علي الربيعي: في التوظيف السياسي للطائفية
فئة : حوارات
قال الدكتور علي الربيعي، إن ما يمر به العالم العربي من تمزق وتناحر لا يمكن أن يعاد إلى سبب واحد مثل الطائفية، بل إنه عائد إلى "غياب الرؤية الاستراتيجية، وفشل التحديث المستعجل، وإلى الخيبة الناتجة عن انهيار مشاريع التنمية، وإفلاس الدولة ما بعد الاستعمار، والمصير المتعثر للحداثة والعلمانية".
وأكد الدكتور الربيعي، في حوار خص به "ذوات"، أن ما يحصل اليوم في العالم العربي من توظيف للظاهرة الطائفية ليست له سابقة في التاريخ على الإطلاق، رغم إقراره بوجود طوائف ومذاهب دينية كان الصراع بينها ينتهي في زمانه ومكانه، عكس ما نراه اليوم من "مأسسة" لهذا الصراع وتسييس الهوية الطائفية التي أصبحت لها "تشكيلات سياسية، وتنظيمات حزبية، وقوات مسلحة، وموارد مادية، ودورة اقتصادية".
هذا، وأشار الدكتور الربيعي إلى أثر الضغوطات الخارجية واستراتيجيات الهيمنة من قبل القوى الغربية، التي تتخذ شكلاً مباشراً حينا وشكلاً غير مباشر أحياناً أخرى. وأوضح أن ما يتطلب لقيام دولة مستقرة هو "تعزيز المواطنة في دولة حديثة ذات أطر سياسية حديثة، وأطر قانونية مجردة من الصياغات ذات المنحى الفئوي".
وبين الدكتور الربيعي أن قيام الدولة العربية الحديثة قد واجه تحديات كبرى منها قيامها على "جهاز بيروقراطي ضخم غير منتج" و"جهاز أمني ضارب للحفاظ على مركزية السلطة ونظام الحكم القائم". غير أن فشل قيام الدولة وتفككها في أكثر من بلد عربي، في نظره، لا يعني استحالة قيامها الذي ينبني على "المطلوب مشروع مختلف لبناء دولة جديدة، بعقد اجتماعي جديد، بإعادة الاعتبار لدور الدولة" على حد تعبيره.
وأعاد الدكتور الربيعي الطائفية إلى "ضروب الفشل والهزائم الداخلية والخارجية التي مُنيًت بها الدولة العربية" مضيفاً أنها عائدة أيضاً إلى "الصراعات الدنيوية السياسية"، وإن التغلب عليها يقتضي "إعادة صياغة الهوية الوطنية وفق سياسات مخططة تتم ممارستها بشكل عقلاني تدريجي ابتداء من ملء الوعي بثقافة المواطنة إلى بناء الدولة الحديثة بينيتها المؤسسية المحكومة بوسائط قانونية".
وأضاف الربيعي أن الصراعات الطائفية تقف مانعاً حقيقياً أمام مشاريع التنمية وتدمر السلم الأهلي في البلاد العربية مشيراً إلى أنها تقتضي "إنجاز سياسات لتذويب الصراعات في إطار اجتماع سياسي يمنح فرصة للأفراد أن يعيشوا هويتهم الفردية، وفي الوقت نفسه فرصة مشاركة الآخرين، المشاركة السياسية مع الآخرين"، على حد قوله.
كما اشترط الدكتور الربيعي الفصل بين الدين والدولة والاعتراف بالتعددية، وهي "نهج في الممارسة السياسية يقوم على قاعدة أنّ الحق ليس حكراً على جماعة بعينها، ويقدم السبل لتنظيم المنافسة السياسية"، مؤكداً أنه "يمكن للفرد مثلاً أن يبقى سنياً أو شيعياً، وعراقياً وعربياً في الوقت ذاته؛ وهناك مثال بالغ الدلالة في هذا السياق، سياق العيش المشترك مع تعدد الولاءات، وهو المثال الهندي".
وقال الدكتور الربيعي، إن إمكانية تجاوز مشكلات الماضي تستلزم إصلاحاً دينياً و"وتفكيك المتبنيات الأصولية وفقهها الطوائفي القروسطي ولاهوتها السياسي"، بالإضافة إلى السعي نحو تكوين الدولة/الأمة وقيمها الحديثة. وشدد على دور الثقافة في التأثير في صيرورة المجتمع وصنع حركة تاريخه.
والدكتور علي الربيعي أستاذ جامعي مختص في الفلسفة السياسية والفكر السياسي الإسلامي في جامعة "ابيردين" ببريطانيا. باحث في جامعة "ابيردين" وجامعة "كوينز ميري"، ومستشار في مؤسسة آل مكتوم للدراسات / جامعة "دندي". عضو الجمعية الفلسفية العربية – القاهرة. له كتابات منشورة بالصحف العربية (مثل الحياة، والقدس العربي، والزمان)، والمجلات العربية (مثل المستقبل العربي) الصادرة في لندن وبيروت. أصدر مجلة "التعددية" (مجلة غير دورية). شارك في مؤتمرات وندوات فكرية في العالم العربي، مثل المؤتمرات التي نظمتها الجمعية الفلسفية العربية، ومركز دراسات الأهرام، ومركز الجزيرة للدراسات – الدوحة. كما نظم العديد من الندوات والمؤتمرات السياسية والفكرية في بريطانيا، مثل: مؤتمر حول إشكالية السلطة في الفكر العربي الإسلامي، وفصل المقال في العلاقة بين الإسلام والغرب.
عيسى جابلي: يعيش العالم العربي اليوم حالة من الاقتتال الطائفي عناوينها الأبرز: التذبيح، التفجير، الانتقام، الحقد، الكراهية. هل يمكن الاكتفاء بالظاهرة الطائفية وحدها لتفسير هذه الحالة؟
الدكتور علي الربيعي: طبعاً، إن ما يمر العالم العربي من مختلف أشكال التعصب في هذه الظرفية التاريخية المعقدة اجتماعياً وسياسياً، لا يمكن أن يُعزى إلى سبب وحيد على طريقة التحليلات الأيديولوجية الواحدية التبسيطية. إنه يعود إلى أسباب عديدة، وأزمة عميقة، وانهيار تاريخي مـديد منذ عقود. فمن أسباب انبعاث هذه الظاهرة ما يعود إلى غياب الرؤية الاستراتيجية، وفشل التحديث المستعجل، وإلى الخيبة الناتجة عن انهيار مشاريع التنمية، وإفلاس الدولة ما بعد الاستعمار، والمصير المتعثر للحداثة والعلمانية. بالإضافة إلى غياب الأطر الفكرية، والوسائط المؤسساتية لعلاقة الدين بالدولة، فظلت العلاقة ملتبسة، ولم يتم بناء الدولة/الأمة بالمعنى الحديث لها، بعيداً عن مواريث "الدولة السلطانية"، والانقلاب على مشروع الإصلاح الإسلامي منذ مراحله الأولى في القرن التاسع عشر. كذلك ظلت العلاقات الحاكمة السياسية في الدولة العربية "الحديثة" علاقات العقلية القبلية، وقاعها السوسيولوجي المتجلية راهناً في صورها الطوائفية. هذا باختصار شديد جداً ما يُعد أسباباً جوهرية لتفسير هذه الظاهرة المجتمعية.
عيسى جابلي: لو أردنا الاستعانة بالدرس التاريخي، هل نجد سابقة أو سوابق لما يعيشه العالم العربي اليوم من تمزق وتناحر؟
الدكتور علي الربيعي: أريد أن أشير إلى أن التوظيف السياسي للطائفية بالطريقة التي تجري اليوم هي ظاهرة جديدة كلياً، يتطلب أن نفهمها على هذا النحو دون أية أحكام مسبقة تبعا ًلقواعد التحليل السوسيولوجي، رغم الوجود القديم للطوائف والمذاهب الدينية. نعم، هناك توترات طائفية حصلت في العالم الإسلامي في القرون الماضية، ويمكن الحديث عن موجات وحقب وأزمنة وأمكنة لهذه التوترات، لكنها كانت توترات مجتمعية توظف لغايات سياسية ظرفية؛ أي لا تتم مأسسة هذا الصراع، فهو صراع ينتهي في زمانه ومكانه حتى لو تجدد لاحقاً. فلم يتم تسييس الهوية الطائفية بهذه الصورة، إذاً أصبحت لهذه الهوية تشكيلات سياسية، وتنظيمات حزبية، وقوات مسلحة، وموارد مادية، ودورة اقتصادية. فظاهرة تسييس الهويات الطائفية ظاهرة جديدة في سياق الاجتماع السياسي في العالم العربي.
عيسى جابلي: هل تكفي نظرية "المؤامرة الخارجية" لتفسير هذه التوترات والصراعات التي تحصل في مجتمعات العالم العربي؟
الدكتور علي الربيعي: لا تكفي، وكأنك تريد القول لا تكفي أيضاً، وأتفهم بحثك عن العوامل الذاتية، الداخلية في تأثيرها في المجريات الفعلية لهذه الصراعات، لكن لا يمكن إشاحة النظر عن أثر الضغط السياسي، واستراتيجيات الهيمنة من قبل القوى الغربية، إذ تجلت بشكل احتلال مباشر، كما في العراق، أو تدخل مباشر كما في ليبيا وسوريا، أو غير مباشر كما في لبنان واليمن والصومال وتونس. ثم، لم يعد النظر إلى العامل الخارجي كعامل منعزل عن الداخل في ما يقوم به من فعل وتأثير وسياسات، فالخارج يرتبط بعلاقات مع قيادات وقوى "سياسية" من الداخل. إذ يخترق الخارج الداخل من خلال أدوات في الداخل نفسه. فمقولة "القابلية للاستعمار" لابن نبي لا تعني أن نستبعد العامل الخارجي في تأثيره، ولكن، بالمقابل، لستُ من الذين يفسرون التاريخ بسبب واحد، فما يجري له أسباب تتعلق بالحاضر والراهن فاعلة أكثر أيضاً. إنها كالفيروس الميت الذي يمكن إحياؤه حالما تتوفر البيئة المناسبة لممارسة نشاطه.
عيسى جابلي: هل يمكن أن نتحدث عن دولة في ظل تفشي الطائفية في ربوع الوطن العربي؟
الدكتور علي الربيعي: كما تعرف أستاذ عيسى، إذا كانت مسألة الدولة مسألة فكرية وسياسية مهمة، فإنها تعد مضاعفة الأهمية والتعقيد فيما يخص الدولة العربية الحديثة. ويعود ذلك لعوامل تتعلق بالسياقات التاريخية لتكوينها، ومجموع التحديات التي تواجهها، الخارجية منها متمثلة بالقوى الكولونيالية؛ بالإضافة إلى الداخلية التي تتصل بالبنيات المجتمعية التقليدية، والسياسية متمثلة بشكل السلطة وأنظمة الحكم، ومن ثم العلاقة بينهما وبين الفرد المواطن. وعليه في ظل ضعف الاستجابة لهذه التحديات، برزت ظاهرة تفككت العديد من الدول العربية.
إن ما يتطلب لقيام دولة مستقرة هو تعزيز المواطنة في دولة حديثة ذات أطر سياسية حديثة، وأطر قانونية مجردة من الصياغات ذات المنحى الفئوي. فاستمرار التكافلات العمودية وأساليب الموالاة الطوائفية يعني استمرار الفشل في بناء الدولة الحديثة، وانسداد آفاق قيام حياة سياسية سليمة وسلمية. إذ، والحالة هذه، تظل المنافسة السياسية قائمة وفقاً لتحالفات طوائفية (في أشكالها العصبوية الطائفية-الدينية، والإثنية-القبلية، والعشائرية، والمناطقية)، مما يلغي إمكانية ظهور منافسة بين متنظمات سياسية حقيقية. وفي ظل هكذا ظروف وملابسات بين السياسي والتعدد الطوائفي، لا توجد إمكانية لدمج المصالح ووضع البرامج السياسية، وبالتالي لا فاعلية لكل سياسات تشكيل الدولة/الأمة الضد النوعي للتفتت الاجتماعي إلى جماعات ملليًة ونحل متخالفة.
عيسى جابلي: هل فشلت الدولة الوطنية وتهشم حلم إقامة دولة بعد عقود طويلة من التأسيس لها نظرياً وتوفير أسبابها مادياً في رأيكم؟
الدكتور علي الربيعي: لقد واجهت قضية قيام الدولة، في أغلب البلدان العربية، مجموعة من العوائق التي شكلت عوامل عجزها عن القيام بالمهام المنوطة بها والمستحقات الواجبة عليها، ومعروف أن هذا ما لا يمكن أن يتحقق دون التهيئة المسبقة لبعض الشروط الأساسية التي لا بد من أن تبدأ أولاً من توفير المؤسسات السياسية الفاعلة والحديثة والأطر القانونية الملائمة. وباختصار بغياب الحركة الناظمة للدولة لا يمكن للأوضاع الناجمة عن هذا الغياب إلا أن تزيد من عدم المساواة والتوزيع غير العادل للموارد الوطنية، هذا إذا لم تتسبب في تفاوتات جديدة.
إن من هذه التحديات أن فشل الدولة العربية منه ما يعود إلـى ما كانت قائمة عليه من جهاز بيروقراطي ضخم غير منتج، وتم إفساده لعوامل عديدة تتعلق بشكل وسياسات نظام الحكم؛ وكذلك على جهاز أمني ضارب للحفاظ على مركزية السلطة ونظام الحكم القائم. وما نتج عن هذا هو توحد كامل بين الدولة والسلطة؛ أي عدم التمييز بين الحكومة والدولة. وهذا ما أوصل الدولة إلى مأزقها النهائي.
إن الأزمة الحادة والمستمرة التي تعاني منها الدولة في العالم العربي تمزق العلاقة مع المجتمع نتيجة لتعبيرها وبشكل جلي عن المصالح الضيقة المباشرة لفئة محدودة جداً من المجتمع، حيث تقوم هذه الجماعة بتفتيت النسيج الاجتماعي لتتمكن من كل مفاصله. إذن هذه الدولة المُحتَـكرة من قبل السلطة تعمق الفوارق بين طاقمها وبين سائر المجتمع، حيث تميزت فئة محدودة تضع بين يديها مقاليد السلطة والقرار.
من جهة أخرى، إذا كانت هذه الدولة العربية قد فشلت وتفككت في أكثر من بلد عربي هذا لا يعني أن الإمكانات معدومة والآفاق مسدودة لإعادة بنائها، ولكن المطلوب مشروع مختلف لبناء دولة جديدة، بعقد اجتماعي جديد، بإعادة الاعتبار لدور الدولة، إن في مهامها "الملكية" من خلال الإمساك بالسياسة الخارجية، ومراقبة أراضي الدولة، امتياز القوة المؤسسية والعدالة؛ أو في دورها كمحرًك منظًم للاقتصاد من خلال تأمين ظروف مواتية للتنمية، والموازنة بين المصالح المتعارضة للجماعات والأفراد، ومراقبات آليات توزيع الموارد في سياق إضعاف غير الرسمية التي أنتجتها أزمة النموذج الموروث المتجدد.. وهذا المشروع بدوره - أقصد مشروع بناء الأمة وتكوين الدولة في العالم العربي - هو ما نرى فيه مشروعاً لبناء الهوية الوطنية أيضاً، عليه أن يمتلك رؤية واستراتيجية لمواجهة المصاعب الخارجية. فقد أصبحت أوضاع الدولة العربية في ظل هذه الظروف مدولةً بامتياز.
عيسى جابلي: كثيرا ما تعلن الطائفية عن نفسها تحت شعارات دينية أو عرقية، في نظركم، هل هذا كاف لتفسير أسبابها العميقة المباشرة وغير المباشرة؟
الدكتور علي الربيعي: لعلك تتفق معي في القول، إن الهوية الطائفية لم تحتل المشهد السياسي إلا نتيجة لضروب الفشل والهزائم الداخلية والخارجية التي مُنيت بها الدولة العربية. فالصراعات التي تحمل شعارات طائفية تنطلق من وضعيات تاريخية تحمل في أبعادها تراكمات وتعقيدات مسار التاريخ، بالإضافة إلى المخيلات الناتجة عنه، وما تحمله الذاكرة الدفينة الذي يتجلى بصخب في ظروف التوترات الاجتماعية، حيث كثيراً ما يتم التلاعب السياسي بالذاكرة التاريخية وبالإيمان الديني.
هذا التلاعب يكشف عن أن صراعات الهوية الطائفية لا يمكن إحالتها أو تفسيرها بوصفها تعود كلياً إلى أسباب أنثروبولوجية أو عقَدية، ولكن لها أسباب أكثر فاعلية أيضاً، دنيوية تاريخية سياسية. فرغم أن كثيراً ما يتم التذرع بقضايا الدين والمذهبية، باعتبارها من مسببات الصراع لكنها، وبقوة الواقع، في حالة المجتمعات في البلاد العربية تشكل، في الأعم الأغلب طرقاً وأشكالاً للتعبير عن الصراعات الدنيوية السياسية، لما لهذه القضايا من قدرة إقناعية للوعي الجمعي الجماهيري عند توظيفها.
إذن، أسباب الصراعات الطائفية سياسية دنيوية تُعبئ لها نزعة الولاء الجمعي العمودي الطوائفي، هذه النزعة تقف عائقاً حقيقياً في وجه إضفاء القيمة الأساسية لانتماء المواطنة والعلاقات الأفقية فيما يتصل بالمجال السياسي. فلم يتم أبداً، لا من قبل القيادات السياسية ولا الدينية، إعطاء الأولوية للطريقة الترابطية - الأفقية التي تعزز انتماء المواطنة التي يمكنها أن تقلل من الحوافز التي تكرس الهويات الخصوصية؛ إنها الطريقة التي يمكنها مساعدة الفرد على التخلص تدريجياً من هيمنة الولاء الجمعي ووصاية انتماء الهوية الخصوصية، وتمكنه من ممارسة دوره لا وفقاً لبنية تجزيئية، بل على أساس يبتغي العضوية كفرد مواطن في الدولة.
إن تحقيق ذلك يتطلب إعادة صياغة الهوية الوطنية وفق سياسات مخططة تتم ممارستها بشكل عقلاني تدريجي ابتداء من ملء الوعي بثقافة المواطنة إلى بناء الدولة الحديثة بينيتها المؤسسية المحكومة بوسائط قانونية. وأن يعي الناس بأن هناك قيماً مشتركة وأهدافاً عامة يمكنهم أن يشاركوا فيها بطريقة إيجابية، وأن يساهموا فعلياً في صياغة الأهداف والمصالح العليا، وتطبيقها في سياسات عملية، وفي الوقت نفسه، ضرورة أن يشعر الفرد بحرص الدولة على ضمان احتياجاته الأساسية بأكبر قدر ممكن.
عيسى جابلي: هل يمكن أن نتحدث عن سلم اجتماعي وسلام عالمي وتنمية شاملة في ظل هذه الصراعات الطائفية؟
الدكتور علي الربيعي: لا، تقف الصراعات الطائفية حائلاً حقيقياً أمام مشاريع التنمية بمختلف قطاعاتها؛ وهي أيضاً ما يدمر السلم الأهلي- المحلي في البلاد العربية؛ وأيضاً يمتد تأثيره ليتداخل مع قضايا السلم العالمي عندما لا يقتصر العنف المتفجر على المجتمعات العربية، بل ينتقل ليصيب بلداناً أخرى، وكذلك يأتي تهديده للسلم والتنمية في علاقته المركبة موضوعياً مع قوى الهيمنة الغربية، التي لها دور كبير في تأجيج الصراع والعنف في الدول العربية، وهذا التأجيج ثابت بنيوي في استراتيجيتها الشرق أوسطية. إذن هذا التأثير الدولي، والصراع المحلي الطوائفي يشكل تحدياً كبيراً أمام إحلال السلم، وبالتالي وبشكل طبيعي لا إمكانية لقيام تنمية، فالتنمية شرطها الاستقرار.
إن فشل الحكومات المتعاقبة في حل إشكالية الهوية التي برزت مع تكوين هذه الدولة تسبب في تفاقم هذه الإشكالية واتساعها، حتى بلغت ذروتها في التعبير عنفاً متفجراً؛ لذا يتطلب تحقيق السلم الاجتماعي لجماعات تعددية أو "مجتمع متعدد مِللياً"، يعاني من توترات طوائفية إنجاز سياسات لتذويب الصراعات في إطار اجتماع سياسي يمنح فرصة للأفراد أن يعيشوا هيوتهم الفردية، وفي الوقت نفسه فرصة مشاركة الآخرين، المشاركة السياسية مع الآخرين، فتشكيل منتظمات سياسية برؤية اجتماعية أفقية لا يتعارض مع التعددية الجماعية تلك، ولا يفترض في الوقت نفسه أصلاً مشتركاً لأفراد بوصفهم مواطنين عرقياً أو "ثقافياً" أو غيره.
عيسى جابلي: ما هي السبل الكفيلة لإدارة المجتمعات المتعددة وخلق تضامن بينها يتخطى التوترات الطائفية؟
الدكتور علي الربيعي: ابتداء، إن المجتمع المتعدد الجماعات هو مجتمع مكوًن من جماعات بشرية متنوعة، تتعايش مع بعضها البعض في إطاره، وتخضع لسلطة سياسية واحدة مشتركة، لكنها تحتفظ بخصوصيتها المميزة. وإن التعددية مصطلح له أسس نظرية فلسفية، ورؤية سياسية يُعبر عنها بوسائط مؤسساتية وقانونية تتعلق بدور الدولة ومكانة المواطنة في هذا الدور، وفي أطر ثقافية واقتصادية أيضاً.
يستلزم إدارة التعددية في أبعادها الاجتماعية والسياسية الفصل بين الدين والدولة مقدماً، والاعتراف بهذه التعددية أيضاً، يهيئ هذا الاعتراف إذن، السبل لها، باعتبارها أسلوبا في إدارة الخلاف المتبادل بين الجماعات ويسهم في حلً النزاعات، فإنكار حق التعددية هذا، أي إنكار جماعات موجودة بالفعل، لا يؤدي إلا إلى العنف. فالتعددية نهج في الممارسة السياسية يقوم على قاعدة أنّ الحق ليس حكراً على جماعة بعينها، ويقدم السبل لتنظيم المنافسة السياسية.
فالاعتراف بالتعددية المجتمعية وما يعرف في الفكر السياسي بالتعددية الثقافية يتطلب الفصل بين التعددية التي تقوم على انقسامات جماعاتية عمودية، وتلك السياسية التي تقوم على انقسامات اجتماعية أفقية، ويتطلب التفكير في إعادة تحديد المواطنة من منظور فكر سياسي حديث يمهد الأرضية لمختلف التعدديات معيارياً واجتماعياً في ما يمكنها أن تبقى معاً، وممارسة العيش المشترك.
فالمواطنة من هذا المنظور لا تنفي تعدد أشكال الولاء، إذ يمكن للفرد مثلاً أن يبقى سنياً أو شيعياً، وعراقياً وعربياً في الوقت ذاته؛ وهناك مثال بالغ الدلالة في هذا السياق، سياق العيش المشترك مع تعدد الولاءات، وهو المثال الهندي، إذ يبين أن تعدد الخصوصيات لا يتعارض ضرورة مع قيام اجتماع سياسي فيه الولاء لدولة واحدة، وعليه يمكن التأكيد بقوة أن المبادئ العالمية الشاملة كمبدأ المواطنة يمكنها أن تتعايش مع أشكال مختلفة من التعدد الاجتماعي-الثقافي.
إن إدارة التعدد، إذا ما عولجت بمنظور سياسي حديث، تمنح الفرصة لازدهار السلم الاجتماعي ولنظام ديمقراطي، لأن الديمقراطية هي وحدها التي تمدنا بإمكانية التعايش وتمنع الروابط السياسية من أن تتفكك لصالح مجموعات طوائفية. فالتعددية الاجتماعية إذا ما تم تنظيمها تحت سلطة القانون بطريقة ترسي التوازن بين التأكيد على الحقوق الخاصة والحفاظ على الحياة الجماعية سوف تكون سمة لاجتماع سياسي ديمقراطي قوي وواثق من من نفسه.
عيسى جابلي: هل يمكن تجاوز حضور مشكلات الماضي التي تترجم اليوم حروباً طائفية؟
الدكتور علي الربيعي: إن سؤالكم عن إمكان تجاوز الحاصل يتطلب أولاً الالتفات إلى المسـافة الفاصلة بين هذا الحاصل وذلك الممكن. هذه المسافة مطلوب قطعها بين الحاصل والممكن للوصول إلى عتبة إمكان فتح أفق تاريخي آخر ومختلف عما هو حاصل، لتجاوز التوترات والصراعات الطوائفية يتطلب الاشتغال على عدة مسافات في الوقت نفسه، مسافات بعيدة ومتوسطة وقريبة. البعيدة التي تتعلق بالإصلاح الديني، وتفكيك المتبنيات الأصولية وفقهها الطوائفي القروسطي ولاهوتها السياسي، والمتوسطة هي المسافة الاجتماعية التي لها صلة بالتقريب والتسامح وغيره من القيم الاجتماعية، أما القريبة فهي المسافة السياسية التي تتعلق بتكوين الدولة/الأمة وقيمها الحديثة.
عيسى جابلي: هل من دور للثقافة في ذلك؟
الدكتور علي الربيعي: نعم، إن للثقافة دوراً مؤثراً وفاعلاً في التأثير في صيرورة المجتمع وصنع حركة تاريخه، فثقافة العقل الجمعي، والنسق الثقافي، والتنشئة الاجتماعية التي يتعلم بواسطتها الفرد، كذلك شكل الثقافة ومحتواها كلها ذات تأثير جوهري في طبيعة الفعل الاجتماعي. فالثقافة بوصفها مظهراً للوعي الذي يتمثل العالم من حوله لها أثر عظيم في تكوين وجهة نظر الفرد والمجتمع. ومن هذا الموقع، لا يمكننا مناقشة الشعور الطائفي دون الالتفات إلى دور الثقافة، كما لا يمكن مقاربة قضية التحول نحو نُظم ديمقراطية للحد من الصراعات الطائفية دون الالتفات إلى أنماط تمثل المجتمعات العربية والإسلامية للحكم والسلطة.