ظاهرة الوشم (نموذج الوشم الأمازيغي المغربي)
فئة : مقالات
ظاهرة الوشم (نموذج الوشم الأمازيغي المغربي)
مقدمة:
تعددت التصورات النظرية المتعلقة بظاهرة الوشم؛ فهي في الأصل ظاهرة قديمة قدم الإنسان متجذرة في تاريخه العريق، أخذت بالتراجع لدى العديد من الشعوب عقب تحريمها، بينما بقيت بعض الشعوب الأخرى تمارسها ضمن العادات والتقاليد الشعبية المتوارثة، لكنها عادت إلى الظهور بقوة في السنوات القليلة الأخيرة برموز ورسائل مغايرة تساير متطلبات الموضة والعصر.
ويعد الوشم أيضاً مدونة أنثروبولوجية بامتياز تعبر عن كينونة الإنسان ووجوده الطبيعي ورصد معاناته الذاتية والموضوعية، وتصوير تضحياته من أجل إثبات ذاته والدفاع على هويته. إلى جانب ذلك، يعبر الوشم ثقافياً وفلسفيًّا عن رغبة التخلص من سلطة الدليل الصوتي والفونولوجي من جهة، وسيادة الثقافة المركز المهيمن من جهة أخرى، باستبدالهما بسلطة الرمز التي تعني التحرر الوجودي، والسعي الجاد نحو فرض الذات.
يدفعنا كل هذا، إلى التساؤل حول مفهوم الوشم وتاريخه، وما هي المواد المستعملة في الوشم؟ وكيفية طريقة الوشم وأنواعه؟ وما الدلالة الأنثروبولوجية للوشم في الثقافة الامازيغية؟ وما موقف الأديان من الوشم (اليهودية، المسيحية والإسلام)؟
تعريف الوشم وتاريخه:
الوشم في اللغة: عن الجوهري في الصحاح أن وشَمَ اليَدَ وشماً، إذا غرزها بإبرة ثم ذر عليها النؤُورَ، وهو النِّيلَجُ. أما في كتاب تهذيب اللغة للأزهري، فقد قيل: وَشَمَتْ تَشِيمُ وَشْماً، فهي واشمةٌ، والأخرى موشومة ومُستوشمة؛ وعن ابن شميل: الوشم والوسوم: تعني العلامات.
الوشم اصطلاحا: عرف "سايمون وينر" الوشم بأنه عملية نقش لرمز مرسوم على البشرة، فهو يمثل نوعاً من الكتابة الدائمة لثباته على البشرة أو يمثل نوعاً من الرسوم الزائلة كونه يعبر عن فترة محددة من الحياة، فهو يحدث خدشاً وإصابة على الجسد، حيث يبرز على الجسم الرمز والصورة؛ أي إنه تموضع ما بين تقاطع ثنائي يجمع بين الخيال والرمزي.[1] وتطلق كلمة (Tatouage) على الوشم، وهو اسم بولينيزي مشتق من ((tatou أو (tatahou) وTa)) معناها الرسم. وقد قيده المالح كوك (Cook) للمرة الأولى على شكل (Tatow) وتحولت، في اللغة الإنجليزية، إلى (Tatoo) وهي فعل. في حين، يسمى الوشم في اللغة الأمازيغية بــ(ثيڭازThigaaz/) ولاسيما اللهجة الريفية.[2]
يعد الوشم ظاهرة قديمة في المجتمعات البشرية. فقد عرف منذ قديم الزمان في مصر، حيث وجد على بعض المومياءات مصرية. كما استخدمه المصريون القدماء كعالج ظنا منهم أنه يبعد الحسد. فيما اتخذته بعض الشعوب كقربان لفداء النفس أمام الآلهة، كما كان الوشم تعويذة ضد الأرواح الشريرة، ووقاية من أضرار السحر؛ فقد عثر على جثث تعود إلى العصر الحجري الحديث، والتي تثبت الممارسات القديمة للوشم. وكذلك استخدم الوشم لتحديد الانتماء القبلي، وتمييز مجموعة بشرية معينة من غيرها. ويتضمن الوشم استعمال أدوات حادة ومواد كيميائية ملونة يتم إدخالها إلى الطبقة الجلدية العميقة مما يضمن بقاءها الطويل.[3]
المواد المستعملة في الوشم وطريقة الوشم:
قديماً، كان الوشم يدق بالإبر التي يتوجب ربط ثلاث إلى سبع منها بخرزة أو عجينة، تشد بواسطة خيط وتغمد بعد ذلك في الصخام أو الفحم. أما بالنسبة إلى دول شمال إفريقيا، فهي تعتمد على اللونين الأخضر والأزرق، والذي يتم من خلال غمس إبر الوشم في مرارة الديك أو أي طائر وديع أخر. في فترات لاحقة، تم الاعتماد على إبرة رفيعة لحقن المواد اللونية المختلفة، حيث تأخذ شكل حبيبات تحت الجلد لتعطي ألواناً مختلفة، وأغلبها عضوية، فالكربون يعطي اللون الأزرق، وأكسيد الحديد يعطي اللون الأسود، وأكسيد الكروم اللون الأخضر، والكبريت اللون الأزرق، والزئبق اللون الأحمر بالإضافة إلى الخلطات النباتية التي تعطي صبغات مختلفة الألوان. في إطار الدقة والتميز، عرفت عملية الوشم تطوراً كبيراً في الوسائل المستخدمة بالموازاة مع ظهور التكنولوجيا الحديثة التي سمحت بانتشار الظاهرة وشيوعها في أنحاء عديدة من العالم، ففي أواخر القرن التاسع عشر اختراع الأمريكي صامويل أوريلي جهازاً يعمل على دق الوشم بالكهرباء.[4]
أنواع الوشم:
الوشم التجميليtatouage ornemental:
ينتشر هذا النوع من الوشم في المنطقة العربية من خلال تلوين أسفل الشافة باللون الأخضر وعلى الذقن، وقد يمتد من أسفل الشفاه إلى أسفل الذقن، كما أنه يستعمل كأسلوب من أساليب الجمال والأنوثة لتزيين حواف الجفون بالسواد وتحديد الحواجب أو تأطير الشفاه؛ إذ كانت المرأة الأمازيغية تلجأ إلى الوشم بغرض التَزَيُّن في ظل غياب مساحيق الملونة قصد التميُّز عن الرجل.[5]
الوشم العلاجي/ الوقائي (tatouage thérapeutique prophylactique):
تعتقد بعض المجتمعات البدائية والقبائل البدوية أن الوشم يحفظ من الأمراض، ويمنع الحسد ويطرد الشياطين. لذا يعد وسيلة شفاء وعلاج شعبي، كما يستفاد منه إخفاء العيوب التشوهات، كخلو منطقة من الشعر أو ظهور بقع البهاق، بينما تعتقد القبائل الإفريقية أن الندوب والعلامات التي تخلفها خدوش الوشم تُخْرِج السموم الداخلية الموجودة في الجسم وتقوي الأعصاب الداخلية. فهو علاج من أمراض العيون والرأس والصداع. لذا يدق في موضع الألم من طرف كبار السن أو سيّد القبيلة تَيَمُّناً وتبركا بهم.[6]
الوشم المناسباتي (tatouage occasionnel):
يرتبط هذا النوع من الوشم بالوضعية الاجتماعية لحامله، وعادة ما يتخلل الأحداث والمناسبات المرتبطة بدورة حياته، لكن عادة ما يكون مشتركاً بين أفراد الجماعة الواحدة بموجب عقود الانتماء الاجتماعي، ضمن سلسلة من الممارسات الطقوسية التقليدية أو المستحدثة، التي تندرج ضمن طقوس العبور أو المرور، أهمها: وشم الميلاد، وشم الزواج، وشم الوفاة.
ما الدلالة الأنثروبولوجية للوشم في الثقافة الأمازيغية:
يعد الوشم طقس أنثروبولوجي تعرف إليه الإنسان الأمازيغي منذ العهود الغابرة، وما زال يمارسه بشكل يومي، كما يعد الوشم علامة سيميوطيقية رمزية تعبر عن هوية هذا الإنسان وكينونته وإنسيته، وإثنيته العرقية والهوياتية، ونميزه بشكل جلي عن شعوب العالم، كما يعبر البشر على الانتقال من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الرشد الانتماء إلى الجماعة أو القبيلة.
فالوشم له وظيفة طوطمية وطقوسية مرتبطة بالحياة القبلية، وله علاقه وثيقة بأنماط تصرفاتها وقيمها العشائرية، وهنا يظهر الوشم كشكل من أشكال التعريف الذاتي التأكيد الهوية، وأكثر من هذا تعد الممارسات الوشمية محورها إخراج الدم من الجسد، وقد ترمز آلام الوشم أنثروبولوجيا وثقافيا إلى الشجاعة، والوفاء، والتضحية، والإخلاص. وتعبر كذلك عن الصدق في الانتماء إلى العرق، والقبيلة، والهوية.[7] ومن جهة أخرى، يعبر الوشم عن ثقافة أنثوية بامتياز، ويدل كذلك على مكانة المرأة الأمازيغية في المجتمع، يؤمن بسلطة المرأة وسيادتها في تدبير المجتمع بصفة عامة، وتدبير الأسرة بصفة خاصة.[8]
اقترن الوشم عند الأمازيغ بالوظيفة السحرية، يقول بلقاسم الجطاري في كتابه الثقافة الأمازيغية البناء والنظرية "بعض القبائل الأمازيغية [تستخدم] الوشم لإبطال الأعمال السحرية أو ضد أعمال الشر أو تميمة واقية من الحسد والعين. ولاتزال هذه الممارسات سارية حتى الآن، في بعض المناطق المغربية خاصة الجبلية، حيث تقوم بعض القبائل في منطقة الريف بممارسة الوشم باللون الأخضر للتعبير عن السلام والسعادة والأمن، واللون الأسود ضد العين والحسد، ويظهر دوره السحري عند بعض الأمازيغيين الذين يعتقدون أن الوشم فوق العين من شأنه تقوية البصر، وعلى جانبي الجبهة لإبعاد آلام الرأس".[9]
وقد يتحول الوشم إلى ظاهرة نفسية مازوسية أو سادسة. فقد كانت العانسة الأمازيغية التي لم تتزوج تشم نفسها إلى درجة العذاب، والقسوة، والموت، فتستشعر ألمها وجروحها وآهاتها وأناتها بترنح سريالي، وتأرجح بين الوعي واللاوعي، كأنها تريد أن تضع حدّاً لحياتها اليائسة، بتعذيب جسدها، والانتقام منه شر انتقام.[10]
موقف الأديان من الوشم (اليهودية، المسيحية والإسلام):
اتفق الفقهاء على تحريم الوشم واستثنوا من ذلك الحاجة أو الزينة للزوج، وهناك أنواع للوشم منها الوشم الدائم والوشم المؤقت الذي لا يزول سريعاً وحكمهما التحريم، بينما الوشم المؤقت الذي يزول سريعاً حكمه الجواز، حيث لا يؤثر على الوضوء؛ وذلك استناداً إلى الحديث الصحيح التي ثبت عن النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- في لعن الواشمة والمُستوشِمة، الذي رواه ابن عمر -رضي الله عنه- عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، حيث قال: (لعَنَ اللَّهُ الواصلةَ والمُستوصِلةَ، والواشمةَ والمُستوشِمة).[11]
أما بالنسبة إلى المسيحية، فليس هناك موقف معين وبشكل صريح يحرم الوشم، لكنه ينظر إليه على أنه يتنافى مع مفهوم قدسية الجسد، ويرجع ذلك إلى ما جاء في الكتاب المقدس ((فقال له الرب لذلك كل من قتل قابيل فسبعة أضعاف ينتقم منه))، (الأصحاح الرابع-15) وجعل الله لقابيل علامة لكي لا يقتله كل من وجده ويظهر أن الدليل كان في الجبهة. وربما كان دليل قضاء الله بحسب اعتقاد جيمس فرايزر قد جعل بمعنى ما، اغتيال هابيل صعبا، وبدل أن يكون هذا الدليل للإشارة، ومشيراً، فإنه ربما كون نظاماً اقوى من الموت.[12]
أما بالنسبة إلى اليهودية هناك طائفة ترى أن الوشم محرم، في حين هناك طائفة ترى الوشم مسموحا به، إذا كان له معنى ديني أو ثقافي معين. وقد جاء في سفر الخروج أن موسى قال ((وتخبر ابنك في ذلك اليوم قائلاً من أجل ما صنع إلي الرب حين أخرجني من مصر، ويكون لك علامة على يدك وتذكاراً بين عينيك لكي تكون شريعة الرب في فمك)) (الإصحاح الثاني عشر _9/8).
إن هذا النوع من العلامات مستعمل في النصوص الكتاب المقدس لتعيين دليل الإيمان؛ أي تمييز شعب الأوفياء عن غيره، فالأمر يتعلق بنظام تراتبي بين المؤمنين الكافرين، بين الأحرار والعبيد، بين النساء المحصنات العاهرات.[13]
خاتمة:
يتبين لنا مما سبق، أن الوشم ظاهرة ثقافية بامتياز ارتبطت بالإنسان الأمازيغي منذ القديم، وما زالت هذه الظاهرة مستمرة إلى يومنا هذا، رغم موقف الإسلام الرافض للوشم. فالوشم بمثابه فلسفة تستبدل الكلمات والحروف بالرموز كتعبير عن الهوية الأمازيغية، ووجود الأمازيغ فوق أرض تامازغا الكبرى، فقد اكتسب الوشم وظائف عديدة: جمالية، سحرية، علاجية، جنسية، أنثروبولوجية، وفلكية، وأيقونية، وهذا ما يجعل الأمازيغ أكثر تشبثاً بفلسفة الوشم التي تعبر عن تميزهم الثقافي.
المراجع
[1]: نسيمة طايلب، "تشظي المعنى في رموز الوشم من سوسيولوجيا الجسد إلى سيميولوجيا الوشم"، جامعة الجزائر تاريخ النشر 25-12-2021، المجلد /07العدد: 02 2021
[2]: عبد الكبير الخطيبي، الاسم العربي الجريح، ترجمة: محمد بنيس، منشورات عكاظ، الرباط، المغرب، الطبعة الاولى 2000م.
[3]: جميل حمداوي، ظاهرة الوشم في الثقافة الأمازيغية، الطبعة الاولى 2020 دار الريف للطبع والنشر الإلكتروني الناظور. تطوان/المملكة المغربية.
[4]: نسيمة طايلب، "تشظي المعنى في رموز الوشم من سوسيولوجيا الجسد إلى سيميولوجيا الوشم"، جامعة الجزائر تاريخ النشر 25-12-2021، المجلد /07العدد: 02 2021
[5]: نسيمة طايلب، المرجع نفسه.
[6]: نسيمة طايلب، المرجع نفسه.
[7]: جميل حمداوي، المرجع نفسه.
[8]: جميل حمداوي، المرجع نفسه.
[9]: جميل حمداوي، المرجع نفسه.
[10]: جميل حمداوي، المرجع نفسه.
[11]: طلال مشعل، "مقال ما هو حكم الوشم في الإسلام"، نشر في موقع موضوع، بتاريخ، 6 يونيو 2022
[12]: عبد الكبير الخطيبي، الاسم العربي الجريح، ترجمة: محمد بنيس، منشورات عكاظ، الرباط، المغرب، الطبعة الاولى 2000م.
[13]: عبد الكبير الخطيبي، الاسم العربي الجريح، ترجمة: محمد بنيس، منشورات عكاظ، الرباط، المغرب، الطبعة الاولى 2000م.