علم الكلام بين أصالة الاستدلال وتحديات فكرية معاصرة
فئة : مقالات
علم الكلام بين أصالة الاستدلال
وتحديات فكرية معاصرة
ملخص:
يعد هذا المقال لبنة متواضعة في صرح الحديث عن أصالة علم الكلام، كما يعد خطوة من خطوات عدة سبقنا بها باحثون في هذا الميدان، على أن المبتغى من خلاله هو إظهار هذا العلم الدقيق والتعريف به بأسلوب سهل يتناسب مع عقل العصر ولا يخالف الأصل. ومن هنا، فقد ناقشت مدى قدرة علم الكلام اليوم وفي سياق تحديات العصر الإجابة عن تساؤلات شغلت عقول الشباب من الدرجة الأولى، انطلاقا من التساؤل الآتي: هل مفهوم علم الكلام بوصفه حجاجا عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية لازال يمتلك مشروعية في سياق التحديات المعرفية والفلسفية المعاصرة؟
تمهيد
يعد علم الكلام عند المسلمين من أهم العلوم الأصيلة التي وقفت في وجه التشويش الإلحادي والزندقة، وما إلى ذلك من مظاهر الانحراف العقائدي والنظري، أو "الإيديولوجي" بلغة العصر.
وعلى الرغم مما أداه هذا العلم من وظيفة غاية في الفعالية والدقة والصرامة العلمية، من أجل حماية الثغور الإيمانية والروحية للمسلمين، فإنه بقي في نظر الكثير في الماضي والحاضر متأرجحا بين القبول والرفض، وبين التقدير والتحذير. ولأجل هذا وذاك، ارتأيت في هذا الموضوع التعرض لبيان حقيقته، وبالتالي النظر في مدى إمكانية اعتماده في عصرنا الحالي منهجا ومضمونا، حتى نكون من المستفيدين الموضوعيين بوعي من التراث الإسلامي الخالد، استفادة تمكننا من تطوير أفكارنا.
أولا- تعريف علم الكلام ونشأته وموقف العلماء منه:
1- تعريف علم الكلام وموضوعه:
أ- تعريف علم الكلام:
توجد عدة تعريفات لعلم الكلام، نذكر منها ما يلي:
*- تعريف الفارابي: عرف الفارابي علم الكلام بأنه: "ملكة يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحمودة التي صرح بها واضع الملة، وتزييف كل ما خالفها بالأقاويل.[1]"
*- تعريف عضد الدين الإيجي: عرف الإيجي علم الكلام بقوله: "علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه، والمراد بالعقائد: ما يقصد به نفس الاعتقاد دون العمل، وبالدينية المنسوبة إلى دين محمد صلى الله عليه وسلم". [2]
وإذا كان كل من الفارابي والإيجي قد جعلا علم الكلام يقوم على نصرة العقيدة الإسلامية دون تمييز بين الفرق الإسلامية، فإننا نجد ابن خلدون يحصر التعريف في نصرة الاعتقادات على مذهب السلف وأهل السنة ويخرج باقي الفرق، فيقول في تعريفه لعلم الكلام[3]: "هو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات على مذاهب السلف وأهل السنة"[4]، وهو في هذا يوافق ما ذهب إليه الغزالي في المنقذ من الضلال. [5]
ومن هذه التعريفات السابقة، يمكننا أن نستخلص أن علم الكلام يقوم على إثبات العقيدة عن طريق الأدلة العقلية، فهو بذلك يقوم بتوضيح أصول العقيدة وشرحها وتدعيمها بالأدلة العقلية، وبذلك يستكمل المؤمن نورين: نور العقل ونور القلب، وتزول الشكوك والوساوس التي قد تعتريه.
ب- موضوعه
ولما كان علم الكلام يقوم على إثبات العقائد الدينية والرد على شبهات الخصوم، فإن موضوعه يتناول الأمور الاعتقادية التي كلفنا بتصديقها بقلوبنا، واعتقادها بأنفسنا مع الإقرار والنطق باللسان. يقول الإيجي في بيانه لموضوع علم الكلام: "هو ذات الله؛ إذ يبحث فيه عن صفاته وأفعاله في الدنيا كحدوث العالم وفي الآخرة كالحشر وأحكامه، وفيهما – الدنيا والآخرة – كبعث الرسول ونصب الإمام والثواب والعقاب.[6]"
ولكن الإمام السفاريني عندما يتحدث عن موضوع علم الكلام يبين أن موضوعه إثبات العقائد الدينية، ويخالف الإمام الإيجي في كونه يبحث في ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله؛ لأن هذه الأمور إنما تؤخذ من النصوص القرآنية والأخبار النبوية، وليس من القواعد الكلامية، فيقول: "وموضوعه هو المعلوم من حيث يتعلق به إثبات العقائد الدينية؛ إذ موضوع كل علم ما يبحث في ذلك العلم عن عوارضه الذاتية...، وهذا أولى من زعم أن موضوعـه ذات الله تعالى وتقدس للبحث عن صفاته وأفعاله، واعلم أنا لا نأخذ الاعتقادات الإسلامية من القواعد الكلامية، بل إنما نأخذها من النصوص القرآنية والأخبار النبوية، وليس القصد بالأوضاع الكلامية إلا دفع شبه الخصوم والفرق الضالة"[7].
2- نشأة علم الكلام وموقف العلماء منه
أ- نشأته
لم ينشأ علم الكلام في المجتمع الإسلامي من فراغ، وإنما كانت هناك جملة عوامل أدت إلى ظهور هذا العلم، ومن هذه العوامل:
الأحداث السياسية: لقد لعبت الأحداث السياسية في البيئة دورا عاما في نشأت علم الكلام، حيث إن أغلب المباحث الكلامية قد نشأت في ظل الخلافات السياسية، ومنها مشكلة الإمامة، وهي وإن كانت لا تمثل أصلا من أصول الدين، فإن كثرة الخلاف فيها، نتج عنها مباحث حول الإيمان وحقيقته، وحول علاقة العمل بالإيمان، ونشأ في كنفها مبدأ الجبر ومبدأ الاختيار، وتطرقت الفرق إلى التأويل العقلي لآيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية، وبدأ النظر في أصول الدين، وتطرف البعض في آرائه. [8]
حركة الترجمة: أدى اتساع الفتوحات الإسلامية إلى دخول أقطـار ذات حضارة فكرية متعددة، مما أحـدث اتصـالات بيـن الإسلام وتلك الحضارات -خاصة الفلسفة اليونانية وبالتحديد آراء أرسطو وسقراط وأفلاطـون- وترجمتها إلى اللغة العربية، واطلعوا عليها للاستفـادة ممـا فيها من حق، والرد على الباطل منهـا، فكان لهذا أثـره الذي يتضح فيمـا قبلـه المسلمون مـن تلك الأفكار والعلوم التي اطلعوا عليها، أو فيما رفضوه وردوا عليه وعدوه مخالفا لعقيدة الإسلام. [9]
طبيعة العقل البشري: خلق الله تعالـى عقـول الناس مع اختلاف كبير بينهم فـي الفكـر والفهم والعلم، ولهذا كان من الطبيعي أن يختلف النـاس، تبعا لما يثيرونـه مـن إشكـالات وتساؤلات، ومـن هـذه التساؤلات التي أُثيرت رؤية الله عز وجل واستواؤه على العرش، وخلـود الجنـة والنـار، فكان لها الأثر الواضـح على نشوء بعض الآراء الكلامية، فحاول كل فريق أن يبحث وينظر ويتأمل استجابـة لدعوة القرآن الكريم للإنسان أن يتدبر وأن يتفكر.[10]
كانت هذه بعض عوامل نشأة علم الكلام، وأخرى لم نذكرها نظرا لطول النفس فيها، وهو الأمر الذي لا يتفق مع طبيعة هذه البحوث.
ب- موقف العلماء من علم الكلام
اختلفت المواقف بإزاء علم الكلام بين مؤيد له ومعارض، ونعرض إجمالا لهذه المواقف:
المؤيدون: نجد فريقا من المسلمين أيد الاشتغال بعلم الكلام، ويقف على رأس المؤيدين المتكلمون أنفسهم، حيث رأوا ضرورة النظر في أصول الدين وإثباتها بالعقل؛ إذ إن الإيمان القائم على العقل أقوى من الإيمان الذي يقوم على التقليد.
ففي فريق المعتزلة مثلا، تجد دعوة واضحة وصريحة لأهمية النظر، بل تقديمه على السمع؛ إذ يتوقف عليه صحة السمع، ونجد ذلك في مؤلفاتهم[11] ...، ونجد الأشعري في كتابه استحسان الخوض في علم الكلام؛ يبين فيه ضرورة النظر في الدين، ومن بعده نجد الأشاعرة أمثال الإمام الباقلاني والجويني وغيرهما يوضحون أهمية النظر في الدين.[12]
المعارضون: ويقابل هذا الفريق المؤيد لقيام علم الكلام فريق آخر يعارض قيامه، ويرى أن الاشتغال به فيه مضرة بالغة، وأن الدين قد نهى عنه، وإلى التحريم ذهب الأئمة مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وجميع أهل الحديث من السلف.[13]
ونعرض إجمالا لهذه المواقف، بدءا بما وراه الحافظ ابن عبد البر عن الإمام مالك رحمه الله، قال: "حدثنا عبد الوارث بن سفيان، حدثنا قاسم بن أصبغ، حدثنا أحمد بن زهير قال: سمعت مصعب بن عبد الله الزبيري يقول: كان ملك بن أنس يقول: "الكلام في الدين أكرهه، وكان أهل بلدنا يكرهونه وينهون عنه، نحو الكلام في رأي جَهمٍ والقدر، وكل ما أشبه ذلك، ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل، فأما الكلام في الدين وفي الله عز وجل فالسكوت أحب إلي، لأني رأيت أهل بلدنا ينهون عن الكلام في الدين إلا ما تحته عمل.[14]"
ومن الأئمة الذين نهوا عن الخوض في علم الكلام، نجد الإمام أبو حنيفة رحمه الله، في ما رُوي عنه أن ابنه كان يتكلم في الكلام، فنهاه عن ذلك، فقال له: رأيتك وأنت تتكلم فما بالك تنهاني؟ فقال: "يا بني، كنا نتكلم وكل واحد منّا كأن الطير على رأسه مخافة أن يَزِل صاحبه، وأنتم اليوم تتكلمون، كل واحد يريد أن يُزلّ صاحبه، ومن أراد أن يزل صاحبه فكأنه أراد أن يكفُر، ومن أراد أن يُكفّر صاحبه فقد كفر قبل أن يكفّر صاحبه.[15]"
ومن خلال النظر في أقوال هؤلاء الأئمة، يتبين أن كراهيتهم للخوض في علم الكلام ليست مطلقة، ولكنها منصبة على تلك الآراء التي تعتمد على الأهواء، ونشر العقائد الباطلة المشككة في عقيدة المسلمين، ويدلك على هذا، أن بعض الذين نهـوا عـن الاشتغـال بـه، قـد خاضوا فيه وتكلموا في مسائله وصنفوا في ذلك وأشهرهم الإمام أبو حنيفة الذي ألف كتـاب الفقـه الأكبر، وصرح فيه بكثير من علم الكلام.
ويبدو أن تحذير السلف من علم الكلام راجع لأمرين:
الأول: أن هذا الذم والتحذير موجه لمن يحاول دراسة علم الكلام، ليشكك في أفكار ومعتقدات المسلمين.
الثاني: أن هذا الذم موجه للعامة من الناس، ولمن يُخشى عليه انحراف العقيدة، وأما في حال التمكن وعدم الخوف من وقوع الشك بعد رسوخ العقيدة الصحيحة، فلا بأس من تعلم علم الكلام.
2- موقع علم الكلام من التحديات الفكرية المعاصرة
يتبين للناظر في علم الكلام، من حيث النشأة والتطور، وكذا الموضوع والتصور، أنه كان وسيلة للدفاع عن العقيدة الإسلامية، وحمايتها من التشويش، والتشكيك، والذود عنها من الشبهات والانحرافات، كل ذلك بالبرهان العقلي المستند للنقل، والاستدلال المنطقي.
وإذا كان لعلم الكلام هذا الهدف العظيم في الدين، فهل هذا كفيل بإكسابه استمرارية وضرورة في الحضور كوسيلة دفاعية في العصر الحاضر، خصوصا إذا كانت الأسلحة والسموم الموجهة للإسلام عموما، والعقيدة على وجه الخصوص، مختلفة على ما كانت عليه في السابق؟ وهل من الممكن أن تصير نتائجه سلبية على عكس ما كان متوخى منه؟
لعل من العسير إحاطة هذه الإشكالات المعرفية بأجوبة في بضع صفحات، لكن تسليط الضوء على أهم النقاط فيها، وطرح مزيد من الإشكالات كفيل بتعميق الفهم الموصل لحلول، ورؤية واضحة في هذا المجال.
تبوأ علم الكلام مكانة بارزة بين علوم الشريعة، بفضل قدرته على مواجهة التحديات الفكرية آنذاك، التي تولدت من رحم الخلافات السياسية، فأنتج تراثا ضخما، ساهم في إثراء الحركة الفكرية الإسلامية، بمناهج ومذاهب عقدية متعددة، واليوم وإن كانت التحديات المعاصرة امتدادا لسابقاتها، فإنها تشعبت وتنوعت بتنوع التطورات العلمية والثورات التكنولوجية.
فقد شهد العالم تطورا كبيرا على صعيد العلوم التجريبية، والنظريات الفلسفية، ولعل من بين أهم المباحث التي أثرت في تشكل العقل الإنساني المعاصر؛ مبحث الوجود ونظرية المعرفة وغيرها من النظريات الأخرى التي شكلت أكبر تحد للإنسان المعاصر وكيانه؛ إذ واجهت الإنسانية في مسيرتها المضطربة عبر الأجيال تحديات عديدة، إلا أنه لم يكن منها ما هو أكثر خطورة على الإنسان، وهدما لحياته من التحدي الذي تمثله الحضارة الغربية اليوم، بل إني لأجازف بالقول إن التحدي الأكبر الذي اخترق وجودنا في هذا العصر إنما هو تحدي المعرفة[16]. وليس المقصود بالمعرفة هنا ما يقابل الجهل، إنما المعرفة على نحو ما تم تصورها وإنتاجها ضمن الرؤية الغربية للعالم.
أ- مبحث الوجود
شغل مبحث الوجود الحيز الكبير من اهتمام الفلاسفة، ويمكن التمييز هاهنا بين مدرستين كبيرتين؛ الأولى تعزو تفسير كل الظواهر الكونية بما فيها الوجود لقدرة العقل المطلقة، وعليه تأسست الفلسفة الميتافيزيقية[17]، والثانية تعزو تفسير هذه الظواهر للمادة فقط، وهي الفلسفة الوضعية.[18]
وإذا كانت الفلسفة السقراطية تترك مجالا للسؤال عن الموجد، فإن الفلسفة الحديثة فلسفة لا تعتقد بشيء خارج عن الحس، وبالتالي إنكار وجود الذات الإلهية؛ متخذة مبدأ الشك منهجا لها.
وسنتحدث في هذا المطلب عن مبحث الوجود في الفلسفة المعاصرة من خلال المدرسة الوضعية الفلسفية والمنطقية والمدرسة الوجودية.
- المدرسة الوضعية: Potivism
يعد أوغست كونت[19] من مؤسسي المدرسة الوضعية الفلسفية التي قامت بتسفيه كل أشكال التفكير الميتافيزيقي الذي محور بحثه عن معرفة الموجودات والكشف عن العلل الأولى والغائية لجميع الأشياء؛ أي الوصول إلى المعارف المطلقة، وعرفت فلسفته بقانون الحالات الثلاث، حيث إن الفكر الإنساني مر بثلاثة أطوار:
الطور اللاهوتي أو الديني: وهو بداية التفكير الإنساني، حيث كان الإنسان يفسر كل الظواهر الطبيعية التي يراها أمامه بردها إلى أسباب خارقة للطبيعة، فيقرر أن ثمة عللا خفية تعلو على الطبيعة هي التي تسبب هطول المطر وتحدث الرعد والزلازل.[20]
الطور الميتافيزيقي أو الفلسفة: انتقل الإنسان من مرحلة التفكير اللاهوتي إلى مرحلة التفكير الميتافيزيقي، وهو في نظر كونت مجرد تعديل للطور اللاهوتي، فهما يشتركان في خصائص عديدة، والفرق بينهما أن المجرد يحل محل المشخص ويحل الاستدلال محل الخيال، أما الملاحظة فثانوية فيها جميعا، وهذا الطور يمثل الإنسانية في طور الشباب.[21]
الطور الوضعي أو العلمي: هنا تصل الإنسانية إلى دور النضج، كما يصل الفرد إلى دور الاكتمال والرجولة، وفي هذه الحالة يعدل العقل البشري عن طريقته في التفكير في الظواهر المحيطة به، فيقلع عن البحث عن الأسباب، وعن معرفة جواهر الأشياء، ويكتفي بملاحظة الظواهر ثم دراستها دراسة علمية في محاولة منه لمعرفة القوانين التي تخضع لها.
- المدرسة الوضعية المنطقية: Logical Potivism
تمثل روح الفلسفة العلمية في القرن العشرين، وتمثل الاتجاه التجريبي تمثيلا حقيقيا، قامت على مجموعة من الدعامات أهمها:
ـ الفلسفة التحليلية العلمية: فهي تحلل العبارة إلى أخرى أوضح منها، بتحليل منطقي؛ يقول كارناب[22]: "إن موضوع أبحاث مدرسة فيينا هو العلم، ويتعلق الامر هنا بتحليل المفاهيم والقضايا والبراهين والنظريات التي تلعب فيه دورا ما"[23].
ـ القضايا إما تحليلية أو تركيبية: فالتحليلية وهي قضايا العلوم الصورية (المنطق والرياضيات)، فهي تحصيل حاصل، نصل إليها استنباطا ونعرف صدقها او كذبها فقط بتحليلها تحليلا منطقيا لغويا. والتركيبية وهي قضايا العلوم التجريبية الطبيعية، فهي إذن إخبارية ذات محتوى معرفي نصل إليها باستقراء خبرة الحواس.[24]
- المدرسة الوجودية أو الأنطولوجيا:
وهي تسمية ابتدعها فيلسوف الوجود سورين كيركجارد، وهي تيار لاعقلاني في الفلسفة الحديثة، وتنقسم إلى قسمين الفلسفة الوجودية المؤمنة، والفلسفة الوجودية الملحدة (ممثلها سارتر)، وتتضمن نظرة جديدة للإنسان والعالم، تعلي من قيمة الإنسان في الوجود، وتحاول تفسير العالم المحيط به، وتقديم حلول للأزمات التي يمر بها. فهي لا تبحث في الوجود بما هو موجود كما هو شأن المدرسة الميتافيزيقية، لكنها تهتم بالوجود البشري على وجه التحديد. أما حديثهم عن باقي ضروب الوجود، فلا يكون إلا من حيث علاقته بالوجود البشري.[25]
من خلال هذا العرض الموجز لآراء بعض المذاهب الفلسفية المعاصرة لمبحث الوجود، يتضح أن اختلاف المنطلقات والتصورات، يؤدي إلى اختلاف في النتائج والأهداف، وهذا يستلزم على العقل المتكلم المعاصر رؤية واضحة وشاملة عن هذا المبحث؛ وذلك بالاطلاع على الآراء الفلسفية والنظريات حول مبحث الوجود ونقدها واختيار ما يناسب التصور الإسلامي، ثم إن هذا الاضطلاع يدفع للتساؤل حول دوافع العقل الملحد (الحسيون والتجريبيون) لإنكار الذات الإلهية؟ وهل يمكن لدليل الحدوث الذي يعتمده الأشاعرة مثلا أن يجيب عمن يختلف معه في تصور الوجود؟
ب- الإلحاد نموذج تطبيقي لتحدي واقعي أمام العقل الكلامي المعاصر
إن العقل الكلامي المعاصر أمام تحد واقعي خطير؛ أفرزه التغيير الجدري في التفكير وتساؤلاته الملازمة له، بسبب هذا الانفتاح الغير مشروط على وسائل التواصل والاتصال، ثم الإغراق في الماديات. وقد باتت الأسئلة الوجودية أكثر تداولا وإلحاحا على ما كانت عليه في الماضي خصوصا في أواسط الشباب.
ولعل موضوع الإلحاد القديم الجديد، أضحى موضوع المنصات الإعلامية والجامعية في صورة متزينة بالعلمية الحديثة، مستدلا ببراهين وأدلة ترتكز على نظريات فلسفية وأخرى فيزيائية ورياضية.
وهنا نطرح مجموعة من الأسئلة؛ ما هي الأسباب وراء هذا التفشي المهول لظاهرة الإلحاد (أو الشك الإبراهيمي)؟ أهو توهم التناقض بين العقل والنقل؟ أم هو توهم التعارض بين العلم والنقل؟ أم هو الغزو الفكري الغربي والحملات التنصيرية؟ أم تضليل الفلسفات الوضعية المعاصرة؟ أم هو أثر سلبي لعلم الكلام وما تركه من تَرِكة ضخمة خصوصا في الخلاف بين الفرق الكلامية، وجدها الملحدون مرتعا ومجالا خصبا للاستعمال؟
ليس الهدف الإجابة عن هذه الأسئلة، وإنما هو توضيح للصورة ومحاولة إيجاد تصور صحيح لها، والمتأمل للتراث الإسلامي يلاحظ هذا الاستيعاب الفطن للعقلانية المتواجدة آنذاك." ولقد تحول هذا الشك المنهجي - في التراث الإسلامي- إلى علم من العلوم التي يجب تعلمها، لأنه هو الطريق إلى تحصيل اليقين الذي تطمئن به القلوب[26]، وقد عبّر الجاحظ عن ذلك أيضا بقوله: "فاعرف مواضع الشك وحالاتها الموجبة له، لتعرف بها مواضع اليقين والحالات الموجبة له، وتعلم الشك في المشكوك فيه تعلّما، فلو لم يكن في ذلك إلا تعرّف التوقف ثم التثبت، لقد كان ذلك مما يحتاج إليه… ولم يكن يقين قط حتى كان قبله شك، ولم ينتقل أحد عن اعتقاد إلى اعتقاد غيره حتى يكون بينهما شك"[27].
ومن المحاولات الجادة المتميزة في تطوير الدرس العقدي وجعله مسايرا للإشكالات الحالية، ومعالجة الشبهات الجديدة، ما كتبه عدد من العلماء والباحثين في الدرس العقدي؛ نذكر على سبيل المثال: "قصة الإيمان بين الفلسفة والعلم والقرآن" لنديم الجسر، عبارة عن حوار مطول بين شاب متشكك في وجود الله وبين عالم شرعي، من الكتب أيضا "الفيزياء ووجود الله" لجعفر شيخ إدريس ركز على أسئلة الإلحاد العلمية، وقام بتوصيف الإلحاد في العصر الحديث ورصد أسباب انتشاره، كذلك نجد "الإسلام يتحدى" لوحيد الدين خان، يبين أحقية الدين أمام الفكر المادي الجديد عن طريق الاعتماد على نفس الأدلة التي يسلكها الفكر الإلحادي في نقد الدين وهي الاستدلال بالنظريات العلمية الحديثة، وهناك كتاب "براهين وأدلة إيمانية" لعبد الرحمن حسن حبنكة يتحدث عن طريقة القرآن في تأسيس الإيمان بوجود الله وفيه استعرض للأدلة العقلية والفلسفية الدالة على وجوده تعالى، "الله يتجلى في عصر العلم" لمجموعة من العلماء الأمريكيين، الكتاب عبارة عن ثلاثين مقالا، كتب كل مقال عالم متخصص في العلوم الحديثة، فبعضهم عالم في الفيزياء وبعضهم في علم الفلك وبعضهم في الأحياء، وقد وجه إلى كل منهم السؤال التالي: هل تعتقد في وجود الله؟ وكيف دراستك وبحوثك عليه؟
خاتمة:
من خلال ما تقدم من قول، تناولنا فيه موضوعا عقديا شائكا، نخلص إلى:
ü أن علم الكلام هدفه ومقصده هو الدفاع عن العقيدة الإسلامية ونصرتها من خلال الحجج والبراهين العقلية والنقلية.
ü أن إثبات العقائد الدينية يتطلب ملكة وعلما ولا سبيل إلى ذلك من علم الكلام فهو البوصلة إلى دفع الشبه وإبطال العقائد الفاسدة.
ü أن التجديد في آليات علم الكلام ضرورة تفرضها التحديات الفكرية المعاصرة، وعلى رأسها الإلحاد.
ü أن طبيعة الخلاف العقدي في علم الكلام، والتي تصل في بعض المباحث إلى حد التناقض، يوظفها الملاحدة في محاولة إبطال العقائد.
ü أن دراسة مناهج التفكير الخاصة بالفكر المخالف حلقة مفصلية في الدفاع عن العقيدة.
لائحة المصادر والمراجع:
- إحصاء العلوم، لأبي نصر الفارابي، تحقيق وتعليق: عثمان محمد أمين، مكتبة الخانجي، 1350هـ/1931م.
- الفرق الكلامية الإسلامية مدخل ودراسة، للدكتور عبد الفتاح المغربي، مكتبة وهبة القاهرة، ط2، 1415هـ/1995م.
- المقدمة، ابن خلدون، تحقيق: عبد الله محمد الدرويش، دار البلخي، دمشق، ط1، 2004م.
- المنقذ من الضلال، أبو حامد الغزالي، بقلم: الدكتور عبد الحليم محمود، دار الكتب الحديثة، مصر.
- المواقف في علم الكلام، عضد الدين الإيجي، عالم الكتب-بيروت.
- جامع بيان العلم وفضله، ليوسف ابن عبد البر، تحقيق: أبى الأشبال الزهيري، دار ابن الجوزي، ط1، 1414هـ/1994م.
- مدخل إلى فلسفة العلوم العقلانية المعاصرة وتطور الفكر العلمي، محمد عابد الجابري، عالم المعرفة الكويت.
- مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلم، لطاش كبري زادة، دار الكتب العلمية- بيروت، ط1، 1405هـ/1985م.
- فلسفة العلم في القرن العشرين، يمني الطريف الخولي، عالم المعرفة، الكويت 2000م.
- قصة الفلسفة من أفلاطون إلى جون ديوي، ويل ديورانت، ترجمة فتح الله المشعشع، منشورات مكتبة المعارف بيروت-لبنان، ط5، 1985
- علم الكلام المعاصر دراسة نظرية ونماذج تطبيقية، محمد هشام الحاتمي، سيليكي أخوين طنجة، ط1، 2020م.
- دورية نماء لعلوم الوحي والدراسات الإسلامية، العدد1، مراجعة كتاب "مداخلات فلسفية في الإسلام والعلمانية"، لمؤلفه سيد محمد نقيب العطاس العايب حيدر.
- وهم الإلحاد، عمرو شريف، تقديم محمد عمارة، د. ط. د. ت.
- الحيوان، الجاحظ، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1424هـ.
[1] إحصاء العلوم، لأبي نصر الفارابي، تحقيق وتعليق: عثمان محمد أمين، مكتبة الخانجي، 1350ه/1931م، ص81
[2] المواقف في علم الكلام، عضد الدين الإيجي، عالم الكتب بيروت، ص7
[3] الفرق الكلامية الإسلامية مدخل ودراسة، للدكتور عبد الفتاح المغربي، مكتبة وهبة القاهرة، ط2، 1415ه/1995م، ص11
[4] المقدمة، ابن خلدون، تحقيق: عبد الله محمد الدرويش، دار البلخي، دمشق، ط1، 2004م، ج2، ص205.
[5] انظر: المنقذ من الضلال، أبو حامد الغزالي، بقلم: الدكتور عبد الحليم محمود، دار الكتب الحديثة، مصر، ص ص122، 123
[6] المواقف للإيجي، ص7
[7] لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية، محمد بن أحمد السفاريني، الناشر: مؤسسة الخافقين ومكتبها -دمشق، ط2، 1406ه/1986م ج1، ص5 (بتصرف).
[8] الفرق الكلامية الإسلامية مدخل ودراسة، عبد الفتاح المغربي، ص57 (بتصرف).
[9] تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام، الدكتور علي أبو ريان، دار المعرفة، ط2، 1410ه/1990م، ص96
[10] الفرق الكلامية الإسلامية مدخل ودراسة، عبد الفتاح المغربي، ص99
[11] من أراد التوسع في هذا الموضوع ينظر: المنية والأمل، والمجموع في المحيط بالتكليف، للقاضي عبد الجبار. وأيضا ينظر: المنهاج في أصول الدين، لجار الله الزمخشري.
[12] الفرق الكلامية الإسلامية مدخل ودراسة، عبد الفتاح المغربي، ص ص102، 103
[13] المرجع السابق، ص104
[14] جامع بيان العلم وفضله، ليوسف ابن عبد البر، تحقيق: أبى الأشبال الزهيري، دار ابن الجوزي، ط1، 1414ه/1994م، ج1، ص938
[15] مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلم، لطاش كبري زادة، دار الكتب العلمية- بيروت، ط1، 1405ه/1985م، ج2، ص132
[16] دورية نماء لعلوم الوحي والدراسات الإسلامية، العدد1، مراجعة كتاب: "مداخلات فلسفية في الإسلام والعلمانية" لمؤلفه سيد محمد نقيب العطاس العايب حيدر، ص436
[17] تسمى الفلسفة الأولى، من أهم وأول الأطروحات الفلسفية التي تحاول تفسير ووصف الطبيعة الأولى للأشياء، أي أصل تكوينها ومبدأ نشأتها، وخصائصها الأولية، وهو فرع فلسفي يهتم بالقضايا الوجودية.
[18] علم الكلام المعاصر دراسة نظرية ونماذج تطبيقية، محمد هشام الحاتمي، سيليكي أخوين طنجة، ط1، 2020م، ص215
[19] فيلسوف فرنسي، من أهم مؤلفاته "دروس الفلسفة الوضعية"، تقوم فلسفته على إنكار جميع الديانات.
[20] قصة الفلسفة من أفلاطون إلى جون ديوي، ويل ديورانت، ترجمة فتح الله المشعشع، منشورات مكتبة المعارف -بيروت- لبنان، ط5، 1985م، ص454
[21] تيارات الفكر الفلسفي من القرون الوسطى حتى العصر الحديث، أندريه كريسون، ترجمة نهاد رضا، منشورات بحر المتوسط، بيروت-باريس، 1961م، ط2، ص320
[22] فيلسوف ومنطقي ألماني {1891م_1970م}، من بين مؤسسي الفلسفة الوضعية المنطقية ضمن جماعة يطلق عليهم: "جماعة فيينا".
[23] انظر: مدخل إلى فلسفة العلوم العقلانية المعاصرة وتطور الفكر العلمي، محمد عابد الجابري، عالم المعرفة، الكويت ص28 {بتصرف}.
[24] فلسفة العلم في القرن العشرين، يمني الطريف الخولي، عالم المعرفة الكويت، 2000م، ص ص286-287
[25] علم الكلام المعاصر، دراسة نظرية ونماذج تطبيقية، محمد هشام الحاتمي، ص270
[26] انظر: وهم الإلحاد، عمرو شريف، تقديم محمد عمارة، ص6
[27] عمرو بن بحر أبو عثمان، الشهير بالجاحظ، الحيوان، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، ج6، ص335 { بتصرف }.