عزيزي الدكتور علي جمعة، حان وقت الاعتزال


فئة :  مقالات

عزيزي الدكتور علي جمعة، حان وقت الاعتزال

عزيزي الدكتور علي جمعة، حان وقت الاعتزال

ظهر الدكتور علي جمعة في عدة برامج دينية في رمضان، أهمها والذي أثار جدلاً واسعاً، هو ذلك البرنامج الذي استضاف فيه مجموعة من الأطفال يسألونه عن الدين، وهذا المقال بصدد طرح بعض النقاط في إطار تحليلي أوسع من التطرق لمضمون أقواله الدينية، لكن من دون إغفال لها.

طرائق موازية أم تنسيق مُتَعَمَّد

قبل عدة أشهر وقبل معرض الكتاب الدولي بالقاهرة، ظهرت حملة إعلامية ضخمة تحت شعار: "الأطفال يسألون الإمام"، وفيه يطل علينا شيخ الأزهر الإمام أحمد الطيب في كتاب يجيب فيه عن أسئلة الأطفال الدينية، ولا شك في أن تلك هي المرة الأولى التي يجيب فيها شيخ الأزهر على أسئلة الأطفال، وتتناول أسئلة بعضها فلسفي، وبعضها فقهي.

ثم ظهر الدكتور علي جمعة في حوار تليفزيوني مع الأطفال من طبقة اجتماعية معينة؛ وذلك بالنظر إلى المدارس الدولية المذكورة في تتر البرنامج- يرد على أسئلة الأطفال والآباء معا في حوار مفتوح، وبدهي أن يطرح سؤال عن التنسيق بين مشيخة الأزهر ذلك الصرح العلمي الكبير، والمفتي السابق صاحب النفوذ الكبير: الدكتور علي جمعة.

ومن المعلوم أن تعدد طرائق الشرح يفيد السامع، فتكرار المعلومة من زوايا مختلفة يخصب الآفاق الذهنية للطفل ويساعده على تنمية مهاراته العقلية، لكن بشرط أن تكون الرسالة واحدة، وأن تتعدد طرائق الإجابة عليها، إما إن اختلفت فحوى الرسالة في الأمور الدينية --وهذا هو الحال في برنامج الدكتور علي جمعة-- فهذا قد يسبب تخبطاً عند الأطفال، وقد يفضي إلى هزات نفسية إن تناقضت أو اختلت المدخلات التربوية والدينية التي يتعرض لها.

وتستعرض السطور القادمة أهم النقاط التي أثارها الدكتور علي جمعة في برنامجه، في الحلقة الأولى من برنامجه، والتي سطرت الخطوط العريضة لهذا البرنامج المهم.

أنا نور الدين

بدأ الدكتور علي جمعة بشرح معني اسم البرنامج:

مقدمة أولى= أنا اسمي نور الدين

مقدمة ثانية= أنا سأعرفكم بنور الدين

النتيجة= أنا نور (هذا) الدين.

ويكفي أن تُذكر هذه النتيجة، ليكوِّن القارئ فكرة مبدئية عن فلسفة البرنامج، لكن حتى لا يلتبس القول على القارئ الكريم، فإن هذا مخالف لما يقول به التيار التقليدي التراثي من الإسلام استنادا على الآية الكريمة: "فلا تزكوا أنفسهم"؛ أي أن لا تمدحوها بالحق أو بالباطل (ابن كثير، ١٩٩٨)، وكذلك استنادا على الحديث الشريف: "لا تزكوا أنفسكم إن الله أعلم بأهل البر منكم"، (مسلم، ١٩١٥)، وبالنسبة إلى الصوفية فقول إمام الصوفية الجنيد "حسنات الأبرار، سيئات المقربين" من الأقوال المؤسسة لفلسفة الصوفية (القرطبي، ١٩٦٤) والدكتور علي جمعة شيخ الطريقة الصوفية الصديقية، وهو أولى الناس بهذا.

هل يمكنني أن أسأل سؤالا؟

تسابق الأطفال على سؤال الدكتور علي جمعة، وكانت إجابات الدكتور تحتاج إلى سابق معرفة بالدين للإلمام بها، فتكررت أسئلة بعض الأطفال، مما أثار حفيظة الدكتور علي جمعة من جهة، ووبخ أحد الأطفال بقوله: "إنت يعني عايز تسأل"؟ وفي حلقة أخرى-على الرغم أن المقال يستعرض رمزية الحلقة الأولى فقط، إلا أنه سيثبت الفكرة- قال الدكتور للطفل: "وَحْشْ لمّا..." وربما من شأن هذا الاستعراض أن يدلل على الفكرة السابقة، ما هو هدف البرنامج؟

فإن كانت الإجابة بالرد على أسئلة الأطفال والمراهقين، فتكرر مقاطعة الأطفال ينافي هذا الطرح، فإحدى السائلات- بشجاعة- كررت طلبها أن تستكمل سؤالها لأن الدكتور علي جمعة أجاب قبل أن تكمله.

ويعرف الأخصائيون النفسيون هذا الأسلوب "بالعنف اللفظي" ومنه مقاطعة الشخص أو التهكم عليه (سيناني، ٢٠٢٣)، ويفسر المتخصصون في علم الاجتماع هذا السلوك على أنه شكل من أشكال التسلط والإخضاع (بولهان، ١٩٨٥)، وقد تناول الفيلسوف فرانز فانون تفسير استخدام العنف كأحد أدوات الاستعمار ومن ثم إخضاع الأفراد على اختلاف وظائفهم وتعليمهم، لتنفيذ أهداف المتسلط. وبالتالي، فإن أسلوب الدكتور علي جمعة يتطابق مع هذا الطرح، فهو ومن خلال تتبع برامجه الأخرى يركز على فكرة السلطة الدينية، بل وأنه في إحدى الحلقات قدم نفسه على أنه بديل لما يقدمه الأهل من أطروحات للأطفال، فهو يساهم في إخضاع أجيال أصغر سنا.

الإنسان محور الكون

تركزت أسئلة الأطفال الفلسفية في الحلقة الأولى حول من سيدخل الجنة؟ ولماذا الدين الإسلامي هو الدين الصحيح؟ وغيرها.

وأجاب الدكتور علي جمعة ببعض الإجابات التي تعد مخالفة لقول أهل السنة والجماعة، أهمها سؤال الجنة والنار، وقد تناوله المشايخ بالرد على ما يرونه خرقاً للثابت من النصوص، منهم الشيخ سعيد فودة بقوله "هذا مما لا يلتفت إليه" (فودة، ٢٠٢٤)، ورغم أن الدكتور علي جمعة يخاطب الأطفال، إلا أن مؤيديه دافعوا بشدة عن أنه لا بد للأفراد أن يفهموا كلامه بما لا يخالف الثوابت، ولكن هل هذا مطلوب من الأطفال، الجمهور الرئيس للبرنامج؟!! إلا أن ما غاب عن ساحات النقاش هو قول الدكتور علي جمعة "الإنسان هو محور الكون" - فضلاً عن أقوال أخرى متعلقة بمسائل دينية ثابتة، وأخرى متعلقة بالحضرة النبوية الشريفة- وتتعارض هذه المقولة مع ما يقول به المنهج التراثي الأزهري القائل: إن هذا الكون كله خلق تشريفا وتعظيما لسيدنا النبي صلى الله عليه وسلم، فهم يقولون بإنه إن وُجِدَ بشرٌ هو محور للكون، فهو سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم؛ ويستدلون على هذا بحديث قدسي لسيدنا آدم عليه السلام: "ولولا محمد ما خلقتك".([1]) ويرى أصحاب هذا المذهب أن مثل هذا الاعتقاد بأن "الإنسان محور الكون" ينتج عنه مجموعة من المغالطات الدينية، بدءا من انتظار العوض عن البلاء، أو وهم استحقاق الإنسان للنعم، وغيرهما من العقائد الفاسدة التي تقوض مضمون العقيدة السليمة.

وقول الدكتور علي جمعة مثل هذه الأقوال التي لا تتفق مع التيار التراثي الإسلامي، قد يخرج به من هذا التيار ويجعله أقرب للتيار الليبرالي، والذي يرى الدين من خلال نظرة تعددية، وتمثل هذه الحلقة علامة فارقة لأن هذه المرة الأولى التي يخرج فيها الدكتور علي جمعة عن التيار التراثي التقليدي، (سليمان، ٢٠٢٤) رغم أن سابق فتاواه دالة على تمسكه بالتيار التراثي، بل إنه قد سبق وأن أنكر على القائلين بأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس سببا لوجود الدنيا!

لا تعطني سمكة ولكن علمني كيف أصطاد

ترسيخ المبادئ ووضوحها واتساقها يحمي الإنسان من أزمات الهوية التي لطالما عانى منها الكثير من الأجيال؛ فالوضوح يساعد على استقرار النفس، خصوصاً إن كانت النفس حديثة النشء، فلا بد من توخي الحذر ومراعاة وضوح الإجابات حتى لا يسيء الطفل فهم الأمور فيفتن في دينه.

والمذهب الشافعي -المدرسة الفقهية التي تعلمها الدكتور علي جمعة- من أحرص المذاهب على الضبط التدقيق، واهتمامهم بالضوابط الشرعية؛ فلا يتركون مجالا لأن يفهم "طالب العلم" غير المراد، فمن باب أولى أن يكون القائل أحرص ما يكون في مخاطبته لمن هم في بادئ تعلم الدين أو التعرف عليه، فإن لم يكن كذلك كان المخاطَب عرضة للفتنة.

وقد يلاحظ أن الدكتور علي جمعة لم يقطع بالإجابة على أغلب أسئلة الحلقة الأولى تحديدا، وتكرر هذا النمط في حلقات أخرى، وإن كان ليس بنفس القدر، إلا أن من المهم ذكر أن الإجابات المفتوحة "بلا ضوابط" وتعريفات واضحة تزيد من حيرة السائل، وهو ما دفع الأطفال لتكرار نفس الأسئلة، أو محاولة الالتفاف على طريقة السؤال ليحصلوا على ما يزيلون به حيرته

إصلاح أم إفساد؟

قد نتساءل عن سبب هذا التحول في خطاب الدكتور علي جمعة، فلأول مرة يخاطب الأطفال، ولأول مرة أيضاً يخرج عن المسلمات الدينية في العقيدة، مما لا يحتمل الخلاف ولا الظن، بل قطعي لا شك فيه.

وخرج الكثير من مؤيدي الشيخ إلى الدفاع عنه وعن البرنامج واصفين إياه بأنه نقطة تحول في تاريخ الشيخ على مستوى الخطاب وعلى مستوى الجمهور المخاطب، وهو كذلك بالفعل؛ هي نقطة تحول، ولكن في الاتجاه المعاكس، لا تضيف إلى تاريخيه بل تخصم منه كثيرا.

ويمكننا أن نلاحظ بدء هذا التحول من الثورة في ٢٠١١، فالانفتاح السياسي التي أتت به أفسح المجال لكثير من الشخصيات العامة للظهور، وكان أولها الدكتور علي جمعة، الذي وإن ترك منصبه كمفتي للجمهورية إلا أن نفوذه توسع كثيرا، وزالت القيود التي يفرضها عليه منصبه الديني.

الآن الدكتور علي جمعة من أكثر الشخصيات الدينية تأثيرا في المجال العام؛ ليس فقط بسبب علاقاته المتشعبة، لكن أيضا لأن مسيرته العلمية وكونه عضوا من أعضاء هيئة كبار العلماء تجعله أقرب لثقل شيخ الأزهر، وقد تبدو للوهلة الأولى موازية له، إلا إن كان هناك منصب يقارب منصب شيخ الأزهر؛ فهو مفتي الجمهورية، فطبقا للتعديلات الدستورية الأخيرة فكلا من شيخ الأزهر ومفتي الجمهورية يعينان من قبل رئيس الجمهورية بعد انتخابهما من قبل هيئة كبار العلماء، وهو ما يدل على المكانة الرسمية والعلمية لهذين المنصبين. أما الدكتور علي جمعة، فهو يعتمد على شبكات علاقاته بالأساس خارج الإطار الرسمي. وبالتالي، لا ينبغي أن يعادل هذا ذاك، وأن تبقى الأمور في نصابها الصحيح.

كان التحول الأكبر بعد إعلانه تأسيس الطريقة الشاذلية الصديقية عن الشيخ عبد الله الغماري (الولي بن الولي، ٢٠١٨) (Gumʿah, Al-Wali Bin al-Wali 2018)، وقَدَّمَ نفسه للمريدين على أنه شيخا مربيا في طريقة صوفية؛ جل ما يهتم به هو تغيير الأفكار كما قال في أحد البرامج التليفزيونية الحديثة، فهل الدكتور يقصد بالتربية والانفتاح على العالم أن ينتهج نهجا يتسم بطابع ليبرالي يهدم به القطعي، ويتبع فيه أسلوبا مربكا في إجاباته عن أسئلة لا يستطيع الطفل أن يستخلص منها إجابة واضحة تساعده في بناء شخصيته واتزانه النفسي، بل تتعارض مع ما سيتعلمه في البيت أو المدرسة. والسؤال الذي نحب أن نختم به هذا المقال: ما هو الأثر الذي يتوقع أن يتركه هذا البرنامج في عقول الأطفال ونفسياتهم؟ وهل استمرار الدكتور في هذا مناسب أم أن عليه الاعتزال؟

 

المصادر:

Abu Abd Allah al-Qurṭubī. (1964). Al-Jāmiʿ li-Aḥkām al-Quran. Cairo: Dār al-Kutub al-Maṣriyyah.

Abu al-Fidā' Ibn Khathīr. (1985). Tafsīr al-Quran al-Karīm. Beirut: Dār al-Kutub al-ʿilmiyyah.

Abu al-Hussein Muslim. (1916). Al-Jāmiʿ al-Ṣaḥīḥ. Turkey: Dār al-Ṭibaʿah al-ʿāmirah.

Ali Gumʿah. (29 August, 2012). Dār al-Iftā'. تاريخ الاسترداد 4 April, 2024، من https://www.dar-alifta.org/ar/fatawa/17877/%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82%D8%A9-%D9%88%D8%B5%D9%81-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%A8%D9%8A-%D8%A8%D8%A7%D9%86%D9%87-%D8%B9%D9%84%D9%8A%D9%87-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85-%D8%B3%D8%A8%D8%A8-%D9%81%D9%8A-%D9%88%D8%AC

Ali Gumʿah. (8 March, 2018). Al-Wali Bin al-Wali. تاريخ الاسترداد 8 April, 2024، من https://www.youtube.com/watch?v=mwaX-tja66I

Ali Gumʿah. (11 March, 2024). Nūr al-Dīn. تاريخ الاسترداد 4 April, 2024، من https://www.youtube.com/watch?feature=shared&fbclid=IwAR223CTFP_B0k6kn2CGrfL2AtPFmnZvz9cP3wqeeFMoVBJbXyqR8lsjLpnY_aem_AUtzTCDhwPydpdcrsnayq7Vm2etzyXOfloBgJMLYd8gqQDFFJs_nWe2M44k-rqwsxqQThi3sKGTzly1kUR9tqU3-&v=7_HDtDqv7Gc

Bujar Sinani. (2023). The Power of Words:Unveiling The Depth Of Verbal Violence. SEEU Review، 136-148.

Hussein Bulhan. (1985). Frantz Fanon and the Psychology of Opression. New York: Plenum Press.

Kholoud Soliman. (30 March, 2024). Liberal Islam: Eroding Islam, Humanity, and Human Intellect. Cairo.

Saʿīd Fūdah. (22 March, 2024). Shaikh Saʿīd Fūdah. تاريخ الاسترداد 4 April, 2024، من https://fb.watch/rewj0Xv6_Z/

([1]) كتب الدكتور علي جمعة في مقال له على الموقع الرسمي لدار الإفتاء بتاريخ ٢٩ أغسطس ٢٠١٢ هذا الكلام ردا على من توهم أن سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم ليس سببا لوجود هذه الدنيا، على الرابط التالي:

https://www.dar-alifta.org/ar/fatawa/17877/%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82%D8%A9-%D9%88%D8%B5%D9%81-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%A8%D9%8A-%D8%A8%D8%A7%D9%86%D9%87-%D8%B9%D9%84%D9%8A%D9%87-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85-%D8%B3%D8%A8%D8%A8-%D9%81%D9%8A-%D9%88%D8%AC%D9%88%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%86%D9%8A%D8%A7