لا تجيزها القوانين المحلية أو الدولية. ويشير الإرهاب إلى منهج حُكم، وإما إلى طريقة عمل مباشر ترمي إلى إثارة "الرهبة"؛ أي إلى إيجاد مناخ من الخوف والرعب والهلع بين السكان، وهو بذلك عبارة عن تقنية عمل عنيفة تستعملها مجموعةٌ سرِّيةٌ ضد مدنيين بهدف الحصول على مطالب سياسية معينة. ويصنف الإرهاب إلى إرهاب جماعي وآخر فردي؛ ويتخذ الأخير عدة أشكال: إرهاب فكري، الضغط النفسي، التسفيه، التحقير والقذف، العنف الجسدي، التكفير وهدر الدم، كما يرتكز هذا النوع من الإرهاب على الحصول على المبتغى بشكل يتعارض مع القانون أو المفاهيم الاجتماعية السائدة، وكذلك على أسباب دينية أو مذهبية.
أما الإرهاب الجماعي، فينقسم إلى منظم وغير منظم؛ فالإرهاب الجماعي غير المنظم تقوم به عصابات غير منظمة لتحقيق مآرب خاصة من خلال أعمال التخريب، النهب، السطو المسلح، العنف الجسدي والقتل الجنائي، والإرهاب الجماعي المنظم هو الإرهاب الذي تمارسه جماعات منظمة تمولها وتشرف عليها مؤسسات أو هيئات أو دول معلنة أو غير معلنة، سعياً لتحقيق أهداف سياسية أو دينية أو مذهبية، ناهيك عن الإرهاب الدولي؛ فذلك الذي تمارسه دولة واحدة أو أكثر عن طريق تسخير إمكاناتها الدبلوماسية أو العسكرية لتحقيق هدف سياسي، أو الاستيلاء على مكتسبات أو ثروات غيرها من الدول، ويستعمل الإرهاب الدولي الضغط الدبلوماسي، الحصار الاقتصادي، القوة العسكرية والقتل المنظم للمدنيين.
وقانونيا، فعلى الرغم من أن موضوع مكافحة الإرهاب مدرجٌ في جدول أعمال منظومة الأمم المتحدة منذ عقود من الزمن، إلا أن التحرك الكبير نحو هذا الموضوع جاء بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001 من خلال إصدار القرار 1373، الذي أنشأ للمرة الأولى لجنة مكافحة الإرهاب. وفيما بعد ذلك، تمت الموافقة من طرف جميع الدول الأعضاء في الجمعية العامة للمرة الأولى على الإطار الاستراتيجي المشترك لمكافحة آفة الإرهاب؛ وذلك بالتصويت على استراتيجية الأمم المتحدة العالمية لمكافحة الإرهاب. وتهتم هذه الأخيرة، بمعالجة الأوضاع التي تساعد على انتشار الإرهاب، منع الإرهاب ومكافحته، بناء قدرات الدول الأعضاء على منع الإرهاب ومكافحته وتعزيز دور منظومة الأمم المتحدة في هذا الصدد، وضمان احترام حقوق الإنسان للجميع وسيادة القانون، باعتبارهما الركن الأساسي لمكافحة الإرهاب.(1)
وفي الدول الغربية، تباينت أساليب معالجة قضايا الإرهاب؛ ففي فرنسا مثلا يعرف الإرهاب على أنه خرق للقانون، يقدم عليه فرد من الأفراد، أو تنظيم جماعي بهدف إثارة اضطراب خطير في النظام العام عن طريق التهديد بالترهيب؛ إذ يلجأ القضاء الفرنسي لقانون العقوبات، والذي يحدد بعض الأفعال المجرمة، والتي يتعاطى معها بصرامة، باعتبارها جرائم إرهابية إذا اتصلت بمشروع إجرامي فردي أو جماعي بهدف الإخلال بالنظام العام من خلال التخويف والترويع.
وعلى الجانب الآخر، يعرف المشرع الأمريكي الإرهاب على أنه خرق للقانون، يقدم عليه فرد من الأفراد، أو تنظيم جماعي بهدف إثارة اضطراب خطير في النظام العام عن طريق التهديد بالترهيب. فهو ذاك السلوك الجنائي العنيف الذي يقصد به بوضوح التأثير على سلوك حكومة ما عن طريق الاغتيال أو الخطف، بينما عرفه مكتب التحقيقات الفيدرالي بأنه عمل عنيف أو عمل يشكل خطراً على الحياة الإنسانية، وينتهك حرمة القوانين الجنائية في أية دولة، غير أن المشرع الأمريكي لم يتعامل مع الإرهاب، باعتباره جريمة مستقلة حتى صدور قانون عام 1996 ثم توالت القوانين بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001 وخاصة فيما يتعلق بمكافحة تمويل الإرهاب. وكانت الولايات المتحدة الأمريكية سباقة في إصدار مجموعة من القوانين المتعلقة بالإرهاب، منها قانون مكافحة اختطاف الطائرات عام 1971، كما سن الكونغرس عقوبات تفرض على البلدان التي تعاون الإرهابيين أو تحرضهم أو تمنحهم ملاذاً في عام 1976.
ويعزى الإرهاب في العالم العربي إلى مجموعة من الأسباب؛ فالحالة السياسية الرديئة التي تقصي المواطنين من المشاركة في صناعة القرار الوطني، وانعدام الثقة في المؤسسات العامة، ثم ارتهان الحركات السياسية، سواء كانت في السلطة أم المعارضة، ناهيك عن فشل المجتمع المدني في احتواء الطاقات الشبابية وتوجيهيها نحو العمل العام.
تم إبرام الاتفاقية العربية لمكافحة الإرهاب سنة 1998، والتي تنص على أن الإرهاب هو كل فعل من أفعال العنف، أو التهديد به أياً كانت بواعثه، أو أغراضه، يقع تنفيذاً لمشروع إجرامي فردي أو جماعي، وبهدف إلقاء الرعب بين الناس، أو ترويعهم بإيذائهم أو تعريض حياتهم أو حريتهم أو أمنهم للخطر أو إلحاق الضرر بالبيئة أو بأحد المرافق أو الأملاك العامة أو الخاصة، أو احتلالها أو الاستيلاء عليها، أو تعريض أحد الموارد الوطنية للخطر. واعتبرت الاتفاقية أن الجريمة الإرهابية هي الجريمة أو الشروع فيها التي ترتكب لغرض إرهابي في أي من الدول المتعاقدة، أو على رعاياها، أو ممتلكاتها أو مصالحها، وعلى أن تعد من الجرائم الإرهابية الجرائم المنصوص عليها في المعاهدات الدولية عدا ما استثنته منها تشريعات الدول المتعاقدة، أو التي لم تصادق عليها.
ولا يمكن فهم أواصر الإرهاب دون الغوص في التطرف، باعتباره عنصرا مركزيا في صناعة الإرهاب ومنظومة إنتاج لفكر الكراهية الممزوجة بالجهل؛ فالتطرّف هو اتخاذ الفرد موقفاً متشدّداً يتسم بالقطيعة في استجاباته للمواقف الاجتماعية التي تهمه، والموجودة في بيئته الزمنية والمكانية، واستخدم مفهوم التطرف في الإشارة إلى الخروج عن القواعد الفكرية، القيم والسلوكيات المتعارف عليها والشائعة في المجتمع، معبراً عنه بالعزلة، أو بالسلبية والانسحاب، أو تبني قيم ومعايير مختلفة، قد يصل الدفاع عنها للجوء إلى العنف بشكل فردي أو جماعي منظم، بهدف إحداث التغيير في المجتمع وفرض الرأي بالقوة على الآخرين. وبذلك، يتحوّل التطرف في العديد من الأحيان من مجرد فكر إلى سلوك ظاهري، عمل سياسي أو ممارسة اجتماعية، يتم استعمال العنف فيها كوسيلة لتحقيق المبادئ التي يؤمن بها الفكر المتطرف، أو اللجوء إلى الإرهاب النفسي، المادي، أو الفكري ضد كل ما يقف عقبة في طريق تحقيق الأفكار المتطرفة.(2)
وفي هذا الصدد، يرتبط التطرّف بالجمود العقائدي والانغلاق الفكري؛ فالتطرف هو أسلوب مغلق للتفكير، أحادي الرؤية، غير قادر على تقبل المعتقدات الأخرى المختلفة عليه، ولا يقبل فكرة التسامح والتعايش معها. ويعتمد التطرّف على التعصب للجماعة التي ينتمي إليها، والتعصب هو اتجاه عقلي وحالة نفسية من الكراهية تستند إلى حكم عام جامد؛ فالتعصب بمثابة انحراف عن المعايير العقلانية مفرط في التعميم، رافض لأي تعديل، ويسعى إلى تصنيف الغير في قوالب نمطية.(3)
في السياق نفسه، تتجلّى مظاهر التطرف في التشدد والغلو في الرأي مع عدم القدرة على إجراء حوار ونقاش متبادل يعتمد على الحجج والبراهين العلمية والفكرية، والعمل على محاسبة الناس دون قبول العكس، سوء الظن في الآخرين ووضعهم في قفص الاتهام والإدانة، وكذلك العزلة عن المجتمع، ازدراء الآخر، إطلاق الأحكام عليه، تعنيفه وتجريده من حقوقه وخاصة حقه في الحياة. ويتخذ التطرف مظاهر عديدة؛ أهمها التطرف الفكري الذي يخص الخروج عن الأطر الفكرية والثقافية السائدة في المجتمع، وكذلك التطرف الديني الذي يعتبر أكثر أنواع التطرف انتشاراً من خلال التشدد في السلوك الديني فكراً وعملاً.
وخلال العقود الأخيرة، أصبح العالم العربي منتِجاً للتطرف بكل أنواعه، خصوصاً الديني. وبعيداً عن مسألة تأويل الدين، أو هناك بالفعل في داخل الدين أشياء تدفع بعض معتنقيه إلى تبني اتجاهات متشددة يوفرها النص، الأمر الذي يستلزم إصلاح الشأن الديني وتجديد الخطاب، وضرورة فتح أبواب الاجتهاد والمعرفة الأصيلة بمقاصد الشريعة، والاعتراف بالمنظور التاريخي للتشريع، وتطويره ليتلاءم مع مقتضيات العصر وإحياء جهود المجدّدين من أعلام مفكري الإسلام، والتوافق مع مواثيق حقوق الإنسان. إلى جانب ذلك، لا بد من العمل على استكمال ثقافة علماء الدين بالمعارف المحدثة والفكر التنويري وإقامة تفسيرات حديثة تخص أوضاع الحريات، ومسألة الجهاد، والتكفير والردة وقضية المرأة في المجتمع.
وبالإضافة إلى ما سبق، ساهمت الأعطاب الاقتصادية في تزايد الاحتقان الاجتماعي، فاستفحال البطالة والفقر، وتدني مستوى العيش وجودة الحياة، حيث عمت الرداءة القطاعات الأساسية كالتعليم، الصحة، العدل، البنية التحتية والخدمات المدنية، مما يكرس ثقافة الجريمة والكراهية. فقد حول الريع الاقتصادي دور الدولة من دولة إنتاجية إلى دولة تحصيصية، اندثرت فيها قيم العمل، والاجتهاد، والابتكار والاستحقاقية، واتسمت بتضخم بيروقراطي مفرط واستفحال الفساد الإداري والمالي وغياب للعدالة الاجتماعية، فتفشي الظلم، الإهمال وسوء توزيع الثروات يأسس للحرمان وتلاشي التماسك الاجتماعي.
إن الإرهاب هو نتاج لسياسات عامة فاشلة، جعلت من الدول العربية مؤسسات بدون عقل في ظل إدارة للحكم بالجريمة بغرض الترويع من أجل التركيع، والتدبير باللقطة، حيث ينصب الاهتمام على المباني وتنسى المعاني ويبحث المسؤول عن التقاط الصور، لا عن تقديم الخدمات منتهجا منطق الإغاثة والطوارئ لا الإصلاح والبناء، فقد صارت الإنجازات خالية من مضمونها كمن يسجل نقاطا بأهداف فارغة، واختزل معنى الوطن في الانتماء العائلي، القبلي والطائفي، كما أن المقاربة الأمنية غير كافية لمواجهة الإرهاب، إذ يستلزم الأمر إصلاحا سياسيا، تنمية اقتصادية ونهضة ثقافية تصحح المفاهيم الخاطئة من خلال منظومة تربوية قويمة وإعلام هادف لا يكون محتواه عبارة عن حشو المجال العام بأضغاث أفكار لا قيمة لها، ولا يكون وسيلة إعدام معنوي ومنصة عقوبة لمعارضي السلطة.
المراجع:
(1) – انظر: دليل التعاون الدولي في المسائل الجنائية لمكافحة الإرهاب، مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، فيينا، 2009
(2) – انظر:
Plenel, E. (2016). Pour les musulmans. La Découverte.
(3) – انظر:
Ramadan, T. (2016). Le génie de l’Islam. Initiation à ses fondements, sa spiritualité et son histoire, Presses Chatelet.
[1]- ذوات العدد 36