عن الإعلام المواطن


فئة :  مقالات

عن الإعلام المواطن

تسود، منذ مدة ليست بالبعيدة كثيرا، مقولة مفادها أن طفرة تكنولوجيا الإعلام والمعلومات والاتصال للعقود الأخيرة من زمننا الحاضر، قد أفرزت أو هي في طريقها لأن تفرز أشكالا في الفعل الإعلامي جديدة، لن يكون المواطن بموجبها أو بمقتضاها مجرد متلق للمعلومة، مستهلك لها، بل سيكون فاعلا "حقيقيا" في إنتاجها وتوزيعها وتداولها وتوفيرها بالمجال العام بهذا الشكل أو ذاك.

تنبني دفوعات الثاوين خلف هذه المقولة، على مسلمة مؤداها أنه قد أضحى، بفضل هذه الطفرة، بمقدور المواطن العادي (شريطة أن يتوفر على الحد الأدنى من المعرفة والعتاد التقني الضروري) أن يقوم بنفس الدور الذي كان يقوم به الصحفي التقليدي بالمنابر المكتوبة، أو من خلال الحوامل السمعية والبصرية، أو بوكالات إنتاج وتجميع وتوزيع المعلومات، أو بشبكة الإنترنيت حتى، ما دام الأصل في العملية هو تحصيل المعلومة وترويجها على نطاق واسع، بفضل هذا الحامل التقني أو ذاك.

يترتب على هذه المقولة، وللوهلة الأولى، استنتاجان أساسيان اثنان:

+ الاستنتاج الأول، أن طفرة تكنولوجيا الإعلام والمعلومات والاتصال، لا سيما جيل الإنترنيت الثاني (جيل الويب 2.0) قد قوض متاريس الحدود التقليدية وأضعف تراتبية ثلاثية "الخبر والوسيلة والجمهور"، التي لطالما بنت لمرجعيات وخلفيات الأداء الإعلامي، والأداء الصحفي على وجه التحديد.

+ الاستنتاج الثاني ومؤداه أن تكنولوجيا الويب الثاني قد مكنت من توفير العديد من المضامين والمحتويات من خارج وباستقلالية تامة عن النموذج الإعلامي التقليدي، وأدت جراء ذلك أو بسببه، إلى تفجير الهوية المهنية (ماديا ورمزيا)، والتي كانت ولعقود طويلة، السمة المميزة لمفهوم الإعلام أو الصحافة، لا بل وناظمة لطبيعته وصيرورته.

ومع أن الوظيفة بقيت هي هي (وظيفة الإعلام كما وظيفة الإعلامي سواء بسواء) ولم يطلها التحول كثيرا في مضمونها، أو في طبيعة الرسالة التي تحدد هويتها وخاصياتها، فإن موجة الويب الثاني، قد هزت أركان "المهنة" حقا، وجعلتها مكمن مزايدة وتصادم بين طرفين على شفا نقيض أو هكذا يبدو الأمر:

°° طرف أول يدفع بخطاب "الشرعية" التي يتمتع بها الإعلاميون (إعلام الصحافة التقليدية أعني) ويطالب بناء على ذلك، بضرورة أن يعمد إلى حماية "فضاء المهنة" من دخول وافدين جدد (أي إعلاميي جيل الإنترنيت الثاني، جيل الويب)، ليس لهم الأهلية ولا المواصفات ولا الدراية الكافية لولوج مجال، هو بالبداية وبالمحصلة، مجال تخصص واختصاص.

°° وطرف ثان (طرف "إعلاميي" الويب الثاني) لا يطمح أو يتطلع للاستئثار بمقام ومكانة الطرف الأول، ولا يدعي الصفة لبلوغ ذلك، صفة الإعلامي التي يدفع بها المهنيون، لكنه لم يعد راضيا، فما بالك أن يكون مكتفيا، بوضع "من الدرجة الثانية"، لا سيما وقد بات مصدرا يعتد به في إنتاج وتخزين وتوزيع وترويج المعلومات، وعلى نطاق يتجاوز، في العديد من الحالات، نطاق الإعلام التقليدي.

نحن إذن، بالطرحين معا، إنما نستشف انبعاث مجال جديد، توافقت الأدبيات الرائجة على تسميته بـ "الإعلام المواطن" (أو إعلام المواطن)، لعل إحدى ميزاته الأساس تذكيرنا بأن الإعلام، إنما هو بناء اجتماعي قد تخضع وتيرته للسرعة أو البطء، لكنه محصلة صيرورة تاريخية مستمرة، تنشد الدينامية والحركية والمراكمة. ومن ميزاته أيضا أنه فسح في المجال واسعا للشروع في تقويض المركزية السائدة، والمتمحورة حول الرؤية التي تختزل الإعلام في مجرد الصحافة، والفاعل الإعلامي في مجرد الصحفي المهني، ومجال الفعل الإعلامي في مجرد الفعل الصحفي، وهكذا.

لا ينحصر الأمر عند هذا الجانب، بل يتعداه إلى اعتبار جيل الإنترنيت الثاني (والذي تجسده المدونات والشبكات الاجتماعية والمواقع الافتراضية وما سواها) اعتباره من لدن البعض، في صلب عملية بناء واقع جديد للتعبير الاجتماعي، وأداة قمينة بإعادة تشكيل الحدود بين مجالي الفعل العام والفعل الخاص.

ولعل الأساسي هنا في طرح "الإعلام المواطن"، لا يكمن في تقدم وتيرة النشر الذاتي للمعلومات من لدن هذا المواطن أو ذاك، بل يكمن في التمثل متزايد المد، والذي مفاده أن إنترنيت الجيل الثاني، إنما يعبر عن بروز أشكال جديدة من الموسطة الإعلامية، لم تكن معهودة من ذي قبل، أو كانت متعذرة التمظهر بحكم الندرة التقنية التي لازمت ميدان الإعلام والمعلومات والاتصال لعقود طويلة مضت.

في الآن ذاته، فإن الأساسي في ذات الطرح أيضا، إنما تعبيره عن واقع "الأزمة الأخلاقية" التي ما فتئت وسائل الإعلام الجماهيرية تعيشها في شكلها كما في المضمون، ليس فقط جراء سلوكها الاحتكاري في إنتاج ونشر المعلومة، ولكن أيضا بسبب "الحجر" (والغبن يقول البعض) الذي دأبت على ممارسته، وإن بطريقة تلقائية وغير مباشرة، على أشكال التعبير "المواطناتية" الأخرى.

من هنا، فإذا كان إنترنيت الجيل الثاني قد أسهم في استقلالية المواطن/الفرد (على الأقل قياسا إلى تبعيته التقليدية لوسائل الإعلام الجماهيرية)، فإنه قد استطاع أيضا أن يكرس منطق التفاعلية بين باعث الرسالة ومتلقيها، مجسدا بذلك وبقوة قدرة التقنية على إعادة تشكيل الفضاء العمومي العام، ومكرسا لواقع ما يسميه بيير ليفي بـ "الذكاء الجماعي".

ولهذا الاعتبار، فإنه ليس من المبالغة في شيء القول بأن الإعلام المواطن (إعلام التفاعلية تحديدا) إنما بات يعبر عن هذه الحركية الجديدة للمجال العام الإعلامي، الذي أتى ذات الإعلام لا بغاية منافسته أو المزايدة على تموقعه ومقامه، بل لتوسيع فضاء تكلست جدرانه، وتكثفت أزماته، وضاقت الجماهير بالطبيعة العمودية والأبوية التي مارسها عليها لعهود طويلة من الزمن.

صحيح أن الإعلام التقليدي لا يستطيع المكابرة لدرجة تدفعه، لأن ينكر على "الإعلام الجديد" امتلاكه للعديد من المهارات التقنية والتحريرية على الشبكة، لكنه يضجر من تصميم هذا الأخير على صياغة نموذجه الاقتصادي، وبناء منظومته الذاتية في الفعل والتفاعل باستقلالية تامة عن منظومة الإعلام التقليدي.

وصحيح كذلك أن فاعلي "الإعلام الجديد" لم يقوضوا تماما منظومة الإعلام التقليدي، ولا كانت ضمن رهاناتهم حتى، على اعتبار أنهم لا يزالوا لحد الساعة فاعلين على هامش ذات المنظومة، لكنهم مع ذلك لا يتوانوا في نشدان وضعية تضفي عليهم "الشرعية"، وتضمن لهم التواجد "الواقعي" كرافد حقيقي للفضاء الإعلامي العام.

بيد أن سياقات إنتاج وتوزيع المعلومة من لدن هذا "الإعلام الجديد"، إعلام المواطن، تستوجب، على الرغم من حالات المد والجزر القائمة، تستوجب التوقف عند بعض الملاحظات الكبرى، التي من شأنها توضيح الصورة فيما قد يكون عليه مستقبل هذه الحالات:

+ الملاحظة الأولى، وتكمن في القول بأنه حتى لو سلمنا بأن "إعلام المواطن" قد بات حقا وحقيقة شكلا من أشكال التعبير المواطناتي، فإن ذلك لا يعني أن "جموع المواطنين" قادرين، أو لديهم القابلية للفعل السياسي من خلال وعبر شبكة الإنترنيت. إذ العملية لا تقتصر فقط على توفر الارتباط بالشبكة إياها، أو القدرة على الإبحار من بين ظهراني محركاتها، بل تستوجب أيضا حدا أدنى من الكفاءة المهنية، والمهارة التقنية التي قد تتاح لهذه الشريحة من المواطنين، وليس من المؤكد أنها متاحة لباقي الشرائح الاجتماعية.

بالتالي، فإن صفة الهيمنة والاحتكار التي لطالما تم إلصاقها بوسائل الإعلام التقليدية، ستجد لها بالإعلام الجديد موطئ قدم أيضا، لا بل ولربما بمستويات أكبر وأعمق، ما دام أن إنتاج المعلومة وتوزيعها سيخضعا لنفس طقوس التراتبية التي عشناها في ظل الإعلام التقليدي، بين من له القدرة والقابلية، وبين من لا يمتلكهما أو يمتلك جزءا منهما فقط.

هذه الملاحظة أساسية، في ما نتصور، ليس فقط لأنها تحيل على ضرورة التخفيف من حدة اندفاع الفاعلين وتمترسهم خلف قيم المواطنة (التي تستوجب المساواة أولا وأخيرا)، بل وأيضا للتأكيد على ضرورة إعادة النظر في مسألة الانبهار بالتقنية، والتي قد تكتفي بتتبع اندفاع الظاهرة، لكن دونما مساءلة خلفياتها وخباياها وتبعاتها على الفرد كما على المجتمع.

+ الملاحظة الثانية، وتتمثل في حذر وحيطة "الإعلام المواطن" من الإعلام التقليدي، وتطلعه لبناء شرعية ذاتية خاصة به، إذا لم تكن موازية لشرعية الإعلام التقليدي، فعلى الأقل تكون قائمة بصلبه، ومن بين جدراني مجاله العام.

قد لا يكون الأمر مثار مزايدة كبيرة بهذا الخصوص، إذ المواطنة هي بالبداية وبالمحصلة النهائية، توسيع لمجالات المشاركة والتعبير. لكن الأمر قد يتجاوز على ذلك بكثير، إذا كانت خلفية السلوك مملاة من لدن فاعلين (اقتصاديين أو تجاريين تحديدا) يراهنون على تقويض مجال الإعلام التقليدي، للتموقع بمجال "إعلام جديد" من المفروض بناء شرعيته وصياغة نموذجه الاقتصادي. العبرة هنا ليست بالفعل الممارس على الأرض، بل بالخلفيات الناظمة لذات الفعل في الزمن كما في المكان.

+ الملاحظة الثالثة، ومفادها القول التالي: لو سلمنا جدلا بـ "حق" الإعلام المواطن في الوجود (ومن ثمة في نشدان الشرعنة)، باعتباره شكلا من أشكال التعبير الجديدة، فإن هذا يستدعي إذا لم يكن تقنينا بالمراسيم واللوائح والتشريعات، فعلى الأقل بالتنظيم والتأطير على مستوى الممارسة بالسوق، واقعيا كما افتراضيا على حد سواء.

هو أمر قائم بالإعلام التقليدي، لكنه لم يتسن له الاستنبات بعد على مستوى "العالم الافتراضي"، إما لتعذر العملية، أو بسبب الادعاء بضرورة ترك المسألة لممارسة الفاعلين على الأرض، وهو أمر يدفع به العديد من الباحثين، لكن عيبه أنه في غياب أخلاقيات المهنة الإعلامية وانتفاء المتاريس التنظيمية، فإن المسألة قد تتحول إلى فوضى شاملة يتعذر في ظلها رسم الحدود، ويصعب تحديد حقوق الأفراد والجماعات وواجباتهم.

والشاهد على ذلك أن مراقبة المعلومة بالإعلام التقليدي غالبا ما تتم بغرف التحرير، في حين أن لا مراقبة عليها، بالإعلام الجديد، إلا عندما تنشر وتروج وتتاح بالفضاء العام.

الإشكالية هنا لا ترتبط فقط بوتيرة وضع المعلومة بالفضاء العام (الواقعي كما الرقمي سواء بسواء)، بل ترتبط بالأساس بالقدرة على وضع ذات المعلومة في سياقها وقراءتها في ظله، وفي ظله فقط دون خلفيات أو حسابات جانبية، والتي قد يثوي خلفها الإعلام التقليدي، في حين يكتفي الإعلام المواطن بطرحها بذات الفضاء، باعتبارها رأيا أو وجهة نظر أو مدخل نقاش.

والقصد هنا، إنما القول بأنه إذا كان ثمة عقد أخلاقي بين الإعلام التقليدي والمواطن، فإن هذا العقد لا يتم الاحتكام إليه في الإعلام المواطن، إذا لم يكن في المطلق، فعلى الأقل لحين سن هذا "العقد الرقمي" الذي عليه أن يحدد ما على الطرفين وما لهما في الآن معا.

والقصد أيضا، يكمن في القول بأنه في غياب ذات العقد، فإن المواطن سيكون حتما بإزاء "حالة تضليل" حقيقية، تماما كما يعتقد أنه كان ولا يزال مكمنها مع وسائل الإعلام الجماهيرية، والتلفزيون على وجه التحديد.

في الحالتين معا، حالة الإعلام التقليدي وحالة الإعلام المواطن، فإن المفروض هو أن تكون مكانة المواطن هي المؤثث للنقاش والمبارزة، وليس حول من سيؤول إليه الأمر بالمحصلة النهائية...أي من ستكون له الغلبة في زمن توافر المعلومات وتعدد وسائل ترويجها.