عبور الأزمان والأذهان: كتاب (علم الغيب) لـ "شيشرون"
فئة : قراءات في كتب
كتاب (علم الغيب في العالَم القديم)[1] كتاب حداثوي بامتياز، رغم أنَّ أحد أجدادنا القدامى (= شيشرون) قد كتبه قبل 20 قرن من الآن، نظراً لطزاجة الموضوع الذي يتناوله في كتابه؛ إذ لا زال موضوع الغيب والتكهّن به، وتشوّف المستقبل والاطلاع على أسراره وخباياه، وما يمكن أن ينتج عن هذا التشوّف من شغف إنساني بكشف المستور، وهتك أسراره التي يمكن أن تؤثر على حياة الإنسان وتفاصيله اليومية؛ موضوعاً متجدّداً في عموم الثقافات الإنسانية، إلى حدّ أنّ هوساً كبيراً أصاب البشرية في هذا المجال، سواء أتموضع هذا الهوس في ثقافة الأبراج اليومية أو الأبراج الصينية أو ثقافة السحر والشعوذة أو حتى في المجال النفسي، ومدرسته التحليلية، التي كانت الأحلام أحد أبرز علاماتها الثقافية البارزة، لا سيما على أيدي كبار روّادها أمثال سيغموند فرويد وكارل غوستاف يونغ وإريك فروم.
قديماً، كان موضوع الغيب أحد العلامات البارزة في الثقافة الإنسانية على عموميتها، ابتداءً من الديانات الشامانية، وليس انتهاء بالديانات التوحيدية، مروراً بتشوّف الغيب في كثير من الأساطير والحكايات الشعبية والرؤى الفلسفية والنصوص الأدبية، مثل زرقاء اليمامة لدى العرب وكاهنة معبد دلفي لدى الأغريق والأنبياء لدى بني إسرائيل...إلخ.
أما حديثاً، فلا زال موضوع الغيب أحد أبرز علامات الثقافة الإنسانية، وإن اختلفت التجليات أو اتفقّت عمّا كانت عليه قديماً، فمن ثقافة الأبراج التي تكتسح الثقافة العالمية، إلى ثقافة السحر والشعوذة، إلى قراءة الطالع بالأكف أو فنجان القهوة، إلى الابتهالات والأدعية والصلوات التي يؤديها المؤمنون في المساجد والمعابد والكنائس ودور العبادة، تزّلفاً إلى الآلهة، لغاية تأمين مسلكياتهم في الحياتين الفيزيقية والميتافيزيقية.
كتاب (علم الغيب في العالم القديم)، يُغطّي المساحة الزمانية، سواء أتموقعت في العصور القديمة أو في العصور الحديثة، وإن كان مؤلّفه قد عاش قبل 20 قرناً من الآن، بما يمنح كتابه أهمية معرفية آنية، بقدر الأهمية التي كان عليها لحظة التأليف، والتي يظهر جلياً أنه كان أحد الموضوعات الشاغلة لـ (العقل العالِم) آنذاك، بقدر شغلها لـ (العقل الشعبي)، كما هو عليه الأمر حالياً أيضاً.
يُقسّم "شيشرون" [أحد ابرز خطباء وفلاسفة الدولة الرومانية القديمة] كتابه إلى قسمين رئيسين: الأول يُقدّم فيه الحجج في تأييد التكهّن والغيب؛ والثاني في تفنيد حجج الفصل الأول، بما يجعل منه كتاباً –إضافة إلى ميزنه الحداثوية التي أشرت إليها آنفاً- تشاركياً إن جاز التعبير، فهو لا ينحاز إلى وجهة نظر بعينها انحيازاً قاطعاً، ويلغي وجهات النظر الأخرى، بل يدفع باتجاه تأكيد العقل الإنساني وهو يتجلّى تجلّيه المعرفي في الصيرورة الفاعلة والمُنتجة، بفعل انقداح النار بفعل تلامس وتماسّ كثير من وجهات النظر المختلفة والمتعدّدة، ولا يركن إلى أية كينونة، من شأنها الإضرار لا النفع، نظراً لصدقيتها وأحقيتها المفترضة في تسيّد المشهد الثقافي، والدخول في إكراهات واستلابات تجاه وجهات النظر المغايرة.
ففي القسم الأول من كتابه، تحديداً حول شيوع التنبؤ في العالم القديم، يقول شيشرون:
"فإذا التمسنا شاهداً [يقصد على التنبؤ بالغيب] في الماضي السحيق، وجدناه في الآشوريين، فقد مكّنتهم سعة السهول التي أقاموا في رحابها، ومنظر السموات التي تمتدُّ مكشوفة على مدى البصر في كل صوب، من أن يلاحظوا مسالك الكواكب، وأن يرقبوا حركاتها، فسجّلوا ما أدّته إليهم مشاهداتهم، وورّثوا الأجيال التي أعقبتهم، ما تحمله حركات الكواكب من دلالات على حظوظ الناس. ومن أبناء هذا الشعب نفسه عرف الكلدانيون Ghaldaei... والمظنون أنهم واصلوا ملاحظة المجموعة النجمية زماناً طويلاً، واستغلوا هذه المشاهدات في إقامة علم يمكنهم من التنبؤ بحظوظ الماس، ومعرفة المصير الذي قدّر لهم. والمعتقد أن المصريين قد اكتسبوا بدورهم هذا الفن نفسه عن أجدادهم، خلال ماضٍ سحيق يمتدّ إلى أجيال لا يكاد يحصيها اعد. ثمّ إنّ الكيليكيين والبيسيدين وجيرانهم البامفيليين –وهم سكان بلاد توليت حكمها فيما سلف- يعتقدون أن المستقبل تكشف عنه أغاريد الطيور وتحليقها في الجوّ، ويثقون في هذه الشواهد ثقة لا يتطرق إليها الشكّ أبداً. وفي الحق أية هجرة قام بها الإغريق إلى إيتوليا، أو إيونا أو آسيا أو صقيلة أو إيطاليا، قبل أن يستشيروا الكاهنة بيثيا أو يتلقّوا الوحي من دودونا أو جوبتر أمون أو أية حرب خاض الإغريق غمارها قبل أن يلتمسوا نصيحة الآلهة أولا".[2]
ولربما لو امتدّ العمر بشيشرون سيجد مادة خصيبة لكتابه في الثقافة العربية في المرحلتين: ما قبل الإسلام والمرحلة الإسلامية. فيما عُرف بثقافة التطيّر والأنصاب مرحلة ما قبل الإسلام، وثقافة الوحي مرحلة الإسلام وتشكّل النص القرآني، تُشكّلان مادة خصبة لكتابه المرموق. لا سيما أن ثمة إشارة مشابهة – في كتاب شيشرون - للفكرة الإسلامية التي يتم تداولها حول مولد المُخلّص أو البطل الأسطوري:
"إنَّ كل امرئ يعرف أن معبد ديانا، في أفسوس، قد احترق في الليلة نفسها التي ولدت فيها أوليمبياس Olympias ابنها الإسكندر، وأن كهنة الفرس القدامى، قد أخذوا يصيحون مطلع النهار قائلين: لقد ولد ليلة أمس، شقاء مهلك ينتظر آسيا".[3]
فالفكرة ذاتها تمّ تداولها في الثقافة الإسلامية عشية مولد النبي محمد، في تشابهٍ ضمني – على مستوى البِنى التأسيسية - لفكرة ولادة البطل الخارق في الثقافات الإنسانية المختلفة، فالنبوءة بولادة البطل المُخلّص جزء من المشروع الغيبي الإنساني، والتكهّن بانبثاقه والدلالات التي يحتملها هذا الانبثاق من خلاص للأمة التي ينولد بها هكذا بطل، هو عمل برسم الكاهن والعرّاف والمُنجِّم وشامان القبيلة أو الأمة.
واستطراداً، يستكمل "ششيرون"، ليس في ضرب الأمثلة من الثقافات المختلفة تدليلاً على موضوع الغيب والتكهّن به، بل والأسس التي تنطلق منها هكذا تكهّنات. فقد "ظنّ أجدادنا بأنّ العقل البشري عندما يكون في حالة يغيب فيها الوعي، ويخمد فيها الفكر، ويتحرّك بدوافع من ذاته حرة لا يعوقها عائق إرادي، فإنّ هذا العقل يصبح مهبطاً للإلهام بإحدى طريقتين: الجِنَّة أو الرؤيا".[4] في دلالة على عمق الطرح الشيسشروني ومتانة أسسه، فهو إذ يكتب فإنه لا يكتفي بالقشور بل ينفذ إلى اللبّ، للتأكيد على مدى حضور هكذا نسق معرفي في الثقافتين: العالِمة والشعبية، على حدّ سواء. فللتكهّن "أثر في توجيه الحكومات والشعوب القديمة" على ما يفضي "شيشرون"[5] في إحدى شذرات كتابه. "فقد خصّص الأسبرطيون رجلاً من أهل العيافة ليتولّى نصح الملوك، ويكون بمثابة المستشار القضائي لهم، وقرّروا أن يحضر الجلسات التي يعقدها مجلس الشيوخ –وهذا اسم مجلس الأعيان عندهم- وكانوا في المسائل ذات الخطر، لا يهملون استشارة وحي دلفي أو جوبتر أمون Jupiter Hammon أو دودونا Dodona وقد سنَّ ليكورجوس Lycurgus - وهو الذي تولّى حكم الأسبرطيين مرّة - قوانينه بسلطة وحي أبولو في دلفي... وكم من مرة أمر مجلس الشيوخ [يقصد في الدولة الرومانية] الحكّام العشرة ذوي الحكم المطلق، أن يستوحوا كتب الكاهنة في دلفي؟"[6] ضارباً بعض الأمثلة على ذلك، بما يثبت سطوة فكرة التكهّن بالغيب على عموم الثقافة القديمة، ودورها الرئيس في توجيه مسلكيات الناس في الاجتماع الإنساني، بعد أن تكون قد تمكّنت من أذهانهم ابتداءً.
أما القسم الثاني من كتابه، فيخصّصه "شيشرون" للردّ على أدلَّة كونتوس Quintus الرواقي في تفنيد الاعتقاد بفنون التَّكهُّن. وفي إلماحة عبقرية سيعمد "شيشرون" إلى بسط منهجه الشكِّي في تناول قضية التكهّن ومطارحاتها الفكرية، والردّ الذي يطال كونتوس Quintus منه، بما لا يفضي إلى يقين في تناول هذه القضية الإشكالية، فـ "من المحقق أنكّ يا عزيزي كونتوس قد أسلفت دفاعاً دقيقاً عن مذهب الرواقية، كما يدافع عنه أحد أتباعهم، ولكن الشيء الذي اغتبطت له كثيراً، هو أنكّ زودت مناقشاتك بكثير من الأمثلة استمددتها من المصادر الرومانية، وهي أمثلة من نموذج ممتاز نبيل، ومن واجبي الآن أن أجيب على ما أسلفت بيانه، ولكن ينبغي أن ألتزم الشك وعدم الثقة بالنفس في كل ما أقول، وألا أعلن أمراً على سبيل اليقين، وأن أستفسر عن كل شيء، لأني إذا زعمت أمراً وقلته على سبيل التأكيد، كنت قد مثلت بهذا دور الكاهن الذي يتنبأ بالغيب، مع أني أقول أنْ ليس ثمة شيء اسمه التكهّن بالغيب".[7]
ويبدو أن شيشرون كان متأثراً بكارنيادس Carneades الذي طرح أسئلة اعتبرها شيشرون أسئلة غاية في الأهمية:
"ما هي الأشياء التي تدخل في مجال التكهّن بالغيب؟ أهي أشياء تُدرك عن طريق الحواس؟ إن هذه مُدركات تراها العين وتسمعها الأذن ويذوقها اللسان ويشمّها الأنف وتلمسها اليد، وإذاً فهل ثمة في هذه المدركات صفة معيَّنة تجعل إدراكها بمعونة النبوءات ومساعدة الإلهام، أسهل من إدراكها بمعونة الحواس وحدها؟. وهل ثمة كاهن على ظهر الأرض يستطيع غذا كان كفيف البصر - مثل تيرزياس - أن ينبئ عن الفرق بين البيض والأسود؟. أو يستطيع إذا كان مصاباً بالصمم أن يميّز بين مختلف الأصوات وشتّى الأنغام؟ ينبغي أن نسلّم الآن بانّ التنبؤ بالغيب لا يكون في الحالات التي تكتسب فيها المعرفة عن طريق الحواس؟. وليس بنا من حاجة إلى التنبؤ بالغيب حتى في الأمور التي تدخل في ميدان العلم والفن، لأنّ الناس إذا ما أدركتهم الأمراض، لا يستدعون فيما جرت العادة نبياً أو رئياً، ولكنهم يلتسمون طبيباً يُداوي أمراضهم، وكذلك الحال مع أولئك الذين تجنح بهم الرغبة إلى تعلّم العزف على العود أو الناي، فإنهم لا يتلقون دروساً على يد عرّاف، بل يتلقونها على يد موسيقار، وتنطبق هذه القاعدة نفسها على مجال الآداب وسائر ميادين العلم..."[8]
وهكذا، يستمر شيشرون في بسط الآراء المضادة، لفكرة التكهّن بالغيب، بما يخلق نوعاً من التوازن المعرفي مع آراء الجماعات المؤيدة لهذه الفكرة العتيدة، بما يجعل من كتابه كتاباً موضوعياً، ينتصر لفكرة الثراء المعرفي الإنساني التعدّدي، التنوّعي، والتجلّي الذي يمكن أن يتبلور بإزاء السياقات الثقافية، في حال تنوّعت الآراء حولها وتعدّدت، بما يفضي إلى أنساق معرفية تشاركية غير أحادية، تعاونية غير إقصائية، تصالحية غير تصادمية.
[1] شيشرون، ماركوس توليوس، علم الغيب في العالم القديم، ترجمة توفيق الطويل، دار الوراق للنشر، لندن، المملكة المتحدة، ط1، 2015
[2] المرجع السابق، ص ص 52- 53
[3] السابق، ص ص 92- 93
[4] السابق، ص 56
[5] السابق، ص 131
[6] السابق، ص ص 131- 132
[7] السابق، ص 170
[8] السابق، ص ص 170- 171