عُقدة الغرب في الرّواية العربية المعاصرة؛ رواية موسمُ الهجرة إلى الشّمال نموذجاً
فئة : قراءات في كتب
عُقدة الغرب في الرّواية العربية المعاصرة؛
رواية موسمُ الهجرة إلى الشّمال نموذجاً
سفيان البرّاق
يسعدُ الكاتب السوداني الطيّب صالح (1929 - 2009) بمكانة خاصة في الحقل الثقافي العربي، فهو قمّة بلا جدل، وترجع هذه المكانة التي يتمتعُ بها لكونه أسهم في إثراء المكتبات العربية بتحفٍ سرديّة في منتهى الجمال، وقد تنتظر الساحة الثقافية عقوداً طويلة قبل أنْ تسعد بكاتب من طينة الطيّب صالح، الذي يكتبُ باقتدارٍ كبير. لا عجب إذا قلتُ إنّ ما جعله كاتباً كبيراً، بصرف النّظر عن أناقة اللغة والأسلوب، وغنى المادّة الحكائية، وتفنّنه في بناء الشخصيات وتشييد معمار سرديّ يورّط المتلقي، هو لأنّه عالج قضايا كبيرة جداً حظيت باهتمامٍ واسع في فترة حياته، سيّما بعد انقضاء حقبة الاستعمار؛ الذي اقترف جرائم فظيعة في حقّ الدوّل المستعمرة. وسأقتصر على طرح قضيّة أثارت حمأةً منذ القرن التاسع عشر، بعدما غزت الجيوش الفرنسية بعض الدول العربية، فيما يسمّى بالحملات العسكرية ما بين 1798 و1801م، التي قادها نابليون بونابرت بجسارةٍ وثبات، ليتفاجأ العرب حينها "بدوّلٍ أخرى ترعرعت في الضفة الأخرى من المتوسّط، ذات تنظيم مُحكم، وجيوش في غاية التنظيم، وأسلحة استعين في صناعتِها بأحدث طرق العِلم، وإدارات ذاتُ نفسٍ بيروقراطي وبتعليمٍ عصريّ... إلخ"[1]. هذه القضية يمكنني أن أعتبرها، إذا جاز لي التعبير، عقدة الغرب في الذّات العربية، وما أجّج هذه العقدة وزاد من حدّتها هو السؤال الأكثر تأريقاً الذي ظلّ يسكن ذهن الفرد العربي منذ مطلع القرن التاسع عشر إلى الآن: لماذا تأخر الشرق وتقدّم الغرب؟ أو لماذا تحقّقت النّهضة في البيئة الغربية وفشلت عندنا فشلاً ذريعاً؟
صدرت رواية "موسم الهجرة إلى الشمال"* للطيب الصالح سنة 1966م، عن دار العودة ببيروت، وكان قد نشرها بشكلٍ متقطع في مجلة الحوار اللبنانية. تحكي الرّواية قصّة شاب سوداني أصيل يدعى مصطفى سعيد، ساقته الأقدار لينتقل إلى العيش في مدينة الضباب؛ لندن، بغرض الدراسة، وهو مثقل بالمبادئ والقيم التي استلهمها واستمدّها من البيئة القروية البسيطة التي نشأ وترعرع فيها، ليكتشف هوّة كبيرة جداً بين الوسط الذي عاش فيه والمدينة التي تضجّ بالحياة والسلوكيات الأخلاقية والثّقافية التي تختلف كلياً عمّا هو سائد في قرية مصطفى سعيد. تفوّق في دراسته، وخاض مغامرات مريرة، وغاص في تجارب كثيرة مع فتيات إنكليزيات. هذه التفاصيل التي فصّل فيها الطيّب صالح في الرّواية، قد تجعل القارئ يعتقد، انطلاقاً من حياة صاحب الرّواية، أنّ مصطفى سعيد الذي هاجر من قرية كرمكول، وهي القرية التي ولد فيها الطيب صالح ولم يغادرها إلا بعد عقده الثاني متنقلاً بين بريطانيا والخليج العربي، ما هي إلّا دلالة قويّة على أنّ مصطفى سعيد هو جزء من الطيب صالح؛ لأنّ الكاتب يوجد في شخصيةٍ معيّنة أو عدّة شخصيات ولكن وجوده فيها مبعثر، أو يمكنني أن أزعم بأنّ معظم الكُتّاب يكتبون تفاصيل حياتهم بأسماءٍ مستعارة.
بلغ مصطفى سعيد أعلى درجات العلم، ونال شهادة الدكتوراه في الاقتصاد، واتسعت ثقافته لتشمل الأشكال التعبيرية الإنسانية كالأدب والفنّ، وخاض غمار تجربة جنسية برفقة أربع فتيات إنكليزيات، تمكنّ من إغواء مصطفى بجمالهنّ. انتهت العلاقة مع ثلاث فتيات، بعدما سئم منهنّ، ليواجهن مصير الانتحار، بينما الفتاة المتبقيّة انخرط معها مصطفى في مؤسسة الزواج قبل أن يعلن ختام هذه القصّة العابرة، التي حكمها الجنس، بقتلها، ليعتقل ويدان بسبع سنوات سجناً في لندن. يعدّ النّاقد المصري رجاء النقاش من أبرز النقّاد المهتمّين بالإرث الأدبي للطيب الصالح، وهو من رفع براوية "موسم الهجرة إلى الشّمال" وأسهم في انتشارها في صفوف القرّاء، ويقول في هذا المضمار: "العلاقة بين مصطفى سعيد والفتيات الإنكليزيات الثلاث لم تتجاوز العلاقة الجسديّة، لم يكن هناك بين هذه العلاقات علاقة حب حقيقية، بل كانت كلها علاقة شهوة جامحة، فالفتيات الإنكليزيات يرين في مصطفى سعيد مظهراً للقوة البدائية الوافدة من إفريقيا. إنّه بالنسبة إليهن ليس إنساناً يستحق علاقة عاطفية كاملة بكل جوانبها الروحية والمادية معاً، فهو كائن غريب، يحمل رائحة الشرق النفاذة، وهو حيوانٌ إفريقي يستحق أن تلهو به هؤلاء الفتيات، ويستمتعن به فقط"[2]. ما يمكنُ اشتفافه من قول الناقد رجاء النقاش هو أنّ الجنس خيطٌ حاضر بقوّة في الرّواية، وعلاقات مصطفى سعيد تحكمها الشّهوة العابرة، إذ كانت تخلو من المشاعر النّبيلة. يمكننا أن نفهم من خلال هذا الخيط (=الجنس) أنّه مسيّر من خلال رغبة جامحة في الانتقام، وما رسم معالم هذا الانتقام هو تلك الدلالة التي أرادها الطيب صالح، عندما منح للبطل تاريخ ميلاد قد يبدو عادياً (1889م) بيد أنّ هذا التاريخ يشي بنكسة كبيرة عاشتها السودان، إذ تزامن تاريخ ولادته مع البداية الرّسمية للاحتلال البريطاني، ليمارس المحتلّ إجحافاً وحيفاً مخلّفاً جراحاً تعوي في ذوات السودانيين.
وردت في الرّواية ثلاثة خيوط عرف الطيّب صالح كيف ينطّ عليها برشاقة قلّ مثيلها، وهي:
- أولاً: الجنس الذي يعدّ رحى الرواية. تسبّب في نهاية مأساوية لثلاث فتيات عاشرهنّ مصطفى، فرأى فيهنّ مرتعاً لإفراغ شهوته الممزّقة وفرصة ليردّ الاعتبار للسودان التي نخرها الاحتلال وأنهكها، وهنّ رأين فيه رمزاً للنخوة والفحولة الإفريقية، وقد كان عند حسن ظنهنّ بعدما نجح في تلبية نداء رغباتهنّ المهزومة. تمكّن الطيّب صالح، في هذا الصدد، من إثارة نقطة جوهرية ألا وهي الصورة القاصرة والشّيطانية التي روّجها الغرب عن الإنسان الإفريقي الأسود، الذي واجه ببسالة شتى أنواع التعذيب والتنكيل والتجارة الرخيصة، وقد حمل ذلك تجريحاً إنسانياً يمقتهُ ويزدريه كلّ من له ارتباط وثيق بالقواعد الآدمية المتعارف عليها.
- الخيط الثاني: يتمثلُ أساساً في الجريمة الشنيعة التي ارتكبها مصطفى سعيد في حقّ فتاة عاشت معه مغامرات جنسية قد لا تنقضي عدّاً، ليدان بسبع سنوات في سجن ممتلئ بالمعضلات وتنخره الرّطوبة، وقد راعت المحكمة ظروفه وخفّفت الحكم عليه. بعد انقضاء فترة سجنه، عاد إلى قريته في السودان يجرّ أذيال الخيبة. تزوج بامرأة سودانية عن حب جارف وصادق وأنجب معها ولدين، قبل أنْ يختفي "بغتة وذلك بعد أن يترك لأحد أفراد القرية (وهو الرّاوي) رسالةً خاصّة يطلبُ منه فيها أن يتكفّل بأسرته"[3].
لقيّ مصطفى سعيد حتفه بعد أن غمرت مياه الفيضانات القرية، وجرفت القرية وأهاليها، ونجا منها قلّة قليلة، وكانت زوجته "حسنة بنت محمود" من بين الناجين من هذه الكارثة الطبيعية. بعدما انجلت الأزمة وعادت الحياة إلى طبيعتها تقدّم لها رجل عجوز يدعى "ود الريس" للزواج بها، فرفضت ذلك رفضاً باتاً، رغم الضغط الذي مورس عليها، وفضّلت الموت على أن تخوض غمار هذه التجربة، والسبب وراء رفضها أنّها رأت في مصطفى سعيد الرجل الشّهم والمقدام الذي جابه بجسارة مختلف الصعاب وتكبّد ويلات الاصطدام مع الحضارة الغربية الذي لا يُعوّض. وانتهت قصّتها بعدما أقدمت على قتل العجوز ثم قتلت نفسها. هذه الجريمة أحدثت تحولاً راديكالياً في المجتمع السوداني. ونقرأ في هذا المضمار للنّاقد رجاء النقاش: "قتلتْ التقاليد القديمة التي تعودت أن تجعل من المرأة شيئاً من المتاع المادي، وليست "إنسانة" ذات عاطفة خاصة مستقلة. إنّها قتلت رمزاً من رموز الماضي بتقاليده ونظرته الخاطئة إلى الحياة، وأحدثت بهذه "الجريمة" صدمة مفجعة لمجتمع قريتها الإفريقي الهادئ البسيط. لقد استيقظ هذا المجتمع فجأة على هذه الجريمة الحادة القاسية. وفي هذه الجريمة سقطت حسنة شهيدة حبّها، وشهيدة حرصها على ألا تتراجع عن العالم الجديد الجميل الذي خلقه لها زوجها الأول مصطفي سعيد"[4].
يرى النّاقد المصري رجاء النقاش أنه هناك تقاطعاً، يظهرُ بجلاء، بين جريمة مصطفى سعيد في لندن، وجريمة زوجته السودانية حسنة بنت محمود في القرية، ويقول بخصوص هذا الشّأن: "وما أشبه جريمة حسنة بجريمة مصطفى نفسه في لندن. جريمة حسنة هي ثورة ضد التقاليد التي تحول المرأة إلى لعبة. وجريمة مصطفى سعيد هي قتلٌ للوجدان الأوروبي المعقّد، والذي يعلن كراهيته واحتقاره لإفريقيا ثم يتمسّك بها ويقبض عليها بأصابعه، بل وينشب أظافره فيها حتى لا تضيع... فموقف أوروبا من إفريقيا هو تظاهر بالكره يقابله حرص على إفريقيا وتمسك بها مُستبد وعنيف. وهذا هو نفسه موقف الزوجة الإنكليزية من زوجهـا الإفريقي مصطفى سعيد .. كانت تبدي له كرهاً وتمنّعاً واحتقاراً، وهي في الحقيقة تريده لتعتصره وتحقق متعتها ثم تعامله بعد ذلك كالكلب. جريمة حسنة هي قتل للوجدان الإفريقي بتقاليده القديمة بحثاً عن وجدان إفريقي جديد، وجريمة مصطفى سعيد قتل للوجدان الأوروبي باستبداده وعنفه ورغبته في السيطرة بحثاً عن وجدان أوروبي خالٍ من التعقيد والمرض."[5]
- الخيط الثالث والأخير، وهو الخيط الذي نال نصيب الأسد في الرّواية، وكان لبّ الدراسات النّقدية التي اعتنت بالرواية: العلاقة التصادمية بين الشرق والغرب، أو بالأحرى عقدة الغرب في الذّات العربية، التي زرعتها حملات بونابرت على مصر، إلى أن أصبحت بذرة يانعة بعد توالي الاستعمار الأوروبي على مختلف دول إفريقيا خلال القرنين المنصرمين. ولا غرو أنّ الفرد العربي والإفريقي عامّة لا يزال بداخله جرح غائر أبى أن يندمل بعدما عاين الاضطهاد وهضم للحقوق والتنكيل وسفك الدماء بغية استنزاف خيرات وطنه، رغم المحاولات الجادّة من طرف المقاومين للذود عن أوطانهم، واستبسلوا في ذلك، لكن الترسانة العسكرية المنظّمة التي تتمتّع بها مختلف الدول الأوروبية كانت تصيب محاولاتهم بالفشل الذّريع. يقول الأستاذ ميلود شنوفي: "إنّ موسم الهجرة بوصفها عملاً تخييلياً مشحوناً بالقيّم، تقدّم مصطفى سعيد بوصفه فكرة تقدّم وجهة نظرها حول وضعيّتها الخاصّة في مرحلة خاصّة، هي مرحلة تجاوز الانبهار بالغرب ووعي الذّات ومُحاولة إثبات النّدية الحضارية مع الآخر"[6]. عالج الطيّب صالح، عبر رؤى سرديّة مواربة، الشّعور الذي خلّفهُ الاستعمار، والتحول الذي طرأ على شخصية مصطفى بعد أن وطأت قدماه أراضي بريطانيا، وفكرة الانتقام التي تركض في اللاشعوره، ويعدّ مصطفى نموذجاً لفكرة مجتمع برمّته له رغبة كبيرة في الثأر، باختلاف الوسائل والطّرائق، فمثلاً مصطفى سعيد وجد في مضاجعة الإنكليزيات، والتخلي عنهم ليفقدن بذلك شعوراً مثيراً يولّده جماح جنسي، تعبيراً قوياً عن فكرة الثأر التي تجتاحه، وقد نجح، إلى حدّ ما، في الوصول إلى مراده. شخصية مصطفى سعيد رغم أنّها مجرد شخصية متخيّلة بنى بها الرّواي نصّه باقتدار، بيد أنّها لا تتنافى مع الواقع كلياً، بل قد نجد شخصيات سودانية، أو عربية، مرّت بنفس الظروف المريرة، وحملت معها عدّة مفاهيمية أساسها الغل والبغض، وفعل الأذى، وتتغيا الثأر والانتقام. يكمن حقد الشخصية الرّئيسة في "ردّ الأذى بأذى آخر، الأذى الجَماعي، الأذى التاريخي، قبل الأذى الشّخصي (...) هذا الأذى الجماعي وهو التدمير الذاتي، وهو ما سعى إليه غازٍ، سلاحه الفتّاك عقل عجيب وفحولة لا يملّ صاحبها من الطّراد، وقد تجمّع لديه هذا الحقد من ذاكرة حادّة لشتات أحداثٍ تاريخية، وهو حين تبدأ المحاكمة يشعرُ بتفوّقه، وبنجاحه في الوصول إلى هدفه"[7].
من أبرز تجليات الاحتقار والإهانة التي واجه بها الغرب الفرد الشّرقي، نجدها متجسدة بقوّة كبيرة جداً في أطوار محاكمة مصطفى سعيد بعدما نفّد جريمته في حقّ الفتاة اللندنية، وقد عبّر عن ذلك الأستاذ ميلود شنوفي بقوله: "محاكمته تكشفُ حجم عقدة الاستعلاء التي تُميّز تعامل الآخر مع الأنا، هذه العقدة التي ولّدتها سنوات الاستعمار والاستعباد، لذلك فهي ترسم صورةً أشدّ وضوحاً عن مدى حقارة الأنا في نظر الآخر حين يتعلّق الأمر بتأويل حقيقة الشّهادة العلمية على ضوء الحياة الشّخصية للبطل"[8].
وصفوة القول: لقد كان صراع الشّرق (= مصطفى سعيد) أكثر حدّة وضراوة مع الغرب، وقد تمثّل ذلك في عدّة تجليات لعلّ أبرزها: الجنس الميكانيكي، القتل، المحاكمة، الكذب؛ كلها وسائل لجأ إليها مصطفى سعيد لتحقيق ما كان يُخامر ذهنه من أفكار ثأرية. خلّف الاستعمار البريطاني مآسي لا تبرح ذاكرة السودانيين، نظراً للتنكيل الذي مورس في حقّهم بحقارة لا تحبل أيّة مبادئ أو قيم إنسانية نبيلة. "لقد استخدم أثناء صراعه مع الشّخصيات الغربيّة كلّ الأسلحة المتاحة لديه. وكان أقواها سلاح الجنس وسلاح الكذب. المهم بالنّسبة إليه هو الانتقام. كان ذلك طريقة غريبة في التعبير من طرفه. لكن من ناحية أخرى كانت هذه الطّريقة هي ردّ فعل طبيعي منه على كلّ ما اقترفه الغرب من جرائم في وطنه السّودان"[9].
لقد جعلت هذه الرّواية الطيب صالح في مصافّ الكُتّاب العالميين، وقد قدّمها لتنال حظّها من الاهتمام، وتعتبر من أفضل عشر روايات عربية في القرن العشرين. بصرف النّظر عن القضية التي عالجها برؤية فاحصة، لتنضاف لباكورة أعمال سرديّة سلّطت الضوء على معضلة الصدام الشّرق مع الغرب ونذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر: "عصفور الشّرق" (1938م) للروائي المصري توفيق الحكيم (1898 -1987)، "قنديل أم هاشم" (1940م) للكاتب المصري الشّهير يحيى حقّي (1905 – 1992)، و"الحيّ اللاتيني" (1953م) للبناني سهيل إدريس (1923 – 2008)... إلخ. ما جعل هذا العمل متفرّداً هو توظيف الطيب الصالح للغة ناصعة ومصقولة مشبّعة بالأساليب البلاغية، وانتقى عباراته بدقّة في الوصف الدقيق والعميق للأمكنة والشخصيات والتحولات التي طرأت في الرّواية. هذا الوصف الدقيق للفضاءات التي تتحرّك فيها شخصيات النّص قد يجعل من رواية "موسمُ الهجرة إلى الشّمال" تندرجُ ضمن الرواية التقليدية، لأنّ هذه الأخيرة تتسم بدقّة الوصف، حيث يصبح الكاتب رساماً يرسم بالأحرف شخوص وأحداث نصّه الروائي وكأنّه يقدم لوحة تشكيلية تستميل المشاهد. يقول النّاقد رجاء النقاش في هذا المضمار: "في هذه الرّواية قدرة خارقة على الوصف، فالقرية الإفريقية مرسومة في هذه الرّواية بريشة عبقرية، إنّك تحس بها لوحة حيّة نادرة بكلّ ما فيها من بشر وحيوانات ونباتات وليالٍ مقمرة وليالٍ مظلمة (...)"[10].
منح الطيب صالح لشخصية مصطفى سعيد سمات وعلامات تميّزها عبر اسم ولقب، ورسم له ملامح خاصة به، وتفاصيل دقيقة جداً قد لا نكاد نجدها في الرواية الحديثة التي خضعت لتجديد واضح وكبير، وقد وصل هذا التجديد إلى إلغاء ما تميّزت به الشّخوص في الرّواية القديمة التقليدية. يتّفق رجاء النقاش، إلى حدّ ما، مع هذا الطرح: "وفي الرّواية (...) امتزاج خصب أصيل بين فضائل الرّواية التقليدية مثل التصوير الدقيق العميق للشّخصيات وخلق الحكاية الممتعة التي تشدّ الأنفاس حتى النّهاية"[11]. شهِدت الرّواية حضوراً قويّاً للحوار بلهجة أهل السودان، لكن الطيب صالح سهر على توضيبها حتى تكون مفهومة لدي جميع القرّاء من مختلف الأقطار العربية، ونفس الشّيء فعله نجيب محفوظ في مختلف أعماله الرّوائية والقصصية، وهذا ما جعل موسم الهجرة إلى الشّمال نصّاً واضحاً لا تشوبه شائبة.
المراجع المُعتمدة في البحث:
كتب:
- هكذا تكلّم عبد الله العروي، مجموعة مؤلّفين، منتدى المعارف، بيروت، ط 1، 2015
- الطيّب صالح: عبقري الرّواية العربية، مجموعة مؤلّفين، دار العودة، بيروت، ط 3، 1981
دوريات:
- بموسى، عبد القادر شريف. الكذب والجنس كأداتي انتقام في رواية "موسم الهجرة إلى الشّمال"، مجلّة: نزوى، عمان، العدد 47، 2006
- شنوفي، ميلود. الذّات والآخر في رواية "موسم الهجرة إلى الشّمال" للطيب صالح، مجلّة: دراسات أدبية، الجزائر، العدد 20، 2017
- هادف، السعيد. قراءة في رواية موسم الهجرة إلى الشّمال، مجلّة: العلوم الاجتماعية والإنسانيّة، الجزائر، العدد 38، جوان 2018
[1] هكذا تكلّم عبد الله العروي، مجموعة مؤلّفين، منتدى المعارف، بيروت، ط 1، 2015، ص 268.
* الطيب صالح، موسم الهجرة إلى الشّمال، دار الجيل، بيروت، ط 1، 1997. (الطبعة المعتمدة أثناء الاشتغال على هذه الورقة).
[2] الطيّب صالح: عبقري الرّواية العربية، مجموعة مؤلّفين، دار العودة، بيروت، ط 3، 1981، ص 85.
[3] السعيد هادف، قراءة في رواية موسم الهجرة إلى الشّمال، مجلّة: العلوم الاجتماعية والإنسانيّة، الجزائر، العدد 38، جوان 2018، ص 138.
[4] الطيّب صالح: عبقري الرّواية العَربية، مجموعة مؤلّفين، مرجع سابق، ص 92.
[5] المرجع نفسه، ص ص 92 - 93.
[6] ميلود شنوفي، الذّات والآخر في رواية "موسم الهجرة إلى الشّمال" للطيب صالح، مجلّة: دراسات أدبية، الجزائر، العدد 20، 2017، ص 72.
[7] ميلود شنوفي، الذّات والآخر في رواية "موسم الهجرة إلى الشّمال" للطيب صالح، المرجع نفسه، ص 77.
[8] المرجع نفسه، ص 80.
[9] عبد القادر شريف بموسى، الكذب والجنس كأداتي انتقام في رواية "موسم الهجرة إلى الشّمال"، مجلّة: نزوى، عمان، العدد 47، ص 55.
[10] الطيب صالح: عبقريّ الرّواية العربية، مجموعة مؤلفين، مرجع سابق، ص 95.
[11] المرجع نفسه، ص 98.