علم الاجتماع الديني، الإشكالات والسياقات: قراءة في كتاب سابينو أكوافيفا وإنزو باتشي
فئة : قراءات في كتب
مع تنوّع التغييرات السياسية في المنطقة العربية وتمدّد الجماعات الدينيّة وانسحارها في المجال السياسي، وما أحدثته هذه التجربة من تغييرات سياسية ومجتمعيّة، يظلّ الحديث عن تداعيات هذه التجارب على مساحات التديّن - الشخصيّ والعامّ - أمرًا غائبًا لغياب الدراسات المتعلّقة بقياس هذه المتغيّرات نتيجة العديد من الإشكالات المنهجيّة خاصّة في ظلّ ابتعاد علم الاجتماع الديني العربي عن التفاعل مع هذه التغييرات نتيجة الخلافات الأيديولوجيّة التي تعيق التعرّض لهذه الإشكالات، كذلك السياسات السياسية التي تنعكس سلبًا على المهتمّين بدراسة هذه الظواهر وتحليلها. وهذا أدّى إلى ضعف الأدوات المعرفية التحليليّة للقلّة المُتناقصة والتي تحاول الاشتباك مع علم الاجتماع الديني وقضاياه المحلّية.
ومن هنا تأتي أهمّية كتاب: "علم الاجتماع الديني: الإشكالات والسياقات" (203 ص) - والصادر عن هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث 2011 ضمن مشروع كلمة للترجمة، وبترجمة لعزّ الدين عناية - باعتباره مدخلاً هامًّا يتيح للمتابعين من مختلف التخصّصات كيفية التفاعل العلمي مع هذه الإشكاليات، وذلك لعدّة أمور؛ أوّلها للقيمة العلمية لكاتبيْه الإيطالييْن: سابينو أكوافيفا وإنزو باتشي. فالأوّل من الرعيل المؤسّس لمدرسة علم الاجتماع الإيطالية، والثاني أستاذ علم الاجتماع بجامعة بادوفا بإيطاليا ورئيس الجمعية العالمية لعلم الاجتماع الديني. أيضًا لمنهجيّته العلمية التي تحاول الابتعاد عن السجال الإيديولوجي في تناول الدين والظواهر المتعلّقة به، فضلاً عن أنّه لا يكتفي باستعراض النظريات الكلاسيكية للروّاد بل يسعى إلى الإمساك بخلاصة المقاربات السوسيولوجية ووضعها على محكّ المواجهة مع الظواهر الدينية. ثمّ إنّ الكتاب يُعدّ مدخلاً جيّدًا للمهتمّين بالظاهرة الدينية في إعادة قراءة الظواهر الدينيّة العربية فيما يخصّ الجانبيْن المسيحي والإسلامي وتداعيات الممارسات السياسيّة للطرفين على بنية التديّن الفردي والتنظيمي والمجتمعي.
وفي إطار سعي الكتاب لمناقشة الظاهرة الدينيّة وتحليلها عمد إلى أن يتمّ ذلك عبر ثلاث دوائر تُجمل بتراكمها الصورة الدينية أمام المتابعين؛ الأولى: دائرة "الفرد": في إطار تفكيكه لمفاهيم المقدّس والدين والتديّن حيث يسعى إلى التطرّق إلى التديّن الفردي وقياسه وأبعاده المختلفة. الدائرة الثانية وتتعلق بـ"التنظيم" من خلال تحليل أنواع المنظّمات الدينية والاجتماعية، وأنماط التنظيم والتراتبية الداخلية كذلك تقنيّات توسيع دائرة التنظيم الديني. والثالثة تتعلّق بـ"المجتمع" حيث يتطرّق إلى علاقات الدين بالفئات الاجتماعية المختلفة، كذلك علاقته بالسياسة ووسائل الإعلام والاقتصاد والعرق.. إلخ.
***
المقدّس والدين والتديّن
في الدائرة الأولى المتعلّقة بالفرد يميّز الكتاب بين خمسة مستويات تسمح بتحديد التديّن وهي: الاعتقاد، الممارسة الشعائرية، المعرفة، التجربة، الانتماء. حيث تفترض هذه الأوجه رُؤية مُنضبطة للدين الذي يُعرّف على أنّه: نظام متكامل لتنظيم الحاجات الأساسية للكائن البشري وهو يمثل استراتيجيّة معرفيّة، وشكلاً من الإفصاح عن سلوكيات طُقوسيّة، وضربًا مُنظّمًا من العقائد. وهو آليّة اجتماعية ثقافيّة لتحديد الهويّة العرقية والسياسية وما شابهها.
ومع تأثّر علماء الاجتماع بأنماط التديّن المؤسساتية والتاريخية التي تَربّوا عليها يمكن الإقرار بأنّ بنية التدين تبدو ثابتة بشكل ما؛ فالوظائف على حالها وإن تغيّرت المضامين، فمن الصعوبة في عمليّة تحديد التديّن إجرائيًّا التغافل عن مفاهيم أساسية هي الاعتقاد، التجربة، الممارسة. فالواقع يشير إلى أشكال تديّن يغيب عنها نظام الانتماء أو جهاز الرقابة المركّب، وهذا ما دفع بالباحثين إلى تجنّب الخلط السائد بين علمي الاجتماع الديني واجتماع الكنائس أو بشكل أدقّ علم اجتماع الأديان ذات الطابع الكنسي. وبتحديد أبعاد التديّن يسهل إخضاعه للقياس باستعمال عدّة مناهج: نقطة البدء الأولى على صلةٍ بتبدّلات مختلف الأبعاد في الصنف أو الأصناف المختلفة حيث نستند ضمنيًّا إلى تقنية تجريبيّة محدّدة ألا وهي الاستمارة أو تقنية الاستجواب، وبداخل الاستمارة ثلاثة أسئلة غايتها اختبار بشكل كمّيّ وإحصائيّ فرضيّات بحثيّة محدّدة وهي:
- الأسئلة الحصرية بإجابات مُحدّدة سلفًا، ومحصورة في جُملة من الإمكانيّات البديلة.
- الأسئلة المطلقة، وتترك مجالاً رحبًا للمستجوب.
- الأسئلة المحدّدة وهي أسئلة متمحورة ضمن مجال رحب نسبيًّا لكن إجابتها محدّدة دائمًا.
وعلى الرغم من تنوّع النماذج المقدّمة لقياس التديّن والتي عرضها المؤلّفان إلا أنّهما يشيران إلى الصعوبات المنهجية والمتعلّقة بعدم قدرة أدوات الإحصاء على توضيح أبعاد التديّن المعقّدة بدقّة، وهو ما يثبت ضرورة إرفاق البحث الاجتماعي الكلاسيكي باختبار للشخصية يصاغ من وجهة نظر علم النفس الاجتماعي افتراضًا أنّ الحاجة الدينيّة تتمحور بحسب بنية الشخصيّة الفرديّة، ومن ناحية أخرى بمدى اكتشاف مناهج نوعيّة، بالأساس سِيَر حياة، يتيسّر عبرها بناء دورة حياة الفرد أمام مجموعة من الأحداث نعتبرها بشكل مجرّد دينية لكن بالنسبة إلى الموضوع هي شظايا واقعيّة لعالمه الحيويّ.
***
وفيما يتعلّق بأبعاد التديّن، فإنّ الكتاب يناقشها عبر عدّة عناصر وهي: الاعتقاد، التجربة، الممارسة، الانتماء، المعرفة. حيث يُعرّف الاعتقاد الديني بأنّه مجموع التصوّرات التي يبلورها الأفراد أمام كائن أعلى أو قوّة متعالية خارقة، هو أساسًا علاقة اعتقاد في شيء يتضمّن خضوعًا وعجزًا واعترافًا بمحدوديّةٍ بين الكائن البشري وكائن أشدّ قوّة مُفعم نُورًا وصدقًا. وعلى ضوء هذا الإقرار يَصوغ الأفراد أنظمتهم المعرفية. فمنذ اللحظة التي يدفع فيها الاعتقاد باتجاه التجربة الدينية يدرك الفرد عادة كيف ينحو إلى تأسيس أصالته بطريقتيْن؛ بعبارة نفسية: عقلنته وجعله جُزءًا حيويًّا من الفعل اليومي. وبعبارة اجتماعية الانضمام والولاء إلى مؤسسة قارّة تضمن له عبر الزمان والمكان تواصلاً وحضورًا. وبغرض تحديد المراد من لفظة الاعتقاد والاعتقاد الديني أشارت الأبحاث إلى أربعة أوجه مُهمّة على الأقل هي:
- الاعتقاد أشد صلابة من الممارسة الدينية ومن معنى الانتماء الديني، فقد يستمرّ الأفراد في إيمانهم وإن بدا سلوكهم منحرفاً أو هجروا الممارسات الدينية.
- هناك اختلاف بين النظام التراتبي لمحتوى الاعتقادات الدينية التي ترسيه وتُصادق عليه المنظّمة الدينية وتراتبية الاعتقادات التي يُبينها المؤمن بمفرده.
- آثار الأنظمة المعرفية الأسطورية أو الدينية يمكن العثور عليها لدى غير المؤمنين.
- يتعذّر في الأبحاث التجريبيّة التمييز بين ما يجري عيشه بصفة شخصية من جانب الأفراد، وما يتمّ إنتاجه ضمن سياقات احتضان اجتماعيّ وأوضاع نفسيّة.
وفيما يتعلّق بالتجربة الدينيّة يدفع مفهوم المقدّس إلى تحديد المراد بها، حيث يُشير المقدّس إلى شيء يُدركه البشر خلال مشوار حياتهم، وهو ما يخلّف فيهم آثار قوّة ومظاهر خارقة، ويُقرّ العديد أنّ هذه التجربة أنموذجية يمكن أن تتفجّر في لحظة ما من حياة الفرد لتخلّف مواقف وسلوكيّات منتظمة، فهي تجربة تفكيكيّة تُبدع منظومة جديدة من الأفكار والقيم. وقياس التجربة الدينية يتمّ اعتمادًا على الرسوم البيانية. وللأصناف التي تشكّل الإطار أربعة تنويعات وهي:
- تنويعات جوهرية: تقيس أنواع العواطف التي تُثيرها تجربة المقدّس في الأفراد الذين يُعربون عن معانقتهم لتلك التجربة.
- تنويعات اسمية: ترتيب المفاهيم التي ينسبها المستجوبون إلى الواقع المغاير كُليّاً والذي يختبرونه.
- تنويعات قياسية: تسمح بالفهم إن كانت العواطف أو التجارب المُكابدة من طرف فرد أمام المقدّس مُتشابهة أو مختلفة مُقارنة بغيرها من الحالات أو الأوضاع غير العادية للوعي، أو مُتماثلة من النوع نفسه.
- تنويعات السياقات: تسعى لتوضيح الأوضاع التي يروي من داخلها الفرد تجربته مع المقدّس.
ويمكن أن تُفكّك التجربة الدينية إلى عدّة عناصر تقبل في مجملها الترجمة ضمن عدّة مُؤشرات:
- اقتناع ذاتيّ بحضور قوّة خارقة.
- مشاعر التملك والانجذاب والامتلاء من جانب تلك القوّة.
- سلوك مسلك جديد من الحياة سواء على المستوى الفردي أو الجماعي – منذ اللحظة الأولى لهذا اللقاء.
ويرى المؤلّفان أنّ الدافع لهذه الدراسات عن التجربة الدينية يعود بالأساس إلى نداء الجسدانية قصد عيش تجربة المقدّس.
أما الممارسة الدينية فيعرّفها الكتاب على أنّها تفعيل من قِبَل الممارس للشعائر لجملة من التعاليم الدينية التي تفرضها المؤسّسة ليكون الولاء إلى المعتقد بائنًا وعمليًّا. وتتلخّص العناصر التي تدخل ضمن تلك الخلاصة في ما يلي:
- وجود سلطة دينيّة مكلّفة بضبط الانسجام بين المواقف العقدية والسلوكيات الطقسيّة.
- وجود مجموعة من الطقوس يجري تكرارها دوريًّا مع الاحتفاء بها في أماكن مقدّسة.
- ثنائيّة من يتولّى تسيير فضاءات الممارسة الدينية وبين من له دور المشاركة في أداء تلك الطقوس وهو ما لا يعني دائما فصلاً أو تعارضًا بين الطرفيْن.
وبالنظر إلى الممارسة المرئيّة والخفيّة، منذ اللحظة الأولى، تظهر فيها الثانية أكثر عُمقًا وانتظامًا من الأُولى. وبحسب مختلف السياقات الدينية يمكن الحصول على تنويعات من المُمارسة الطقوسية مع التأكيد على بقاء بعض العناصر ثابتة خاصة اثنان: على المستوى الأول يَختبر الأفراد في المُمارسة في درجة الإلزام الجماعي التي يفرضها الظرف الاجتماعي الديني على مستوى واسع. وعلى المستوى الثاني: إظهار نوع من التجربة والاعتقاد الديني إضافة إلى الوظائف ذات الطابع السياسي والثقافي.
أما الانتماء فيقصد به مجمل المواقف التي تُميّز الانضمام إلى جماعة أو مؤسسة ذات طابع ديني أو مُجمل آليات الانضمام والمشاركة الشكلية في حياة هيئة تتمتع بتنظيم معين ولها صبغة دينية. ويتأتى عبر شبكة، فالجماعة/الكنيسة/الحركة، إضافة إلى كونها تنظيمًا دينيًّا، فهي أيضًا مجموعة من الروابط العملية في الحياة اليومية تجمع أُناسًا يحسّون بانتمائهم إلى تنظيم يسندهم.
ولكون الانتماء شبكة، يمكن حصره في مُحدّدات زمنيّة، حيث يمكن بناء مسار دورة العلاقات التي ينسجها الفرد مع واقعة دينيّة منظّمة، وتوزيع مضبوط ضمن قوس زمنيّ، والعلاقات العملية التي ينسجها لإضافة ميزة وخصوصيّة إلى معنى الولاء للجماعة التي رافقت حياته. في حين يمكن رسم الفضاءات المحتوية لمعنى الانتماء بشكل فعلي ضمن محدّدات المكان. ونظريًّا يمكن التفرقة بين ثلاثة أنواع من الانتماء وهي:
- المشاركة النضاليّة. وهي انخراط المؤمنين الذين يلتزمون عمليًّا في أنشطة الدعوة، ويصير إيدلوجيا تُلهم بشكل عامّ مواقف الأفراد وسلوكيّاتهم.
- مشاركة يعوزها النضال: وهي تلك السلوكيّات الاجتماعيّة الدينيّة والموجودة في جلّ الكنائس تقريبًا لإبداء ولاء ووفاء إلى أشكال التجلّي الخارجي للاعتقاد الديني. وبالتالي لا يترجم الانتماء إلى الكنيسة في أنشطة التزام غرضها إرساء مقاصد تنظيميّة أو خَلاص عائد إلى المؤسّسة.
- نضال دو ن مشاركة: ويشمل تلك الحالات التي يُمارس فيها النشاط لأجل إيمانٍ ما ضمن سياق تاريخي واجتماعي، لا توجد فيه الجماعة أو المؤسسة أو الحركة المرجعية، وإن وُجدت فبأشكال غير تنظيمية طوعيّة.
إضافة إلى الشكلين الرئيسين للانتماء الديني سواء الكنيسة أو النِحْلة هناك شكل من التديّن يشي بملامح الانتماء وهو الطريقة الصوفية "التيار الروحي"، ويرجعها الكتاب إلى نوع من التجربة الدينية العميقة ذات الصلة بأشكال الانتماء الكلاسيكية أو النشاط المتحمّس. لذلك تحضر خارج (وداخل) المؤسسات الدينية الراسخة - الكنائس والنِحَل - أو الأديان الكونية التي تُملي مؤشّرات انتماء قوية على الأفراد - كالصوفيّة في الإسلام - حيث يحسّ المتصوّف أنّه جزء من التجمّع اللاّمرئي وبالتالي يدرك محدودية المعابد والتنظيمات المرئيّة.
في حين يحلّل الكتاب المعرفة الدينية بحسب وجهتي نظر مختلفين: من ناحية أولى باعتبارها تجربة للمقدّس يمتلكها الفرد. فمن يجرّب حضور كائن أعلى فإنّه يصوغ علمًا إلهيًّا مُسايرًا لنوع التجربة الصوفية ويَنحو نحو إشباع حاجته المعرفية مُتّبعًا أشكال حدس مُختلفة-شعر، فن، موسيقى. ومن ناحية ثانية ينظر إلى المعرفة الدينية بوصفها مركّبًا من التعريفات والصياغات المؤصّلة من طرف خبراء - أنبياء، لاهوتيّين، كهنة، عرّافين - يتولّون صياغة ما يشبه المعرفة المُختصّة التي تُلبّي حاجة شِقّ من المؤمنين، وفي مقابل معرفة "العارفين" تتطوّر في كلّ دين معرفة شعبيّة أقلّ صرامة ومُتميّزة بالعفويّة.
ويعدّ قياس درجة المعرفة الدينية أمرًا ليس سهلاً خاصّة وأنّ عزل نواة العقائد والمفاهيم والاعتقادات ليس أمرًا هيّنًا، وهي التي تُعدّ ضرورية للقول بوجود مستوى من المعرفة الدينية المتدنّية أو المتعالية أو غيابها في شريحة معيّنة من الناس. والبديل الوحيد الذي يمكن ممارسته هو قصّ الأطراف الرئيسة للمعرفة الدينيّة وهي المتعلّقة بعالم الغيب ونشأة الكون أصل الإنسان ومنبع الخير والشر.
***
الدين والتنظيم
تحتوى معالجات علم الاجتماع الديني لموضوع التنظيم الديني على عدّة عناصر أساسية هي: أصناف التجمّعات، السلطة والتراتبيّة الدينية: البنية والوظيفة، آليّات الرقابة وسبل إرساء الانسجام الداخلي، تقنيات الدعوة.
فيما يخصّ أنماط التنظيم، فإنّنا نجد، ضمن الأعمال الكلاسيكيّة، الكنائس مؤسّسة الخلاص، وهي جماعة المؤمنين التي تكوّنت بشكل طوعي وتنشغل بخلاص الجميع، في حين تُولي النِحْلة اهتمامًا فائقًا بالمشاركة في الحياة الداخلية حيث توحي للمنضوين تحتها بأنهّم مجموعة الربّ المختارة. وبعد ذلك تمّت إضافة الجماعات الصوفيّة نمطًا ثالثًا، حيث تضمّ شبكة واسعة من المتشاركين في تجربة دينيّة عميقة وجامعة تتجاوز الأنماط التقليدية. وتحتوي كافّة أنواع التجمّعات ذات الطابع الديني وفق نظام تراتبيّ داخلي تختلف درجة تعقيده. وهناك ثلاثة اتجاهات لدراسة كيفية التأسيس والاشتغال وهي: وصف كاريزما التأسيس للجماعة وتحليل التطوّرات التنظيمية المتولّدة عنها أوّلاً، وتحليل آليات الاختيار وانتداب العاملين وتكوينهم ثانيًا، ودراسة القيادة وآليّات إضفاء المشروعية على سلطتها ثالثًا.
ونظريًّا يمكن التمييز بين أربعة أنماط من السلطة الاجتماعيّة الدينيّة:
- الأنموذج الثيوقراطي: حيث تقدّم السلطة نفسها بأنّها مُفوّضة من الإرادة الإلهية.
- الأنموذج التجمّعي الانتخابي: حيث تنحدر السلطة من تجمّع المؤمنين وتُجدّد أو يُعاد إثباتها دوريًّا عبر الانتخاب.
- الأنموذج الكاريزيمي: أي تخضع السلطة لاختبار من يحسّ أنّه يملك قوى خارقة يُفصح عنها فيعترف به الأتباع.
- الأنموذج التقليدي: أي تستند السلطة إلى تقليد، وعادة ما يتجذّر في فحوى كتاب مُقدّس.
وفيما يتعلّق بإجراءات الرقابة والمحافظة على الانسجام الداخلي، فإنّنا نجد، كما في كافّة التنظيمات، صراعات عقائدية تتطوّر، وفي الوقت نفسه صراعات وظيفيّة تتعلّق بمبدأ السلطة أو بمصدر إضفاء الشرعية على التعاليم الدينية والخلقية، وتوزيع الثروات المادية والرمزية ذات الصلة بالسلطة، والوظائف داخل التراتبية التنظيمية. ومع اختلاف التنظيمات الدينية إلاّ أنّ جميعها مهتمّ بالبحث عن حيّز لها في سوق الرسائل التي تنتجها الصناعات الثقافية الحديثة ومحيط وسائل الإعلام من أجل توسيع دائرة تنظيمها الديني.
وثمّة أمران أخيران يرتبطان بالتنظيمات الدينية الأول: يتعلّق بالقيادة الملهمة، فمع موت المؤسّس تُطرح مسألة تواصل كاريزما التأسيس والتي تُخلّف مسائل تنظيمية عويصة تتعلّق بالعلاقة بين اللحظة التكوينية للدين واللحظة التنظيمية والتحوّل للرسالة الجديدة في صيغ قانونية ومُؤسّساتية.
وبحسب مستويات المأسسة التي يَبلغها دين ما ضمن مسار تطوره تتشكّل ظواهر صراعات منها:
- التدمير الجذري للمبدأ التنظيمي والعقدي الذي قامت عليه.
- العودة إلى مقاومة الأصول في مواجهة مؤسّسة دينية متّهمة بالتنكّر لها.
- ضرورة خوض إصلاحات تحوِّر بدرجات متفاوتة أشكال توزيع السلطة الداخلية.
وبخلاف ذلك يمكن لصراعات أن تتركّز في معين السلطة ذاته وهو من أشكال الصراع الكلاسيكي على السلطة وما لا يجوز في الاعتقاد والذي يحمل طابعًا معرفيًّا رمزيًّا. وتُفرز هذه الصراعات توتّرًا بنيويًّا بين الشحنة الحيوية للتجربة الدينية، وبين تصلّب رسالة الخلاص في قواعد وإجراءات كُلية وطقوسية ومؤسّساتية.
أمّا الأمر الثاني فيتعلّق بممارسة العنف المقدّس، والذي يمكن حصره في صورتين: التضحية بالآخرين، والتضحية بالذات. وفي كلتا الحالتين يرتهن الالتجاء للعنف لا بحوافز ذات طابع أيديولوجي متولّدة من رؤية لاهوتية فحسب، بل أيضًا بقاعدة تنظيميّة، إذ أنّ قتل الذات أو الآخرين يعمل على تمتين اللُحمة الداخلية لجماعة الانتماء، فمُمارسة العنف تجاه الآخرين يتطلّب انقلابًا دينيًّا عميقًا ومُكثّفًا يَنضج في أعقابه اختيار طوعيّ للقيام بعمليّة القتل. وأمام هذا الاختيار ينغمس المؤمن - فردًا/ جماعة - في عالم رمزي تتوضّح فيه الحدود بين الحياة والممات، بين ما هو صواب وبين ما هو ضلال، على أساس معيار الانتماء غير القابل للتشكيك.
***
الدين والمجتمع
فيما يخص هذه العلاقة يسعى الكتاب إلى طرحها من خلال معالجة عدّة عناصر تعكس في مجموعها جهود علم الاجتماع الديني المعاصر في التفاعل مع أسئلة المجتمع وتحدّياته. من ذلك:
أ- الدين بين سؤال التجديد والمحافظة: وموقع الدين في ذلك أسير نظرتيْن؛ الأولى ترى الدين ناهضًا بوظيفة جوهرية وهي دعم التماسك الاجتماعي، والثانية ترى الدين عنصرًا حيويًّا للتجديد استنادًا إلى ظروف تاريخية مُحدّدة "نظريات الصراع". وعامّة يقصد بالتجديد جملة من المُتغيّرات تختلف حدّة عُمقها حيث تَخترق النسيج الاجتماعي وتكون ناتجة عن بروز لحظات حرجة يُعبّر عنها أفراد أو جماعات يمكن أن تَهمّ العديد من الدوائر في المجتمع.
ويؤكّد الكاتبان أنّ الأديان التاريخية تحمل آثار الحداثة والقدرة على العيش في عالم ما يزال البحث فيه عن الدلالات النهائية لم ينفذ.
ب- الدين والسياسية: ويُلخّص محدّدات هذه العلاقة عمليًّا في إضفاء المشروعية، ويقصد بها المواقف القيمية وعلاقات الثقة ومعاني الولاء التي يُبديها المواطنون مُقابل النظام الحاكم، وهو ذلك السياق الاجتماعي الذي يسمح للنظام السياسي القائم بإرساء وفاق يفترض نشاط إقناع فوقيّ من جانب القابض على مقاليد السلطة والذي يُقابله وفاء وولاء من أسفل. وهو ما يؤسّس حق القيادة وما يستدعي ألاّ يتمتّع أيّ نظام بالمشروعيّة من تلقاء ذاته.
وللدين دور في إِضفاء المشروعية السياسية خاصة في ظلّ تجارب أنظمة أسّست مشروعيتها على أساس العلاقة الدينية بين الزعيم الكاريزمي والشعب كما في بولونيا وباكستان. أيضًا يرتبط بالسلوك الانتخابي والتوجّهات السياسيّة - وفق العديد من الدراسات - حيث يكون الاقتراع تعبيرًا عن هويّة جماعيّة ثقافية عندما يكون الإطار الثقافيّ قويًّا وغنيًّا بالسندات الاجتماعية الداعمة. ويبدو ذلك في حالتين: الكنيسة الأنغليكانية في بريطانيا حيث دفع الانتماء الديني إلى مُناصرة حزب المحافظين. وفي حالة الكنائس المعمدانية السوداء ارتبط الانتماء الديني بالنضال السياسي من أجل تحرير السود ولتحقيق سياسة اجتماعية عادلة.
ج- الدين ووسائل الإعلام: يفرض المجتمع على الأديان وعلى من يريد الحديث عنها التعامل مع وسائل الإعلام المختلفة بوصفها وسيلة عصرية للتواصل مع الناس في منازلهم. مع إشارة الكتاب إلى غياب المعالجة المعمّقة في علم الاجتماع الديني لنتائج الاستعمال المباشر لوسائل الإعلام من قبل الكنائس والنحل، إلا أنّ هناك فرضيّتين بمثابة النتائج التي يمكن أن تؤثّر في الحياة التنظيمية الداخلية للجماعات الدينية؛ الأولى: تشكيل قطاع منظّم بكفاءات تقنيّة دخيلة عن الحقل الديني بتقديم طبقة من المختصّين تكثر من الوجوه المهنية للعمل الديني. والثانية: المُساير ة البطيئة للرسالة الدينية لكن المحكومة بقواعد اللعبة اللغوية لوسائل الإعلام أي اختزال الرسالة المعقّدة في شعار.
د- الدين والاقتصاد: يحلّل الكاتبان الصلات الرابطة بين الاعتقاد والاقتصاد انطلاقًا من ثلاث مقاربات كبرى: ففي المقاربة الفيبريّة (نسبةً إلى ماكس فيبر) ثمّة ميل إلى حضور الدين لا بوصفه طقوسًا جماعية بل باعتباره مصدر إلهام للقيم وأنماط الحياة القابلة للترجمة في أنشطة مختلفة وبالخصوص باعتباره منطقًا اقتصاديًّا ورؤى أخلاقية ذات أسس دينيّة حيث تكون للدين وظيفة دفع التطوّر الاقتصادي أو كَبحِه. أما المقاربة الماركسية فتحتاج الصياغة الاقتصادية الدينية إلى منظومة إيديولوجية لإضفاء مشروعيّة عليها والدين هو آليّة رمزيّة تخفي علاقات القوّة الواقعية الحاضرة في المجتمع. فهو عامل من عوامل الهدوء الاجتماعي وبالمثل كابح من كوابح مسارات التحرّر الاقتصادي. وطبقًا للمقاربة الوظيفيّة، وهي المقاربة الثالثة، ينتج تقدّم المجتمعات التعدّدية استقلالية متطوّرة لدوائر الحياة الاجتماعية حيث ينحو الاقتصاد للاشتغال نظامًا مستقلّاً عن منابع القيم الأخلاقية والدينية. فالاقتصاد يساير آليات اشتغال خاصّة به لا تعود إلى منابع أخلاقيّة ودينيّة.
هـ- الدين والعرق: لعب ولا يزال عامل إضفاء القداسة على الأصل العرقي بما يوفّره من دعامات سامية دورًا مؤثّرًا في تجذير هويّة الشعب الثقافية. فبإضفاء القداسة والأسطرة على الذاكرة الجماعية ينحو الدين إلى إعطاء معنى أسطوري على أصول الشعب، وعبر طقوس جماعيّة يساهم الدين في تمتين عرى التضامن بين أفراد الجماعة البشرية.
و- الأديان والمسائل النسائية: بيّنت الدراسات المقارنة للأديان والأبحاث الإناسيّة والنفسية كيف أنّ التديّن الطبيعي المزعوم الأكثر رواجًا بين النساء منه بين الرجال هو في الواقع نتاج ثقافي لمجتمع رزح فيه العنصر الأنثوي عبر العصور أو بفعل قدر اجتماعي مغاير عما يعرفه الرجل. ومع التعقيد والازدواجية في أوضاع المرأة طبقًا لما يراه الكتاب في ضوء استعراضه لعدّة ديانات، يشير المؤلّفان إلى نشأة مبحث دراسات اجتماعية حاول تفهّم التوتّرات الحاضرة اليوم داخل الكنائس بشأن الرهبنة النسائية وفي العموم بشأن الصراع الذي تطوّر لحظة تنامي المعارضة النسوية للسلطة الرجالية الحاضرة في مختلف العقائد الدينية.