عبد النبي الحري: آفاق الدراسات الرشدية بالمغرب
فئة : حوارات
يتوقف الباحث المغربي الدكتور عبد النبي الحري، في هذا الحوار لإبراز الخطوط العامة للدراسات الرشدية بالمغرب، مبينًا أهميتها ومبرزًا في الآن نفسه واقعها وأفقها ودواعي الاهتمام بابن رشد في المغرب والعالم العربي، ومستحضرًا نماذج من الجدل والسجال الفكري والفلسفي الذي أفرزته الرشدية.
عبد الله إدالكوس: الدكتور عبد النبي الحري، أنت باحث مهتم بالدراسات الرشدية في المغرب، والملاحظ عمومًا أنّ هذا الاهتمام بابن رشد قد اتسعت رقعته في العقدين الأخيرين، فماهي في نظركم الدوافع والمبررات الكامنة وراء هذا الاهتمام؟
عبد النبي الحري: أولاً، أشكركم على اهتمامكم بواقع البحث في الدراسات الرشدية بالمغرب، ثانيًا، وفي محاولة للتفاعل مع سؤالكم المهم، أقول إنّ الاهتمام المغربي بابن رشد، مهما قيل عنه فهو ما يزال قليلاً ومحدودًا، هذا على الرغم من "أنّ الفكر المغربي، كما يقول الأستاذ عبد المجيد الصغير، قد أبان عن رغبة متواصلة في تجديد النظر في المشروع الرشدي وقراءته قراءة جديدة". وتلك قراءة، بعد أن اكتملت معالمها (...) تحتاج هي الأخرى بلا شك إلى وقفة متأنية وتقييم خاص ومراجعة مستقلة لأسسها ولعناصرها الجزئية كذلك.
إنّ افتتاح كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط سلسلة ندواتها الكبرى بندوة "ابن رشد ومدرسته في الغرب الإسلامي" سنة 1978 يعتبر دليلاً على المكانة المرموقة التي أريد للدراسات الرشدية أن تتبوأها في رحاب الجامعة المغربية. فمنذ ذلك التاريخ توالت القراءات والقراءات المضادة لتراث أبي الوليد ابن رشد، حيث عرفت تراكمًا مهمًّا جديرًا بالرصد والتحليل والمراجعة. وهو ما خصصنا له بحثًا مستقلاًّ تحت عنوان "صورة ابن رشد في الفكر المغربي المعاصر".
وإذا كان لهذا العمل من حسنة فهو أنّه مهد الطريق للبحث فيما تراكم مغربيًّا من دراسات سواء تلك التي اهتمت بالفلسفة الإسلامية أو علم الكلام، أو غيرها من ضروب البحث الفلسفي، هكذا أصبحنا نسمع ندوات تخصص للدراسات الفارابية بالمغرب وأخرى للدراسات المنطقية بالمغرب.. إلخ، بعدما كان يتم النظر إلى هذا النوع من البحوث على أنّه عمل يوجد على هامش الفلسفة، أو لا يحظى إلا بقيمة ثانوية، علمًا أنّ "الهامش" في الفكر المعاصر لم يعد "هامشًا"، وما يسمى بالمركز لم يعد كذلك.. إذ كيف يمكن أن نقيم مسارنا البحثي والعلمي في مختلف ضروب المعرفة، التراثية والمعاصرة، ما لم نقف وقفة تحليلية وتقييمية لما تحقق من منجز معرفي في مختلف مجالاتها، وذلك لا يكون إلا بتشجيع الطلبة والباحثين عمومًا على إنجاز أبحاث ذات طبيعة أكاديمية حول ما تحقق من تراكم بحثي في جامعاتنا، حتى نستطيع تقييم ذاتنا العلمية والوقوف عند حدودها وجوانب قوتها وضعفها.
وفي هذا الإطار، تفرض علينا الأمانة العلمية الاعتراف بأنّ ما أنجزناه من بحث حول الدراسات الرشدية المغربية، لم يحط بكل ما أنجز من أبحاث حول ابن رشد، خاصة من طرف عدد من الباحثين الشباب الذين أنجزوا دراسات علمية مهمة جديرة هي نفسها بالتقديم والمراجعة والتحليل، وسبب ذلك لا يرجع لأيّ رغبة في تهميش هذا الباحث أو ذاك، بقدر ما تعود إلى أنّ عددًا من الأبحاث لم تنشر إلا في السنتين الأخيرتين، أي بعد انتهائنا من عملنا، كما أنّ عددًا من الدراسات الجديدة وجدناها امتدادًا لأطروحات الآباء المؤسسين للدرس الرشدي في المغرب. هؤلاء الآباء هم من ركزنا أساسًا على ما قدموه من أعمال وأبحاث حول ابن رشد، وفي مقدمتهم الراحلون جمال الدين العلوي ومحمد عابد الجابري، بالإضافة إلى محمد المصباحي وطه عبد الرحمن الذي بالرغم من معاداته العلنية لابن رشد والرشدية، فإنّه أنجز دراسات نقدية كثيرة حول المتن الرشدي لم يكن ممكنًا بالنسبة إلينا تجاهلها.
هكذا كانت الأعمال الرائدة للجيل السابق من رواد الدرس الفلسفي المغربي، بمثابة حافز لنا للسير على طريقها، والاهتداء بهديها، للنظر فيما تركه الأسلاف، وما ينتجه المعاصرون المغاربة، من إنتاجات وقراءات وتأويلات مختلفة للفلسفة الرشدية، من حيث مقارباتها المنهجية واختياراتها الإيديولوجية.
هكذا حاولنا الإجابة، قدر ما استطعنا سبيلاً، على مجموعة من الأسئلة الموجهة من قبيل: ما هي الدراسات المغربية التي تناولت ابن رشد بلغة ابن رشد العربية الفصحى[1]؟ وكيف قرأت متنه؟ وما الأثر الذي تركته هذه الدراسات في الدرس الفلسفي بالمغرب؟ وما هي قيمة مساهمتها في بلورة فكر فلسفي مغربي معاصر؟
وفي مقاربة هذه الإشكالية انطلقنا من فرضية أساسية، وهي أنّ الدراسات المغربية المعاصرة لم ترسم صورة موحدة منسجمة لفيلسوف قرطبة ومراكش، بل رسمت له صورًا متعددة ومتضاربة، كل واحدة منها تزعم أنّها تعبر عن الحقيقة الرشدية في صفائها ونقائها، ساهمت في تنشيط الدرس الفلسفي التراثي خاصة، وفي بروز أطروحات فكرية أغنت الساحة الفلسفية المغربية، بما ابتكرته من مفاهيم متنوعة، وما توسلت به من وسائل وطرائق في النظر مبتكرة أو مقتبسة من التراث الفلسفي المعاصر، وما قدمته من حجج وإثباتات لتوجهاتها واختياراتها. بحيث يمكن الادعاء أنّ الدراسات التراثية، وفي مقدمتها الدراسات الرشدية، ساهمت أكثر من غيرها في بلورة المعالم الأساسية للفكر المغربي المعاصر.
ومن هذه الفرضية الأصلية تتفرع مجموعة من الفرضيات الجزئية تختص كل واحدة منها بصورة مميزة لابن رشد، وهي:
1- صورة ابن رشد الذي يفتح أبواب الإبداع والاجتهاد، والذي نحن في أمس الحاجة إلى الاهتداء بهديه واتباع سبيله.
2- صورة ابن رشد الذي أحكم إغلاق أبواب التجديد والابتكار، وشرع لكل معاني المحافظة والتقليد، وبالتالي نحن في أمس الحاجة إلى تركه ونبذه.
3- صورة تقول عن نفسها إنّها "وسط عدل"، تحاول التفاعل مع التراث الرشدي من دون السقوط في حبل تمجيده والانتصار له بشكل مطلق ولا مشروط.
وقد سعينا في كتاب "صورة ابن رشد في الفكر المغربي المعاصر" إلى فحص هذه الفرضيات الجزئية، وتلك الفرضية الأصلية.
عبد الله إدالكوس: هذا الاستدعاء للرشدية اليوم، ألا ينم عن قصور علمي بالنظر إلى أنّ لكل إنتاج معرفي إمكان حضاري، وأنّ لابن رشد مشروطياته التاريخية؟
عبد النبي الحري: تجدر الإشارة في بداية الإجابة على سؤالكم الماكر هذا أنّ استدعاء ابن رشد أو الغزالي أو أفلاطون أو أرسطو، أو غيرهم من أعلام الفكر الإنساني، مهمة علمية جليلة، ومقدرة ومطلوبة، في إطار محاورة الفكر لذاته ومراجعته المستمرة لها، وما تاريخ الفكر بشكل عام، وتاريخ الفلسفة بشكل خاص، إلا محاورة مستمرة ومتجددة لأطروحات الفلاسفة المتعاقبين خلال هذا التاريخ المديد. يطرح المشكل فقط حينما يكون هذا الاستدعاء ذا طبيعة إيديولوجية متعسفة على هذا المفكر أو ذاك.
وفي هذا الإطار نسجل أنّ ابن رشد كان من أشدّ الفلاسفة عرضة لهذا الاستدعاء المتعسف، إذ تم إقحامه في معارك معاصرة لا علاقة له بها، حيث أصبحنا نسمع عن ابن رشد "العلماني" أو عن ابن رشد "الأصولي" وغيرها من التصنيفات التي لا يتحملها ابن رشد.. فقد اعتبره بعضهم رائدًا للتنوير والعقلانية وبعضهم الآخر مفتاحًا لتقدمنا وتحررنا، في الوقت الذي صوره آخرون، في رد فعل إيديولوجي سافر، سببًا لكل مصائبنا وويلاتنا الراهنة!
لكن، ومن باب الإنصاف نسجل أنّ هناك دراسات أخرى نظرت لابن رشد نظرة موضوعية ومحايدة قدر الإمكان، وهي بالتالي لم تتعسف على المتن والزمن الرشدي كما فعلت الدراسات الإيديولوجية، التي نسجل بأسف كبير أنّها هي الرائجة والمعروفة والمشهورة نظرًا لما رافقها من إثارة وبهرجة إعلامية.
عبد الله إدالكوس: خصصتم كتابًا لدراسة "الصراع" بين علمين بارزين في الفكر الفلسفي العربي هما طه عبد الرحمن والجابري، الصراع القائم كما وصفتموه على أرضية الحكمة الرشدية. الانطباع العام الذي يتشكل عند القارئ للكتاب هو أنّ هذا الصراع يتجاوز ما هو فكري وعلمي إلى ما هو إيديولوجي وسيكولوجي؛ كيف تفسرون ذلك؟
عبد النبي الحري: الكاتب لا يتحمل مسؤولية ما يمكن أن يتولد لدى قارئه من انطباعات، فالكتابة هي مجال مفتوح للتأويل وإعادة التأويل، أما ما وقفت عنده في كتابي "طه عبد الرحمن ومحمد عابد الجابري: صراع المشروعين على أرض الحكمة الرشدية" فهو أنّ لكل من طه والجابري مشروعه الخاص، والاختلافات بينهما واضحة للعيان، ولم ندعي أنّنا بإبرازها للقارئ أقدمنا على اكتشاف لم يكن يدركه المهتمون والمتابعون للفكر المغربي المعاصر، وإنّما فقط وقفنا على الدوافع الإيديلوجية التي تحكمت في هذا الصراع، من خلال رصد البؤرة المركزية لهذا الصراع وهي الموقف من ابن رشد، ففي الوقت الذي بلغت فيه نزعة تمجيد ابن رشد عند الجابري مبلغًا كبيرًا، بلغت فيه نزعة القدح في ابن رشد عند طه عبد الرحمن مبلغًا لا يضاهيه إلا تمجيد الجابري لفيلسوف قرطبة.
لقد اعتبر الجابري ابن رشد مفتاحًا لتحررنا وتقدمنا، الفكري والعلمي والسياسي، نظرًا لما تميزت به اجتهاداته من روح إصلاحية وتجديدية على مستوى الحكمة وعلى مستوى الشريعة، فقد أعاد ترتيب علاقة الحكمة بالشريعة، كما كشف مناهج الأدلة في عقائد الملة، ووضع قواعد لبداية المجتهد ونهاية المقتصد، وبين تهافت الخطاب المناوئ للفلسفة، كما لم يفته تسطير ما هو ضروي في العلم المدني.
وبذلك يكون ابن رشد في نظر الجابري قادرًا على أن يفك جميع ألغاز واقعنا الفكرية والدينية والسياسية، حيث بلغ الأمر بصاحب نحن والتراث إلى القول إنّه بإمكان ابن رشد أن ينوب عنّا في نقد واقعنا السياسي المعاصر، بل بإمكانه أن يلهمنا الحلول الملائمة لتحقيق الانتقال الديمقراطي المطلوب!.
لقد تعرضت أطروحات الجابري حول ابن رشد لانتقادات مختلفة تباينت درجة حدتها من مفكر إلى آخر، فعلي أومليل رفض بقوة القول بتحقيق ابن رشد لقطيعة إبيستمولوجية مع الفلسفة المشرقية، السينوية والفارابية، مادام ابن رشد بقي يدور في فلك الخطاب الإسلامي التقليدي، ولم يتجاوزه أو يحقق أي قطيعة معه، وحجته في ذلك أنّ المفاهيم التي ارتكز عليها خطابه تنتمي إلى القاموس التقليدي مثل "الأصل" و"البدعة" و"الأمة" و"التأويل" و"الاجتهاد".. وغيرها من المفاهيم التقليدية التي لم يدخل عليها ابن رشد إلا بعض التعديلات الطفيفة، لم تؤد إلى تغيير كيفي يسمح بالحديث عن قطيعة مع توظيفات السابقين لها. بالإضافة إلى أنّه بقي تقليديًّا من جهة الموضوعات التي اشتغل عليها، والتي لم تخرج عن اهتمامات سائر الفلاسفة والمتكلمين المسلمين، مثل الله، والعالم، والزمان، والإرادة، والنفس، وغيرها.
لكن النقد الجذري لأطروحة الجابري سيصل حدوده القصوى عند طه عبد الرحمن الذي وضع تصورات ابن رشد والجابري في خانة واحدة سلط عليها كل ما استطاع إليه سبيلاً من معاول الهدم ووسائل التقويض بلغت إلى درجة الخروج عن قواعد الصناعة الفلسفية واللجوء إلى منطق الاتهام والتكفير العقدي!.
لم يكن طه عبد الرحمن، بطبيعة الحال، وحيدًا في نقده لابن رشد، بل نجد هذه النزعة حاضرة عند عدد من الباحثين المغاربة، ومن بينهم عبد المجيد الصغير، الذي ميز بين صورتين لابن رشد، "صورة أرسطية" رحلت عن العالم الإسلامي مع رحيل ابن رشد ودفن جثته، و"صورة سلفية" استمر حضورها في العالم الإسلامي.
لقد نسي المغاربة فعلاً ابن رشد، في نظر عبد المجيد الصغير، لكن ابن رشد المعجب بأرسطو، المقلد لعلمه الإلهي، واستحضروا الصورة التي كان يحب أن يظهر بها للعامة، والتي نجدها في كتابيه بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ومناهج الأدلة في عقائد الملة. لقد بعث المغاربة، يقول الصغير، ابن رشد "من قبره فقيهًا سنيًّا، بل سلفيًّا يكره الفلسفة، ويبتعد عن كل تأمل ميتافيزيقي، ولا يبحث إلا "عما تحته عمل" كما قال الإمام مالك"!
على خلاف ذلك لا يرى طه عبد الرحمن فائدة في أي وجه من أوجه المشروع الرشدي، "السلفي" أو "الأرسطي" طالما أنّ منهجه المفضل، في دراساته الكلامية أو الفقهية أو الفلسفية، هو التقليد والجمود ونبذ الاجتهاد والتجديد. والمقلد، في نظر طه، لا يمكن أن يعول عليه من يريد تجديد الفكر الإسلامي.
هكذا حاول طه عبد الرحمن أن ينوب عن الغزالي في بيان تهافت "تهافت التهافت"، حيث يشير إلى التناقض الواقع بين ظاهر النص الرشدي القائل بالفصل والتجزيء بين "البيان" و"الجدل" و"البرهان"، وبين حقيقة هذا المتن الطافحة بالتداخل والتكامل بين هذه الحقول المعرفية المختلفة؛ وذلك ما يسميه طه بالرؤية التجزيئية-التفاضلية عند ابن رشد.
إنّ التناقض عند ابن رشد لا يكمن فقط فيما صرح به، بل يتجلى أيضًا فيما سكت عنه في نصوصه، وخصوصًا المتعلق منها بالجانب الإلهي، الذي لم يكن برهانيًّا خالصًا، في نظر طه عبد الرحمن، بل كان، على خلاف ذلك، طافحًا بشتى أنواع التداخل مع العلوم الأخرى، وفي مقدمتها علم الكلام، فقد شن فيلسوف قرطبة هجومًا على الفلاسفة الذين دمجوه مع العلم الإلهي، بدعوى أنّه يتوسل بطرائق جدلية لا ترقى إلى برهان الحكمة اليقيني.
ولاشك أنّ الحاجة لا تدعو إلى بيان أنّ صاحب "ابن رشد: سيرة وفكر" هو المقصود بهذا الدحض، فالسجالات الفكرية التي خاضها طه عبد الرحمن على أرض الحكمة الرشدية، هي، وكما تم التأكيد على ذلك مرات سابقة، سجالات بالدرجة الأولى مع زميله محمد عابد الجابري، فبقدر ما عمل الأخير على تمجيد ابن رشد والإعلاء من شأن الرشدية، بقدر ما سعى طه عبد الرحمن إلى هدم صورتها وتقويض أركانها.
لقد عرفت أروقة الفكر المغربي المعاصر نقاشًا مثيرًا وشيقًا بين نزعة الانتصار لابن رشد وفلسفته ونزعة الانتصار على ابن رشد والرشدية، لكنّه نقاش لم يتقيد في غالب الأحيان بقواعد الصناعة الفلسفية، نظرًا للهواجس الإيديولوجية التي تحكمت في مختلف مراحله وفصوله.
عبد الله إدالكوس: كيف ترون مستقبل الدراسات الرشدية في المغرب والعالم العربي؟
عبد النبي الحري: نسجل أنّ الدارسين المغاربة للفكر الرشدي، لم يكونوا، مثلهم في ذلك مثل الدارسين في الشرق العربي والغرب الأوربي، على قلب رجل واحد فيما يتعلق بالموقف من ابن رشد.
وقبل استشراف مستقبل الدراسات الرشدية نسجل أنّ واقع الدراسات الرشدية يتوزع بين تيارين اثنين:
أولهما، حاول توظيف ابن رشد في صراعات معاصرة لا شأن للفلسفة الرشدية بها، وهي تنقسم بدورها إلى موقفين متناقضين: موقف يمجد "الرشدية" ويعلي من شأنها ويعتبرها مفتاحًا سحريًّا لحل كل مشاكلنا المعاصرة؛ وموقف رفع شعار "اللارشدية" وعمل كل ما في وسعه على هدم أسس الرشدية وتقويض أركانها.
وثانيهما، حاول قدر ما استطاع إلى ذلك سبيلاً دراسة الفكر الرشدي دراسة "محايدة"، سعت إلى قراءة ابن رشد بابن رشد ومن أجل ابن رشد.
لكن هل حققت القراءة الفلسفية لابن رشد هدفها الأسمى وهو رسم صورة كاملة وحقيقية لابن رشد؟
إنّ الإجابة على هذا السؤال لا يمكنها أن تكون إلا بين مقام "نعم" و"لا"، فقد سلكت بعض الدراسات الرشدية، خاصة المغربية منها، الطريق إلى فهم سليم لابن رشد، وهو التقيد بقواعد الصناعة الفلسفية، والتحرر من كل أشكال الظلال الإيديولوجية والسياسية الآنية والضيقة.
لكن هذا الطريق صعب وشاق، لا لأنّه لا يتصف بعناصر الإثارة والجاذبية التي تتصف بها طرق التأويل الإيديولوجية، ولكن لأنّه مشروع يتجاوز إرادة هذا الباحث الفرد أو ذاك، لأنّه مشروع يتطلب جهودًا جبارة ومتضافرة تتحرك على عدة جبهات.
إنّ البحث في الرشديات لم يستنفد كل أغراضه بعد، بل إنّه يفتح أمام الباحثين آفاقًا واسعةً لمزيد من البحث والنظر يمكن حصرها في الورشات التالية:
1- مواصلة الجهود التي بذلت على صعيد الرصد البيبليوغرافي للمتن الرشدي.
2- إعادة نشر ما توفر من النصوص الرشدية وتحقيقها لتخليصها مما أضفت عليها النشرات الإيديولوجية التي هيمنت على هذا الصعيد.
3- تكثيف جهود ترجمة النصوص الرشدية المفقودة في اللغة العربية والمتوفرة في لغات أجنبية، خاصة العبرية واللاتينية.
4- مراجعة الدراسات التي أنجزت حول التراث الرشدي وتقويمها، قصد إبراز قيمتها والوقوف على حدودها.
ولعل الدراسة التي قمنا بها تكون خطوة متواضعة على طريق إنجاز هذه المهمة الأخيرة، وهي بذلك تطمح إلى أن تؤسس لاستمرارية الفكر الفلسفي بالمغرب من خلال تسليط الأضواء على ما أنتجه من مناهج وأقاويل ومفاهيم، ومن أجل أن تضمن الفلسفة المغربية حضورها واستمرارها داخل المجتمع العلمي المغربي وفي مقدمته المجتمع الجامعي.
[1]- إنّ تركيز هذا البحث على الدراسات المغربية العربية لابن رشد لا يعني تنكره للدور الذي قامت به الدراسات التي أنجزها باحثون مغاربة، أو من أصل مغربي، باللغة الفرنسية، حيث سيأخذ بعين الاعتبار مساهمتها في تنشيط الدراسات الرشدية المعاصرة، كما ستتم الإشارة إلى ذلك في مواضع مختلفة من هذا البحث.