على خلفية وفاة العالم الفيزيائي ستيفن هوكينغ أين العرب؟ ولماذا تهاجرُ كفاءاتهم العلميّة؟!
فئة : مقالات
على خلفية وفاة العالم الفيزيائي ستيفن هوكينغ
أين العرب؟ ولماذا تهاجرُ كفاءاتهم العلميّة؟![1]
توفّي منذ فترة قصيرة عالمُ الفيزياء الكونيّة البريطاني د. "ستيفن هوكينغ"، وقد أثار موتُه كثيراً من النقاش والجدل على صفحات المجلات ومختلف منصات التفاعل والتواصل الاجتماعية خاصةً العربية منها. ولم يكن هذا الانشغالُ منطلقاً من دوافع البحث عن أسباب تقدّم الغرب، وتأخرنا نحن العرب، خاصّة في مثل هذه التخصصات العلمية الرفيعة، بل لاحظنا أنّ الجدل اقتصرَ حول ماهية انتمائه الفكري "الإلحادي"، وقياس درجة ومدى "كفره" أو "إيمانه". وتساجلَ الناس حول دخوله الجنة أم النّار..!!!.. في قضيةٍ ميتافيزيقية غير عقلية، لا علاقة لأحد بها، بل هي من مختصات الإله لقوله: "اللهُ يفصلُ بينَهم يومَ القيامة".
في هذا المقال، نسلّط الضّوءَ على ما يتعلق بهذا الموضوع على صعيدنا العربي، حيث ما زال العقل العربي عموماً خاضعاً للعاطفة والتفكير الرغبوي، وفي حالة الاسترخاء العاطفي والكسل العملي على مستوى العلم والبحث العلمي بشكل خاص، مع تحليل لأسباب عدم وجود نهضة علمية عربية وهجرة العقول والكفاءات العربية إلى الخارج، وعدم استثمارها في داخل بلداننا على نحو يسمح ببناء بيئة علمية ومعرفية يمكن أن تولّد أمثال هذا العالم العظيم، ليكون المطلوب دراسة أسباب انحطاط العرب، والبحث عن كيفية نهوضهم العلمي والتقني، وليس التّلهي العاطفي بتحليل مدى قناعة "هوكينغ" بفكرة الخلق الدينية، وقياس درجة إيمانه من كفره..!!؟
في الواقع، لا يوجدُ بلدٌ عربيٌّ إلا ويعاني معاناة شديدة من التأخر العلمي، وهجرة كثير من عقوله وكفاءاته العلميّة إلى الخارج، إمّا للدّراسة والتّحصيل العلمي العالي، أو للعملِ في مختلفِ حقولِ البحثِ العلمي المتعدد والمتنوع من الطّب والهندسة والفيزياء وعلوم الذرة وغيرها... وقد ارتفعت نسب ومعدلات وأرقام المهاجرين (والمهجّرين) إلى الخارج (باتجاه عالم الغرب بالذات) من كل الشرائح والمستويات الاجتماعية والعلمية بالذات خلال العقدين الأخيرين نتيجة لاستمرار الصراعات والحروب الأهلية (وغير الأهلية) الدامية التي اشتعلت في كثير من بلداننا العربية، حيث انعدمت مناخات الحياة الطبيعية وتربة العلم والبحث العلمي، واقتصرَ اهتمام الناس وسعيهم اليومي على تأمين لقمة العيش فحسب..!!
وتقول الإحصائيات، إنّ أكثر من ثلث الكفاءات العلميّة انتقلَت من إفريقيا إلى أوروبا في عقد الثمانينيات من القرن الماضي، وأنّ كندا والولايات المتحدة هما من أكثر الدول انفتاحاً وقبولاً واستيعاباً لتلك العقول والكفاءات العربية المهاجرة، وقد قبلتا خلال الفترة الواقعة ما بين عامي 1960 و1990 أكثر من مليون مهاجر مهني وفني من مختلف الدول النامية ومنها دولنا وبلداننا العربية التي تعجّ ولا شك بآلاف مؤلّفة من المبدعين والمخترعين والمكتشفين والعقول النيّرة.
وإذا ما حاولنا إعطاء إحصائيات أكثر دقة عن موضوع هجرة العقول العربية للخارج، فإننا سنجد صعوبة بالغة بسبب عدم قيام أية دولة عربية بواجبها على هذا الصعيد، ولكن بالعودة إلى ما سجله أنطوان زحلان (وهو بالمناسبة من أهم وأبرز المتابعين والموثقين لموضوع هجرة الكفاءات العربية منذ ستينيات القرن الماضي) يمكن القول إنّ أكثر من حوالي 70 ألفاً من أصل 300 ألف من حملة البكالوريوس والماجستير من العرب في العام 1995/1996 قد هاجروا، وأنّ عدد المهاجرين من الأطباء العرب عام 2000 فقط بلغ نحو 16 ألفاً.[2]
ووفق زحلان، يبلغ عدد حملة الدكتوراه العرب في الخارج 150 ألفاً؛ أي ما يعادل ربع حملة الدكتوراه في الولايات المتحدة وثلاثة أرباع حملة الدكتوراه من العرب. أما أصحاب المهن الطبيّة الذين هاجروا إلى أوروبا، فقد فاقوا الـ15 ألفاً في الفترة بين عامي 1999 و2001.
وإذا أخذنا في الاعتبار عدد الطلاّب العرب الذين يدرسون في الخارج، والذين لا يعودون إلى أوطانهم في الغالب، لأمكننا تقدير الحجم الكبير لهجرة الكفاءات العربيّة، ففي 1996 كان 179 ألف طالب عربي يتابعون دراستهم العليا في الخارج.
وعلى صعيد ترتيب الأقطار العربيّة، تتصدر مصر وبعدها لبنان وفلسطين والأردن البلدان الأكثر تصديراً للكفاءات العلميّة، ووفق بعض المعلومات المتداولة، فإن أكثر من مليون وربع مليون عالم عربي موجودون في الخارج، بينهم 800 ألف مصري... كما أن هناك أكثر من 42 عالمٍ مصري فى وظيفة رئيس جامعة، إلى جانب وزير بحث علمى، وكذلك يوجد 3 آلاف عالم مصرى فى أمريكا من جميع التخصصات.
وتشير تقارير أصدرتها كل من جامعة الدول العربية ومؤسسة العمل العربية والأمم المتحدة (عبر تقارير التنمية الإنسانية العربية)، إلى وقائع وأرقام محزنة حول هجرة العقول العربية إلى الخارج. وتشدد هذه التقارير على كون المجتمعات العربية باتت بيئة طاردة للكفاءات العلمية.
وقد وصلت خسائر الدول العربية من جراء هجرة العقول العربية إلى حوالى مائتي مليار دولار (وفق تقرير منظمة العمل العربية لعام 2006)[3]، لتصبح هجرة الكفاءات من أهم العوامل المؤثرة في الاقتصاد العربي، في وقت تحتاج فيه التنمية العربية لمثل هذه العقول في مجالات الاقتصاد والتعليم والصحة والتخطيط والبحث العلمي، خصوصا أن أفضل العناصر البشرية هي التي تهاجر، إما لأنها قادرة على الهجرة أو لأن الطلب عليها في الخارج كبير مما يؤكد أنها عناصر جيدة إن لم تكن نادرة.
وبحسب دراسات أخرى للجامعة العربية، فإنه يهاجر حوالى مئة ألف من أرباب المهن وعلى رأسهم العلماء والمهندسون والأطباء والخبراء كل عام من ثمانية أقطار عربية هي لبنان وسوريا والعراق والأردن ومصر وتونس والمغرب والجزائر، كما أن ما نسبته حوالي: 54% من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون إلى بلدانهم، ولدرجة أن الأطباء العرب يمثلون 34% من إجمالي عدد الأطباء في بريطانيا، كما تشير هذه الدراسات إلى أن 20% من خريجي الجامعات العربية يهاجرون إلى الخارج، وحوالي 60% ممن درسوا في الولايات المتحدة خلال الثلاثين عاماً الأخيرة لم يعودوا إلى بلدانهم، و50% ممن درسوا في فرنسا لم يعودوا أيضاً الى بلدانهم.[4]
وبحسب هذه الدراسات أيضاً، فإن الوطن العربي يساهم بنحو 31% من الكفاءات والعقول المهاجرة من الدول النامية ككل، كما أن نحو 50% من الأطباء و23% من المهندسين و15% من العلماء من مجموع الكفاءات العربية يهاجرون إلى أوروبا والولايات المتحدة وكندا، و75% من الكفاءات العلمية العربية مهاجرة إلى ثلاث دول تحديداً هي بريطانيا وأمريكا وكندا.[5]
وتشكل هجرة الكفاءات العربية ما نسبته 31 في المئة مما يصيب الدول النامية، كما أن هناك أكثر من مليون خبير واختصاصي عربي من حملة الشهادات العليا أو من الفنيين المهرة هاجروا إلى الخارج، وهم يعملون في الدول المتقدمة، حيث تضم أمريكا وأوروبا أكثر من 450 ألف عربي من حملة الشهادات العليا وفق تقرير مؤسسة العمل العربية.[6]
من هنا يمكن القول من دون مبالغة، أن تسرب العقول المبدعة في الدول المتخلفة من الناحية السياسية والاقتصادية، ومنها دولنا العربية، هو أكبر تحدّ تواجهه تلك الدول التي لم تضع قدمها بعد على طريق التطور العلمي على صورته الصحيحة التي تبدأ منذ المراحل الأولى للدراسة، عندما يدخل التلميذ إلى مقاعد دراسته الابتدائية (تعليمه الأساسي) ليجد المدرسة والسكن المدرسي الصحي الملائم، والمنهاج المناسب والمعلم الخبير، مروراً بالدراسة المتوسطة والثانوية، وصولاً إلى مراحل الدراسة الجامعية.
ولا شك في أنّ ضغوطات الواقع الدّاخلي الذي تعيشه تلك الفئات العلمية، المتمثلة في أزمات مجتمعاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية المستمرة، إضافة إلى عدم توفّر قاعدة علمية بحثية صحيحة في بلدانها مع وجود مغريات مادية خارجية، كله يشكل دافعاً ومحرضاً قوياً لديها للهجرة والعمل خارج أوطانها، حيث يمكن أنْ تهيئ لها الأجواء والمناخات المادية والشروط العلمية الملائمة لتفتق مواهبها وإبداعاتها الذاتية التي عجزت ظروف بلادها - من تخلف وتبعية واستبداد سياسي - عن تأمين متطلبات وشروط نجاحها وتألقها وإبداعها.
ويمكن أن نضرب هنا مثلاً واضحاً على أهمية وحيوية ما يمكن أن تفعله الظروف المحيطة بالإنسان في توسيع مداركه وتفتح عبقرياته وانبثاق إبداعاته، وهو العالم المصري الراحل "أحمد زويل" الذي حاز على جائزة نوبل في الكيمياء الحيوية منذ عدة سنوات... فقد عاش هذا العالم الكبير معظم حياته المهنية العلمية في جامعات الولايات المتحدة منذ عقد الستينيات من القرن الماضي، عندما كان طالباً في مراحله الجامعية الأولى.. والمناخ السائد هناك هو مناخ البحث العلمي الحقيقي الذي يترك فيه الطالب مع أستاذه المشرف عليه، ليبحث ويتعلم ويجرب ويتقصّى ويحلّل ويستنتج مع وجود ميزانية مادية كبيرة متاحة أمامه للوصول إلى ما يمكن الوصول إليه من رؤى وأفكار ونظريات وحقائق علمية.. ولو أنّ هذا العالِم بقي هنا في بلده مصر، لما تمكن من الوصول إلى ما توصّل إليه من مكتشفات واختراعات تركّزت بمجملها على علم النانو أو البايوتكنولوجي التي سجلت باسمه بأحرف من نور.
وإذا كان من الطبيعي والمعروف جدّاً أن تتأثر بلداننا العربية بهجرة عقولها المبدعة إلى الخارج، على مستوى الإبقاء على تخلفها وبؤسها العلمي المتفاقم (وتراجع مستويات حقول المعرفة وإضعاف الفكر العلمي والعقلاني)، فإن من غير المنطقي أن يتم تحميل هؤلاء المهاجرين المبدعين مسؤولية هذا التخلف أو حتى جزءاً بسيطاً منه، لأن هؤلاء ليسوا في موقع القيادة والتخطيط لبلدانهم، ولم تتح للكثيرين منهم فرص ومناخات العمل العلمي الصحيح في داخل بلدانهم، وأساساً لا تتوافر أية ركائز علمية بحثية ذات قيمة فيها، فضلاً عن أنّ جل اهتمام مسؤولي بلدانهم ونخبها السياسية ليس منصباً على العلم والمعرفة العلمية ومحاولة تطوير مجتمعاتهم وإيجاد موطئ قدم فعال لها على المستوى العالمي، بمقدار ما هو منصب ومتركز على السلطة والحكم وديمومة الكراسي للأسف..
وإذا كانَ من الضّروري التّذكير هنا بأنّ كثيراً من البلدان العربية تُرسل طلاباً على شكل بعثات دراسية علمية إلى كثير من الجامعات المرموقة والمعروفة دولياً بهدف تحقيق مزيد من التأهيل العلمي العالي الصحيح، فلابد من أن نوضح بأن كثيراً من هؤلاء العائدين من الخارج يوضعون ويسمون في وظائف ومراكز حكومية لا تتناسب أساساً مع طبيعة تأهيلهم ودراستهم العلمية التي درسوها وابتعثوا من أجلها للخارج، وتكلفت الدولة من أجلها الكثير من الوقت والجهد والمال.
وبناءً على الأرقام والإحصائيات السابقة التي توثق حالة التّرهل العلمي العربي، واستمرار خروج (فرار) العقول العلمية من بلدانها الأصلية العربية إلى الخارج (خارج بلدانها إلى بلدان عربية أخرى مجاورة لها قد تجد فيها بعض المواقع العلمية المتقدمة للعمل والبحث، أو الهجرة إلى خارج الدول العربية إلى أوروبا أو أمريكا للعمل والبحث وزيادة التأهيل العلمي، حيث تكون موضع ترحيب واستيعاب من قبل جامعات الغرب)، بقيت أسئلة إشكالية، نطرحها ونحاول البحث عن إجابات منطقية وعقلانية وواقعية لها:
لماذا هذا الإصرار الموجود لدى العقول والكفاءات العلمية العربية لمغادرة بلدانها وعدم العمل فيها؟ ثم ما هي الأجواء والمناخات الملائمة المطلوب تأمينها على كل المستويات والأصعدة كي تبقى تلك العقول في داخل بلدانها تعمل وتبحث وتطور... أي كيف يمكن للدول العربية الحد من هذه الظاهرة، واستغلال مواردها البشرية من ذوي الكفاءة في تحقيق أهداف التنمية؟ وهل مجتمعاتنا العربية مؤهلة أساساً لتأمين ظروف عمل وبحث علمي حقيق لتلك العقول المبدعة؟!! وما الآثار والتداعيات السلبية التي تنطوي عليها ظاهرة هجرة الكفاءات والعلماء العرب؟
أسئلة كثيرة ولا شك يمكن تسجيلها حول واقع العقول العربية المهاجرة، وأسباب هجرتها، لأن طبيعة هذا الموضوع مرتبطة في العمق بأزمة التخلف العربي ككل، ويظهر لنا أن مشهد العقول العلمية المهاجرة هو جزء بسيط من الصورة الإجمالية الكلية لأزمة مشروع الاستنهاض العربي، وحالة الإخفاق الكبير الذي وصل إليه ككل، والذي لم تتمكن كل نخبه وكفاءاته وعقوله من الإجابة العملية - وليس النظرية فقط - على السؤال النهضوي الإشكالي الكبير المطروح منذ أكثر من قرن من الزمان: لماذا تقدم الغرب وتخلف العرب؟
إننا نعتقد أن تشخيص أسباب المرض، وتحديده في بنيته الذاتية، هو بداية وضع العلاج الناجع والملائم له، وإن البحث والتقصي في جملة الأسباب الطاردة للكفاءات العلمية العربية - كمرض علمي عربي مزمن - ليس صعب التحقق والمنال..
وإذْ تتعدد تلك الأسباب وتتراكب تأثيراتها السلبية التي تدفع الأدمغة العربية إلى الهجرة وترك أوطانها الأم، فلا بد من أن نركز الحديث هنا حول أهمها وأجلاها وأكثرها وضوحاً، وهو العامل السياسي، حيث إن غالبية المجتمعات العربية محكومة بنظم سياسية قمعية قائمة على قاعدة الغلبة والتسلط والاستخدام العاري للقوة، وبالتالي هي تعيش (وتعتاش) على مناخ العنف والتوتر والتناقض بعيداً عن التوافق والمشاركة والقيم الديمقراطية المدنية، مما يسبب لشعوبها على الدوام مشاكل وأزمات واضطرابات سياسية لها أكلاف وأثمان باهظة مادية ومعنوية راهنة ومستقبلية، تطاول - بنتائجها السلبية - حياة مستقبل الأجيال اللاحقة ومختلف مواقع العلم والعلماء، التي تحتاج إلى بيئة حاضنة للإبداع العلمي وجاذبة للعقول المبدعة، لها شروطها من حرية واستقرار وميزانيات بحث علمي ضخمة تمكّن أولئك الباحثين من العمل الإبداعي والمنتج.
أما ما هو قائم في تلك البلدان، فهو على العكس تماماً.. إذ لا يكاد يخلو بلد عربي من حالة اللا استقرار السياسي والاجتماعي، الذي تنعدم فيه شروط النهوض العقلي والعلمي.. هذا ما نشاهده اليوم على مصراعيه في حالة الحروب الأهلية المتنقلة والمستمرة في بلداننا، أو حتى تلك القائمة تحت الرماد بسبب التوترات والنزعات والاستحكامات الطائفية والعشائرية.
ويضاف إلى ذلك أن طبيعة الثقافة السائدة والمهيمنة في عوالمنا العربية، اتباعية اتكالية تلقينية، ذات أبعاد إطلاقية غير نسبية، تعمل بالنص والمرجعية النصية، وليس للشك واللايقين أي وجود فيها.. ومن المعلوم أن البحث العلمي يحتاج لبيئة ثقافية تتصف بالنسبية والتشكيك واللايقين العلمي، لأنه (أي العلم) قائم على التجربة والاستكشاف البحثي المادي المعتمد في جوانب كثيرة منه على الأوليات والبديهيات والقبليات العقلية.
ومن الأسباب الطاردة للعقول أيضاً، نجد هناك الأسباب الاقتصادية والاجتماعية القائمة في داخل بلداننا العربية والمتعلقة بانعدام تكافؤ الفرص، وعدم وجود الفرص العملية التي تناسب عمل هؤلاء المبدعون كما ذكرنا آنفاً.. وعلى هذا المستوى، لا نجد أن بلداننا العربية مهجوسة بهذا الجانب، وهو أصلاً ليس موجوداً على أجندتها أو على سلم أولوياتها.. كما أنها ليست معنية بالإفادة من مجمل الاختصاصات العلمية خاصةً على صعيد إيجاد أو تأمين مجالات عمل لأصحابها، مما يجعل من هؤلاء الخريجين الجامعيين أنفسهم ضحايا البطالة خاصةً المقنعة منها (أعني بها أن يعمل المرء في مؤسسة ما ويأخذ راتباً، ولكن بغير اختصاصه وتأهيله العلمي الذي اختص به)[7]. ويزداد الأمر تعقيداً هنا، عندما يرى هؤلاء الجامعيون بأمّ أعينهم كيف تستعين دولهم ومؤسساتهم بخبراء أجانب يدفعون عليهم الكثير من المال، بينما هم مهمّشون ومستبعَدون ومغيبون ولا أحد يفكر بهم.. كما يرون ويعاينون على الأرض ضعف وترهل مؤسساتهم العلمية البحثية وعدم توظيفها في خدمة المجتمع ككل، مع انعدام الإدارة الفاعلة ذات الكفاءة والنوعية والتدريب الكافي.
ويضاف إلى العوامل الاقتصادية أيضاً إلحاق العلماء بأعمال لا تتلاءم مع خبراتهم وتخصصاتهم، وتفشى الإجراءات الروتينية فى أعمالهم، بالإضافة إلى الاعتماد المكثف على الخبرات الفنية والتقنيات الغربية على حساب الكفاءات الوطنية.
وهذا كله ما يدفع العقول والكفاءات العربية للإسراع في اتخاذ قرار الرحيل والهجرة، والبحث عن مواقع عمل أخرى تناسب مؤهلاتهم في بلدان أخرى.. حتى لو كان لقرارهم هذا الكثير من الآثار السلبية على مستقبل العلم والإنتاج العلمي والمعرفي في بلدانهم ومجتمعاتهم.
من هنا نحن نعتقد أنَّ تصدي العرب لمشكلة هجرة الكفاءات ومحاولتهم استعادة الأدمغة المهاجرة رهين بالعنوان الأولي لمدى قدرتهم على الانخراط الجدي في مشروعهم النهضوي العقلاني التقدمي القائم على الحرية والعدالة والديمقراطية والتعددية السياسية... أي هو رهين بإيجاد قاعدة سياسية واجتماعية صلبة يمكن لها أن تشكل بيئة جاذبة لتلك العقول والكفاءات الكبيرة.
وفي ظنّي أن أولى هذه التغييرات الكمية والنوعية المطلوب العمل عليها لتشكّل بيئة حاضنة للعلم والعلماء والكفاءات والعقول النيرة، وقابلة أن ينشأ فيها علماء كباراً بالمستوى اللامع والتأهيل العلمي المميز لستيفن هوكينغ (وغيره من العلماء الكبار الذين خدموا مسيرة الإنسانية)، هي في إجراء تغييرات ثقافية وسياسية في داخل بنية مجتمعاتنا، وهي تتمثل - كما نؤكد ونشير دوماً - في إعادة السياسة إلى حضن المجتمع، ومواجهة عقول الاستبداد والطغيان.. والاشتغال النقدي المعرفي الفاعل والمتواصل على ثقافتنا العربية والإسلامية التقليدية التي تعاني من الانغلاق على الذات والتقوقع على نصوص متخشبة، والخوف من الآخر... وهذه الإشكاليات والأمراض التي تعاني منها ثقافتنا تشكل أكبر عائق أمام إطلاق حريّة الفكر والإبداع، والاستثمار الفاعل للعقول والقامات العقلية الكبيرة والكثيرة في عالمنا العربي. ولكن هذا كله مرهون للبيئة (الاجتماعية والسياسية) القائمة والمحيطة بأنشطة العلم ومواقع البحث العلمي في إطارها الأشمل والأعم، فهذا له التأثير الأعمق من تأثير البيئة الحاضنة له بشكل مباشر فقط؛ أي أن مجمل الأجواء المجتمعية تترك بصماتها، سواء بالسلب أو الإيجاب، على فرص انطلاق أنشطة البحث العلمي وما يتصل بها بالضرورة من أنشطة التطوير التكنولوجي في هذا المجال أو ذاك. ومن هنا يأتي على سبيل المثل كأحد مكونات هذه البيئة أهمية الدور الذي تلعبه الدول والحكومات سواء كمشجع أو كمحفز، لأنشطة البحث العلمي، وكذلك على الجانب الآخر كمروج لنتائجه ومسوق لها على نطاق تجاري محلي أو إقليمي أو دولي، أو لاعتبارات تتعلق بالمصالح الوطنية لكل دولة.[8]
[1]- مجلة ذوات العدد47
[2] أنطوان زحلان، "العلم والسيادة: الآفاق والتوقعات في البلدان العربية، البحث والتطوير في البلدان العربية"، مجلة المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، العدد: 384، تاريخ النشر: شباط 2011م، ص: 18 وما بعدها.
[3] رابط التقرير:
http://alolabor.org/wp-content/uploads/2015/01/Report_Operation_And_Unemployment_Nu_01_Summary.pdf
[4] مذكرة الأمانة العامة حول جوهر الأدمغة العربية وضع سياسة واضحة لاستيعاب الكفاءات العربية والحد من هجرتها إلى الخارج، الاتحاد البرلماني العربي، مجلة البرلمان العربي، العام الثانى والعشرون، العدد: 82، ديسمبر/كانون الأول 2001
http://www.arab-ipu.org/publications/journal/v82/memobrain.html
[5] إبراهيم قويدر، فقدان المواهب لصالح بلدان أخرى (وقف هجرة العقول العربية)، 2004م، نسخة إلكترونية على الرابط:
http://www.dribrahimguider.com/articles/sf0_1233056753.doc
[6] نادر فرجاني، هجرة الكفاءات من الوطن العربي في منظور استراتيجية لتطوير التعليم العالي، مصر: مركز المشكاة للبحث، نسخة إلكترونية على الرابط:
http://www.mafhoum.com/press2/79S24.htm
[7] تؤكد التقارير الصادرة عن منظمة العمل العربية أن نسبة البطالة فى العالم العربى تجاوزت 14%، مع قلة العائد المادي لمختلف الكفاءات العلمية والفنية، وقلة حجم الانفاق على البحث العلمى فى الدول العربية، ويكفي الإشارة إلى تقرير منظمة اليونسكو عام 2010، والذي أكد أن حجم الإنفاق على البحث العلمي في العالم العربي هو الأقل في العالم. ففي الدول العربية الإفريقية وصل ما بين 0.3% و4% خلال السنوات ما بين 2002 و2007 من جملة الناتج القومي، بينما وصل الإنفاق في الدول العربية الآسيوية 0.1% في الفترة نفسها، فيما بلغ الإنفاق العالمي في دولة مثل إسرائيل ما بين 4,6 و4,8% عام 2006. (راجع: عادل عبد الغفار، الإعلام وتفعيل المشاركة المجتمعية للشباب فى الدول العربية، بحث مقدم إلى مؤتمر الإعلام وتفعيل المشاركة المجتمعية للشباب العرب، القاهرة، يونيو 2009، المنتدى العربي الإعلامي للبيئة والتنمية، 2009).
[8] وليد محمود عبد الناصر، وفاة ستيفن هوكينغ... وأهمية البحث العلمي، صحيفة الحياة، تاريخ: 23 /3/ 2018، الرابط:
http://www.alhayat.com/Opinion/Writers/28211190