ضدّ البنية الأنطولوجيّة
فئة : ترجمات
ضدّ البنية الأنطولوجيّة[1]
بيتر فان إنفاغن
ترجمة: حاتم الهادي سالمي
لنستخدمْ مصطلح «الموجود» من أجل الغايات المشتَركة التي نستعملها للإدراك اليوميّ وللتّفكير وللإحالة، وأيضاً لأيّ أمر مشابه تمام المشابهة لهذه الأمور المذكورة. حسناً، فلنفترضْ «الضرب نفسه من الأمر المذكور لغايات ميتافيزيقيّة». فأنا أستخدم العبارة دون أنْ أضع في الحسبان أيّ تداعيات فلسفيّة قد تحملها (مثال قد يكون من الصعب على بعض الفلاسفة أن يسمعوا، أو يقرؤوا، كلمة «فرد» دون افتراض أنّ إحدى وظائفها تتمثل في أنْ تقف موقف التقابل مع كلمات أخرى مثل «كلّيّات» أو «محمول»).
فنحن البشر، إذاً، موجودات، والطاولات والكراسي موجودات، والحصى والصخور موجودات، والبروتونات والنجوم المتغيّرة موجودات، والجانّ والعفاريت موجودات، والآلهة والشياطين موجودات، والانعكاسات في المرآة والظلال والثقوب والمساحات كلّها موجودات... فهذا يعني، بعبارة أخرى، أنّ العناصر الموجودة في هذه القائمة موجودات أفراد، على افتراض[2] أنّها موجودة فعلاً، وأنّها حقّاً، لأغراض ميتافيزيقيّة، مطابقة للغايات المشتركَة التي نستعملها للإدراك اليوميّ وللتفكير وللإحالة (فيما يتعلّق بالوصف الثاني تدبّرْ مثال البروتونات)؛ لهذا افترضْ أنّ البروتون شيء مثله مثل الصخرة. وهذا تصريح سمعته ذات مرّة من عالم فيزياء حائز على جائزة نوبل.
إنّ هذا التّصريح، إذا أُخذ به بوصفه إسهاماً في الميتافيزيقا، فقد يبدو مفضياً إلى اعتبار البروتونات، مماثلة للحصى والصخور بما فيه الكفاية، باعتبارها من النّوع نفسه لدواعٍ ميتافيزيقيّة. ولكن يُقال إنّه بفضل الخصائص غير المعتادة، المسندة إلى البروتونات من قبل حقل نظريّات الكمّ على غرار النموذج القياسيّ، وقع الأخذ بذاك التصريح، وبعض التصاريح المرتجلة الأخرى، من طرف الفيزيائيين، على المستوى الظاهري للميتافيزيقيا، لبلوغ مستوى متطوّر من فلسفة التقارب. فهذا القول يُفهم منه بوضوح أنّ البروتونات، في الواقع، بعيدة كلّ البعد من أنْ تكون مشابهة للحصى والصخور بما فيه الكفاية، إذا أردنا اعتبار ذلك لغايات ميتافيزيقيّة.
فالمُجتنى من هذا المثال، بصرف النّظر عن عدّنا هذا أو ذاك موجودات فرديّة في هذا المعنى الرّاهن، هو اعتبارنا ذلك الأمر يعتمد، إلى حدّ كبير، على نوع الصفات التي ننسبها إلى هذا، أو إلى تلك.
الاسميّون، كما نصطلح عليهم، هم ما ورائيون يعدّون أنّ كل شيء موجود هو موجود فرديّ[3].
- الواقعيون، كما نصطلح عليهم، هم ما ورائيّون يعدّون أنّ هناك محمولات، أوْ خصال، أوْ خصائص، أوْ سمات، أوْ صفات (أستعمل هذه الألفاظ الخمسة على أنّها مرادفات. وفي الأغلب الأعمّ أُفضِّل استعمال الخصائص، على الرغم من أنّي، في بعض الحالات، أستعمل كلمة محمولات؛ ذلك أنّني استهلكت كلمة خصائص كثيراً، فقرّرت، تبعاً لذلك، تغييرها لفترة). ومع ذلك توجد خلافات في أوساط الواقعيّين أنفسهم في شأن ماهيّة هذه الخصائص؛ ذلك أنّ أحد أهمّ الخلافات يُعنى بالسؤال عمّا إذا كانت الخصائص «أجزاء» و«مجازات»، أوْ «حوادث فرديّة»، أو أمثلة خصائص، أو «كليّات»[4]. (بطبيعة الحال هناك شقّ من الواقعيّين يعدّون أنّ بعض الخصائص أجزاء، وشقّ آخر منهم يعدّها كليّات).
ويوجد اختلاف ثانٍ مهمّ أيضاً فيما بينهم حول طبيعة الخصائص. وأحد أقلّ الاختلافات شيوعاً الذي يمكن ملاحظته هو ذاك القائم بين الذّين يعتقدون أنّ كلّ الخصائص، أو بعضها، لديها قوى سببيّة، وبين من ينكر هذا المعطى. لذلك، فلنتدبّر، على سبيل المثال، هذا المقطع المأخوذ من كتاب (مقولات الأنطولوجيا الأربع) لجوناتان لوو:
«ينطوي الإدراك على علاقة سببيّة بين المدرِك والموضوع المدرَك. ونحن ندرك الموضوع عبر تمثّل بعض خصائصه على الأقلّ. فنحن ندرك، مثلاً، لون الزّهرة ورائحتها»[5].
يندرج هذا المقطع في سياق حجاج هدفه استخلاص أنّ بعض الخصائص يجب أنْ تكون مجازات، أو حوادث فرديّة (أو أيّاً كانت المفردة التي يختارها أحدنا لتسمية هذه الخصائص، فإنّ عبارة الباحث «لوو» هي «صيغ») ففي تصوّر«لوو» لا يمكن للكليّات أنْ تدخل في صلات سببيّة، ومن ثمّ لا يمكن إدراكها. ويوجد واقعيّون آخرون، من نظير «ال اي يو» مثلاً، يعتقدون أنّ بعض الكليّات يمكن إدراكها[6]، ولكنّ يتّفق كلٌّ من «لوو» وباول على أنّ بعض الخصائص يمكن إدراكها، ومن ثمّ يمكن أنْ تُقحم في علاقات سببيّة.
ودون إيلاء كبير عناية بالمناسبة التاريخيّة الحافّة بظهور هذه الألفاظ، سأطلق على الواقعيّين الذّين يرون أنّ للخصائص قدرةً سببيّة: واقعيّين أرسطيّين أو أرسطيّين، وسأطلق على أولئك الذين ينكرون أنّ للخصائص قدرةً سببيّة: واقعيّين أفلاطونيّين أو أفلاطونيّين. (الغرض من نطق الحروف على هذا النّحو هو فصل استخدامي لهذين المصطلحين من الفلسفات المتعلقة بمسميّاتهما).
سأطلق على أيّ نظريّة ميتافيزيقيّة تُعنى بدرجة أولى بالموجودات الأفراد والخصائص والصّلات الرّابطة بينهما: أنطولوجيا[7]، كما أقترح صنافة للأنطولوجيات توّزع الأنطولوجيّات على ثلاثة أقسام كبرى على هذا النّحو:
«- الأنطولوجيات الاسميّة: طبقاً لهذه الأنطولوجيات، لا توجد البتّة إلّا الموجودات 'الفرديّة' (ومن ثمّ ليس لديها أيّ خصائص)[8].
- الأنطولوجيات الأفلاطونيّة: طبقاً لهذه الأنطولوجيات توجد موجودات وخصائص، ناهيك أنّ الخصائص ليس لها قوى سببيّة (أو لنقلْ بعبارة أخرى 'لا تدخل الخصائص في علاقات سببيّة ').
- الأنطولوجيات الأرسطيّة: طبقاً لهذه الأنطولوجيّات، توجد خصائص لها قوى سببيّة، وبوسعها أن تدخل في علاقات سببيّة».
ويمكن تقسيم الأنطولوجيّات الأرسطيّة إلى أنطولوجيّات أحاديّة المقولة وأخرى متعدّدة[9] المقولات (وبطبيعة الحال الأنطولوجيّات الاسميّة هي أيضاً أنطولوجيّات ذات مقولة واحدة، بينما كلّ الأنطولوجيّات الأفلاطونيّة ذات مقولات متعدّدة). وأنا لا أعرف إلّا مثالين يجسّمان الأنطولوجيات الأرسطيّة ذات المقولة الواحدة، وهما:
نظريّة «الحزمة الجديدة» ابتدعها جيمس فان سلاف، ولكن بأيّ وجه من الوجوه لم يؤيّدها؛ وتقول هذه النظريّة بوجود خصائص فحسب (وليس لهذه الخصائص أيّ ضرب من الانصهار، أو مجموع مجرّد للعلاقات بين الأجزاء والكليّات، والجدير بالذّكر أنّ الموجودات «الفرديّة» -حتّى حسب أنصار نظريّة الحزمة الجديدة- غير موجودة)[10].
الأنطولوجيا التي اشتغل عليها اَل اَي باول مفادها أنّه لا يوجد هناك إلّا خصائص (لكن عناصر أيّ مجموعة خصائص غير فارغة تملك القدرة على الاندماج؛ بمعنى أنّ دمج أيّ مجموعة خصائص هو في حدّ ذاته خاصيّة؛ ومن بين مختلف ضروب انصهار الخصائص نجد الموجودات -وهذا شبيه بما ذهب إليه اَل اَي باول في تصوّره هذا: توجد، إذاً، أشياء محدّدة كانت سابقاً تصنّفها الأنطولوجيات التقليديّة ضمن مقولات أخرى لا توجد فيها الخصائص. ولكن، بصرف النظر عمّا يمكن أنْ تكون ماهية الخصائص أيضاً، فإنّها فحسب أحد، أو كلّ، عناصر المقولة الأنطولوجيّة الموجودة هناك[11]؛ إنّها مقولة «الخصائص»[12].
لا ينصبّ مشغلي الرّئيس في هذا المقال على الأنطولوجيّات الأرسطيّة أحاديّة المقولة؛ بل ينصبّ رأساً على الأنطولوجيّات الأرسطيّة متعدّدة المقولة، واستجلاء التباين القائم بين هذه الأنطولوجيّات والأنطولوجيّات من الصنف الآخر المتعدّدة المقولات، وأساساً الأنطولوجيّات الأفلاطونيّة.
تُعدّ الأنطولوجيّات الأرسطيّة متعدّدة المقولات أهمّ الأنطولوجيّات التي يطلق عليها ولترستورف ولوكس مصطلح «الأنطولوجيّات التكوّينيّة»[13].
وإنّ الانطولوجيّات الأفلاطونيّة، (كلّها بلا استثناء) هي تحديداً تلك التّي أطلق عليها ولترستورف ولوكس أنطولوجيّات علائقيّة. فلقد تمّ شرح مفهومَيْ «الأنطولوجيا التكوينيّة» و«الأنطولوجيا العلائقيّة» شرحاً مستفيضاً في معرض الحديث عن مفهوم البنية الأنطولوجيّة (التّي تمثّل، من غرائب الصّدف، مركز الاهتمام في هذا الفصل).
فلنسمحْ لأنفسنا بالقول إنّ علاقة كهذه هي بشكل عامّ علاقة مجرّدة تصل الأجزاء بالكليّات (مريولوجيّة)؛ إذا كانت إمّا جزءاً من كامل العلاقة، وإمّا بمعنى واسع، مماثلة أو مشابهة لجزء من كامل العلاقة. ولنقل إنّ مكوّن الموجود (الموجود في المعنى المبيّن أعلاه) هو أحد أجزائه، أو شيء يتنافى معه. وبمعنى أدقّ، هو أحد أجزائه غير أنّه مع ذلك يقف بشكل مريولوجيّ واسع موقف شيء مفرد، أو موقف الجزء الشبيه بعلاقته بالكلّ.
فلنقلْ إنّ المسعى إلى تخصيص البنية المريولوجيّة للموجود (بحسب المعنى الذي أوردناه للموجود الفرد أعلاه) هو مسعى يرمي إلى تحديد الموجودات «الفرديّة» الأخرى، ولا سيّما إذا كان لأيّ موجود أجزاؤه بالمعنى المريولوجي الصارم، من أجل تحديد كلّ الموجودات التي تحمل كامل علاقة الجزء الموصول به، وربّما يهدف هذا المبتغى إلى قول شيء بشأن كيف تشدّ الموجودات الأخرى بعضها برقاب بعض في علاقات معيّنة منتظمة يُعتقد أنّها «بنية علائقيّة» (يمكن أنْ تكون علاقات مكانيّة، أو علاقات سببيّة). لنقل أيضاً إنّه إذا أردنا تحديد البنية الأنطولوجيّة للموجود، فعلينا تحديد ما ليس بموجودات تحمل إجمالاً علاقة مريولوجيّة بها[14].
وبهذا، فإنّ الأنطولوجيا العلائقيّة هي أنطولوجيا متعدّدة المقولات (إحدى مقولاتها الأوليّة هي الموجود، أو شيء ما في الأنطولوجيا القريبة منها يشبه، إلى حدّ كبير، الهدف الأنطولوجي نفسه «الجوهر»، أو ربّما «الخاصيّة»، أو «الشيء الملموس») تفترض ضمنيّاً أن ّ الموجودات لا تمتلك بنية أنطولوجيّة، وهذا يعني ضمناً أنّ الموجودات وَفق أرمسترونغ نقاط (يتشارك في هذه السّمات الأنطولوجيا العلائقيّة والأنطولوجيا الاسميّة؛ فبالطّبع، إذا كان هناك فقط موجودات، ومن ثمّ أيّ مكوّن، أو جزء، من الموجود هو في حدّ ذاته موجود). وبحسب أيّ أنطولوجيا علائقيّة، إنّ البنية الوحيدة التي تمتلكها الموجودات بامتياز هي البنية اليوميّة ذات الطّراز القديم[15].
إنّ الأنطولوجيا التكوينيّة، شأنها في ذلك شأن الأنطولوجيا العلائقيّة، تدرج «الموجود» ضمن جردها للمقولات الأنطولوجيّة. ولكن، على خلاف الأنطولوجيّات العلائقيّة، توحي الأنطولوجيات التكوينيّة بأنّ الموجودات تمتلك بنية أنطولوجيّة؛ تمتلك مكوّنات (ربّما أجزاء بالمعنى الدّقيق وربّما لا) لا تنتمي إلى مقولة الموجود.
إنّ ما نصطلح عليه بنظريّة الحزمة (وهي نظريّة تُعنى بتفسير طبيعة الموجودات) يمكن أن تمثّل نموذجاً للأنطولوجيا التكوينيّة، لو افترضنا أنّ نظريّة الحزمة تلمّح بأنّ هناك فعلاً حزمةً من الخصائص (التي هي حزمة من الكليّات)، وإذا افترضنا، أيضاً، أنّ الشيء هو حزمة من الخصائص، شريطة أنْ يكون فقط موجوداً. وإذا سلّمنا، أيضاً، بافتراض أنّ نظريّة الحزمة تحدّد حزمة من الخصائص (من ناحية أولى) وخصائص باختصار (من ناحية أخرى) بغية تمييز المقولات الأنطولوجيّة الخالصة. وهذا يخصّ، حصراً وقصراً، تلك الصيغ من نظريّة الحزمة التّي لا تتعامل مع الظاهرة المفردة العائدة إليها، ومع الكمّ المفرد المتعلّق بـ «حزم الخصائص» بوصفها شكلاً خفيّاً من الجمع المحيل عليها، ومع الكمّ المتعدّد المرتبط بهذه الخصائص. إنّ الأمثلة التي ذكرنا مجسّمة للأنطولوجيا التكوينيّة.
وبناء على ذلك، أعني بنظريّة الحزمة ما يمكن أنْ يُدعى بنظريّة الحزم النّموذجيّة، أو نظريّة الحزم المألوفة؛ إنّها نظريّة الحزمة الكلاسيكيّة لا نظريّة الحزمة الجديدة لصاحبها فان كليف أو أنطولوجيا باول.
ذلك أنّ نظريّة الحزمة الكلاسيكيّة هي أنطولوجيا تكوينيّة لسبب بسيط، قوامه افتراض أنّ للموجودات مكوّنات -خصائص أو كليّات- لا تنتمي إلى مقولة «الفرد». وإذا ما كانت عبارة أنطولوجيا تعني بوضوح أنّ الموجودات تمتلك تفاصيل ضئيلة باعتبارها مكوّنات، فستصبح الأنطولوجيا، من هذه الجهة، أنطولوجيا تكوينيّة. ولكن أكثر الأنطولوجيّات التكوينيّة تعني أنّ في تضاعيف الأنطولوجيّات التّكوينيّة للموجودات خصائص (على الرغم من أنّ هذه الخصائص يمكن أنْ تكون مجازات أكثر من كونها كليّات). وبطبيعة الحال، إنّ أيّ أنطولوجيا، وفق تصوّر مفاده أنّ أيّ موجودات لها خصائص، باعتبارها مكوّنات، من شأنها أنْ تحدّ العلاقة المهمّة التي تعني بشكل مختلف «تمتلك»، أو «تمثّل»، أو «تشكّل»، إنّ الشكل الأبرز للعلاقات التي يصلها سليمان بالحكمة يتمثّل في قرنه المنتزه المركزي بالشّكل المستطيل، وأريزونا بالجفاف- بالعودة إلى مبدأ التكوينيّة[16]. وقوام ذلك أنّ أيّ نظريّة ستعني أنّ تلك الخصائص التّي يمتلكها الموجود (أو التي يمثّلها أو يجسّمها) هي نفسها بالضبط تلك الخصائص التي تكوّنه؛ فالموجود «أ» الذي له خصيصة «ب» هو معادل للخصيصة «ب» التي هي مكوّن للموجود «أ».
إنّ الأنطولوجيا المميّزة عندي تلك التي تقوم مثالاً على الأنطولوجيا العلائقيّة[17]. فطبقاً لهذه الأنطولوجيا، تكون عناصر المقولة الأوليّة التي نطلق عليها بشكل مختلف مصطلحات «الجوهر» و«الكائن الملموس»، و«الموجود»، و«الخاصيّة»، عناصرَ بلا بنية أنطولوجيّة. فأيّ بنية كتلك التي يجسمها كلب (مثلاً)، هي بنية تنهض على أجزائها (الخلايا، الإلكترونات)، والصّلات المكانيّة والسببيّة التي تشدّ بعضها إلى بعض؛ فكل جزء من الكلب، أو من أيّ موجود آخر، هو في حدّ ذاته «موجود»؛ أيْ عنصر من المقولة الأنطولوجيّة الأوليّة موجود «فرد». ولا بدّ أنّ هذا القول يعني (طبقا لما تؤكّده الأنطولوجيا المفضّلة لديّ) أنّ كل شيء لا يصنّف ضمن الموجود هو، في الحقيقة، عنصر من المقولة الأنطولوجيّة الأوليّة التّي تُسمّى «علاقة» (تشتمل هذه المقولة على الافتراضات أو العلاقات الصّفر (0)، والخصائص أو العلاقات الأُحاديّة، والعلاقات الأصليّة؛ العلاقات الثنائيّة والعلاقات الثّلاثيّة... وبنسب مختلفة العلاقات المتعدّدة)[18]. وأمّا العلاقات، فهي أشياء مجرّدة: موجودة بالضّرورة، غير ماديّة وغير مكانيّة، ولا يمكن لهذه الأشياء المجرّدة الدّخول في صلات سببيّة؛ إذْ لا يمكن للشيء المجرّد أنْ يكون فاعلاً أو جامداً.
إذا كانت الخصائص مثل الافتراضات، أو العلاقات الأصليّة، أشياء مجرّدة، فلا يوجد حينئذ أيّ معنى ممكن للمكوّن الذي تستطيع فيه الخاصيّة أن تكون مكوّناً لموجود من قبيل صخرة أو كلب. تدبّرْ على سبيل المثال: العلاقة بين كلبي الألمانيّ جاك وخاصيّة التوجّس خيفة من الغرباء؛ أعني العدوانيّة الشّديدة تجاه أيّ كائن حيّ لم نعرفه من قبل حقّ المعرفة. فالرهبة من الغرباء خاصيّة يمتلكها جاك بالتّأكيد (وهي أيضا من الكونيّات أوْ الكليّات، بما أنّه يتقاسمها مع رفيقة حياته كلبتي الألمانيّة «سونيا»)، لكن من غير الممكن، بأيّ معنى من المعاني، القول إنّها إحدى مكوّناته.
بالنّسبة إلى أنصار هذه الأنطولوجيا المفضّلة، إنّ علاقة «الامتلاك» الثّنائيّة، التّي يحملها كلّ من جاك وسونيا لخاصيّة الرّهبة من الغرباء، إنّما هي علاقة مجرّدة وخارجيّة تماماً مثل علاقة التّعدّد المتغيّرة «أنْ يكون معدوداً بــــ»، والتّي يدخلان فيها مع الرّقم اثنين.
وحسبَ الأنطولوجيا المميّزة، إنّ الخاصيّة، أوْ المحمول، هي شيء ينسبه المرء إلى ذات من الذوات بقول شيء في شأنها: الخوف من الغرباء مثلاً هو ما ينسبه المرء إلى ذات بالقول إنّها مصابة بالرهبة من الغرباء.
فالمحمول رهاب الغرباء، وهو الشيء الذي أنسبه إلى جاك، أوْ هتلر، عندما أقول إنّ كليهما يتصّف به؛ هو طبقاً لهذه الأنطولوجيا المميّزة إثبات غير مشبع[19] في تناقض مع إثبات مشبع، أو افتراض (افتراض أنّ هناك مصابين برهاب الغرباء مثلاً).
قد يُقال إنّ محمولاً (سمة) يقع في جملة يكون فيها أحد المتغيّرات حرّاً باعتباره افتراضاً يقابل جملة تامة منغلقة. فالإثباتات المشبعة والإثباتات غير المشبعة (الافتراضات من جهة أولى، والمحمولات والعلاقات الأصليّة من جهة أخرى) متشابهتان غاية التشابه في العديد من الأوجه؛ فكلاهما بالضّرورة أشياء موجودة لا تنطبق عليها المفاهيم الزّمانيّة والمكانيّة والسببيّة، ولا حتّى مفهوم «مكوّن الموجود» (وماذا الذي تعنيه عبارة «لا ينطبق على» في هذا السّياق؟ حسناً، خذوا مثالاً يمكن أنْ يُعتمد أنموذجاً أحاول التّعبير عنه باستعمال هذه الجملة: سألت أستاذ الجبر «جوني» أنْ يستخلص جذر المكعّب؛ فاقترح مبضعاً (ملقطاً) يستخدمه في إنجاز هذه العمليّة «الرياضيّة». ستلاحظون، بالتّأكيد، أنّ اقتراحه تمّت صياغته من غير دراية: استخلاص جذر المكعّب هي عمليّة لا ينطبق عليها مفهوم الاستخلاص الفيزيائي الأدواتيّ. يجب أنْ يكون جليّاً أنّه ليس هناك أيّ معنى لـ «مكوّن» تكون الإثباتات غير المشبعة فيه مكوّنات لموجودات، تماماً مثلما ليس ثمّة أيّ معنى لعمليّة استخراج «في الرياضيّات» تكون الأدوات الماديّة فيه مستعمَلة في استخلاص جذر المكعّب.
يعطي ديفيد لويس في أنطولوجيا الخصائص مثالاً ثانياً عن الأنطولوجيا العلائقيّة (الذي يسمّيه «خصائص»، وليس ما يسمّيه «كونيّات»)[20]. وطبقاً للويس، الخصيصة هي مجموعة الذوات الممكنة. (يكون الشيء خاصيّة، فقط إذا كان يمثّل مجموعة كلّ عناصرها ذوات ممكنة). يقول لويس: «إنّ خاصيّة أنْ يكون الموجود خنزيراً أو خنزيريّاً، هي ببساطة مجموعة كلّ الخنازير الممكنة؛ وهي مجموعة أكبر بكثير من مجموعة الخنازير الحقيقيّة...» وافترض خنزيراً حقيقيّاً من لحم ودم اسمه فريدي، يمتلك بالطّبع خصائص الخنزير، فما عسى أنْ تكون علاقة «الامتلاك» التي تصل بين الخنزير والخاصيّة؟ الجواب ببساطة هي علاقة «العضويّة»، والعلاقة التّي تحملها مجموعة «الممكن» لعناصر موجود، ليست بالتّأكيد علاقة تكوينيّة. ففريدي، بلا ريب، بمعنى من المعاني، إنّما هو مكوّن من مجموعة كلّ الخنازير الممكنة؛ «مُكوّن» هي كلمة في غاية المرونة. فمن المحتمل أنّها مرنة بما فيه الكفاية لدرجة تسمح بتطبيقها، ولكن ليس من معنى يمكن تصوّره مؤدّاه أنّ مجموعة كلّ الخنازير الممكنة هي مُكوّن من فريدي.
فحسبنا أنْ يكون هذا المثال كافياً لبسط «الأنطولوجيا التّكوينيّة» و«الأنطولوجيا العلائقيّة»[21].
سأدلي الآن ببعض الأسباب الكامنة وراء تفضيلي الأنطولوجيا العلائقيّة على الأنطولوجيا التّكوينيّة، وهي أسباب لرفض فكرة البنية الأنطولوجيّة. سيسعى الاسميّون، بطبيعة الحال، إلى تذكيري بأنّ الأنطولوجيّات العلائقيّة ليست الأنطولوجيّات الوحيدة التّي تنكر حقيقة البنية الأنطولوجيّة. فقد يذّكرني اسميٌّ بهذا الأمر بإلقاء خطاب هذه خطوطه العريضة: الصّورة التّي نملكها نحن معشر الاسميّين عن الموجودات، مماثلة لصورتك عن الموجودات، فنحن مثلك نراها على غرار ما يسمّيها أرمسترونغ «نقاطاً». وسيكون هذا التذكير على غاية من الصّحة، لكن في هذا المقال، مركز اهتمامي هو الأنطولوجيّات التّكوينيّة لا الاسميّة[22]. لهذا، أستطيع إعادة صياغة وصفي لمشروعي على هذا النّحو: هو الإدلاء بأسباب رفضي لفكرة البنية الأنطولوجيّة، مع الأخذ في الاعتبار وجود خصائص أوْ محمولات.
إنّ السّبب الرّئيس الكامن وراء إعراضي عن فكرة البنية الأنطولوجيّة هو سبب يتعلّق بإنكار وجود هذه الفكرة أصلاً، ولكنّه ليس ذلك السبب الذي أنتظر من أيّ شخص آخر أنْ يشاطرني الرّأي فيه. والسّبب الذي هو في غاية الوضوح قوامه أنّني لا أفهم فكرة البنية الأنطولوجيّة، أوْ، في الواقع، أيّ ضرب من تلك الأفكار التّي تتشابك في مختلف الأنطولوجيّات التّكوينيّة. فأنا لا أفهم الكلمات والجمل التي لها عناصر نموذجيّة تتعلّق بالصنف المعجميّ لأيّ أنطولوجيّة تكوينيّة معطاة. إنّ «الكليّات المحايثة» و«المجازات» توجد برمّتها في الكون حاضرة في أيّ مكان تمثّله «مكوّن لــــ» (لنقل خاصيّة أو موجود فرديّ في هذا النطاق): فكلّ هذه الأشياء ألغاز بالنّسبة إليّ، ربّما أعظمها استعصاء على فهمي هو ذاك النّوع من اللغة الذّي يُستعمل عندما يُقال إنّ الكميّات ذات القياس الكميّ تكون من ضمن مكوّنات الموجودات الفرديّة.
ويمثّل المقطع التّالي المأخوذ من كتاب (في تعدّد العوالم) عيّنة مثلى لهذا الضرب من اللغة. (ففي هذا المقطع يشرح لويس نظريّة، على الرغم من أنّه يتوقّف قليلاً عن مناصرتها، تمثّل بالنّسبة إليه خياراً حيّاً. فهو بالتّأكيد لا يظنّ أنّ الكلمات التّي يشرح من خلالها تلك النظريّة هي خلو من المعنى. فلنلاحظ أنّ «الكليّات» المحال عليها في هذا المقطع ليست خاصيّات لوديفيّة؛ إنها كليّات محايثة لا مجموعات ذوات ممكنة.
افترضْ جسيميْن يحمل كلّ منهما وحدة شحنة موجبة، وكلاهما يتضمّن جزءاً لا محدّداً بالزّمان أو المكان ملائماً للشّحنة (وهذا الأمر من الكليّات)؛ لذا فهذا الكليّ المذكور ينطبق على الجزأين. وهذا الكليّ نفسه يتواتر؛ وهو يضاعف وجوده، وهو حاضر برمّته في كلا الجزأين؛ إنّه جزء مشترك موحد بوساطة تداخل هذين الجُسيمين. فأنْ تكون مشابهاً عبر تقاسم أمر كليّ يعني «امتلاك شيء مشترك» بكلّ ما يحمله هذا التّعبير من معنى حرفيّ مطلق (D. Lewis، 1986a: 64). إنّ مثل هذا الكلام يحيّرني إلى حدّ يصعب معه أنْ أشعر بالارتياح. وربّما أستطيع إثارة المعنى المناسب للحيرة بالاستشهاد بمقطع من تقرير حكم كنت قد كتبته منذ عدّة سنوات خلت (من المستحسن أنْ أقول إنّني لم أكن أنصح بأنْ يرفض المحرّرُ هذه الورقة التّي قمت بمراجعتها؛ لأنّي كنت أعتقد بأنّ صنف مفردات الكاتب الأنطولوجية كانت بلا معنى؛ كنت بالأحرى أحاول إقناع المحرّر بأنّ الحَكَمَ الملائم لتقييم هذه الورقة ليس شخصاً مثلي يظنّ أنّ المفردات كانت بلا معنى).
يؤكّد الكاتب أنّ «سمات» الإلكترون (كتلة الإلكترون، وشحنته، وحركته هي أمثلة من تلك السمات التي عدّدها الكاتب) إنّما هي «مكوّنات» له. فأنا لا يهمّني من يقول هذا الكلام، حتّى وإن كلام ديفيد لويس نفسه، فهو مجرّد كلام ليس له أيّ معنى. فلنتدبّرْ حالة الكتلة، ولنهبْ اعتبار «الكهرمان» إلكتروناً مخصوصاً.
فالكتلة السّكونيّة للكهرمان هي (9.11 x 10 exp - 31 kg) (لقد قمت بتقريب الرّقم إلى موضعيْن عشرييْن، زاعماً بأنّني كتبت بالضبط الرّقم الصحيح)، وإذا كانت (9.11 x 10 exp - 31 kg) هي اسم لشيء محدّد (إذا كان الــــ «هو» الموجود في الجملة السّابقة هو «الهو» المعبّر عن الهُويّة)، فهي حينئذ اسم لشيء «ذات» مجرّد. (وإذا كانت 9.11 x 10 exp - 31 kg) ليست اسماً لأيّ شيء، وإذا كانت كذلك، كما يطيب لكوين أنْ يقول -جملة لازمة (تتطلّب مفردات أخرى لتؤدّي المعنى)، أو إذا كانت اسماً لشيء ما، ولكن بالطبع ليست اسماً لكتلة الكهرمان، فلمَ، والحال هذه، يودّ أحدنا افتراض أنّ كتلة كهرمان هي اسم لأيّ شيء؟
يبدو لي، في تقديري الشخصيّ، أنّ كتلة كهرمان والقاعدة الفيزيائيّة (9.11 x 10 exp - 31 kg) هما اسم لشيء واحد، أوْ أنّ كتلة كهرمان ليست اسماً لأيّ شيء؛ فلا يوجد أيّ شيء آخر مناسب لتسمية «كتلة كهرمان» عدا (9.11 x 10 exp - 31 kg[23]. وفي هذا المضمار، تستطيع إنجاز عمليّات حسابيّة حول هذا الموضوع من أجل الصّالح العام. ويمكنك أنْ تقوم بقسمتها على عدد، مثال ذلك (إذا قمت بقسمتها على 6، فالنّتيجة هي: 1.518 x 10 exp - 31 kg)، وتستطيع مضاعفتها بكميّة فيزيائيّة أخرى (إذا قمت بمضاعفتها بــــ 10 m/sec/sec؛ وهو ما يمثّل حجم التّسريع، فإنّ النتيجة هي (9.11 x 10 exp - 30 kg-m/sec/sec). فهذه «النّتائج» لها تسميات «توصيفات» أخرى. ومن التسميات الأخرى للنتيجة الأولى هي قولنا: «سدس بقيّة كتلة الإلكترون» و«مجموع كتلة كهرمان سترتفع إذا تسارع الكهرمان إلى نصف سرعة الضّوء مطروحاً من بقيّة الكتلة)». وإليكم التوصيف الآخر للنتيجة الثّانية (إذا كان الكهرمان قريباً من مساحة الأرض) المتمثّل في «حجم قوّة الجاذبيّة» (في اتّجاه مركز الأرض) التي تسلّطه الأرض على كهرمان باعتبار أنّ 10 m/sec/sec هو حجم تسريع جسم في اتّجاه مركز الأرض (قريباً من مساحة الأرض، وفي سقوط حرّ). وذلك يعزى، طبعاً، إلى قانون جاذبيّة الأرض.
إنّ إنجاز عمليّات حسابية على النّحو الذي أنجزته للحصول على تلك النّتائج من شأنه أنْ يحلّ مشاكل كتب الفيزياء المدرسيّة، التّي تحتوي في الغالب على تطبيق عمليّات حسابيّة، كالضّرب والقسمة على عناصر كالكتلة والأوزان والحركة[24]. فلا نظفر حينئذٍ بأيّ معنى يتّصل بفكرة مدارها على أنّ أحدنا لا يستطيع تطبيق عمليّات حسابيّة على شيء مّا هو «مكوّن» لجسم فيزيائي.
وأؤكّد أنّ ما ينطبق على الكليّات المحايثة الكميّة كالكتلة والوزن، ينسحب على الكليّات المحايثة اللّاكميّة، مثل الألوان الكليّة والأشكال الكليّة. وبما أنّ هذه الكليّات غير كميّة، فأنا لا أستطيع، في محاولتي، وصف مقدار الحيرة التي أكابدها عندما أحاول فهم ما يقوله في شأنها أنصارها؛ فهم يتذمّرون من كونها أشياء يستطيع المرء أنْ يجري عليها عمليّات حسابيّة. تنشأ الحيرة التّي ألاقيها عندما أسعى إلى تكوين تصوّر عمّا يمكن أنْ تكون الكليّات المحايثة. فأنا بمستطاعي أنْ أرى أنّها ليست ما أسمّيه خاصيّات؛ فهي ليست أشياء تقف في موضع واحد في الجمل المفتوحة، باعتبارها ملفوظات «محمولات أو قضايا» تقف في الجمل المنغلقة. فهي ليست بأشياء مماثلة للقضايا التي يُطبّق عليها مفهوما «الصّواب» و«الخطأ». وهي لا تشبه القضايا في أنّها ليست صحيحة، أو خاطئة، إلى حدّ ما؛ بل هي بالأحرى صواب لأشياء خاطئة؛ فهي صحيحة ربّما لهذا الشّيء، وخاطئة لذاك الشيء. لهذا أستطيع أن أرى أنّها لا يمكن أنْ تكون خاصيّات (ما أسمّيه أنا خاصيّات) لأنّها، وليس لسبب اَخر، يُفترض بها أنْ تمتلك نوعا من الحضور في العالم الفيزيائيّ المعاين: يمكنها أنْ تكون مكوّنات لأشياء ماديّة ويمكنها أنْ تتبوّأ مكاناً في الفضاء (و إنْ كانت سماتها المكانيّة مختلفة اختلافا لافتاً للنظر عن سمات الموجودات، فهم المحتلّون النّموذجيّون للفضاء) ولكن، إذا لم تكن الموجودات خاصيّات، فماذا عساها أنْ تكون؟
إنّ السمات الموصولة بالكونيّات المحايثة، من جهة أولئك الذّين يؤمنون بها، تبدو لي خليطاً مستحيلاً من سمات الموجودات وسمات المحمولات. ولذا، يجب عليّ أنْ أوضّح الأمر، فأنا لا أدّعي أنّني أقدّم حجّة عندما أقول هذه الأشياء. ما أقدّمه، هو بالأحرى اعتراف؛ إنّه مجرّد اعتراف إيمان، مثل تلاوة أحدهم للعقيدة «النّيقيّة» على سبيل المثال، وليس تقديماً لحجّة من أجل الأطروحة القائلة إنّ أيّ شخص آخر، عدا المتكلّم، عليه أنْ يقبل الافتراضات التي يتضمّنها الاعتراف. هو اعتراف بالحيرة، وليس تقديماً لحجّة لصالح الأطروحة التي مفادها أنّ أيّ شخص اَخر عليه أن يشعر بالحيرة إزاء كلّ ما يلفيه المتكلّم بدوره مثيراً للحيرة.
إنّ ما ينسحب على الكونيّات المحايثة ينسحب أيضاً على المجازات. فأنا لا أفهم ما يستطيع النّاس قوله في شأنها عندما يخوضون في أمر تلك العناصر المزعومة. سأحاول، مرّةً أخرى، أن أُثير المعنى المناسب للحيرة.
افترضْ جدًلا وجود كُرَتَيْ تنس هما نسختان طبق الأصل، ومن ضمن سماتهما الأخرييْن، طول قــــطر كلّ منهما (6.7) سم، ولون كلّ منهما أخضر مائل إلى اللّون الأصفر بشكل صارخ يُسمّى «الأصفر البصريّ». على ما يبدو، يمكن لبعض النّاس فهم ما يعنيه القول إنّ كلّاً من الكرتين لها لونها الخاصّ، وإن كانَ لون إحداهما في غاية التطابق مع لون الكرة الأخرى.
فأنا أتساءل إذا ما كان بمستطاع أيّ أحد فهمي إنْ قلت إنّ كلّ كرة لها قطرها الخاص، ولو أنّ قطر إحداهما نسخة في غاية التطابق لقطر الأخرى، أشكّ في هذا الأمر. غير أنّ قولاً واحداً حول هذه المسألة له معنى أكثر دلالة بالنّسبة إليّ من القول الآخر؛ إنّه يعني فقط عندهم مثلما إنّ قطر كلّ كرة منهما هو قطر الأخرى (6.7 سم) فإنّ لون كلّ كرة هو لون الأخرى (الأصفر البصريّ).
وفي هذا المضمار، فإنّ أصحاب الكليّات المحايثة، أولئك الذين هم ليسوا أصدقاء فكرة المجازات، سيتفقون معي فيما أتبنّاه، مسقطين من الاعتبار حقيقة عسر افتراض أنّني وإيّاهم نعني الشّيء نفسه بعبارة «خاصيّات»؛ فنحن متفقون على أنّ خاصيّة واحدة من قبيل «اصفرار بصريّ»، أو «لون أصفر بصريّ» (مثلما أرى «اصفرار بصريّ» و«ولون أصفر بصريّ» اسميْن لشيء واحد)، ربّما هي خاصيّة لموجودين من نظير كرتيْ التّنس مثلاً. فنحن لا نتفقّ على ما الذي ينبغي أنْ يكون للخاصيّة من «سمات» لتكون خاصيّة لموجود معيّن. أنصار الكليّات المحايثة يوضّحون هذا بمنطق «حماسة الناخبين»، بينما أنا لا أوضّحه على هذا النّحو إطلاقاً؛ كما لا أجد أيّ معنى لما ينبغي توضيحه في شأن ما ينبغي لخاصيّة معيّنة أنْ تتوافر عليه من أجل الانتماء إلى ذاتٍ معيّنة، أو إلى ذوات. إنّ أولئك الذين من بينكم على دراية بذلك الجدل القائم بيني وبين ديفيد لويس منذ وقت طويل مضى، سيرون أنّنا همنا في المناطق المجاورة لما سمّيته، ذات مرّة، «مشكل لويس وهايدغر»[25]. ويمكن صياغة مشكل لويس وهايدغر في شكل سؤال على هذا النّحو: كيف يمكن لشيء ملموس محدّد، ولموجود معيّن، (كرة تنس لونها أصفر بصريّ على سبيل المثال) أن تبلغ وتستحوذ على كائن مجرّد محدّد، وعلى محمولات أو افتراضات معيّنة (افتراض أنّ هناك على الأقلّ موجوداً واحداً لونه أصفر بصريّ مثلاً) ويُصيّرها صحيحة؟
وتبعاً لذلك ينشأ السّؤال الآتي: كيف يمكن لشيء معيّن (مثل كرة تنس لونها أصفر بصريّ) أنْ يصل إلى خاصيّة (خاصيّة اللّون الأصفر البصريّ) كائن مجرّد، ويستحوذ عليها، ويجعلها مالكة، أوْ ممثّلة، أوْ مجسّدة له؟
إنّه، على الأقلّ، سؤال مماثل جدّاً. (يمكن اعتباره تعميماً للسّؤال السّابق؛ إنّه تعميم يقوم على حقيقة أنّ القضايا صحيحة أو خاطئة إلى حدٍّ ما، وأنّ الخاصيّات صحيحة أو خاطئة بالنّسبة إلى أشياء). والرّأي عندي أنّ هذين السؤالين ليس لديهما أيّ أجوبة؛ ذلك أنّه لا توجد جملة ذات معنى ضمن مجموع كلّ الجمل الممكنة ذات معنى يمكن اعتبارها جواباً لكليهما. وإذا كان الأمر كذلك، فإنّ الأسئلة حينئذٍ بلا معنى؛ لا يوجد في الأمر لغز. فإذا كان بالإمكان طرح السؤال على النّحو المطلوب، فبالإمكان الإجابة عنه أيضاً.
لديّ تجربة كافية تخوّل لي أن أعرف أنّ هناك فلاسفةً يشعرون بالإهانة عندما تخبرهم بأنّ ما يقولونه بلا معنى، أو أنّهم بصدد اقتراح أجوبة عن أسئلة لا أجوبة لها. سأقول ما كنت قد قلته مراراً وتكراراً: إنّ تهمة «أنّ ما تقوله بلا معنى»، في الفلسفة وفي الميتافيزيقا على وجه الخصوص، ينبغي ألّا تكون أكثر إهانة من تهمة «أنّ ما تقوله خاطئ». فاللّامعنى هو ما نخاطر به في الميتافيزيقا؛ إنّها جملة ميتافيزيقيّة نادرة تتأهّل للتّعبير عن قضيّة، وللتعبير عن قضيّة زائف، وفي هذه المناسبات النّادرة التّي تعبّر فيها جملة ميتافيزيقيّة عن ذلك (إنّ العالم الفيزيائي الذي دائماً كان موجوداً يمكن أنْ يكون مثالاً على ذلك) يكون ذلك الأمر عموماً راجعاً إلى أنّه ميتافيزيقيّاً انتهك منطقة نظيره. وإذا كانت كتاباتي الميتافيزيقيّة تحتوي على جمل بلا معنى، وهي، بلا شكّ، تحتوي على العديد منهما، فإنّ هذا معزوّ، ببساطة، إلى أنّني بصدد الاضطلاع بعملي؛ أيْ محاولة تطوير موقف ميتافيزيقيّ.
وإذا لم أكن على استعداد لركوب المخاطرة بقول وكتابة أشياء هي كائنة في جملة «ولفغانغ بول» الخالدة: «لا مجال حتّى لخطأ واحد» فإنّي سأتبنّى حينئذٍ «أفكار» تاريخ الفلسفة.
كفى حديثاً عن سببي الرّئيس لرفض الأنطولوجيا التكوينيّة في كلّ أشكالها. سأذكر الآن شيئاً عن سبب من أسبابي الإضافيّة في هذا الصدد؛ إنّه سبب ذو طابع إبستمولوجيّ أو منهجيّ، أوْ شيء من هذا القبيل. فباس فان فراسن، كما سيتعرّف الكثير منكم عليه، هو بالأحرى الذي أنحى باللائمة على ما يسمّيه هو بالميتافيزيقا التّحليليّة[26]؛ ذلك أنّ معظم الانتقادات اللّاذعة التّي يوجهها إلى الميتافيزيقا التّحليليّة تفتقر إلى الوجاهة، لأنّها مبنيّة على سوء فهم، أو تقدير سيّئ[27]. ولكنّ أحد هذه الانتقادات أصاب الهدف مباشرة. وأنا أشيد غاية الإشادة بما قاله فان فرانس ضدّ أولئك الميتافيزيقيين الذين يقلّدون عادةً رجال العلم، أوْ ما يعتبرونه ممارسة العلماء؛ «وذلك بالاستئناس بمنهج الاستدلال لإيجاد التّفسير الأفضل». ويمكن استعمال هذا المنهج آليّةً للاكتشاف الميتافيزيقي (أو يمكن استعماله للتّحقّق من صحّة نظريّة ميتافيزيقيّة مهما كانت طريقة اكتشافها).
لقد كان بإمكان فان فراسن أنْ يقنعني بطريقة أخرى، ولكنّي أشكر الله أنّ ذلك لم يحصل البتّة. أحترز من تلك الطريقة، وإنْ كان استعمالها «واسع الانتشار في أوساط أولئك الذّين يقيمون صرح الأنطولوجيّات التكوينيّة. وتخامرني، على الأقل، شكوكٌ في أنّ بعض «العلائقيّين»، فضلاً عن شخصي، سيجدون مثلي هذا المنهج من الغرابة بمنزلة بالنّظر إلى طريقتهم في التّفكير. ذرْني أحاولْ إخراج هذه الحدوس من ذهني؛ هذه الحدوس المتعلّقة بما حفّز البحث الذي أدّى إلى بناء الأنطولوجيّات التّكوينيّة بضرب مثال. وهذا المثال قصصيّ، ولكنّه على غرار العديد من القصص يتضمّن بعض الأجزاء المهمّة من الواقع الكامنة في مطاويه.
ثمّة فيلسوفة بالذّات اسمها أليس ترى، أو تعتقد أنّها ترى، وجود مشكلة ميتافيزيقيّة معيّنة. ربّما تسمّيها مشكل الواحد في علاقته بالجمع: فكيف يمكن لذاتين أو أكثر أنْ تكونا، في أتمّ معنى، شيئاً واحداً، أو، في أوفى معنى، الشّيء نفسه (واحداً في اللّون، أوْ من اللّون نفسه مثلاً؟). على سبيل المثال هذه التّفاحة المعدنيّة العتيقة، وهذه النّسخة من «نظريّة العدالة»، كلاهما أخضر؛ ويترتّب على هذا أنّهما، على الرغم من حقيقة كونهما شيئيْن مختلفيْن، يشتركان في اللّون نفسه. كيف يمكننا تفسير مثل هذه الحقائق؟ فهل عسى أنْ تكون صورة ميتافيزيقيّة متعلّقة بطبيعة الموجودات، كالتّفاح والكتب، قادرة على تفسير كيف أنّ هذه الموجودات التّي ليست هي نفسها إلى حدٍّ ما، يمكن لها، على الرّغم من هذا، أنْ تكون هي نفسها في سمة معيّنة؟
يبدو بوضوح (كما تصرّح بذلك أليس) أنّ السبيل الذي ينبغي الذهاب فيه قدُماً هو تفسير هذه الظّاهرة في نطاق موجودات تمتلك بُنى معيّنة، وفي إطار افتراض وجود بعض العناصر المشتركة في بنى الموجودات المختلفة عدديّاً، التّي تتماثل في «سمة معيّنة». الآن يتجلّى، بوضوح، أنّ نوع البنية، التّي تقترح أليس المطالبة بها، وهي تقدّم تفسيراً لهذا الضرب من البنى، لا يمكن أنْ يكون ما سمّيته البنية «المريولوجيّة»؛ لأنّه في معظم الأحيان، التي نجد فيها أنّ الموجود «أ» و«ب» هما نفسهما في بعض السّمات، لا موجود على الإطلاق: «لا ذرّة ولا نيترون ولا كوارك» هو جزء من «أ» و«ب»؛ ذلك أنّ نوع البنية التّي ستضطلع بهذه المهمّة التّفسيريّة التّي تريد إنجازها أليس يجب أن تتضمّن، تبعاً لذلك، موجودات لها مكوّنات تنتمي إلى بعض المقولات الأنطولوجيّة المُغايرة لـ «الموجود».
وهكذا، فإنّ أليس تقدّم (لنفترضْ هذا) اقتراحاً بخصوص مكوّن مشترك (الغاية منه العودة إلى مثالنا التّوضيحيّ السابق) للتّفاحة والكتاب. فلنقلْ إنّ أليس تقترح أنّ كلّا من التّفاحة والكتاب يمتلكان من ضمن مكوّناتهما سمة كليّة محايثة معيّنة؛ أي شيئاً حاضراً حضوراً تامّاً أينما كان؛ أيّ أحد من الموجودات الذي هو مكوّن حاضراً. فهي تقترح، أنّ السّمة المشتركة للكتاب والتّفاحة، ما دأبنا على تسميته الخُضرة أو اللّون الأخضر، هي مكوّن مشترك للتّفاحة والكتاب. ولمَ ينبغي لأحدنا أنْ يعتقد في أمر كهذا؟
حسناً، تؤكّد أليس أنّ الطّريقة التّي تُحسن تفسير هذا الأمر وتوصيفه مفادها: إذا كان افتراض مثل هذا المكوّن المشترك يبدو، للوهلة الأولى، تفسيراً ناجحاً لتماثل لون الموجودات المختلفة عدديّاً، ومُتفوّقاً على التّفاسير النّاجحة الأخرى لهذه الظّاهرة (إذا كان هنالك، حقّاً تفاسير أخرى ناجحة ذات وجاهة ظاهرة)، التّي ستكون كافية لتعزيز اعتقادنا بأنّ هذا المكوّن موجود حقّاً (من جنس التّأكيدات المُستَخلَصة من اعتقادات بحوث لأخصائيّين في علم وراثة الجينات في بداية القرن العشرين أوْ من اعتقاد أينشتاين في تأثير حضور الكتلة في المقياس الموضعيّ للمكان والزّمان).
هكذا تستمرّ أليس في «دعم طرحها». وقبل أنْ نتركها وشأنها، فلنسمحْ لها بأنْ توجز ما تدّعي تحقيقه بالاستمرار في تبنّي هذه الطّريقة: «لقد حلّلتُ مشكلاً ميتافيزيقيّاً -كنت قد فسّرتُ كيف أنّ الموجودات غير المتماثلة (المختلفة عدديّاً)، تستطيع، رغم ذلك، أنْ تتماثل في سمة معيّنة- وفي صنيعي هذا، إذاً، أنا اجترحت مساهمة في الأنطولوجيا: لقد منحت سبباً وجيهاً لافتراض أنّ بعض المقولات الأنطولوجيّة موجودة (أعني بها: هذا كائن، وله عناصر، وليس شكلاً أجوف)، ثمّ إنّني، علاوةً على ذلك، كنت قد برهنت على وجود حقيقة مهمّة حول الطّريقة التّي يمكن من خلالها لعناصر هذه المقولة -الكليّات المحايثة- أنْ تكون موصولة بعناصر مقولة أخرى هي 'الموجود الفرد'».
أنا سعيد بالإقرار بأنّ قصّة أليس، التّي وُضعت تمثيلاً رمزيّاً للطّريقة الفلسفيّة التّي تنبثق منها الأنطولوجيّات التكوينيّة، ليست خيالاً، بل هي كاريكاتور. كنت أستطيع بمشقّة أنْ أقدّم أيّ شيء آخر غير «عبارة» كاريكاتور لوصف طريقة فلسفيّة، في شكل موجز لطيف. ولكنّني أظنّ أنّ مثل هذا التّقديم الكاريكاتوري ليس بمعزل تماماً، في الوقت الرّاهن، عن ممارسة العديد من الميتافيزيقيين.
ولا يسعني، في هذا الصدد، افتراض أنّني يجب أنْ أفلح في إقناع أيّ أحد، ليس له بالفعل ميل إلى موافقتي على أنّ استعمال أليس «للاستدلال لإيجاد التّفسير الأفضل»، إنّما هو طريقة مسيئة للميتافيزيقيا؛ ذلك أنّ هذا الأمر، في تقديري، لا يقود إلّا إلى شبه نظريّات علميّة (على افتراض أن الكلمات المكوّنة لها تعني شيئاً على الإطلاق)، فاشلة في تفسير ما كان يُفترض أنْ تفسّره (أنا أميّز شبه العلم من العلم الزّائف؛ فالنّظريّة العلمية الزّائفة مثل علم التّنجيم، تضع توقّعات تجريبيّة، وهذا لا يفعله شبه العلم). لهذا، فأنا لا أعني عندما أقول إنّ نظريّة أليس تخفق في تفسير ما يُفترض بها أنْ تفسّره أنّه ربّما بإمكان شخص اَخر أنْ يبتكر، في نهاية المطاف، نظريّة تفسّر ما فشلت نظريّتها في تفسيره؛ بل أنا أعني، بالأحرى، أنّه لا يوجد هناك شيء ليُفسّر؛ ذلك أنّه لا توجد مجموعة جمل من الجمل الممكنة يمكن اعتبارها بمنزلة تفسير لما ينبغي أنْ يكون عليه موجود ليمتلك خاصيّة، أو ما ينبغي لموجوديْن أنْ يكونا عليه لامتلاك الخاصيّة نفسها[28]. (فأنا كما ترى، على النّحو الذي يصطلح عليه أرمسترونغ، 'نعامة اسميّة مُوجَدَة باللّغة'، أو سأكون، لحقيقة أنّي لست اسميّاً، ربّما نعامة أفلاطونيّة). وسأودّ قول كلام أكثر، أو أقلّ، عن الشّيء نفسه عن أيّ نظريّة ميتافيزيقيّة تقدّم نفسها باعتبارها تفسيراً لبعض الظّواهر، مفترضاً أنّ تلك الظّاهرة موجودة إطلاقاً[29]، فلن يكون ذلك شيئاً يحدث أيّ معنى للكلام على التّفسير[30].
وما الذّي تمتلكه الأنطولوجيا المفضلة من مسوّغات لتدلي بدلوها في شأن الخاصيّات المشتركة للموجودات؟ سأجيب عن هذا السّؤال بعرض ما في جعبتي لأقوله عن الخاصيّات المشتركة للموجودات، بحكم أنّني المؤيّد الوحيد للأنطولوجيا المفضّلة التّي أنا واعٍ بها.
وأنا مؤمن بأنّ هناك شيئاً أستطيع تسميته «اللّون الأخضر»[31]، وأعتقد، بالطّبع، أنّ اللّون الأخضر، أو خاصيّة الاخضرار، هي بالضّبط ما تشترك فيه كلّ الموجودات الخضراء، وأعتقد، بالتّأكيد، أنها تقاسم هذا الأمر الذي يشترك فيه مع الموجودات غير الخضراء اللّون.
ولكن، لا يجب عليّ إطلاقاً أنْ أميل إلى القول إنّ حقيقة كون الاخضرار كان خاصيّة لكلّ من التفّاحة والكتاب قول يفسّر حقيقة أنّ كليهما أخضر، أو حقيقة أنّ كليهما من اللّون نفسه. والرّأي، عندي، أنّ مثل هذا القول سيكون ضرباً من العبث تماماً من نظير قولنا إنّ حقيقة قضيّة أنّ الكتاب والتّفاحة، كلاهما أخضر صحيحة، شرحت حقيقة أنّ التّفاحة والكتاب كان كلاهما ذا لون أخضر. (أبتاه لِمَ السّماء زرقاء؟ حسناً عزيزي، هذا لأنّ قضيّة أنّ السّماء زرقاء صحيحة، آه يا أبتي، كم أنت حكيم).
لذا، أنا أعتقد في وجود نوع من الأشياء هي بمنزلة القضايا، وأعتقد في امتلاكها خاصيّات الصّواب (الصدق) والخطأ (الكذب)، وأعتقد أنّ نسب هذه الخاصيّات إلى القضايا يضطلع بدور مهمّ، لا غنى عنه (على سبيل المثال: ما من قضيّة غير خاطئة إلا وهي سليلة مجموعة من القضايا الصحيحة. وإذا كانت «أ» منطقيّاً متأتية من مجموعة أقوال تحتوي على «ب»، وإذا كانت كلّ عناصرها بخلاف «ب» صحيحة، فإذن الشرط الذي عنصره السابق هو «ب»، وعنصره الناتج عنه هو «أ»، إنّما هو شرط صحيح. ومن هنا، فهذه الأقوال هي مبادئ منطقيّة في غاية الأهميّة).
بيد أنّ مفهوم صدق القضيّة لا يستطيع أنْ ينهض إلّا بدور «منطقيّ» في تفسير لمَ يمكن لبعض الحالات أنْ تكتسب «محمولات»: إنّ مفهوم الحقيقة يُعتدّ به فقط في تفسير السبيل الذي تكون فيه مفاهيم من قبيل الاستنباط المنطقيّ والتمثيل الكليّ والتَعدية قادرة على أنْ تُحتسب في عمل تفسيريّ، كما لا يمكن تفسير مفهوم الحقيقة إلّا بتوضيح مفاهيم الانتقادات المنطقيّة والتّعديّات والتمثيلات الكونيّة. وكذا أمر النّقطة نفسها مع مراعاة ما يلزم من تبديل ملائم لمفهوم تمثيليّة الخاصيّة.
«حسناً، إذاً، قد يتساءل المخاطَب: ماهي الطريقة التي تنصحنا باتّباعها في الأنطولوجيا، إذا لم تكن هي طريقة بناء النّظريّات لتفسير الظّاهرة المرصودة؟ وما الذي بوسع هذه الطّريقة التّي ستقترحها فعله تجاه التزامك بالأنطولوجيا العلائقيّة؟»
الإجابة عن الجزء الأوّل من هذا السّؤال على قدر من التّعقيد، لكن لحسن الحظّ أنّي قمت بتقديمها في موضع اَخر، وبشيء من التّفصيل (انظر مثلاً: فان إنفاغن 2006).
وهذه الطريقة الموغلة في التّجريد حتّى النّخاع هي المبلورة على النّحو الآتي:
«يا منْ تعملْ جاهداً على تأسيس أنطولوجيا تعتقد أنّها تكون من خارج دائرة الأنطولوجيا ذاتها تأمّلْ كلّ الأشياء، بما ذلك الاعتقادات، أنّى كانت، التي تستقدمها إلى الأنطولوجيا، ثمّ أَخضعْها إلى تحليل كميّ دقيق.
وهذا الأمر سيمنحك عدداً وافراً من الجمل ذات الموضع الواحد المفتوح، التّي تعتقد أنّها مُرضيَة. وبعد ذلك حاولْ أنْ تعطي تقريراً مقنعاً عن هذه الجمل الجيّدة. وهو مشروع سيقحم، في بعض الحالات، هذه الجمل في نظام من المقولات الأنطولوجيّة. ثمّ انظر إذا ما كان نظام المقولات المُحصّل يرضيك معرفيّاً. وعقب ذلك أخضعْه إلى كلّ الجهود الجدليّة التّي تستطيع جمعها، واستحضرْ الجهود الجدليّة التّي لا تجدها متوافقة معك، وقمْ بضمّها معاكسة لهذا النّظام. وإذْ أنت تنجز هذه المهام المنوطة بك، احتفظ بالقواعد المنهجيّة التوجيهيّة في ذهنك (وتذكّر أنّها قواعد توجيهيّة فحسب، لا أدّلة معصومة من الخطأ مؤدّية إلى الحقيقة)»:
* هبْ أنّك تدّعي أنّ أشياء معيّنة (التّي قمت بوجه من الوجوه بتخصيصها) تُشكّل، أوْ تضع، أوْ تُكوّن، مقولة أنطولوجيّة أطلقْ عليها إنْ شئت المقولة «أ»؛ تذكّرْ أنّ كلّ كائن يمتلك «مقولة» لكلّ خاصيّة، سواء كانت تلك خاصيّة أم من مكمّلاتها؛ لكلّ شيء مجموعة كاملة ومتماسكة من الخاصيّات، وتلك الحقيقة الواضحة يجب أنْ تطبّق على عناصر المقولة «أ»؛ وإذا كان ما قلته عن المقولة «أ» يترك السؤال مشرّعاً على مصراعيْه حول إذا ما كانت بعض العناصر المحدّدة من المقولة «أ» تمتلك (داخليّاً وميتافيزيقيّاً) الخاصيّة «ب»[32]، فأنت، على أغلب الظنّ، لم تقل ما يشفي الغليل عن الفئة «أ».
* افترض أنّك تزعم أنّ بعض الكائنات (التي كنت، بوجه من الوجوه، قد خصّصتها) تكوّن مقولة أنطولوجيّة أطلقْ عليها «أ» مفترضاً أنّك ما قلته عن «أ» يقتضي أنّ كلّاً من الجملتيْن المفترضتيْن المشار إليهما (أ وب) يدلّ على عنصر من «أ». وسلْ نفسك إنْ كان ما قلته عن «أ» يترك هذا الأمر سؤالا بلا جواب، فاعلم، حينئذٍ، أنّك لم تقل ما فيه الكفاية عن «أ».
* لا تقمْ بمضاعفة المقولات خلف ذريعة الضرورة الملحّة.
* حاول أنْ تنقل كلّ مصطلحاتك الفنيّة إلى لغة عاديّة باستعمال نوع من الرّوابط التّي يمكن تتبّعها؛ من أجل إيجاد دليل جيّد يقودنا في تدبّر هذه المسألة: اُنظرْ إلى أيّ مقدّمة نصّ فيزيائي محترم، وتعلّمْ منها الطّريقة التّي ابتدأ فيها بلغة عاديّة؛ حيث تجد الكاتب يقدّم مصطلحات تقنيّة من قبيل «الكتلة» و«القوّة» و«الوزن» و«الطّاقة» و«قوّة الدّفع».
وحاول، في نهاية المطاف، ألّا تُفتن بأيّ شيء مثل حجّة «كوين» و«بوتنام» التي لا غنى عنها (صيغة الأمر هذه لا تصيب كبد الحقيقة؛ لأنّها ليست قاعدة توجيهيّة، إنّما هي نصيحة). إذا كان مثلاً تحليلك الخطاب العلميّ يقنعك بأنّ تطبيق مبدأ تحديد الكميّة -فلنقل- على الأعداد الحقيقيّة يُعدّ ركناً ضروريّاً في ممارسات العلماء، فلا تستمرّ في المضيّ قدماً في الحفاظ على أنّ فكرة الحقيقة اليقينيّة، التّي جعلها العلم ناجحة، إنّما هي أفضل ما يفسّر افتراض وجود الأعداد الحقيقيّة. امكثْ إذاً خارج أعمال التّفسير. وها هنا يبلغ الدّرس منتهاه.
بالنّسبة إلى الجزء الثّاني من سؤال المخاطب (ماذا تمتلك الطّريقة التّي تقترحها فعلَه تجاه التزامك بالأنطولوجيا العلائقيّة؟) فأنا لا أملك جواباً شافياً ضافياً. فلا أستطيع فعل شيء أكثر من تدوين قناعتي التي مفادها أنّك إذا اتّبعت الطّريقة التّي أقترحها، فسوف ينتهي بك الأمر إلى أنطولوجيا ما هي بأحاديّة المقولة (أنطولوجيا اسميّة أو أنطولوجيا «الخاصيّات فقط» مثل نظريّة الحزمة الجديدة، أو «أنطولوجيا بولين») وماهي بأنطولوجيا تأسيسيّة. لهذا، أعتقد أنّك ستخلص، في الأخير، إلى أنطولوجيا علائقيّة (وإذا انتهى بك الأمر بلا طائل إطلاقاً، ربّما ستعترف حينئذ بالفشل). ولكن، إذا كان أحد الأشخاص يرغب في البرهنة على أنّ هذه القناعة خاطئة، فلا يجدر بي اعتبار ذلك من قبيل التراجيديا. وإذا ما أراني بعض الفلاسفة طريقة استبعاد التحديد الكميّ في موضوع الخاصيّات (وأكثر تعميماً في موضوع الأشياء المجرّدة) من خطابنا -هذا إنجاز سيجعل العالم حسب رأيي مطمئنّاً للاسميّة- سأكون سعيداً، لأنّني أودّ حقّاً أنْ أكون اسميّاً. وإذا ما تبنّى فيلسوف منهجي المقترح منتهياً إلى أنطولوجيا تكوينيّة، أو إلى أنطولوجيا أرسطيّة، من بعض الأنواع الأخرى، وتماماً، إذا لم أجد تلك الحصيلة تثلج الصدر، فأنا على يقين بأنّه يجدر بي أنْ أجدها حصيلة تعليميّة؛ يجدر بي، بكلّ تأكيد، أنْ أتعلّم شيئاً قيّماً، وذلك بإعادة رسم الخطوات الفكريّة التّي كانت قد قادت ذاك الفيلسوف إلى تلك النّتيجة. وفي أيّ حال، أيّاً كان الأمر الذّي انتهيت إليه، فلن يكون نظريّة تفسيريّة؛ ذلك أنّ النّظريّات التّفسيريّة تنتمي إلى حقل البحوث التّجريبيّة اليوميّة (أبحاث محقّقي الشّرطة مثلاً)، وإلى العلوم التّجريبيّة.
فما تستطيع أنْ تطمح إلى الخلوص إليه إنّما هو أنطولوجيا معقولة الافتراض؛ إنّها أنطولوجيا نستقدمها ضمنيّاً إلى خطابنا اليوميّ، وخطابنا العلميّ[33].
[1] - المقال المترجم مقتطف من كتاب "مشكل الكليات في الفلسفة المعاصرة" ترجمة حاتم الهادي سالمي، صدر الكتاب عن دار مؤمنون بلاحدود للنشر والتوزيع.
[2] - يمكن الاستدلال بكثير من الأقوال المشابهة. فنحن، هاهنا، إزاء مثال آخر أيضاً الحائز على جائزة نوبل (إنّه حول الذرّات لا البروتونات أعترف بذلك، ولكن البروتونات الموجودة في نواة الذرّة، في المقابل، هي المسؤولة عن الصدّ الذي تتعرّض إليه). وإذا حلّت كارثة ودمّرت كل المعارف العلميّة، فلا شيء ينجو ما عدا جملة واحدة ستذكر للجيل القادم، فما عسى أنْ تكون هذه الجملة التي تحتوي على أكبر قدر من المعلومات في كلمات قليلة؟ أعتقد أنها ستكون الفرضيّة الذّرية (أو الحقيقة الذرّية، أو أطلقوا عليها ما يحلو لكم من تسميات) القائلة إنّ كلّ شيء مصنوع من ذرّات؛ جزئيات صغيرة تتحرّك في كل مكان في دوران مستمّر يجذب كلّ أحد منها الآخر عندما تكون الجسيمات، على حدة، في مسافة صغيرة. ولكن تنحسر حركتها عندما يضغط بعضها على بعض. ففي هذه الجملة الوجيزة، ستري كمّاً هائلاً من المعلومات حول العالم، إذا أجرينا فقط قليلاً من الخيال والتّفكير (Feynman et al. 1963-65: vol. i, 2).
[3] - لكن، ماذا بشأن الإمكانيّة التّي قدمناها توّاً في النّص، ومفادها: هلْ البروتونات قد لا تكون موجودات فرديّة على سبيل المثال؟ هل يعني هذا التعريف أنّ الاسميين (نسبة إلى الفلسفة الاسميّة) يخاطرون بالالتزام بنفي وجود البروتونات؟ (لا يحتاج المرء إلى العودة إلى الفيزياء لإيجاد كينونات تطرح هذا السّؤال، أو من شأنها أنْ تطرح أسئلة مماثلة لهذا السّؤال لأغراض ماورائيّة. من السّهل أنْ نتخيّل شخصاً يؤمن بالماورائيّات يعتقد أنّ الانعكاسات والظلال والثّقوب والمساحات أشياء حقيقيّة، لكن، ليس بما فيه الكفاية، لاعتبارها كالبشر، أو الطّاولات، هل تلزم هذه الفرضيّة أنصارها بالأطروحة القائلة إنّ على الاسميّين، ومن لفّ لفّهم نفي وجود الظلال؟). أوليس هذا التضمين الواضح لما قلت سابقاً يمثل إشكالاً لتعريفي كلمة «الموجودات» ولتعريفي «الاسميّة»؟ حسناً، أعتقد بوجود إشكال، لكنّه لفظيّ لا جوهري، ويتطلّب، تبعاً لذلك، حلّاً لفظيّاً. هو إشكال لفظيّ محض، نظراً إلى أنّ البروتون، إنْ لم يكن مماثلاً لنماذج الكراسي والنجوم باعتباره من نوعهما نفسه لاعتبارات ميتافيزيقيّة، فهو، على كلّ حال، وإلى حدّ كبير، مثلهما مقارنة بالاستعارات والكليّات. في رأيي، هذه الأفكار توحي لي بأنّه إشكال لفظي محض؛ لذلك فالحل اللفظي المحض هو الآتي: فلنقل إنّ الجسيمات دون الذرات، إن لم تكن جزئيّات، هي على الأقل نصف جزئيّات، أو شبه جزئيّات، أو خصصناها بامتياز أن تكون جزئيّات، أو ما شئتم من التّسميات، ودعونا نقول إن الظلال والانعكاسات والبقية هي أيضاً أنصاف جزئيّات، ولنقل أيضاً إنّ الفلسفة الاسميّة هي الأطروحة القائلة بأن ّ كل شيء موجود هو إمّا جزئيّة وإمّا نصف جزئيّة. لندع هذا التّنقيح اللّفظيّ المحض، الذي أدخلناه على الفلسفة الاسميّة، يكون مضمّناً في كل ملاحظة نسوقها حول الاسميّة والأنطولوجيا الاسميّة والجزئيّات، فيما تبقّى من هذا المقال.
[4] - تلميح يُفهم به بوضوح أنّ البروتونات في الواقع بعيدة كل البعد من أن تكون مشابهة للحصى وللصّخور. إذا أردنا اعتبار ذلك لغايات ماورائيّة.
[5] - Lowe (2006) يندرج هذا المقطع في الصّفحة 15
[6] - كما أقترح، أيضاً، على أيّ شخص يرى الموجوداتِ حزمةً من الكليّات وجوب الاعتقاد في أنّ الكليّات يمكن إدراكها... الهدف من استعمال نظريّة الحزمة هو منح الموجودات اعتباراً وفقاً له لا تحتوي الموجودات على مكوّن أنطولوجيّ غير قابل للإدراك.
[7] - في هذا المقال فقط. وفي مقالات أخرى أستعمل 'الاسم المعتبَر' أنطولوجيا في سياقات أخرى.
[8] - أعني بالأنطولوجيا الاسميّة ما يطلق عليه مايكل لوكس الأنطولوجيا الاسميّة المجرّدة، والبحتة. باختصار، الأنطولوجيا في معناها «اللّابحت»، أوْ المترف، هي أنطولوجيا أنكرت وجود الكليّات، ولكنّها، في المقابل، تعترف بوجود المجازات (أو مهما كان الاسم الذي يطلق عليها)، وتعيد النّظر في بعض العبارات. مثال: «حكمة سليمان» أو «الشّكل المستطيل للمنتزه المركزي» و«جفاف أريزونا»؛ أعني العبارات التّي تدلّ على خصائص سليمان، المنتزه المركزي وأريزونا تباعاً، التّي لا تدلّ، في المقابل، على الخصائص «الأرضيّة» لنظراء هذه الأشياء. في تصنيفي للأنطولوجيّات، الأنطولوجيا الاسميّة في تعريفها المترف أو الواسع، هي أنطولوجيا أرسطيّة (بالطّبع، الاسميون المترفون «ينتسبون إلى الاسميّة بوصفهم يرون أنّ كلّ شيء مفرد) قد يكون هناك أنطولوجيا اسميّة واحدة: اسميّة «باختصار»، اسميّة «مبسّطة»، أنطولوجيا أطروحتها أنّ هناك جزئيّات لا غير. إذا كان هنالك أنطولوجيّات اسميّة متميّزة ّ، فتميّزها يعود لاختلاف وتضارب تعريفها لما يمكن أن يكون «جزئيّات».
[9] - توحي هذه الألفاظ أنّ كلّ شيء قابل للتصنيف إلى «فئات أنطولوجيّة»، يمكن أنْ تكون فئة تجمع الجزئيّات أو فئة تجمع الخصائص، وأنا أقرّ بهذا الإيحاء (أشير إلى أنّه، على الرغم من أن ّ كلّ الميتافيزيقيين يعتقدون في وجود كلا الجزئيّات والخصائص، إلا أنّهم يعتبرون استحالة أن يكون الشيء من الجزئيّات وخاصيّة أمراً مفروغاً منه. لا يبدو هذا الطّرح الواضح مقبولاً على المستوى الكونيّ: تمثّل أنطولوجيا اَل اَي باول (Paul) الجزئيّات -ما أسمّيه أنا جزئيّات- مثل بعض الخصائص الغاية في التعقيد. الأنطولوجيا أحاديّة الفئة، إذاً، هي أنطولوجيا تميّز فحسب فئة أنطولوجيّة أساسيّة: هي فئة لا تعتبر فئة فرعيّة لفئات أنطولوجيّة أخرى. أمّا الأنطولوجيّات متعدّدة الفئات، فهي الأنطولوجيا التّي تميّز أكثر من فئة أنطولوجيّة رئيسة (لاحظ أنّ عبارة فئة أنطولوجية رئيسة لا تستبعد تداخل الفئات الرّئيسة). لن أحاول في هذا المقال تعريف الفئات الأنطولوجيّة. يمكنك العودة إلى تعريف (van Inwagen) (2012)، الذّي أعيد طبعه 2014، 183-201.
[10] - Van Cleve (1985).
[11] - في كلّ الأحوال هناك فئة أنطولوجيّة رئيسة واحدة؛ إذا كان هناك فئات أنطولوجيّة أخرى، فهي من توابع «الخصائص».
[12] - أوّل بيان لأنطولوجيا «Paul» موجود في: Paul (2002) (أعيد طبعه في 2008). يمكن إيجاد بيانات أكثر حداثة في Paul (2012) وفي الأعمال القادمة، هناك ملخّصات قيّمة حول الأنطولوجيا في Paul (2006 أ) و(2006 ب).
[13] - انظر: Wolterstorff (1970a)، وLoux (2006a).
[14] - أنا أشترط أنْ أقول، على سبيل المثال: «ما من غير موجود فرديّ يحمل أيّة علاقة مريولوجية واسعة المدى بالعظيمة كاثرين، هو قول لا يعني وسم غير الموجودات الأفراد التي تحمل بعض علاقة مريولوجية واسعة المدى بالعظيمة كاثرين بخصيصة معيّنة».
[15] - ما لم يعتقد الاسميّ بالصّدفة أنّ بعض الجزئيّات تمّ توسيع نطاقها ببساطة، فهو يريد أنْ يقول إنّ المفهوم الموسّع للجزئيّات لا يمتلك بنية جزئيّة؛ بل بالأحرى يمتلك بنية مكانيّة، أوْ بنية زمكانيّة.
[16] - أكثر تحديداً، فإنّ أيّ نظريّة مثل هذه ستعرّف الكائن الحامل لخاصيّة معيّنة انطلاقاً من تلك الخاصيّة التي ستصبح مكوّناً من ذلك الكائن. ولكن، إذا كانت الكائنات تمتلك صفات، فإنّه يصبح من الصّعب رؤية إذا ما كانت تلك الصفات لا تمتلك مميّزات. إذا كانت الصفات تمتلك مميّزات حقّاً، فستواجه الأنطولوجيّات المكوّنة مشكلّة في شرح عبارة «يمتلك خاصيّة» في تعبيره «هذه التّفاحة تمتلك خاصيّة الاحمرار»، كما ستواجه مشكلة في شرح «الاحمرار يمتلك خاصيّة التّشكيل» و«الاحمرار يمتلك خاصيّة؛ خاصيّة كونه لونَ طيف». لا أريد القول إنّه لا يمكن حلّ هذا الإشكال، أوْ القول إنّه، على وجه التّخصيص، صعب المعالجة.
[17] - الأنطولوجيا المفضّلة لديّ ليست أنطولوجيا الأشياء الماديّة التّي تمّ إنجازها في كتابي (الموجودات الماديّة)؛ بل هي عوضاً عن ذلك الأنطولوجيا المجرّدة والعامّة التّي وصفتها في (van Inwagen) (2006) (أعيد طبعها في van Inwagen 2014: 82-153) أعترف أنّه في ذلك المقال، لم أنصّ بشكل جيّد على أنّ الخاصيّات (أو بشكل عام العلاقات) تشكّل فئة أنطولوجيّة؛ لأنّ اهتمامي الأكبر كان متعلّقاً بالإجابة عن سؤال إذا ما كان هناك خاصيّات أوْ علاقات. لكن لطالما كانت فكرة أنّ «المادّة» والعلاقة هما فئتان أنطولوجيّتان رئيستان، حاضرتان ضمنيّاً على امتداد كتاب «في نظريّة الخصائص» «A Theory of Properties».
[18] - أيْ أنّ العلاقات يتمّ إدراجها متعلّقة بأشياء «م» أو أشياء «ن»، مع العلم أنّ «م» و«ن» أعداد مختلفة. تتميّز مثل هذه العلاقات بوجودها في جمل تحتوي على جمع من المتغيّرات. مثال: مجموعة «ج» تنتمي إلى الفريق «د» نفسه، أوْ المجموعة «ج» هي أعداد من الفريق «د».
[19] - استعمالي لهذه العبارة (النّقطة 16 في المقال) تسبّب بعض الارتباك، مع الملاحظة أنّي استعرتها من فريج (الكلمة الألمانيّة هي (unges?ttigt، ويُستدلّ من المقال، بشكل غير سليم، أنّ استعمالي للعبارة هو موافقتي على فكرة تشبه فكرة فريج حول التّمييز بين «المفهوم» و«الشيء». بعيداً عن ذلك، أنا لا أفهم التّمييز بين الشيء والمفهوم. الأشياء التي أسمّيها خاصيّات هي فقط خاصيّات. أكثر تحديداً، هي أشياء في المعنى العامّ للكلمة في علم المنطق وعلم الرّياضيات: يمكن أنْ تكون الخاصيّة مرجعاً للاسم أو للجملة الاسميّة (الحكمة هي خاصيّة سليمان الشّهيرة؛ خاصيّة أنْ تكون «أ» مع العلم أنّ «أ» هي الحكمة). كما أنّ الخاصيّات يمكن لها أنْ تكون «محدّدة كميّاً». بعض الخاصيّات غير قابلة للتّمثيل؛ الخاصيّة «المستحيلة» تستدعي كلّ الخاصيّات. عندما نحدّد الخاصيّات كميّاً، سننتهج نفي التّمّشي المنطقي الذّي نستعمله عندما نقوم بعدّ الأحذية والسفن وقطرات أختام الشموع والحلوى الملفوفة والملوك. (إذا ادّعى أحدهم أنّنا لا نستعمل نفي التّمشّي المنطقي في الحالتين، فعليه أنْ يخبرنا شيئاً عن الشّرعيّة الجليّة لعديد من الحجج التّي تحتوي خلطاً كبيراً في القياس الكمّي في تطبيقه على الأفراد وعلى الخاصيّات. حجج مثل القول: كلّ كائن حيّ يمتلك بعض الخاصيّات، التّي بدورها يمكن أنْ تكون خاصيّات للأشياء الجامدة؛ ومن ثمّ ما لم يكن هناك من جماد يُعرّف ككائن حيّ، فهناك خاصيّة لكلّ جماد، ولبعض الأشياء التّي ليست جماداً. أنا سعيد بأنّي لست مجبَراً على الإخبار بمثل هذه القصّة.
[20] - انظر: D. Lewis (1986: 50-69).
[21] - افترض هذا الطّرح: (اللّا تمثيل الوجودي) مفاده أنّ الخاصيّات قابلة للوجود دون أنْ تكون مُمثّلة، وافترض أيضا طرح «فرضيّة» (التّمثيل الوجودي) مفادها أنّ الخاصيات غير قابلة للوجود، إذا كانت غير مُمثّلة: يميل المدافعون عن الأنطولوجيّات المكوّنة لأنْ يكونوا ممثّلين وجوديّاً، لكنّه بالإمكان، على الأقل بشكل متناغم، قبول الأنطولوجيا المكوّنة اللّا تمثيل الوجوديّ. لهذا السّبب، أرفض اعتبار التّمثيل الوجودي ضروريّاً لفكرة الأنطولوجيا المكوّنة. وأرفض أيضاً اعتبار اللّا تمثيل الوجودي ضروريّاً لفكرة الأنطولوجيا العلائقيّة. تنطبق الملاحظات نفسها على سؤال إذا ما كانت الخاصيّات «شحيحة أو وفيرة». المدافعون عن فكرة أنطولوجيا الخصيصة يميلون إلى الاعتقاد أنّ جلّ الجمل الافتراضيّة (كلّها فيما عدا وحوش راسل Russell) تقيد الخاصيّات، والمدافعون عن الأنطولوجيّات المكوّنة يميلون إلى الاعتقاد أنّ قليلاً جدّا من الجمل الافتراضيّة تفيد الخاصيّات، لكن أظنّ أنّ هذه الميول لا تعدو أنْ تكون ميولاً، وأنّ كليهما يمكن أنْ يتمّ التصدّي له دون الوقوع في تناقض.
[22] - لمزيد الاطّلاع على أسبابي لرفض الاسميّة، انظر: van Inwagen (2006).
[23] - هذا القوس هو ملخّص من عدّة ملخصّات محتملة، يتناول نقطة عامّة للغاية حول دلالات الفيزياء الكميّة. افترض مثلاً، ما الذي يمكن أنْ يكون الحالة الأبسط في الفيزياء الكميّة: المسافة (أو المدى أو الطّول). الجملتان المزعومتان الدّالتان «قطر الأرض الاستوائي و1.276 x 10 exp 7 m» هما إمّا جمل صحيحة ودالّة؛ دالّة على الشّيء نفسه، أوْ هي لازمة.
[24] - أوْ يمكن أن أحدهم يريد أنْ يقول (إنّ تطبيق عمليّات حسابيّة كالضّرب والقسمة على عناصر كالكتلة والوزن والدّوران هي المرحلة النّهائيّة الأمثل لإيجاد الحلّ لمشكلة في الفيزياء)، في المراحل السّابقة، على أحدهم عموماً أنْ يلتزم بحساب منطقي يحتوي على أساليب متقدّمة نوعاً مّا، بالمقارنة مع عمليتيْ الضّرب والقسمة؛ الهدف من هذا المنطق هو الوصول إلى نقطة نستطيع فيها إيجاد الجواب بتطبيق عمليّات حسابيّة بسيطة على كميّات فيزيائيّة معيّنة، كانت سابقاً مُحدّدة في عرض المشكل. H
[25] - في: van Inwagen (1986: 204 ff).
[26] - انظر: van Fraassen (2002: 1-30).
[27] - إذاً أقول في كلّ الوضعيّات انظر في كلّ الأحوال: van Inwagen (2007 أ) والعنوان الرّئيس للفكرة المركزيّة في van Inwagen (2009)، أعيدت طباعته الأخيرة في van Inwagen (2014: 31-49).
[28] - لا يوجد جملة معقولة من التّصريحات يمكن أنْ تكون تفسيراً لما تدّعي الأنطولوجيّات المكوّنة أنّها توفّره. لكنّ حقيقة أنّ الكتاب والتّفاحة كلاهما أخضر يمكن أن تحمل بين طيّاتها أنواعاً أخرى من التّفاسير. إنّه من دون شكّ ممكن بناء سرديّة عرضيّة تفسّر كيف كان على التفاحة أنْ تكون خضراء، ومن دون شكّ بناء سرديّة عرضيّة تفسّر كيف كان على الكتاب أنْ يكون أخضر. هاتان السّرديتان، في اجتماعهما، يمكن، في معنى من المعاني، أن تفسّرا الاخضرار المشترك بين التفاحة والكتاب. مجدّداً، إنّه لمن الممكن، لحدّ كبير، تعريف سمات فيزيائيّة معيّنة تابعة للمظهر الخارجي لأشياء من نوع معيّن؛ نوع يحتوي على أشياء كالتفاح والكتب. أن يكون شيء من هذا النّوع أخضر، هو أن يحمل مظهراً خارجيّا بهذه الصّفات، ومن الممكن تعريف مجموعة مطابقة من السّمات الظّاهريّة لأشياء من نوع الكتاب والتّفاحة لكلّ لون. إذا تحققت هذه الأشياء، نستطيع، في معنى واحد، أن نقدّم تفسير ماذا يعني لأشياء مختلفة من ذاك النّوع أنْ تشترك في اللّون نفسه.
[29] - الظّاهرة التّي بدأت أليس في تفسيرها هي بلا جدل حقيقيّة؛ في كلّ الأحوال، وبلا جدل، صحيح أنّ هناك جزئيّات خضراء، ولا تمتلك أيّ جزئيّة كقسم مشترك. (وهذا ليس للقول إنّه يوجد فيلسوف أنكر حقيقتها: لا يمكن لأحد أنْ يكون قد تصوّر شيئاً غريباً وغير قابل للتّصديق دون أن يكون قد تمّ الحديث عنها مسبّقاً من قبل هذا الفيلسوف أو ذاك)، لكنّ حقيقة الكثير من الظّواهر المزعومة، التّي اقترح لأجلها الميتافيزيقيّون تفاسيرَ هي في الحقيقة أكثر إثارة للجدل؛ الافتراضات المركّبة المعتبرة من البدهيّات، الاختيارات الحرّة غير المقيَّدة، الممرّ الزّمني...
[30] - للاطّلاع على دفاع بارع عن التّناقض في هذه الأطروحة، انظر: Paul (2012 B).
[31] - على أيّ حال، أظنّ أنّ هناك ميزات أو سمات، وأنا أرحّب، من أجل هذا المثال، بأنْ أفترض أنّ الاخضرار، أو اللّون الأخضر، هو أحدهما: لكنّ الفيزياء وفيزيولوجيا اللّون متقنة وصعبة، وميتافيزيقيا اللّون يجب أنْ تأخذ في الحسبان الثغرات والصعوبات التي اكتشفتها العلوم المتخصّصة.
[32] - هو مؤهّل صعب التّحديد. بوضوح، أنا لا أخبر مؤيّدي وجود المجازات بأنّه توجد ثغرة في نظريّتهم عن المجازات، إنْ هي لم تكن تتضمّن، أو تحتوي، جواباً عن سؤال «هل تمثّل المجازات الأشياء نفسها تماماً 'كالحوادث الشّكليّة' التّي تحدّث عنها دانس سكوتس؟» نقطة مماثلة تنطبق على الجملتين المفترضتين الدّالتين «أ» و«ب» في القاعدة التّي تتبعهما.
[33] - هذا الفصل هو مراجعة عميقة لبحثي السّابق «الأنطولوجيا العلائقيّة في مقابل الأنطولوجيّات المكوّنة» والذي ظهر في المرجع الآتي: John Hawthorne and Jason Turner (eds.), Philosophical Perspectives, vol. 25: Metaphysics (Malden, MA: Wiley-Blackwell, 2011), pp. 389-45.