علي الصالح مولى: في سبيل تصحيح مسار التفكير العربيّ المعاصر
فئة : حوارات
علي الصالح مولى: في سبيل تصحيح مسار التفكير العربيّ المعاصر
أنس الطريقي: التعريف بالأستاذ علي الصالح مولى
علي الصالح مولى: قبل الشروع في الإجابة، أشكر لمؤسّسة مؤمنون بلا حدود أنْ أتاحتْ لنا هذه الفرصة، كما أشكر الأستاذ أنس الطريقي على ما تفضّل به من أسئلة.
علي الصالح مُولَى باحث وجامعيّ تونسيّ في رتبة أستاذ تعليم عال بكلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بصفاقس. من خرّيجي في دار المعلّمين العليا بسوسة. مجالُ اهتمامنا الأكاديميّ قضايا الفكر العربيّ الحديث والمعاصر المعروف في الجامعة التونسيّة باختصاص الحضارة. ولنا في هذا الإطار مساهمات نحاول من خلالها أنْ نخوض في أسئلة الراهن العربيّ المركّبة والمعقّدة، وأنْ ننظر في الإمكانات والمشاريع والإجابات التي وعدتْ بها خطابات التحديث أو جرّبتْها دولة الاستقلال. وكانت الرغبة في الوقوع على العناصر البنائيّة المتحكّمة في عقليْ الحداثيّ والسياسيّ من المطالب الأساسيّة التي تُوجّه جميع ما نُقلّبُ النظر فيه. والواقع أنّ عدمَ اختراق أسيجة التخلّف السميكة بمستوياتها القيميّة والمادّيّة رغم الكمّ الهائل من الجهود المنصرفة إلى الإجابة عن سؤال القرن التاسع عشر ذاك الذي صاغه لاحقا شكيب أرسلان عنوانا لكتّيب شهير له: "لماذا تأخّر المسلمون ولماذا تقدّم غيرهم؟" كان يُغرينا دوما بالبقاء في المجال نفسه الذي انطلقنا منه أوّل ما جرّينا التفكير والكتابة. ونعمل مذّاك بكثير من العناء الممتع على بلورة معالم أفق معرفيّ نلتقي عبره بدارسين من حقول بحثيّة متنوّعة. وتحتَ هذا السقف المتواضع ولكنّه الطَّمُوح ظهر لنا من الكتب: "الهويّة سؤال الوجود والعدم: دراسة تحليليّة نقديّة لعلاقة الأنا بالآخَر" و"الدولة الوطنيّة وسؤال الشرعيّة: من عوائق الاستخلاف إلى آفاق الاختراق" و"من الإمام المعصوم إلى الفقيه الوليّ: الدينيّ والسياسيّ عند الإماميّة الاثنيْ عشريّة". ويصدر لنا في الأردن قريبا: "خطاب التمدّن العربيّ: دراسة في القضايا والآليّات والحدود". وظهرت لنا دراسات عديدة في مجلاّت محكّمة في كلّ من مصر والجزائر والمغرب ولبنان والعراق والكويت وقطر والإمارات وهولندا والسعوديّة. ونساهم أحيانا بمقالات رأي في صحف ومجلاّت عربيّة. كما نتولّى التحكيم لفائدة مجلّات جامعيّة وندوات ومؤتمرات أكاديميّة داخل تونس وخارجها. وشرّفتْنا بعض المؤسّسات البحثيّة بأنْ كنّا من بين أعضاء هيآتها العلميّة الاستشاريّة. ونشارك في المؤتمرات والملتقيات العلميّة ذات الصلة بمجال اهتمامنا. وتحصّلنا على الجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة (جائزة المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات) للعام الأكاديميّ 2015.
أنس الطريقي: حوارنا معكم يجري من منظور البحث عن مداخل تجديد الفكر العربيّ الإسلاميّ، أو بثّ الحياة فيه لتجاوز وضع العطالة الحضاريّة. في المستوى الفكريّ العامّ إلام يمكن ردّ هذه العطالة التي تتجلّى في مختلف مستويات الواقع العمليّ الثقافي، والاجتماعيّ، والسياسيّ؟
علي الصالح مولى: هذا سؤال يعسر الإجابة عنه في هذه المساحة الصغيرة. إنّه يختزل كلّ أسئلة القلق والشكّ والارتياب والحيرة بعد كلّ الجهود التي تصدّتْ للبحث عن مسالكَ للتمدّن العربيّ منذ قرنيْن من الزمان تقريبا. لماذا نعود إلى الصفر من جديد فنطرح السؤال نفسه؟ توجد مشكلة حقيقيّة إذن. ولكنْ أين؟ نُسارع فنقول استباقا: لسنا عَدَميّين حتّى نذهبَ إلى أنّ جميع الأجوبة المقترَحَةِ لم تؤدّ إلى أيّ نتيجة، وحتى نعتقد بأنّ "المجتمع العربي" (نستعمل صيغة الإفراد تجوّزا لا حقيقة) لم يعرف جملة من التحوّلات السطحيّة حينا والعميقة حينا آخَر فغادر جزئيّا أو قطاعيّا مَواقِعَه التقليديّة. لن نقول ذلك، غير أنّنا نرى أنّ المبذول من الجهد التمدينيّ لم ينجح في جعْل تلك التحوّلات انقلاباتٍ نوعيّةً في الوعي والتصوّر، ولم يُفلِحْ في جعْل تلك المغادرة مغادرةً دون عودة إلى الوضعيّات الثقافيّة التقليديّة. ولا شكّ في أنّ المتخصّصين في تاريخ الأفكار والدراسات الثقافيّة يعلمون أنّ أطوار التفكير العربيّ في التمدّن منذ القرن التاسع عشر إلى الآن لم تكن أبدا متناسلة فيطّور اللاّحق منها السابق على نحو تراكميّ في اتّجاه غايات معلومة ومفهومة. ونحن نظنّ أنّ معقوليّة هذه الأطوار كانت تنهض على إلغاء بعضها بعضا ("كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا"، الأعراف: 7/38). ولذلك كان الحصاد هزيلا.
لسنا عدَميّبن إذن، ولسنا متفائلا أيضا. وشأنُ الباحثِ ألاّ يضعَ نفسه في هذه الضفّة أو في تلك. إنّه يصف ويحلّل ويستنتج ثمّ يبني الأحكام. والعطالة التي تفضّلتم بالسؤال عنها حُكم. ولهذا الحكم (العطالة) مقدّمات وجبَ التدقيق فيها. وإنّنا نرجّح، على وجه الإجمال، أنّها كانت أوّل ما كانتْ لمّا نشأ سؤال التمدّن نشأةً مستعجلة حتّمها الآخر الأوروبّيّ وفرض نفسه منوالا. لم يكن السؤال بوعي ذاتيّ. ولم يكن الاجتهاد فيه خارج مدارات الخوف والانبهار. فجاءت الأجوبة مبتسرة وغير أصيلة في الغالب. فلا الانسحاب من فضاء الثقافة التقليديّة تحقّق، ولا الانتماء إلى العالَم الجديد أُنجِز. وهكذا نشأتْ مع نشأة السؤال والإجابة عنه فوضى عارمة في التفكير وجهةً ومنهجا ومقصدا. ويُمْكن رصد هذه الفوضى لا في تعدّد المشاريع الفكريّة وإنّما في غياب الاتّساق والانتظام داخل رؤية جامعة. فمرجِعُ العطالة إذن هو إلى حدّ بعيد غياب المقدّمات التمدينيّة القائمة على يقظة الوعي الذاتيّ من جهة، وتحديد الهدف من جهة ثانية، وتشبيك الاتّجاهات الفكريّة والإصلاحيّة من جهة ثالثة.
أنس الطريقي: لو اهتممنا بالفكر العربيّ المعاصر في أجياله المختلفة: جيل فترة النهضة بتوجّهاته العلمانيّة، والإحيائيّة (الوهابيّة، والسنوسيّة، والمهدويّة) والإصلاحيّة (الطهطاوي، وخير الدين، والأفغاني، وعبده) فجيل الفترة القوميّة (العلماني، والإسلامويّ، والتلفيقي)، فجيل نقد العقل (الجابري، والعظم، وأركون، وجدعان، والعروي..)، فهذا الجيل الذي لم يتبلور بعد بوضوح. بصرف النظر عن نسبيّة هذا التحقيب، كيف تقيّمون أداءه التجديديّ للفكر العربيّ؟
علي الصالح مولى: نميل إلى أنّ هذا التحقيب الذي تفضّلتم بعَرْضِه مهمّ جدّا منهجيّا ومدرسيّا. فهو يساعد على تحسّس تاريخ تطوّر الأفكار أوّلا، ويسمح ثانيا بالانتباه إلى السياقات التي تتراجع فيها أطروحات وتنمو فيها أطروحات أخرى. لكنّ هذا التحقيب لا يضع حدودا حاسمة بين الأطوار/ الأجيال. وههنا مكمن المشكلة التي استعرضنا شيئا منها في إجابتنا عن السؤال السابق. فالمدقّق يعثر دون عناء على تسرّبات كبرى من الطور السابق في الطور اللاّحق. ولعلّنا لا نبالغ إنْ قلنا إنّ في الطور الواحد أكثرَ من جيل وأكثر من اتّجاه. وربّما برز لكلّ جيل ضدٌّ له. والملاحَظُ أنّ هذه الأجيال كثيرا ما تتعاشر بالاحتراب وليس بالمعروف. وهذا يعني في تقديرنا غيابَ المقوّمات الضروريّة لصياغة ثقافة عالِمة فعّالة من ناحية، وتركيز أسس ثقافة قاعديّة أو عموميّة تنخرط في مغامرة تحرير الوجود الفرديّ والجماعيّ من آفة الاستلاب والعجز من ناحية ثانية.
نقول إذنْ إنّ فكرة التحقيب تحتاج إلى إعادة نظر حتّى يُمْكِنَ بناءُ خارطة موضوعيّة لفوضى خطابات التمدين. وقَدْ تُسْلِمُنا مِثْلُ هذه المراجعة إلى أنّ تاريخ الأفكار العربيّ الحديث والمعاصر ليس تاريخا سَهْميّا تتعاقَبُ فيه الأفكار وإنّما هو تاريخ يدور على نفسه فيطحَنُ بعضُه بعضا. وهل الخصومات التي تتحوّل بسهولة إلى حروب لا تُبقي ولا تذر إلاّ نتيجة منتظرَة لتاريخ مُحَطّم؟ إنّنا نرى، على سبيل المثال، في النزعات القبليّة والمذهبيّة والعرقيّة والدينيّة المُوغِلة في إتلاف الذاكرة الماديّة والرمزيّة في أكثر من مدينة عربيّة حصادا مُرًّا لغياب صُنّاعٍ مَهَرَةٍ لتاريخ يقوم على مبدأيْ التراكم والتعاقب.
صحيحٌ أنّ مفكّرينَ عربا استطاعوا بجدارة عالية إنتاج قراءات غير مسبوقة للماضي والراهن والمستقبل (علي عبد الرازق، طه حسين، عبدالله العروي، محمّد عابد الجابري، إدوارد سعيد، هشام جعيّط، محمّد أركون...) وربّما جذبتْ كلُّ قراءة إليها أتباعا وأنصارا. لكنّنا نميل إلى أنّها لم تَقْدِرْ على أن تكون قاطرةً حقيقيّة لتغيير البنى الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والأخلاقيّة. كانت في العموم سجينةً داخل أسوار الجامعات. وهي إنْ خَرَجتْ منها، انغلقتْ عليها الندوات والمؤتمرات في فضاءات النُزُل الباذخة. وليس عسيرا على مُتابعِ حركة هذه القراءات الانتباهُ إلى أنّها لم تصنع جيلا متجانسا أو طوْرا يؤسّس الانتقال الكبير من حالة ثقافيّة وتاريخيّة إلى حالة أخرى. ففي المشهد الثقافيّ العربيّ اليوم شتاتٌ من المجموعات المتحصّنة بأطروحاتها المنغلقة على نفسها.
لم يَكَن التاريخ الثقافيّ العربيّ الحديث والمعاصر إذنْ تاريخ أجيال. كان تاريخا مُعاندًا بشراسة هذا المسار. وهذا يقتضي البحثَ عن أجوبة دقيقة. ورغم أنّ هذا الحوار (ككلّ حوار) لا يُتيحُ هذه الإمكانيّة، نستطيع أنْ نُشير بإيجاز شديد إلى أنّ منتجي الأفكار في البلاد العربيّة أخفقوا، لأسباب متعدّدة، في تكوين نخبة حداثيّة فعّالة. هل القارئ العربيّ (غير المختصّ) على علم بما يكتُبُ الحداثيّ؟ هل لدينا إحصاءات حول مبيعات كتب الحداثيّين؟ هل المدرسة العربيّة حاملة لمشروع التحديث؟ هل الفضاء الدينيّ مُهيّأ للقيام بأدوار غير تقليديّة؟ هل معارك التراث المندلعة في كلّ كتب الحداثيّين معارك حقيقيّة دائما؟ هل مشاريع القطيعة مشاريع بنائيّة حقّا؟ ألمْ يَكنْ "قتل الأب" التراثيّ من أجل البحث عن "أب تحت الطلب" في كثير من خطابات "التنوير" العربيّ انحرافا عن مطالب التمدين الأصيلة؟
أنس الطريقي: من الأسئلة التي طرحتموها على الإسلامويّة (في بعض مقالاتكم) سؤال الأنسنة، هل يعني هذا أنّكم تعتبرونها مدخلا من مداخل هذا التجديد (إن وافقتم على مصطلح التجديد)، ثمّ بأيّ معنى تفهمون الأنسنة، فمادام المصطلح غربيّا هل المقصود أنسنة النهضة الأوروبيّة التي عنت خروجا على النمطيّة الوسيطة المسيحيّة، وعودة إلى المنابع التجريبيّة اليونانيّة والرومانيّة، أم أنّها أنسنة الأنوار التي عنت تحويرا لاتجاه الموضعة من الخارج (الوجود) إلى الداخل (الإنسان)، واعتبار الإنسان مصدر المعرفة بالوجود والحقيقة، أم أنسنة ما بعد الحداثة التي رفضت فكرة الإنسان الوعي الخالص، وكشفت تكوينه المركّب، واعتبرت الأنسنة تجريبيّة مفتوحة في الزمان، ومسارا لا ينتهي للتذويت؟
علي الصالح مولى: نرجّحُ أن تكون الأنسنةُ في الآن نفسه المدخلَ والغاية والوسيلة. فأمّا كونُها مدخلا فلأنّ حلول الإنسان في قلب الكون لا يمرّ إلاّ عبرها. فهي في هذا الإطار مقدّمة ضروريّة لوعي الإنسان بمنزلته الفريدة في الكون. وأمّا كونُها غايةً فلأنّ القيم المركزيّة مثل الحرّيّة والمسؤوليّة والإبداع تفقد وظائفها الحقيقيّة إنْ لم يكن الإنسان في نهاية المطاف صانع نفسه وسيّد وجوده ومدبّر أحواله ومآله. وأمّا كونُها وسيلَةً فلأنّ اكتسابَ الإنسان إنسانيّته (أي تحويل نفسه إلى ذات سيّدة "التذويت") لا يتمّ على الوجه الأنجع دون توظيف فكرة الأنسنة في معركة التذويت.
ونودّ أنْ نلحّ في هذا السياق على أمر وهو أنّ ميلاد النزعة الفرديّة من الرهانات الأساسيّة لمشروع الأنسنة. وإنْ توسّعْنا قليلا قلنا إنّه رغم ما يلفّ مصطلح الفردانيّة من غموض وما يجتاحه من تأويلات متعدّدة ومتعارضة، نُسَلِّمُ تاريخيّا بأنّ الفرد في أفق الفردانيّة يُعتَبَرُ في فلسفة الحداثة محورَ العمليّة السياسيّة والاقتصاديّة والأخلاقيّة. وليس عجيبا حينئذ أنْ تكون الحرّيّة عنوانا رئيسا لميلاد "مجتمع الأفراد". ولا يكون الانتصارُ للفرد داخِلَ هذا التصوّر تزكيةً للجشع والأنانيّة وحطّا من قيمة الإيثار كما روّجتْ الدراساتُ الأخلاقويّة. ينبغي أنْ يُنظَرَ إلى المسألة من زاوية أخرى وهي النظرُ إلى الفردانيّة من جهة كونها تُمثّل ثورة على "الجماعيّة" وتحريرا للإنسان من نزعات الإذلال وتعطيل القدرات والمهارات. فالفردانيّة، على نحو من الأنحاء، مُكّونٌ من أبرز مكوّنات الإنسيّة. وهي بذلك تندرج ضمن الإبستميّة المناهضة لإبستميّة الجماعة. ويشكّل الفرد في الفردانيّة وضعيّةً فلسفيّة قبْل أن يكون جزءا من وضعيّة اجتماعيّة أو أخلاقويّة. والفرد في هذا التصوّر مآلُه أن يكون مواطنا. ومُهمّ أنْ نَذْكُرَ أنّ ميلاد الفردانيّة لم يكن استباحةً للجماعيّة فقط، لقد كان في الأساس ميلادا للحرّيّة والاستقلال والإبداع على مستوى المكاسب الفرديّة، وميلادا للاعتراف (reconnaissance) والتعاقد والمواطنة على مستوى المكاسب العموميّة.
ويحسُن التنويه هنا بأنّ "حرّيّة الضمير" وإنْ كانت من تفاصيل مبحث الحريّة، فهي دعامة لا غنى عنها للمجتمع والدولة في الفلسفة السياسيّة المعاصرة. إنّها من جهةٍ منتوجٌ مباشر للاعتراف، وهي من جهة ثانية نُزوع مَدنيّ نحو جعْل الأخلاق الفرديّة مَدخلاً إلى ما سمّاه جوسلين ماكلور (Jocelyn Maclure) "التعدّديّة الأخلاقيّة" (pluralisme moral). والتعدّديّة الأخلاقيّة التي تعنى تعايش الأفراد في فضاء واحد رغم انتماءاتهم إلى أديان ومذاهب ورؤى مختلفة ومتناقضة لا تكون إلاّ داخل دولة المواطنة حيث يكون التسامح قيمة عليا.
وأخيرا، فالاعتراف يوفّر للإنسان المعاصر إمكانات رحبة لممارسة الحرّيّة والتمتّع بالعدل ويساعد على بناء علاقات متوازنة تتساوى فيها الحظوظ. والفردانيّة على نحو من الأنحاء ثمرة لمبدأ الاعتراف. ويحسنُ التنبيه في هذا المقام إلى أنّ الكتابات العربيّة في مسألة الاعتراف قليلة جدّا. ولا ريْبَ في أنّ قلّتَها مؤشّر سلبيّ يدلّ على فراغ يتجاوز مسألة الكتابة إلى مسألة محدوديّة الوعي بأهمّيّة الاعتراف قيمةً تتهاوى بفضلها جميع أشكال التمييز.
أنس الطريقي: ألا يمكن أن يحملنا البحث عن الأنسنة إلى مطالب التأصيل التي وقعت في تعريف الذات بالآخر (الغربي، أو العربيّ المسلم التراثي)، ما هي المداخل الممكنة التي يمكن أن تجنّبنا هذا الانحراف الممكن؟
علي الصالح مولى: نشير بدءا إلى أنّ الناظر في مجمل المعرفة الإسلاميّة المتعلّقة بمكانة الإنسان في الإسلام لا يقع على تراث مهمّ خاصّ بالفرد. والكتابات التي أوجدتْ لنفسها صلاتٍ تشدّها إلى ما يُعْرَفُ بالفلسفة الإنسيّة كانت تجد عناء شديدا في العثور على المقدّمات التاريخيّة والنصيّة لإنتاج تأويليّة تُعنَى بالإنسيّة الإسلاميّة. وإنْ تيسّر ذلك، لاحتْ المساحة التي تغطّيها هذه الإنسيّة مغلقة أو مُعطّلَة. فقد رصد محمّد أركون على سبيل المثال في القرنيْن الثالث والرابع للهجرة بروز نواة فكر إنسيّ غير أنّ الآثار لم تكن قويّةً وعميقة حتّى تَصنع زمن "الإنسان الإنسيّ" بديلا عن "الإنسان الدينيّ". وتساءل أركون: "ما هو سبب ازدهار النزعة الإنسانيّة في العصر الكلاسيكيّ، ثمّ انقراضها بعد ذلك من ساحة المجتمعات الإسلاميّة والعربيّة؟ ما هو القدَر التراجيديّ الذي أصابها فجعلها تختفي وتموت؟" (نزعة الأنسنة في الفكر العربيّ، ترجمة هاشم صالح، دار الساقي، 1997، ص 10). ولا يتوانَى أركون في تعيين "القدَر التراجيديّ" من خلال توجيه الإدانة إلى جهاتٍ عملتْ على "نسيان الموقف الإنسانيّ في الساحة الإسلاميّة، بل وحصول تصفية له وللأعمال الفلسفيّة والإنسانيّة التي كانت قد ازدهرتْ في القرنيْن الثالث والرابع للهجرة" (ص 15). وانصرف بعد ذلك للقيام بعمل حفريّ ضخم يستنطق فيه النصوص والوقائع والتاريخ، ويوظّف فيه مناهجَ متنوّعة في إطار ما سمّاه "تحرّيّات سوسيولوجيّة واسعة لمعرفة سبب فشل الفلسفة والموقف الإنسانيّ في الساحة العربيّة الإسلاميّة بعد أن ازدهرت وتألّقت لفترة قصيرة من الزمن" (ص 15).
وبقطع النظر عن النتائج التفصيليّة للدراسات التي اشتغلت على مبحث الإنسيّة العربيّة يمكن القول إنّ الفرد، رغم وجود بعض الحوافز النصّيّة التي تنتصر له، ورغم بروز سياق تأويليّ لصالحه يدور على المسؤوليّة والكسب والفعل، كما عند المعتزلة مثلا، لم يَكنْ مُتاحا له موضوعيّا أنْ يكون مَرْكزا تُبنَى داخله ولفائدته أنظمةُ القيم التوجيهيّة. كانت إستراتيجيّة الدين الجديد تهدف إلى أنْ تكون الجماعة نواةَ وجوده وأداة انتشاره. لذلك يُعتَبَرُ ضمورُ حضور الفرد في هذه الإستراتيجيّة أمرا مُتوقّعا. ونظنّ أنّ النقد الذي يُدينُ من خلاله بعضُ الدارسين الفكر الإسلاميّ الكلاسيكيّ بسبب عجزه عن استثمار ما في الإسلام من إمكانات لصالح الفرد نقدٌ لا سَنَدَ له إنْ فُهِمَتْ على نحو دقيق معقوليّةُ العمران التي جاء بها الإسلام.
وإذا كان ميلاد مجال الفرد عنوانا لانبثاق أفق الحرّيّة، وجَبَ لفتُ النظر إلى أنّ مفكّري الإسلام ضيّقوا مجالات تداول الحرّية (على عكس اهتمامهم الكبير بالعدل). فكان الاهتمام بها في الغالب كلاميّا. ولم تتحوّل إلى قيمة سياسيّة واجتماعيّة وتربويّة تتأسّس عليها أنظمة جديدة من العلاقات، وتصاغُ في ضوئها أخلاقيّةٌ إنسانيّة.
نذهب إذنْ إلى أنّ عائقا تأويليّا في الإسلام مَنَع الاتجّاهَ نحو تدشين سياق أخلاقيّ ينهض على قاعدة الحرّيّة. وهذا يُمْكنُ إدراكُه إذا وضعْنا في الاعتبار أنّ فلسفة الإصلاح على امتداد تاريخ الاجتماع الإسلاميّ كانت تعتمد مقوّما واحدا مركزه السلطة. وطالما لم يقع استحداثُ مُقوّم معادل مركزه المجتمع، لا فُرْصَةَ لانبثاق سُلّم قيميّ تنتقل بواسطته الثقافة العربيّة من سياقها القديم إلى سياق حداثيّ. ويبدو أنّ فلسفة الرعيّة وملحقاها (خاصّة الطاعة) وقفتْ باستمرار دون الاهتداء إلى هذا المقوّم. ونُضيفُ إلى ما تقدّمَ أمرا مفاده أنّ المواطَنة لم تكن، تاريخيّا، مشروعا ذا أولويّة في أدبيّات التمدّن. وعمليّاتُ استدعائها كانتْ خاضعة لآليّة البحث عن الأشباه والنظائر من أجل ممارسة "لعبة" التأصيل الشكليّ التي يتفانى في الوفاء لها العقل القياسيّ. كان يكفي مُنْتَسِبِي هذا العقل العثورُ على عبارة "وطن" في المعجم، أو الوقوع على نصّ مثل "حبّ الوطن من الإيمان" ليقع الإعلان عن الظفر بأصول للوطن والمواطنة في التراث. ونعتقد بأنّ هذا النوع من التفكير عاجز عن استيعاب تاريخيّة المُواطَنَة، وغيرُ قادر على العُبُور المعرفيّ من إبستميّة إلى أخرى. وعمليّات التركيب أو المُجاورة التي تتساكن بها الإبستميّتان داخل هذا العقل لا تزيد عن أنْ تكون إعلانا عن أزمة حقيقيّة يتخبّط فيها دون أنْ يعيَ بتهديدها لنوع الشخصيّة المُرَاد إنتاجها.
ولذلك نعتقد بأنّه لا مَنَاصَ اليوم مِنْ حركة اجتهاديّة ضخْة يتمّ من خلالها تحويلُ الاهتمام من مدار الطاعة إلى مدار الحرّيّة. وذلك لا يتأتّى ما لم تَحْدُثْ عمليّةُ اختراق معرفيّ وثقافيّ لمفهوم الرعيّة والولوج إلى المساحات المعتمة التي كانت معدودةً ضمن اللاّمفكّر فيه. وهذا يعني أنّ التفكير في الحرّيّة يقتضي، قبل كلّ شيء، انقلابا حقيقيًّا على مرتكزات الفكر السياسيّ الإسلاميّ الكلاسيكيّ. ولعلّنا لا نحتاج إلى جهد في التأصيل - كما تفضّلتم - لأنّ في التأصيل شحنةً سلبيّة إلى حدّ ما. فهو قَيْدٌ يجعل المجتهد وهو يجتهد محاصرا بسلطة عليا أو بمرجع ثقافيّ فلا يُعْطي إلاّ بمقدار. أظنّ أنّنا نحتاج بَدَلَ الاجتهاد في التأصيل إلى خوض معركة الحرّيّة بكلّ ما تعنيه من انتصار للإنسان. وقد نطلق على هذه المعركة عنوان "الاجتهاد الأكبر" المتحرّر من الضوابط والحدود والقيود تحتَ أيّ عنوان. هذا هو مشروع المغامرة التاريخيّة التي يُعَوَّلُ عليها لِينشأَ داخلها عقل إسلاميّ حداثيّ تتفكّك فيه المدارات المغلقة وتصاغ في سياقه أسئلة القيم (الحريّة، العدالة، الديمقراطيّة، الإنسيّة، الخير، الدولة، الحقوق...) وتُبتدَع لها الأجوبة المنفلتة من عقال التقليد المنغرسة في روحيّة إسلام حيّ عالميّ النزعة بما فيه من إمكانات تأويليّة واسعة. لا نقول إنّ هذه الإمكانات لا يحقّقها إلاّ "إسلام بروتستانتيّ" ولا يحمل لواءَها إلاّ لوثر أو كالفن بعقيدة إسلاميّة كما يَعِنُّ للبعض أنْ يتنبّأ، غير أنّنا نرى أنّ الإسلام يحتاج إلى عقل حرّ.
أنس الطريقي: من الحلول العمليّة التي تقترحون الانتقال من زمن المثقّف الهوويّ إلى زمن الثينك تانك، هل تعتقدون أنّ المجال العربيّ الإسلاميّ يمكن أن يسير في هذا الاتجاه في ظلّ تضخّم السياسيّ واحتكاره للتوجيه؟
علي الصالح مولى: يأتي الاقتراح الذي تفضّلتم بالتذكير به استنادا إلى معطى موضوعيّ وهو أنّ المثقّف في العالَم، وليس في البلدان العربيّة فقط، خَسِر مساحات واسعة كان ينشط فيها منذ ثلاثة عقود على الأقلّ. ولا بأس من الإشارة الخاطفة في هذا المقام وبناء على التعريفات المتداولة للمثقّف إلى اعتبار المثقّف صاحبَ رسالة يناضل من أجلها ويتحمّل في سبيلها المَكاره. وهذه الرسالة تنهض على الإيمان بمجموعة من القيم مثل الحقّ والعدل والحرّيّة. وبقطع النظر عن الجداول التصنيفيّة التي يتمايز بها المختصّون في المسألة الثقافيّة بعضهم من بعض (المثقّف العضويّ، المثقّف الملتزم، الثوريّ، المثقّف العموميّ...)، فإنّ شيئا ما يَخْرقها جميعا فيوحّد بينها يُمْكن تجليتُه في مصطلح الدور الاجتماعيّ حيثُ يمارس المثقّف وظيفته التي يكتسب بها سلطة تأثيريّة بما استقرّ في الحقل الذي ينتمي إليه من معان وقيم ومبادئ. ويتحوّل محصول ما استقرَّ في هذا الحقل إلى "رأسمال رمزيّ". وهو قادر على توفير إمكاناتٍ واسعة لإنتاج علاقات تفاعليّة مع المحيط الاجتماعيّ. لكنّ التحوّلات الكبرى التي تغيّرت بها العلاقات الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وانهيارَ ثقافة القيمة لصالح ثقافة المنفعة سهّلت بروز فاعلين جدد لخدمة الاتّجاهات المستحدثة في تنظيم قواعد التعامل مع مكوّنات عالَم المنفعة. فظهرتْ كما لم تظهر من قبل سُلطةُ الصورة والإعلام والإشهار. وصار تسويق المنتج المادّي تسويقا آليّا لمحموله الثقافيّ. وانخرطتْ المؤسّسات الرأسماليّة المحتكرة للقوّة والمال والنفوذ في بناء إستراتيجيّات غير مسبوقة لتشكيل العقول والأذواق على النحو الذي يُديم سلطانها ويوسّع مجالات هيمنتها. وكان تعويلُها على مراكز البحث المتخصّصة لا يعرف حدّا.
في هذا الإطار شرع المثقّف في الانسحاب من ساحات الفعل والتأثير. ولم يكن هذا الانسحاب طوْعيّا. ولذلك نرانا لا نرتاح كثيرا لإطلاق صفة الخيانة على تقلّص أداء المثقّف. فالزمن الأمريكيّ الناشئ بعد انهيار المعسكر الاشتراكيّ وشبكة القيم المرافقة له، اصطحبَ معه فاعلا جديدا نطلقُ عليه اختصارا "الخبير". والخبير لا يكون خبيرا إلاّ داخل مؤسّسة (Think Tank) يلتزم بأهدافها في ما يُنتج من معرفة/بضاعة ويأخذ مقابل "أتعابه" مالا. فلا هوّيّةَ له خارج المؤسّسة. إنّها هي مَنْ تَهَبُه صفتَه، بل هويّته. وإذْ يكون الخبير "مثقّف" الزمن الأمريكيّ المعولَم، فلا يُتوَقّعُ إذنْ أنْ يُرَى ما يُخالف المبادئ التي ينهض عليها هذا الزمن. ولا تؤَمّن مراكزُ البحوث الاستشاراتِ التي تُطلبُ منها فقط. إنّها تُنجز البحوث، وتضع السياسات، وترسم التوجّهات الرسميّة. فهي إذنْ مَصنَعٌ حقيقيّ لكلّ ما له علاقة بالسوق في معنييْه المادّيّ والرمزيّ. وحينَ يُعوّلُ العقل الأمريكيّ على هذه المراكز في بثّ قيمه ونشر مبادئه عبر العالَم يَنْخَفِضُ ضرورةً إسهامُ المثقّفين حتّى وإنْ كانوا في قيمة تشومسكي مثلا.
وأمّا المثقّف العربيّ، فلا خلافَ حول مردوده الهزيل خاصّة أثناء الحراك "الربيعيّ" منذ نهاية ديسمبر/كانون الأوّل 2010. ومن اللّامعقول التاريخيّ والسوسيولوجيّ أنْ يُطلَبَ منه إنجازُ أدوار لم يكن مِنْ قَبْلُ قادرا على النهوض بها. فعلاقاته الغامضة بالسلطة والدورانُ في فلكها كرّسا هامشيّته من جهة، وانتماؤه الطبقيّ/البورجوازيّ وإنْ لم يكن شديد البروز لم يساعده على تحويل ثقافته المدرسيّة (بالمعنى الإيديولوجيّ) إلى فعل محسوس يرى الناسُ آثارَه في الأرض من جهة أخرى. والتفسيرات التي تَرُدّ الأمرَ كلّه إلى سلوك دولة الاستبداد العربيّة وتجريفها كلّ المساحات لصالح خَدَمِ الحاكم وأعوانه، رغم ما فيها من الوجاهة وجَبَ ألاّ ننسى أنّ تاريخ المثقّف كان في البدء: "إنّي أحتجّ" تلك الصرخة التي رفعها إيميل زولا في وجه الرئيس الفرنسيّ فليكس فور. وإذْ يحتجّ الناس، ولا يحتجّ المثقّف إلاّ بِأَخَرَةٍ، فهذه نتيجةٌ غير مستغربة إنْ هي وُضعتْ في سياقها التاريخيّ والثقافيّ المعاصر. ولذلك يتأكّد اليوم الاتّجاهُ نحو تفكيك العلاقات "المشبوهة" بين المثقّف العربيّ والسلطة السياسيّة قبل الشروع في بناء مساحات جديدة للفعل الثقافيّ. إنّنا نعتقد بأنّ خطابَ التنوير العربيّ الذي عَرَف انطلاقتَه الفعليّة في النصف الثاني من القرن العشرين لم يكن دوما خطابا صادقا وشفّافا. كانت مفرداتُه التي تَهَبُه شرعيّة الوجود بلا معنى وهو يَتَفيّأ ظلال الاستبداد السياسيّ. وتلك الشجاعة التي غاص بها (ومازال) في التراث باعتباره من أبرز العراقيل الحائلة دون الانتماء إلى العالَم الحديث كان وَهَجُها يَخبُو كلّما تمّ الاقتراب من مدار الدولة "المدنيّة" المستبدّة. وأمّا استدعاء الخبير بديلا عن المثقّف، فهذا مطلب موضوعيّ تفرضه التحوّلات الحادثة في العالَم. ولكنّ المتأمّل في خريطة توزيع مراكز الثينك تانكس يكتشف أنّ حظّ العرب منها هزيل. ولا يُمْكنُ تَدارُكُ الأمر إلاّ بإقرار إستراتيجيّات رسميّة لاستثمار العقل العربيّ بنجاعة عالية.
أنس الطريقي: ما تصوّركم لمستقبل الثورة في تونس، هل تتوفّر في نظركم على ملامح توحي بإمكان تأسيس اجتماعي وسياسيّ للديمقراطيّة؟
علي الصالح مولى: الثابتُ أنّ "الربيع العربيّ" كان بارقَةَ أمل لانعتاق الوجود العربيّ من الأحكام فوق التاريخيّة تلك التي تراه غير قابل لِتشرُّب القيم الإنسانيّة الكبرى مثل الحرّيّة والعدالة والديمقراطيّة. ولكنْ، ينبغي التنويه ههنا بأنّ الثورات لا تكون فعّالةً وبنّاءة ما لم تكن حاملةَ مشروع قيميّ ضدّ مشروع قيميّ آخَر. وهذا يَفتَرِضُ شرطيْن: أمّا الأوّل فأنْ تَستبق القيمُ والأفكار والتصوّرات التحريريّةُ الثورةَ باعتبارها فعلا ماديّا محدودا في الزمان والمكان. وأمّا الثاني فأنْ تُوفِّرَ المجموعاتُ السياسيّة التي تجيء بها الثورة، سلطةً ومعارضةً، إمكاناتٍ حقيقيّةً لنشوء حالة ثقافيّة ذات مضامين أخلاقيّة وتربويّة وسياسيّة من شأنها أن تصدّ على نحو فعّال تسرّبات ثقافة "النظام القديم" في زمن ما بعد الثورة وتبقى مِنْ بَعدها مشروعا مجتمعيّا تتغيّر داخله وعبره مكوّنات المرحلة السياسيّة السابقة. وحينَ نختبر حضور هذيْن الشرطيْن في مشهد ما بعد "الثورات العربيّة" لا نقع على أثر ذي بال. فالسرعة التي عاد بها "النظام القديم" تُؤكّد أنّ مضامين الثورة القيميّة لم تجد طريقها إلى التجسيد فحدث ما يشبه تَرهّل الجماعات السياسيّة "الثوريّة". ولعلّ ذلك يعود إلى الإعياء الشديد الذي نال من هذه الجماعات بسبب دخولها معارك وهميّة في ما بينها وتَزاحُمها على بطولات ما كانتْ أوّلا وابتداء طامحة إليها قبل الثورة. وإذْ ينجح "النظام القديم" في العودة بسرعة ليكون جزءا من النسيج الحزبيّ "الثوريّ"، فالأمر يطرح تساؤلات جوهريّة حول طبيعة الفكر السياسيّ الذي يتحكّم في سلوك الجماعات السياسيّة "الثوريّة". فإنْ كان الاستبداد عنوانا مركزيّا في خطاب النقد السياسيّ العربيّ عموما منذ القرن التاسع عشر، وإنْ كان نظام الحكم في بلدان ما قبل "الربيع" استبداديّا ولذلك اندلعتْ فيها الثورات، فما هو التفسير المعقول الذي نفهم به قابليّة عودة هذا النظام ومقبوليّته؟ هل هذا يعني أنّ عودتَه تدلّ على أنّ الاستبداد وإنْ كان كذلك في خطاب النقد السياسيّ العربيّ، فإنّه لم يكن حقّا عنوان ثورات "الربيع"؟ وهل تكون هذه العودة من باب التضحية بمضمون ذاك الخطاب انتصارا لتسويات حزبيّة براغماطيّة؟
مِثْلُ هذه الأسئلة تقودنا إلى تقرير ثابتِ ثانِ بعْدَ الثابت الأوّل الذي استهللنا به إجابتنا عن سؤالكم وهو أنّ "الربيع العربيّ" تسمية لا تُناسِبُ الواقع. فإذا استثنيْنا التجربة التونسيّة مع ما يتربّص بها من مشاكل، لا شيء في سائر البلاد العربيّة يُنبِئُ بأنّ "ربيعا" مرّ بها. كلّ الدلائل تشير إلى خراب ماحق. وقد يَسْهُلُ الظفر بالتبريرات التي تَرْفَعُ الحرَجَ عن المصير الذي آل إليه "الربيع". وقد تكون "نظريّة المؤامرة" من أبرز التبريرات احتفاء بها، غير أنّ شواهد الحال تقول شيئا آخَرَ مُلَخّصُه أنّ محنة العرب مع أنفسهم ومع تاريخهم ومع آخَرهم مازلتْ جاثيةً بصلابة عليهم إلى أنْ تنشأ فيهم حالة إبداع روحيّ وعقليّ ومادّيّ.