عبده الفيلالي الأنصاري.. ومهمة تجديد الوعي الديني


فئة :  مقالات

عبده الفيلالي الأنصاري..  ومهمة تجديد الوعي الديني

عبده الفيلالي الأنصاري..[1]

ومهمة تجديد الوعي الديني

د. عبد السلام شرماط

"لا أدعي امتلاك أية سلطة، من أي نوع كانت، سواء علمية أو غيرها..."

بهذا التواضع العلمي والمعرفي، يفضل المفكر المغربي عبده الفيلالي الأنصاري، تقديم نفسه لمحاوريه، وبهذا التواضع العلمي أيضا، اشتغل المفكر المغربي في صمت، وعمل لسنوات عديدة، وما زال، على تجديد الفكر الديني، وسعى إلى تقديمه للقراء وفق مناهج حديثة، وآليات تتماشى مع روح العصر، معتبرا أن الرجوع إلى الأصول أساسي في كل المجتمعات وفي كل الأديان؛ وأن باب الاجتهاد مفتوح على كل القراءات الممكنة والمتجددة باستمرار وفق روح العصر.

اهتم عبده الفيلالي الأنصاري، الذي كلف نفسه مهمة تجديد الوعي الديني عبر كتاباته المتعددة، بالمسائل والإشكاليات التي تفرض نفسها بإلحاح علينا، مسلما بأن كل المسائل التي تطرح علينا هي مسائل قابلة للنقاش، ولنا حق الخوض فيها، ومعالجتها بطريقتنا دون أن يأتي أحد ويقدم نفسه على أنه سلطة، وأن له الحق في إسكات الآخرين.

ويعد هذا المنطلق مسألة مبدئية في تجربة عبده الفيلالي، لأنه للأسف – كما يقول الأنصاري- يوجد العديد من الذين يظنون أن لهم سلطة، فقط لأن لهم تكوينا معينا أو نتيجة للموقع الذي يحتلونه، كأن يكون مسلما مثلا، وله موقف معين من الإسلام، فيعتبر كلامه هو التعبير الحقيقي الوحيد عن الفكر الإسلامي، وأن ما عداه خاطئ. وهذا شيء غير مقبول من وجهة نظر إسلامية، لأن الكل مسلم، وليس هناك أحد، بعد وفاة الرسول يستطيع أن يقول إن الإسلام هو ما أقوله أنا لا غير، وهو أمر مؤسف حقا أن يتم اختزال الدين الإسلامي في أمور شكلية وجزئية، لأن الإسلام أكبر من ذلك، ويتطلب موقفا يتفهم ما هو أساسي في الدين؛ فهناك مجموعة من الإخوان، يضيف باحثنا في أحد حواراته، يظنون أنهم يمسكون بالدين من خلال تركيزهم على بعض المظاهر والشكليات، بينما هم يأخذون القشور ليس إلا.

 

تجديد الفكر الديني..

أنتجت الساحة الفكرية المغربية عدداً من المفكرين والفلاسفة الذين سخروا أقلامهم لإنتاج معرفي تجاوز التكرار والاجترار، وآمنوا بضرورة إعمال العقل في التعاطي مع الأشياء، انطلاقاً من أن السؤال لا يصنع الحقيقة، بل ينجز الفكرة التي غالباً ما تكون مصدرا أوليا في تحريك المفاهيم والقوالب الجاهزة، معززين مواقفهم بجرأة فلسفية تخطت الطروحات السالفة التي تبنت التوفيق والتلفيق، سيما في الجانب الديني. فإذا كان بعض رواد الإصلاح المغربي، مثل المختار السوسي، علال الفاسي، قد ربطوا التقدم والتطور بضرورة الرجوع إلى ينابيع الإسلام الأولى الصافية مع الانفتاح على الغرب والاستفادة من إيجابياته في العلم، سيراً على ما روج له رواد الإصلاح في المشرق، مثل عبد الرحمن الكواكبي ومحمد عبده، فإن البعض الآخر منهم كلف نفسه مهمة تصحيح صورة الإسلام لدى الآخر، والدعوة إلى إصلاحه وتبرئته من معاداته للعلمانية والديمقراطية.

ويعد عبده الفيلالي الأنصاري واحداً من الأعلام المغاربة الذين نادوا بتجديد الدين وفق آليات تتماشى مع العصر. عبده الفيلالي الأنصاري مفكر وأكاديمي مغربي، ولد في مدينة مكناس- المغرب عام 1946، وتولى عدة مناصب إدارية وثقافية عليا، عمل كأستاذ جامعي في جامعة محمد الخامس، ثم شغل مديراً في مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية بالدار البيضاء، ومديراً لمعهد الدراسات حول حضارات المسلمين بجامعة آغا خان في لندن، وهو مدير المجلة المغاربية للكتاب "مقدمات"، والتي تصدر باللغتين العربية والفرنسية، وصدرت له مؤلفات عنيت بالشأن الديني الإسلامي. كما ترجم كتاب علي عبد الرازق الموسوم بـ "الإسلام وأصول الحكم"، إلى اللغة الفرنسية، وهو كتاب نشره صاحبه في مصر عام 1925، ثم أعيد نشره مترجماً بباريس عام 1994 عن دار "découverte La"، كما شارك في عدة ملتقيات فكرية عربية ودولية.

شكلت كتابات عبده الفيلالي الأنصاري قراءة موسعة في الفكر العربي والإسلامي عبر الانخراط في قضايا الإسلام المعاصرة، ودعوة إلى إجراء مراجعات عميقة في التاريخ.

إن رؤية عبده الفيلالي للأشياء، سيما ما تعلق منها بالجانب الديني هي رؤية متفردة في التعاطي مع العديد من الأسئلة التي انطلق منها رواد الإصلاح والمفكرون المسلمون؛ ففي الوقت الذي نادى فيه هؤلاء بضرورة الرجوع إلى ينابيع الإسلام الأولى، أو ما اصطلح عليه بالأصول، تساءل الأنصاري عن طبيعة هذه الأصول، محاولا توضيح الطريقة التي فهمت بها الأجيال السابقة الدين؛ أي الطريقة التقليدية التي تؤكد على العودة للمجتمع التقليدي والكيفية التي عاش بها الدين في فترة معينة من التاريخ، ويرى مفكرنا أن الإسلام أوسع وأهم وأسمى من كل الأشكال التاريخية التي استنتجت منه، والتي بنيت عليه؛ فالإسلام قابل لمقاربات أخرى، ويقبل الاستجابة لمتطلبات متغيرة، لأن الدين الإسلامي أسمى من كل الأشكال التي أعطاها له البشر، حتى وإن كانت جميلة؛ فاجتهادات الفقهاء في الماضي مثلا، ليست إلا اجتهادات بشرية لا تسمو إلى مستوى الوحي والخطاب الإلهي.

وما يجب فهمه هو أن الرجوع إلى الأصول أمر أساسي في كل المجتمعات وفي كل الأديان؛ لكن هناك دائما قراءة متجددة للنص الأصلي بوصفه مرجعاً ثابتا، بينما القراءات تتجدد باستمرار، وتتعدد وتتابع وتتغير؛ فمسألة العودة إلى النصوص مسألة أساسية، لكن دون أن تفرض عليها القوالب التي استخلصها الفقهاء في الزمان الماضي.

الإسلام والعلمانية..

ولعل من المسائل التي وقف عندها عبده الفيلالي بشكل جيد وجاد هي مسألة الإسلام والعلمانية؛ حيث يقول:

"يظهر اليوم واضحا داخل العالم الإسلامي، أن أمل قبول اللائكية أو العلمانية يبدو مستبعداً بحق. يبدو أن المجتمع بأكمله، في أعماقه، يطالب بشكل، ليس من التيوقراطية، وإنما بشكل من تهذيب أخلاق الحياة العامة بواسطة استعمال "الخطاب الديني".[2]

ففي الوقت الذي أثارت فيه هذه المسألة جدلاً كبيراً عند العديد من الباحثين، بدءا بعلي عبد الرازق في كتابه "الإسلام وأصول الحكم"، عمل الرجل على البحث في الحدود بين العنصرين، وانتهى إلى نتيجة مفادها أن الإسلام دين عالمي، له مستواه وحضوره وموقعه، ولا يمكن مقارنته بالعلمانية التي هي عبارة عن تحول حدث في مجتمعات معينة، والتي أدت إلى تغيير بعض الاستعمالات الدنيوية للدين؛ فالدين كان يستعمل دنيوياً لخدمة السلطة السياسية، وأصبح هناك توجه يفصل بين البعد الروحي والعقائدي والتعبدي في الدين، وما بين استغلال الدين لخدمة أغراض دنيوية؛ فالإسلام تصور للعالم واعتقاد وإيمان وعلاقة بالإله وتوجه أخلاقي... إذن، هناك الإيمان كأساس وهناك الموقف الأخلاقي، وهناك ما يترتب عن كل هذا.

يقول عبده الفيلالي: "ألفنا أن نكون في وضعية يبدو فيها المجتمع برمته، في أغوار أعماقه، يطالب بشكل لا تيوقراطي، إنما بشكل من تهذيب أخلاق الحياة العامة باستعمال الخطاب الديني. يبدو لي أن هنا يجب على الحداثيين والديمقراطيين أن يتعلموا وينصتوا إلى المجتمع من حولهم. وكنت مبتهجا أن أعرف أن بعض التعلم أصبح ساريا بين الفلاسفة، وحتى هنا، من حولنا، هناك بعض من أقدموا أو جوهروا المعارضة بين الإسلام والعلمانية ويقولون، كما فعل برنار لويس مثلا، بأن المسلمين محكوم عليهم بالعيش في مجتمع منغلق في الدين، ولن يكونوا أبدا ديمقراطيين. سيكون المسلمون منغلقون ولن يتطوروا أبدا، لأنهم كما هم بسبب هويتهم وموروثهم. ليس ذلك في موروثاتهم، ولكن في ثقافتهم، الذي هو أدهى وأمر. راودت هذه الفكرة عددا من المفكرين، حتى داخل العالم الإسلامي، وليس فقط المستشرقين، أمثال برنار لويس. الفكرة هي أنه يوجد شيء في طبيعة الثقافة والإرث الإسلامي يعرقل تطور المسلمين، وأن هؤلاء ليس عليهم إلا قبوله أو رفضه من طرف مجتمعهم.

إن الإسلام كما يعرف الجميع لا يتوفر على كنيسة؛ أي ليس هناك مؤسسة دينية تمتلك السلطة لفرض تصوراتها على المجتمع؛ فكل المسلمين سواسية من حيث إن للجميع إمكانية الرجوع إلى النص، ولكن لا يمكن فرض موقف ديني على فئة أو فرد؛ ففي الأسرة الواحدة يوجد شخص مناقض في مواقفه وأفكاره لأخيه الذي يعيش معه تحت سقف واحد. ومن ثمة يرى الأستاذ عبده الفيلالي، أن الموقف الديني أصبح اختياراً شخصياً، وموقفا خاصا بالفرد، وهذا شيء إيجابي جدا، لأن التدين سيصبح مسألة شخصية جدا، وليس اختيارا سلطوياً يفرض على الناس، وهو أمر يبشر بالخير، ويؤكد على حضور العقلانية في التعاطي مع المسألة الدينية، كما يفتح آفاقا للحوار والنقاش العقلي وتظافر الجهود من أجل التشبث بروح الدين الإسلامي التي لا يمكن بأي شكل أن تناقض حقوق الإنسان، بل إن نظرية حقوق الإنسان هي ربما تطور متأخر لأفكار زرعها الإسلام منذ زمن بعيد، كما أنه لا يمكن أن يكون هناك تناقض في ما يخص حقوق المرأة، ولو أن هناك مجموعة من النصوص التي تعتبر قطيعة، والتي جاءت في الأصل لمواجهة واقع معين. وعلى هذا يؤكد الأنصاري أن الرؤية الإيجابية للإسلام، لابد أن تفرض ذاتها على الجميع عن طريق الحوار، نافيا ظاهرة العنف التي حاول البعض إلصاقها بالإسلام في ظروف شهدت تحولات وتطورات عرفها العالم الإسلامي، ودعا إلى ضرورة الحوار والنقاش بوصفه الوسيلة السليمة التي حث عليها الدين الإسلامي.

الإسلام والعنف..

إنها مقاربة جديدة لفهم الإسلام المعاصر عبر كسر الروابط بين الإسلام والعنف، لذلك كلف الأستاذ الأنصاري نفسه مهمة ترجمة كتاب "الإسلام وأصول الحكم" لصاحبه علي عبد الرازق، حيث إن رقعة النقاش حول الإسلام والعنف بدأت تتسع وتكبر عبر وسائل الإعلام الغربية، دون أن يتوفر هؤلاء الذين يتناولون هذه القضايا على كل الوثائق الضرورية واللازمة للخوض في هذا النقاش، فكان من واجبه أن يقدم للرأي العام والرأي المسلم الذي يقرأ بالعربية وثيقة أساسية هي وجهة نظر، معتقداً دوما أن قضية العنف لا يمكن أن تحل إلا عن طريق الحوار والنقاش الديمقراطيين، انطلاقا من قوله تعالى: "وجادلهم بالتي هي أحسن".[3]

ويحث الأنصاري المجتمع على الأخذ بزمام الأمور كما كان في التاريخ، لأن هذا يخدم بشكل كبير الانفراج الديمقراطي الذي يجب الدفع به إلى الأمام. فالحوار إذن أساسي لمواجهة العنف، ومن أجل ترسيخ الحوار يجب التعرف أولا على كل وجهات النظر الممكنة والمتواجدة أيضاً، والتي من بينها وجهة نظر علي عبد الرازق، ووجهات نظر أخرى عديدة حاولت اعتماد مقاربة عقلانية تحترم النص وكل متطلباته وكل مقاصده، وفي نفس الوقت تحاول الوصول إلى حل مقبول عقلياً.

من جهة أخرى، يرى عبده الأنصاري أن الموقف النقدي أصبح ضرورة في التعاطي مع الأشياء لها أهميتها عند الجميع؛ فالطروحات تتتابع وتتغير، وهي قابلة للنقاش، ويتجاوزها الزمان... إلخ، ولا يمكن لأحد ممارسة النقد. فقد أصبحت لدينا الآن متطلبات وطموحات في أن نرى مجتمعنا يرقى إلى ما هو أحسن، وفي أن ترقى ممارستنا السياسية والاجتماعية، إنه طموح مشروع، وانطلاقا من هذا الطموح تتأسس ضرورة استحضار الموقف النقدي الذي لا مناص منه في حياتنا العامة؛ فكل ما يطرح قابل للنقاش، وعلينا أن نقبل بالحوار مع الأشياء عبر التشبث دوما بالموقف النقدي، خاصة في المجالات التي تلتبس فيها الأمور في ما يخص المبادئ الأساسية من جهة، والأشكال التاريخية والممارسات من جهة أخرى.

ويذكر الباحث أن ثمة توجهاً عاماً يرى أن كل نقد هو تحطيم وتكسير يسعى إلى ما هو سلبي، وهناك من يعمل بكل جد للدفع بالفكر النقدي لفرض تصورات مبنية على التسليم وعلى مسلمات فيها أمور أساسية وأمور لا يمكن قبولها.

إن رفض النقد ورفض نقد التصورات الدينية هو في نظر الباحث أكبر جريمة في حق الإسلام، لأننا نحاول دون فهم لروح المبادئ الأساسية فرض قوالب ليس لها من أساس، سوى كونها اعتمدت في الماضي؛ يعني نحن نقوم بموقف يشبه موقف أولئك الذين واجهوا الرسول؛ فقالوا له هذا دين آبائنا وأجدادنا، ما دام آباؤنا وأجدادنا قالوا كذا يجب أن نقول مثلهم، بينما كان النبي يدعوهم إلى الفهم وإلى الفعل وإلى تجاوز تلك الموروثات والتقاليد المجتمعية من أجل الوصول إلى فهم أذكى. فالنقد، إن كان سلبيا؛ فهو شيء صحي وجيد ومفيد من أجل هذا العمل ومن أجل الوصول إلى الأسس.

العولمة والهوية..

أما موقفه من العولمة، فيرى الأنصاري أنها تحول تاريخي جذري لا نملك وسيلة لمواجهته؛ فهناك أمور مثل تقنيات الاتصال تفرض سهولة التواصل بين المجتمعات البشرية، ولا يمكن أن نقرر أننا لن نستعمل الطائرة أو التلفزيون أو الأنترنيت، فهذا غير مقبول؛ فما هو آت من الآخر ومفيد، لا بأس من التعامل معه باسم الانفتاح على الحضارات الأخرى والاستفادة منها، كل هذا في سبيل الاستجابة لشروط الألفية الثالثة التي أصبحت تفرض علينا بناء جيل ناهض وبعقل ناهض يحاور الماضي ويستقي منه، في سبيل الابتكار والتجديد، في إطار تواصل حضاري لا تبعية حضارية، ويسمح بحركة التقدم الإنساني الذي يؤدي حتماً إلى مشاركة عالمية في شتى المجالات.

وعلى ضوء هذا، فنحن أمام واقع لا يمكن أن نتعامل معه بطريقتين أو أكثر؛ فإما أن تقول إن هذا معطى يجب التعامل معه، أو ترفض هذا الواقع، وبالتالي تفرض على نفسك حصارا يصنفك في أكثر من دائرة، لذلك نحاول أن نكون فاعلين ونستفيد مما يقدم لنا مع محاولة الحد من الجوانب السلبية، حيث الاستفادة تكون في جانبها العلمي والاقتصادي. ومن ثمة، يرى الأستاذ الأنصاري أنه لا يجب أن ننعزل وأن نرفض هذا المعطى، لأن هذا غير مقبول وغير عقلي كذلك، وليس فيه فائدة، بل إنه غير ممكن. فعلينا ولو بشكل متواضع أن نأخذ، وأن نعطي وأن ننتقد، وأن نكون فاعلين لا مفعولين.

وبالنسبة إلى مسألة الهوية، يرى الأستاذ الأنصاري أنه لا يمكن أن يعيشها الإنسان كما كان من قبل، لأن المجتمعات قديماً كانت منعزلة عن بعضها، وكان الكل في جيله مثلا يعرف لغته الخاصة وتقاليده، وهي كل شيء بالنسبة إليه، والآخر هو غريب في شكله، وفي لغته وفي عاداته.

أما الآن، فقد اختلط البشر في ما بينهم، وصار الاختلاط مع الآخر متفاعلا، نعيش رفقته من خلال ما يقدمه التلفزيون من مناطق بعيدة جغرافيا، ويمكن أن نعيش ما نحن عليه كعرب ومسلمين، ولكن بقبول التعامل مع الغير.

وأمام تطور وسائل التقانة، والتي سمحت للجميع باكتساب المعرفة متعلماً كان أو أميا؛ فالجميع أصبح يقرأ، ويمتلك المعرفة ويعرف معطيات لم تكن متوفرة لدى الأجداد والأسلاف، ويمتلك تصورات جديدة، ولما كان الأمر كذلك، يرى الباحث أن مسألة العودة إلى التاريخ والتراث لإعادة النظر فيه، مسألة ضرورية.

تجديد الوعي الديني..

يعد عبده الفيلالي الأنصاري - فوق ما تقدم - واحداً من مفكري الإسلام الجدد، حيث جمع بين حقول بحث مختلفة كالفلسفة وعلم الاجتماع والتاريخ والدين والحقوق، ولعل درايته الواسعة بالعلوم الدينية التقليدية وقراءته لأعمال المفكر المصري علي عبد الرازق، بل ترجمته لكتاب "الإسلام وأصول الحكم"، جعلت نظرته للحداثة في علاقتها بالدين أكثر شمولية مقارنة بالمدرسة الإصلاحية، ويظهر ذلك جلياً في كتابه: "هل الإسلام معادٍ للعلمانية؟". فتحديث المجتمع الإسلامي لا يتم في نظره بالاعتماد على العلوم والتكنولوجيا دون اعتبار للعقل الذي أنتجها؛ لذلك رأى من الأهمية بمكان ضرورة إصلاح الدين وإعادة النظر في نظام التفكير الديني ككل، من خلال نقد نظم إنتاج المعرفة الدينية التقليدية عبر التوسل بالتفكير النقدي. فتاريخ الإسلام في نظر عبده الأنصاري ليس تاريخاً مقدساً، بل هو جزء من تاريخ الإنسانية تحكمه عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية وجغرافية، إذ لا يجب القبول بفكرة التمييز بين الإسلام والمسلمين، ليبدو الإسلام وكأنه هوية ثابتة مطلقة منزهة وبعيدة كل البعد عن حركة التاريخ؛ ومن ثمة وجب تناول الإسلام في حركته عبر التاريخ ونفي القداسة التي أنتجتها نظم الذاكرة الجماعية بما يسمح بوضعه على محك الدراسة العلمية، سواء تعلق الأمر بالقرآن، أو ما صاحبه من نصوص تراكمت إلى جنبه، فأصبحت مع مرور الزمن ذات أهميته مغلفة بطابع القدسية، حتى أصبحت نصّاً كالنص القرآني.

إن طرح عبده الفيلالي لم يأت من فراغ، وإنما اعتمد في طرحه على ما روج له علي عبد الرازق في كتابه "الإسلام وأصول الحكم"، وتعود أهمية هذا الكتاب إلى كونه أول كتاب يفصل بين الإسلام كدين، وبين الخلافة كنظام حكم، حيث رأى علي عبد الرازق أن الرسول لم يكن رجل دولة، بل رجل دعوة، ولم يكن قائداً سياسياً، بل قائدا دينيا، لذلك لم يسع إلى تأسيس دولة ولا إلى ترسيخ نمط معين من الحكم، وعليه فنظام الخلافة لا يمت بصلة إلى الإسلام، إنه نظام نشأ وترسخ بفعل عوامل تاريخية محددة، ويجدر التنبيه، أن عبده الفيلالي الأنصاري لم يكن أول من نادى بضرورة مقاربة الإسلام في روحانيته وفي جانبه الثقافي والمعرفي، بل سبقه في ذلك عدد من المفكرين، وهو ما عرضهم إلى ردود فعل عنيفة في مجتمعاتهم من قبل المؤسسات الفقهية أو التيارات الدينية أو النظم السياسية، وهي ردود فعل نابعة من عدم انتشار قيم الحداثة في هذه المجتمعات، مثال ذلك ما حدث لنصر حامد أبو زيد، حيث تم تكفيره، ومحاولة فصله عن زوجته بقرار من المحكمة بعدما تم رفض ترقيته في جامعة القاهرة، مما اضطره إلى العيش في المنفى بهولندا، وما حدث لعبد الكريم سروش الذي اضطر إلى مغادرة بلده إيران وطلب اللجوء في الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى فريد إسحاق الذي اضطر إلى مغادرة جنوب إفريقيا بحكم مناهضته للأفكار العنصرية. وكان طبيعياً أن يتطور البحث في قضية العلمانية مع الباحثين اللاحقين، فيحضر كمصطلح ورؤية في مشروع حسن حنفي وكتابات فؤاد زكريا الذي نشر دراسة في الموضوع تحت عنوان "العلمانية ضرورة حضارية" معتبراً أنه يستحيل على العرب إحراز التقدم دون العلمانية. ويرى عبده الفلالي الأنصاري بأن هؤلاء المفكرين مثلوا اتجاهاً جديداً في الوعي الإسلامي، وهو اتجاه يدعو إلى ضرورة التمييز في البحث والدرس بين الرسالة القرآنية ونظم المعرفة الفقهية التي تشكلت في زمن مضى، ثم تقدست في المخيال الجمعي، وبالتالي يؤسس لشرعية مقاربة النص القرآني بشكل جديد، باعتباره نصاً مفتوحاً على قراءات متعددة؛ فالقراءة الواحدة ليست حكراً على المؤمنين وحدهم، بل تخص غير المؤمنين كذلك.

إن الخطاب الثقافي العربي في بعده المغربي، ظل إلى حدود السنوات القريبة غير منخرط في الدعوة إلى العلمانية، على اعتبار أن التجربة الإسلامية تختلف عن التجربة المسيحية، غير أنه في السنوات الأخيرة، بدأ الاهتمام بهذه القضية يعرف طريقه إلى الخطاب الثقافي، وتجلى ذلك في الأعمال التي قدمها عبده الفيلالي الأنصاري بدءا بترجمته لكتاب علي عبد الرازق وما تلاها من أعمال، وعلى ضوء هذا، يكون عبده الفيلالي الأنصاري قد شكل لحظة متميزة في الدعوة إلى تجديد الوعي الديني.

 

المراجع المعتمدة:

*- القرآن الكريم

1- Reformer L'islam? une introduction aux debats contemporains, la découverte, Paris, 2003

2- L'islam est-il hostile à la laïcité? Sindbad avril 2002, 143 première édition, Le Fennec, 1996

3- المائدة المستديرة المنظمة من طرف Reset Dialogues on civilization "استيقاظ الدين والمجتمع المتفتح"، التي عرضت في سياق اليوم العالمي للفلسفة لليونسكو (الرباط – المغرب، 16 نونبر 2006). شارك في اللقاء وزير الداخلية الإيطالي جوليانو أماطو، الفلاسفة عبدو فيلالي-أنصاري (المغرب)، فريد دلماير (الولايات المتحدة الأمريكية)، صادق جلال العظم (سوريا)، سباستيانو مافتون وألسند رو فريرا (اٍيطاليا)، مدير Reset جيانكارلو بوزيتي والمديرة المفوضة عن Reset DoC نينا زو فورتنبرغ.

4- حوار أجراه الأستاذ عبده الفيلالي الأنصاري على موقع: حميد اتباتو والجزوري عبد المجيد تحت عنوان الإسلام والعلمانية، للاطلاع يمكن الرجوع إلى الرابط:

http://aslimnet.free.fr/ress/h_tbatou/tba4.htm

[1]- مجلة ذوات العدد59

[2]- هذا النص هو نقل لمداخلة الكاتب أثناء المائدة المستديرة المنظمة من طرف Reset Dialogues on civilization "استيقاظ الدين والمجتمع المتفتح"، التي عرضت في سياق اليوم العالمي للفلسفة لليونسكو (الرباط – المغرب، 16 نونبر 2006). شارك في اللقاء وزير الداخلية الإيطالي جوليانو أماطو، الفلاسفة عبدو فيلالي-أنصاري (المغرب)، فريد دلماير (الولايات المتحدة الأمريكية)، صادق جلال العظم (سوريا)، سباستيانو مافتون وألسند رو فريرا (اٍيطاليا)، مدير Reset جيانكارلو بوزيتي والمديرة المفوضة عن Reset DoC نينا زو فورتنبرغ.

[3] النحل/ 125