عبد الرحمن بدوي والقرآن


فئة :  قراءات في كتب

عبد الرحمن بدوي والقرآن

عبد الرحمن بدوي والقرآن

اشتهر المفكر والفيلسوف عبد الرحمن بدوي (1917م-2002م) باهتمامه الكبير بالفلسفة الوجودية، ويحسب للرجل جهده في إغناء المكتبة العربية الإسلامية بالعديد من المؤلفات والترجمات من مختلف اللغات، وهي مؤلفات عديدة ومتعددة، وقد تجاوزت مائة مؤلف بكثير، بين كتاب مؤلف ومترجم.

عبد الرحمن بدوي والوجودية

الوجودية اتجاه فلسفي اتخذ من الإنسان موضوعا للتفكير، وهو اتجاه يرى أنه ليس هناك مبدأ واحد وحقيقة واحدة يعيش من أجلها الجميع، مع الأسف في العالم العربي والإسلامي اقترنت الوجودية بشكل كبير بالفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر (-1980م) وهي وجودية تميل إلى إبعاد الفكرة الدينية، بينما الوجودية لها أبعاد واتجاهات أخرى، تنطلق من الفكرة الدينية من أهمها أفكار الفيلسوف الدانماركي كيركجارد (-1855م) وهو أول فيلسوف وجودي خرج من عباءة الديانة المسيحية، وقد انتقد أشكال التدين المسيحي الذي تقره الكنيسة؛ فالقارئ لأفكار وتصورات كيركجارد، يتضح له أنه يحرر المسيحية مما حلق بها من طقوس وعادات ميتة، ليست من صلب الفكرة الدينية المسيحية، ولا تخدم الإنسان من جهة وجوده وما يتطلبه من الأمن والارتقاء الروحي، وفي هذا السياق، نجد من بين الكتب الأولى كتاب محمد غلاب "الوجودية المؤمنة والوجودية الملحدة" الصادر في مصر سنة 1966م. وهناك من يرى أن التصوف ومعظم رجالاته بالإمكان أن نعيد إليهم نزعة الوجودية في الثقافة الإسلامية، بالنظر إلى مختلف المواقف التي جعلتهم يخرجون عن الثقافة الدينية، وليس عن الدين، مؤسسين لأنفسهم أفهاما مخالفة للمعتاد.

لسنا هنا بصدد مناقشة الاتجاه الوجودي في الفلسفة، ولكن الذي يهمنا هنا هو التنبيه إلى أن الوجودية، لا تعني ولا تتوقف عند ما كتبه سارتر، وليست بالضرورة موقفا يستغني عن الدين ويعطي بظهره للغيب، ويبالغ في تعميم القلق الوجودي بشكل يسرق من الإنسان سعادته، ويسقطه في فخ العبث وفقدان المعنى؛ معنى الوجود ومعنى الحياة حياة الفرد والجماعة. لا شك أن تورط الحضارة الغربية في حربين عالميتين راح ضحيتهما ملايين الأبرياء؛ فجرائم الرجل الأبيض في مختلف مستعمرات العالم في النصف الأول من القرن العشرين، كان لها أثر كبير على وجودية سارتر، فهي تعبير مباشر عن قلق الحضارة الغربية الحديثة.

كما أن هدفنا من الحديث عن الوجودية التي غطت عليها مختلف ظلال الأيديولوجية الدينية أو غير الدينية، في حاجة إلى نوع من العناية المنهجية، ونحن نتحدث عن أحد أهم كبار المثقفين العرب الذين اعتنوا في القرن العشرين بالاتجاه الوجودي؛ إذ ليس من المعقول أن نختزل عبد الرحمن في طروحات سارتر.

لقد تفاجأ البعض عند توقعهم أن بدوي سيكتب مدافعا عن القرآن ونبي الإسلام، في وقت اختزله البعض بأنه مجرد صدى لمختلف الأفكار الاستشراقية، وقد تعاطى البعض الآخر مع مؤلفاته في الدفاع عن القرآن وعن محمد (ص) بنزعة أيديولوجية لا تهتم بما هو علمي من خلال ما كتب، ما يهم بدوي هو العلمية والموضوعية في قراءته للاستشراق في علاقته بالقرآن وبالرسول محمد. فالقارئ اليوم لكتابه "دفاع عن القرآن ضد منتقديه" سيجده كتابا لازال متصلا بزمننا الراهن، وبالأخص عندما تصل الادعاءات الغربية درجة من الحمق والجنون، عندما يدعي البعض منها بأنّ القرآن لم ير نور التاريخ إلى حدّ مجيئ العباسيين، أو عندما يدعي البعض أن مكة في الأصل هي مدينة البتراء في الأردن؛ فهناك توجد الكعبة وهناك ولد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم؛[1] وقد سبق للقرآن أن وصف هذه الحالة الاجتماعية والنفسية "باللغو" قال تعالى: "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)"(فصلت) ومفردة "اللغو" في القرآن تدور في مدار الزعم والادعاء دون حجة ولا دليل بوعي وقصد؛ وهي بهذا تفيد قول وشهادة الزور بشكل متعمد قال تعالى: "وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)"(الفرقان)

عبد الرحمن بدوي والقرآن

لا شك أن "دفاع عن القرآن ضد منتقديه" لعبد الرحمن بدوي شكل إضافة منهجية للدراسات القرآنية، مع العلم أن بدوي يصرح من خلال كتابه هذا أنه ليس دفاعا عاطفيا أو دفاعا تحكمه النزعة الإيمانية أو ما شابه ذلك، بل هو بحث وكتاب يحتكم ويستند إلى المنهج الوثائقي والموضوعي الواضح، وأنه يهدف إلى كشف القناع عن العلماء المزعومين الذين قدموا الضلال والخداع حول القرآن لشعب أوروبا ولغيره من الشعوب الأخرى. وقد صدر الكتاب أساسا في باريس باللغة الفرنسية وترجمه إلى اللغة العربية الدكتور كمال جاد الله، ونشرته دار الجليل بالقاهرة. وقد كانت مقدمة الكتاب باللغة العربية لعبد الرحمن بدوي سنة 1988م.

ليس من المصادفة أن يختار بدوي مفردة "الدفاع" في حق القرآن؛ فالمسألة هنا توحي إلى أن هناك ظالما ومظلوما، وتوحي إلى مفتري ومفترى عليه، وتوحي في الوقت ذاته إلى رد الحق لذويه وأهله. لقد ارتأى بدوي أن يجعل نفسه في صف القرآن، وفي صف المدافعين عنه، والمنصفين له، وكما تقدم فإنصاف ودفاع بدوي دفاع علمي وموضوعي؛ فالدفاع عن القرآن في حد ذاته دفاع عن الحضارة والثقافة الإسلامية.

لا شك أن كتاب "دفاع عن القرآن ضد منتقديه"، وهو كتاب صغير الحجم، وكبير الفائدة المنهجية، يعد علامة مضيئة من بين مؤلفات بدوي، والتي جاوزت المائة وخمسين للأسباب الآتية:

-      أنه يصدر من عالم متبحر من الثقافة الغربية، ولكنه متبحر بنظرة نقدية لا بنظرة (اتباعية عمياء).

-      لا يمكن اتهام مؤلف الكتاب بالجهل ولا بالثقافة الأوروبية ولا بالتعصب، فهو أستاذ للفلسفة والمنطق، ويستطيع أن يزن الأمور بميزان الحق والصواب.

-      أن كثيرا من المطاعن التي أوردها هذا الكتاب وإن كانت معروفة، إلا أن رد المؤلف عليها كان بموضوعية استخدم في ذلك كما قال هو بنفسه، علم فقه اللغة؛ ذلك العلم ذو القواعد الصارمة التي لا يتطرق الشك إلى نتائجها.[2]

-      الكتاب مهم؛ لأن صاحبه لا يرفض الاستشراق ولا يدعو للقطيعة معه، كما هي التيارات الأيديولوجية التي تضخم مقولة الغزو الفكري قياسا على الغزو العسكري؛ فالمؤلف استفاد من الاستشراق، وهو أمر جعله على علم بثغرات الدراسات الاستشراقية في نظرتها الى القرآن؛ وذلك بقدرته على التمييز بين الموضوعي منها والمتواطئ.

القرآن يدافع عن نفسه

والملفت للنظر في الموضوع، كون القرآن يدافع عن ذاته من خلال ذاته، فهو ليس كتاباً في ملك الذين يؤمنون به وحدهم، فهو ملك للناس جميعاً بمعزل عن انتماءاتهم الثقافية والدينية والحضارية؛ لأنه يقدم نفسه بياناً للناس وموعظة للمتقين، قال تعالى: "هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)"(آل عمران)، وهذا، فيه إزعاج كبير للمركزية الغربية التي لا تنفصل جذورها عن الديانة المسيحية في الغرب، قال تعالى: "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)"(الفتح) وحالة الظهور الكلي هنا ينبغي فهمها في سياقها المنهجي من داخل القرآن، فلا علاقة لها بما يدعي البعض، أن القرآن يقول بنفي الديانات التي ترتبط بما سبقه من الكتاب على رأسها، اليهودية والمسيحية، ولا علاقة لها كذلك بتصورات وأفهام المسلمين للقرآن؛ فحالة الظهور الكلي في بعض من أوجهها ترتبط بالحق الذي يضمه القرآن عن إرث الرسل والأنبياء بدءاً من آدم ومرورا بنوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام جميعاً، وختماً بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهو الفاتح لما أغلق والخاتم لما سبق ناصر الحق بالحق والهادي إلى الصراط المستقيم؛ فبالقرآن تمكن محمد في القرن 7م أن يفتح كل انسدادات ومضايق الفكرة الدينية التي وضعها أهل الكتاب (اليهود والنصارى)، ومن يقرأ سورة البقرة وآل عمران، قراءة منهجية ومعرفية مقارنة بما يضمه الكتاب المقدس من المواضيع التي تم استرجاعها من لدن القرآن تبعاً لمنهج التصديق والهيمنة الذي اعتمده، سيدرك طبيعة التحرير والانفتاح الذي قام به القرآن. وبالقرآن في الوقت ذاته، ختم محمد ما سبق من إرث الرسل والأنبياء، فخلود القرآن خلود في الوقت ذاته لذلك الإرث المختلف حوله، والذي قال فيه القرآن كلمة الحق، وكلمة الحق هذه لن نقترب منها، إلا إذا حزمنا أنفسنا بالمعرفة العلمية في مختلف مجالات المعرفة المعاصرة وبالنور الداخلي للقرآن، قال تعالى: "إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76)"(النمل).

[1] دان جيبسون؛ له كتاب بعنوان؛ جغرافية القرآن؛ صدر سنة 2011م

[2] محمد سيد بركة، مقال: موقع مجلة العربي، العدد. 496، https://alarabi.nccal.gov.kw/Home/Article/1212