عبد الحق بلعابد: المنهج مشاع كوني
فئة : حوارات
عبد الحق بلعابد: المنهج مشاع كوني
فرش معرفي:
استطاعت الدراسات الأدبية ذات المنحى السردي في هذا الأفق التاريخي أن تأخذ لها مكانًا مفصليًّا في الدراسات الجامعية، وأصبح لها، مع مرور زمن العزم، جمهور حقيقي من القرّاء خارج أسوار الجامعة؛ لأنها اشتغلت على تنيمة معرفية لها جاذبية إنسانية، تتمثل في ملامسة ما هو مربك في تجربة الإنسان المعاصر، من قلق وبحث عن المعنى، والرغبة في تشكيل الذات وفق متغيرات الحداثة الجارفة، ومن بين البواعث التي ساهمت في هذا الانهمام على مجال الدراسات الأدبية؛ الانفتاح على النصوص التراثية، وكذلك الاشتغال على المنجزات المعرفية التي تصنع هناك شمال الكرة الأرضية، وفي خضم هذا الحراك الفكري، اجتهد باحثنا الدكتور عبد الحق بلعابد في طرق درب معرفي يستمد فيه رؤيته الخفية من تجربته الشخصية في حياة الصحراء، بحسبانها منبع لا ينضب من الحكي البهي والسرد الجميل والعفوي، ومن رغبته في الاطلاع على المنجز الغربي خاصة عند الكاتب والشاعر الفرنسي جان_جينيهJean Genet (1910/1986) وبالتحديد عندما دشّن مصطلح جديد هو "العتبات النصية" كعلامة حذر من أي انزلاق معرفي، وشغفه الفلسفي في معرفه أعمال الفيلسوف الفرنسي الكبير بول ريكور، والمفكر العربي إدوارد وديع سعيد، وحرصه على تفعيل مسار الترجمة، واستئناف فعل الإبداع، ومما يضاعف من منسوب الإغراء في هذا الحوار؛ هو المعرفة المقتدرة لباحثنا على فهم النصوص التراثية مثل نص ابن أبي الإصبع المصري، بعيدًا عن ذلك التقديس المزيّف، ورغبته في فهم الآخر دون فوبيا منه.
ولباحثنا إنجازات معرفية في هذا المجال:
– عتبات (ج. جيرارجينيت من النص إلى المناص) 2008.
– عنفوان الكتابة ترجمان القراءة (العتبات في المنجز الروائي العربي) 2013.
– فتوحات روائية، 2014.
وكتب جماعية كثيرة من أهمها:
– فلسفة السرد 2014.
– الشكل والمعنى في الخطاب السردي 2013.
– آفاق الشعرية تحولات النظرية والإجراء 2016.
– ودراسات في الشعر السعودي 2016.
أهلًا وسهلًا بك على منبر مؤسسة "مؤمنون بلا حدود"
ربوح البشير: كيف نستطيع أن نتحدث عن وجود ترابط ما بين المسار الفكري للباحث وحياته الشخصية بمنعرجاتها وتقلباتها؟
د. عبد الحق بلعابد: إصغاء الذات الباحثة اليومي والمعيش يغني الفكر، فاقرأني إني هذا الحوار، لنقرأ ذواتنا كباحثين، فلنصغي لهشاشة الملكوت لعلّنا نلتقط علامة تجلّل نصّنا الدنيوي؛ ذلك النص/ البحث المؤجل، الذي نعاود حفر بنياته علّنا نصل للمعنى الأقصى فيه، إلّا أن النص يقول: أنا لم أُكتب بعد، فكيف تمحوني القراءة تأويلًا/ بحثًا؟ فيبقى الباحث مصغيًا لهذا الكتاب المفتوح الذي لا يخلق عن طول قراءة؛ لأنه يتذكر أول استهلاله للدنيا وبعدها لدنيا البحث، فتستنير رؤيته كلّما اكتمل بدرًا معرفيًّا، ليعاود التفكر فيما كتب؛ لأنّ أوّل البحث استهلال وآخره استدلال. ليدخل الباحث في دورة استهلال آخر؛ لأنّ أصعب شيء عنده هي الاستهلالات، ففيها، إن عبّر رقّق، وإن فكّر أعمق، وإن بحث دقّق، فإنّ الحياة الشخصية ما هي إلا إحدى تمثيلات المسار الفكري للباحث؛ فما الباحث إلا وارث ولعلمه حارث، ورث علمًا (دينيًّا أو دنيويًّا) فتدبّره فهمًا، فالترابط بين الفكريّ والحياتيّ خفي، سيتجلى من خلال مراتب الحياة الشخصية، التي ستصقلها مسالك الحياة العلمية بمنعرجاتها الحضارية والثقافية، وتقلّباتها الاجتماعية والحياتية.
فالأنا الباحثة، هي آخر تشقّق عن الأنا الشخصية في لحظة وعي حضاري بالممكنات العلمية المحصلة، فبين الشخصي والعلمي برزخ حارت فيه الحيرات، لتتذكر الأنا الباحثة جدّي وهو يصطحبني معه إلى سقيفة رحبة بلعابد بأقواسها المنحنية، ليجلس مستظلًّا يستمع لمرويات الشيخ سيدي عبد اللطيف وهو يقصّ علينا حكايات من كتاب أصفر حوافه جلدية، أسترق من صفحاته حرفًا مغربيًّا، معرّق النونات، مجنّح الدالات، تبيّنت لاحقًا أنّه كتاب "ألف ليلة وليلة" لا تكفّ هذه السرديات في تحفيز الأنا الشخصية في هدأة الليل، ولا تكفّ جدتي، سيدة المحكيات القديمة، عن ترداد ما سمعته من وراء تلك السقيفة، مفتتحة حكيها (سيدي عبد اللطيف قال كلمات تنصتوا لها يا شهودي: كان حمد بن برس...) وهي تقصد، هنا، ملحمة الظاهر بيبرس من عقلها السردي الشفاهي، لتتسرب هذه المحكيات في مسامات ذاكرة الأنا العلمية، لتقاربها سرديًّا وسيميائيًّا وثقافيًّا، لتكتشف هذه الأنا أن هذه المحكايات ما هي إلا حكاية واحدة، نابعة من كينونة سردية واحدة، وإن قوربت بمناهج متعددة، لتصبح هذه الأنا الشخصية في لحظة تاريخية، أنا علمية تنخرط في كينونة العالم.
فهل يمكننا، إذن، أن نتحدث الآن عن استمرارية لليومي في الفكري، والعلمي في الشخصي...حكاية يطول شرحها؟
ربوح البشير: هل باستطاعة الأدب أن يقعد لذاته معرفيًّا بعيدًا عن ما هو موجود في الأفق الغربي من نظريات تنزل علينا كل يوم ولا تتركنا نأخذ أنفاسنا؟؟
د. عبد الحق بلعابد: لا يمكن لهذا السؤال أن يستقيم، إلّا في ظل الإجابة عن القطيعات الحضارية والمعرفية والاجتماعية التي عرفها الأفق العربي داخل منظومة الأدب ونقده، والتي أجاب عن معظمها الأفق الغربي على مرّ القرون الثلاث الماضية، فعلينا البحث عن هوية للأدب ونقده داخل منظومته الاصطلاحية والمفاهيمية، التي أصبحت محط اهتمام العديد من الدارسين، وهذا لوعيهم بضرورتها العلمية والعملية، فالمصطلحات مفاتيح العلوم، ونحن اليوم لا نساءل العلوم بقدر مساءلتنا لأجهزتها المفاهيمية والمصطلحية، غير أن العقل النقدي يتطلب منا الحفر في هوية هذا الأدب المتلبس بين رهان الإنية وارتهان الغيرية، ليبني إجراءاته التحليلية والتأويلية. علمًا أنّ، النقد عامة، والأدب العربي ونقده ليس ببعيدين عن هذه المطارحات التي مرّ بها الأفق الغربي، حيث تعرف المنظومة النقدية العربية تبلبلًا وتململًا في وضع المصطلح النقدي، وكيفية توحيده ليصبح قابلًا للتناول والتداول؛ لهذا علينا أن نعيد الأسئلة لفهم هذه النوازل النظرية القادمة من الأفق الغربي:
- الأدب والنقد يفكران في هويتهما؟
- كيف تلقينا هذه النظريات النقدية الغيرية؟
- وكيف تمثلنا إنيتنا النقدية داخل أفقنا العربي؟
- وبعد ذلك كيف نقلناه من منابته الأصلية إلى مجال تداولنا الأدبي والنقدي؟
وعليه، لا يمكن فهم الأدب ونقده بعيدًا عن الإجابة عن سؤال الحضارة، ولا عن سؤال النهضة، وسؤال العقل، وسؤال العقد. بكل هذه الأسئلة سيصبح الأدب أمامها آلة للسؤال تبحث عن إجابة قصوى؛ فعلينا تعقل الأدب لنعقده، حضارة وثقافة، تتفاعل اجتماعيًّا، وتتداول معرفيًّا في آفاق أرحب، بعيدًا عن دغمائية ثنائية الأنا المستهلك والآخر المنتج، فلكي يقعد الأدب(العربي) لنفسه معرفيًّا ونقديًّا، عليه أن يتمثل المقولة التالية: (قف حيثما وقفوا ثم سر)؛ أي قف متدبرًا لأدبك، قديمًا وحديثًا، وآداب الشعوب، ثم سر بتطوير مناهجك في القراءة، وآلياتك في التحليل.
غير أننا وجدنا الأدب العربي ونقده، يحرق المراحل المعرفية دون تمثلها، منتقلًا من نظرية نقدية إلى أخرى، دون الوقوف بالحفر في مرجعياتها، واستنطاق منطلقاتها، لعلّها تتنافى معرفيًّا، وتتناقض علميًّا مع سابقاتها، أو تختلف مع مقصدياته الحضارية؛ لهذا آن الأوان لكي نلتقط الأنفاس العلمية، لنقف وقفة المتأمّل والمتدبّر، لطرح سؤال الماهية: ما الأدب؟ ما النقد؟ لنصل بهما إلى الكيفيات الممكنة، وهذا باستقرائنا لمدوناتنا الأدبية والنقدية الكبرى، مثلما فعل الغرب تمامًا، فلا مشاحة في استعمالنا للمناهج الغربية في ذلك؛ لأن المنهج مشاع كوني، يتحتم علينا فقط الوعي بإديولوجيته، وتمثّل مرجعيته، لكي نأرضنه عربيًّا، وبهذا سنقعد لأدب عربي ينبني على التفاعل الحضاري والحوار المعرفي.
ربوح البشير: كيف بدأت مغامرتكم البحثية صوب دراسة العتبات النصية قديمًا وحديثًا، داخل هذا الهاجس المعرفي والنقدي والمستمر؟
د. عبد الحق بلعابد: المغامرة البحثية، مشروع قادم يقفز على سياجات التحذير النقدي، والمخاطرة المعرفية؛ لهذا أردنا أن نغامر بمجاز العبارة النقدية، لمجاوزة مقولة "ج.جينيت" وهو بصدد بناء نظريته حول المتعاليات النصية، وبحثه عن شعرية متجددة للأدب، بقوله: (احذروا العتبات) فكانت أولى الحكايات مع المشروع الشعري الممتد لهذا الناقد والمفكر الفرنسي، الذي تعلمنا منه الصبر العلمي (تنظيرًا وإنجازًا)، منذ كتاباته عن الصور والثلاث وما بعدها، مرورًا بخطاب الحكاية والعودة إليه، إلى كتبه المحورية الثلاث المنظرة للعتبات (مدخل للنص الجامع، أطراس، عتبات) وهذا الأخير هو الذي بلور في نظريته حول العتبات النصية، ومشروعه ما يزال مستمرًّا إلى الآن بعودته للجماليات وانفتاحه على التداوليات في التخييل والقول وغيرها...
غير أن الذي تعلمناه من هذا الناقد في مسيرته النقدية وسيرته المعرفية، نجمله في التالي:
- الصبر العلمي على التنظير والإنجاز (النقدي والمعرفي).
- عدم التحيّز المفاهيمي والمصطلحي (فهو كثير المراجعة لمفاهيمه ومصطلحاته).
- كتاباته النقدية والمعرفية تجمع بين الخطاب العلمي والخطاب التعليمي.
- الاستمرارية في تطوير المشروع النقدي، بتطويره للمرجعيات وتحيينه للآليات.
هذا هو (ج. جينيت)، الذي ألفته قراءة وبحثًا منذ سنوات عدة؛ فقد سافر معي في أولى مشاريعي الأكاديمية، لما تعرفت على مفهومه للمتعاليات النصية، وخاصة تنظيراته وتطبيقاته عن العتبات، بعدما أصبحت حاملة لمفهوم شعرية الأدب، فقد عملنا على تطبيقها على رواية لعبة النسيان لمحمد برادة، لكي ننظر مدى إمكانية تطبيقها على السرديات العربية، وقد استطعنا وضع وظيفة جديدة لم يقل بها (جينيت) لأحد أهم عناصر العتبات، وهي الوظيفة الإخبارية للعنوان الذي شققناه من فهمنا لكيفية الاشتغال عليه في البلاغة العربية القديمة، خاصة ما قاله عنها ابن أبي الإصبع المصري في تحريره.
ولما اتسعت الرؤية المعرفية، وثبتت العبارة النقدية، أخرجنا كتابًا عن عتبات جينيت، لنساعد القارئ العربي لفهم الجهاز المفاهيمي والمصطلح النقدي عنده، وقد وجد قبولًا حسنًا داخل المؤسسة النقدية العربية، وهذا ما حفَّزنا للاستمرار في هذا المجال البكر في النقد العربي المعاصر؛ لننجز أطروحة علمية، تضمن الجزء الأكبر منها دراسة العتبات النصية في روايات الروائي والناقد المغربي محمد برادة، مجددين في طرق المعالجة والتحليل، والدليل على ذلك أننا وقفنا على بعض العتبات التي لم يسعف الوقت لمؤسسها دراستاها، ولا لخليفته من بعده (فليب لان) معالجتها، خاصة ما سميناه (بالمناص الترجمي) الذي لم يبحث فيه إلا سنة 2010 في الدراسات النقدية الغربية على ما اطلعنا عليه، وقد كنا قد أنهينا البحث فيه سنتي (2007-2008) وإن تأخر صدور أطروحتنا في كتاب بعنوان (فتوحات روائية، سنة 2014) وما يزال المشروع مستمرًّا إلى جانب اكتشافنا لعتبات جديدة أيضًا، وهي ما سميناه أيضا (المناص التخييلي) وهي تلك العتبات التي تشتغل داخل النص السّرديّ مؤلِّفة بذلك عملَا أدبيَّا داخل العمل الأصلي.
ليستمر الإنجاز والتطبيق على السرديات والشعريات العربية، وهذا ما جاء في كتابنا (عنفوان الكتابة ترجمان القراءة، 2013) وقد حمل هو الآخر بعض المباحث الخاصة بالعتبات، التي لم تلتفت إليها المؤسسة النقدية العربية وإن ذكرت في البلاغة العربية القديمة، خاصة حسن البدايات وحسن النهايات، التي درسناها فيما يعرف بالفواتح النصية والخواتم النصية، بإجراءات نقدية جديدة، إلى جانب الالتفات إلى دراسة صورة الغلاف المصاحب للعمل الإبداعي، الذي ما يزال يبحث عن احترافية في صناعته لدى دور النشر العربية، وهذا تطلب منا مرجعيات متعددة للبحث عن العلاقة بين النّص الأدبي وعتباته؛ منها المرجعية البصرية، والتشكيلية، التأويلية، كما أننا دفعنا بعتبة العنوان قدمًا لنجتهد بالبحث عن تناص العنونة، ما سميناه بتعانن العنونة، ولم نكتف بهذا بل بحثنا في تداوليات العنونة، وحجاج العنونة، وهي من المباحث الجديدة التي تحتاج إلى العديد من الدراسات، وهذا دائمًا بالرجوع إلى الدراسات النقدية والبلاغية القديمة، قصد الدفع باستمرارية المبحث البلاغي، والجهد ما يزال مستمرًّا، وهو إعلان لتضافر الجهود النقدية، لنصل لما قلناه سابقًا لتقعيد للنقد العربي المعاصر ليس بعيدًا عن روح الحوار مع النقديات الغربية.
ربوح البشير: إذا كانت الترجمة هي سبيلنا نحو ولوج عالم الحداثة، فهل بالإمكان أن ننجز مشروعًا في هذا المجال الخطير والحيوي في زمننا الثقافي المعاصر؟
د. عبد الحق بلعابد: ليس هناك مشروع أخطر من مشروع الترجمة، فأن تتكلم بلسانيين وتتدبّر بفكرين وتعبّر ببيانين، هذا يعقد عليه أمل كل مشروع ترجمي في القديم والحديث؛ فالقدماء لم تتم لهم الحضارة إلا بالترجمة، وكذلك المحدثون لن تتم لهم الحضارة إلا بترجمة الأقوال إلى أعمال، فواهمٌ من يعتقد أن الترجمة هي نقل من لغة إلى لغة أخرى، ومن هنا يمكن حدّ الترجمة بأنّها نقل من نظامٍ لسانيّ إلى نظام لسانيّ آخر، بفعل التحويل قصد تغيير حاله. إلّا أننا نجد هذا التعريف يخفي أكثر مما يظهر، فالترجمة هي هذا وغيره؛ لأنّها وهي تنقل بفعل التحويل من نظام لساني إلى نظام لساني آخر، تقوم بانتقالات أخرى عبر قناتها الترجمية من حضارة إلى حضارة، ومن ثقافة إلى ثقافة، ومن فلسفة إلى فلسفة أخرى، وهذه هي رؤيتها العولمية، كون الترجمة لغة غيرية تبتعد عن الأصل لتقترب منه في آن، فهي بين الذهاب والإياب تعمل على رفع قلق العبارة الترجمية/النص الترجمي؛ بل الترجمة أيضًا من حيث هي مشروع المستقبل للانخراط في هذا العالم المتعولم، ناقلة بتفاعل وتداول لروح الشعوب؛ بعاداتها وثقافاتها ومعتقداتها وتخيّلاتها.
ولن يتحقق هذا إلا من خلال مؤسسة أو مركز للترجمة، يتحمل مسؤوليته الثقافية والتنويرية أمام القارئ العربي والعالمين، فما أحوجنا الآن لمثل هذه المؤسسات التي تراهن على المستقبل بفعل الترجمة لتنوير الحاضر، ونثمن عاليًا تلك الجهود الترجمية الفردية العربية التي نبتهج بنقلها لكتب نوعية من تخصصات متعددة، على قلّتها، دون أن ننسى الدور الفاعل الذي تلعبه بعض الهيئات العربية، على رأسها المنظمة العربية للترجمة، وجائزة الشيخ حمد بن خليفة للترجمة والتفاهم الدولي، وجائزة الشيخ زايد للكتاب في فرع الترجمة، وجائزة الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمية للترجمة وغيرها.
ربوح البشير: متى يمكن للثقافة العربية أن تنتج سرديتها المخصوص بها كما حلم مفكرنا الكبير إدوارد سعيد؟
د. عبد الحق بلعابد: سيصبح البحث عن سرديات مخصوصة ضربًا من الوهم؛ إذ علمنا أن الحضارات في لحظة تاريخية ما، استطاعت أن تبني جسورًا للحوار والتفاعل الثقافي، لتسكنها فسيفساء الحكي المفتوح. إلّا أننا يمكن أن نبحث عن هويتنا السردية ونعيد تشييدها ضمن المتعدد المختلف، وهنا ينزل مشروع إدوارد سعيد للبحث عن السرديات الكبرى ذات الخصوصية، والتي كتب لها أن تعيش في محكيات العقل الشفاهي؛ فالحلم ليس حلم إدوارد سعيد لوحده، بل هو حلم جداتنا وأمهاتنا سيدات السرد القديم من قبل، فقد سبقن بحسهن السردي الفطري مقولات إدوارد سعيد وبول ريكور عن المحكي، من حيث هو حياة نعيشها وهنا مسكن الخصوصية؛ إذ يبحث عن الهوية السردية الفاهمة للهوية الشخصية عبر وساطة الوظيفة السردية في نهاية كتابه (الزمان والسرد) وعاد إليها في كتابه المهم (الأنا عينها كآخر) لما حددها بذلك "النوع من الهوية الذي يكتسبها الناس من خلال وساطة الوظيفة السردية" وهو يحاول الدمج بين السرد التاريخي والسرد التخييليّ، فالهوية السردية هي ذلك البرزخ الجامع بين السردين من خلال فعل تأويل الذات وفهمها، وهذا سيجيب عن المقولة المغالطة وهي "أن القصص تروى ولا تعاش".
إذ ينظر ريكور للهوية السردية كتركيب مؤلف من محاجات وتحاليل تنظر للآثار عملاً فنيًّا يبدأ نصًّا وينتهي فعلًا، إنها هوية تفترض السرد بشكليه التاريخي والتخييلي في عملية جدليّة تؤمن بإعادة تشكيل الفعل حكيًا يرسم أحداث تتميّز باستدعاء النموذج الأرسطي في بناء (المحاكاة، الأسطورة، التطهير) والرواية البروستية (الأدبية) حجر بناءٍ تراجيدي (التعابير، التراكيب، الدلالات) وبهذا فمساءلة الهوية سرديًّا يمر عبر الجمع بين سرد تاريخي وسرد تخييلي، ليتّخذ شكلًا تأويليًّا يجعل من الحياة معاناة وجب أن تعاش ويرتهن فيه الزمن للسرد؛ إذ ليس له أن يكون إلا مرويّات وذلك بنسج حبكات مختلفة ودينامية، يتفاعل فيها السرد والتاريخ، وبهذا يمكن للهوية السردية أن تحل معضلة الهوية الشخصية كما يرى ريكور.
وهذا التنظير العالي من ريكور، كنت أتلمّسه، ببساطته، كلّما كنت أزعج أمي بإتمام الحكاية عند بلوغ ذروتها، تقوم عني لشأنها المعيشي قائلة: (اذهب أنا راني حكاية)؛ أي اذهب فإنني الحكاية، فكأنّ عقلها السردي ينظر إلى تنظيراتهم العالية، لتنشغل هي ببساطة سرديات اليومي والمعيش، وتترك لإدوارد سعيد انشغالاته بتأثيث سردياتنا ذات الخصوصية، وإن كانت كينونة السرد واحدة ...
ولهذا لا يمكن للثقافة العربية، أن تتكلم عن سردياتها المخصوصة إلا بالعودة لبناء هويتها السردية، مثلما فعلت الثقافة الغربية؛ فكل مقارباتهم تبنى على نماذج سردية شفاهية أو عالمة، انطلاقًا من الملاحم الإغريقيّة ووصولًا إلى زمن الرواية مع البحث عن الزمن الضائع، التي راكموا فيها مقاربات متعددة (فلسفية، تاريخية، اجتماعية، بنيوية، سيميائية، تداولية....) فلماذا لا نؤسس لعقل سرديّ عالم باحث عن هويته السردية، التي يتراكم فيها العديد من الدراسات البحثية والمقاربات التحليلة، بدءًا من حكايات ألف ليلة وليلة إلى آخر رواية تصدر الآن، للوقوف على خصوصية لسردياتنا الآن، ضمن السرديات المشتركة في كلياتها؟.
ربوح البشير: إلى أين يتجه الخطاب العربي في زمن المتغيرات الكبرى؟ وهل ما زال الخطاب العربي يرواح مكانه ولم يبرح بعد زمنه الثقافي الذي يرتبط معرفيا بزمن الموتى؟:
د. عبد الحق بلعابد: أجد أن السؤالين متلازمين، ويقتضيان تمشيًا معرفيًّا واحدًا؛ فقبل أن نسأل عن وجهة الخطاب العربي في زمن المتغيرات، من الواجب علينا السؤال عن وجود ماهية الخطاب العربي في البدايات قبل التحولات.
والسؤال الماثل للعيان السابق لسؤال الخطاب هو؛ أين العقل العربي المنتج لهذا الخطاب؟ وإلى أين يتجه بخطاباته المتباينة إلى حد التناقض في ظل التغيرات العالمية؟ فبهذه الإحراجات المعرفية، سنجد أنفسنا أمام معضلة كبرى، ما تزال معلقة على صفحات الفكر العربي الحديث، والمسكوت عنه من أسئلة النهضة العربية؛ فعلى الرغم من جهود متعددة، واجتهادات مستنيرة من قبل المفكرين العرب لنقد العقل العربي وننقد نقد هذا العقل، وتجديد الخطاب العربي لمواجهة التغيرات العالمية، غير أننا لم نلتمس إلى الآن مفاهيمه الواضحة، ومعالمه البيّنة، وترجع إخفاقات هذه الأطروحات الفكرية، إلى أنها لم تفكك طلسم هذا المبدأ في مشاريعها: (أن عِلمًا لا يتبعه عَمل لا يعوَّل عليه) فهؤلاء المفكرون لم يلقوا بفكرهم لسوق التداول الجماهيري، لينظروا في نجاعة ونجاح طروحاتهم عند مخاطبيهم من الجماهير، زيادة على ذلك، أنّ حكوماتهم لم تقف إلى جانبهم لإسماع واتباع خطابهم التنويري، في ظل هذا العالم المتعولم السالب للقيم الأخلاقية والاجتماعية.
فقد آن الأوان لإنتاج خطاب عربي مستنير بيّن المعالم واضح المفاهيم، يشارك فيه الكل دون إقصاء، قصد مجابهة الخطاب الغربي الذي سبب انتكاسات متتالية لشعوب العربية باسم الطائفية والمذهبية، فنحن لا نريد خطابًا عربيًّا عنعنيًّا يمجد الموتى؛ بل خطابًا آنيًّا يحيي فكر الأموات (من العلماء) علمًا مستنيرًا وعملًا مستدامًا، هنا فقط، يصبح السؤال واقعيًّا: ما الخطاب العربي الذي نريده الآن؟ وإلى أين يتجه؟ ولمن يتوجه؟ وما سبيله في التغيير في ظل عام المتغيرات؟ والفكر المستنير الذي ما يزال يشتغل على هذا السؤال كفيل بالإجابة عنه إذا أصغى لنبض الشعوب.
ربوح البشير: ما هي أهم المشاريع الفكرية التي تسكن بال وذهن باحثنا في قادم التاريخ؟
د. عبد الحق بلعابد: المشاريع صغيرة والطموح كبير، تراني ما أزال ألاحق العلامات الهاربة، فالباحث سر أبيه، فالوالد _حفظه الله_ تطارده العلامات العرفانية، والباحث تطارده العلامات المعرفية، والكل يأتلف ويختلف، والكل مراد والكل مريد في مسكن كينونة العلم والعمل. إنّ الباحث عبارة عن قراءات متحولة، فلا يمكن أن يروي ماء الكتابة إلا ظمأ القراءة المتدبرة والمتأملة، فذات القراءة تصغي لذات الكتابة؛ ليفتح عليهما بمعان دقت فتجلت في فهم الباحث، فهو بين فتوحات إلهية تجاهد في الطاعات، وفتوحات قرائية/روائية تلهم الخيالات، فبيّن محو القراءة وإثبات الكتابة، يبني الباحث مسكنه في عالم العلامات والتأويلات؛ ولهذا ما يزال هاجسنا إكمال المشروع الذي بدأناه منذ سنوات حول مقاربة العتبات النصية في السرديات أو الشعريات العربية الحديثة، وأيضًا في الأدب العربي القديم (شعرًا ونثرًا) والذي أنهينا منه شطرًا كبيرًا وما يزال الشطر الآخر نحن نشتغل عليه الآن.
أمّا المخططات القادمة؛ فهي لن تبتعد عن الهاجس الفكري والأدبي، بالبحث في السرديات الفلسفية والنقد الثقافي، والتي وجد نقصًا في البحوث التي قاربتها على المستوى العربي، وكذلك السيميائيات التفاعلية، لأننا أمام نصوص تفاعليّة (الرواية الرقمية، والقصة الرقمية، والقصيدة الرقمية...) أملت علينا أن نجترح آليات تحليلية جديدة ذات مرجعية رقمية لنواكب عصر المدّ التكنولوجي المتسارع، إلى جانب الاشتغال على تداوليات المرئيّ واللا مرئيّ؛ لأن عصر الصورة أنتج لنا خطابًا تفاعليًّا مختلفًا، ومتلقيًّا جديدًا لا بدّ أن نخاطبه بما يحسنه، والصورة من بين الخطابات الأقرب إلى ذائقته التواصلية والتداولية الآن.