عن الظاهرة الإرهابية "الإسلامية"
فئة : مقالات
منذ الأحداث المفصلية للحادي عشر من شتنبر من العام 2001، وإلى حين الأحداث التي تلتها فيما بعد بأوروبا وبإفريقيا، لم يعد ثمة من حديث عن الإسلام إلا مقرونا بكلمة إرهاب: "الإرهاب الإسلامي"، "العنف الإسلامي"، "التطرف الإسلامي"...إلخ.
بيد أن ثمة، بأوروبا نفسها، من يطالب بعدم تهويل هذه الأحداث أو العمل على النفخ فيها على أساس هذه الخلفية المضمرة أو تلك، ويلحّ على ضرورة العمل على فهمها من خلال وضعها في سياقها، وفي سياقها فقط، دون إعمال "الاجتهاد" لإلصاق التهمة بدين كامل بجريرة بعض من أبنائه أو ممن ينتسب إليه، قناعة أو توظيفا.
يذهب أصحاب هذا الطرح إلى القول بأن التهويل الإعلامي والسياسي (والتوظيف الإيديولوجي أيضا) الذي صاحب "أحداث أمريكا وأوروبا"، منذ بداية هذا القرن وإلى حدود العام 2016، لم تعرفه أحداث "شبيهة" تعرضت لها دول عدة بآسيا وبإفريقيا (تركيا، تونس، أفغانستان، كينيا، ساحل العاج...إلخ)، بل مرت عليها الآلة الإعلامية مرور الكرام، مع العلم بأن الفاعل واحد فيما يبدو: الحركات والمجموعات الإسلامية المتطرفة. ما السر إذن في التهويل هنا و"السكوت هناك"، ولكأن بين هذا وذاك فارق في الطبيعة أو في الدرجة؟
يذهب هؤلاء أيضا لحد القول بأن احتمال الإقدام على عمليات إرهابية بأوروبا أو بأمريكا قائم ووارد، وقد يكون مؤكدا بالنظر إلى التهديدات الموجهة لهذا البلد أو ذاك، لكن إمكانية حدوثها (الأحداث الإرهابية أقصد) ببلدان إفريقيا مثلا أو بالعراق وأفغانستان وإيران وروسيا، هي إمكانيات محتملة أكبر وأقوى بكثير من الأولى، ومع ذلك لا نرى تهويلا لذلك ذا بال كبير يذكر.
فمصالح الأمن والاستخبارات بأوروبا مثلا، هي غير تلك القائمة بالعديد من بلدان إفريقيا، ومع ذلك لا نرى تضييقا "فوق الاحتمال" للحقوق والحريات هناك، فيما نراه قد بلغ مداه الأقصى في المطارات الغربية أو في منح التأشيرات، ناهيك عن إغلاق الحدود جملة وتفصيلا في وجه رعايا هذا البلد أو ذاك، كما يعيش العالم مثلا منذ مدة في ظل "أمريكا ترامب".
ومع أن كل العمليات الإرهابية التي جرت هنا أو هناك، تحمل "اللمسة الإسلامية"، فإن التفسيرات المقدمة غالبا ما تنهل من معين واسع من العناصر والعوامل والإشكالات. ولما كان الأمر كذلك، فإن أية استراتيجية لمواجهة الإرهاب تصطدم بترسانة من الأسباب والدوافع والخلفيات، تختلف من فضاء لفضاء ومن زمن لزمن. مزالق الاختزال هنا غالبا ما تحيل على استراتيجيات خاطئة أو تفرز حلولا "ترقيعية"، تراهن على المهمّ في إغفال تامّ للأهم.
مزالق الاختزال في تفسير "الظاهرة الإرهابية الإسلامية" لا تأتي فقط من الباحثين في علم الاجتماع والسياسة والأنثروبولوجيا و"علوم الأديان". إنها تأتي في معظمها من التناول الإعلامي (المتحيز في بعض منه) ومن خطابات السياسيين (من اليمين ومن اليسار) الذين يركبون ناصية الظاهرة إياها لاعتبارات إيديولوجية أو انتخابية، أو من باب دغدغة الشعور الوطني، وتأنيبه ضد هذه الشريحة من المواطنين أو تلك.
بيد أن معظم التفسيرات المقدمة لا تخرج عموما عن سياق ربط الظاهرة الإرهابية بظواهر أخرى قريبة منها، أو متساوقة معها، أو فاسحة لها في المجال للتجسيد:
+ أول تفسير سائد لهذه الظاهرة هو ذاك الذي يربطها بالغلو والتطرف، ومفاد هذا التفسير هو القول بأن الشباب الذين يركبون ناصية الإرهاب، إنما هم شباب "متطرف"؛ أي شباب يعتنق الإسلام، لكنه يدين في الآن ذاته بإيديولوجيا إسلامية تنشد التشدد في قراءة النص وترفض البحث في مقاصده.
يعلق أوليفيه روا على هذه الحالة بالقول التالي: "لا يتعلق الأمر هنا بتطرف الإسلام، بل بأسلمة التطرف". بالتالي، فإن هذا التفسير لا يمانع في القول بأن ما جرى من أحداث في بلجيكا وفرنسا مثلا، خلال العامين 2015 و2016، إنما هو من فعل شباب انتفض على واقعه الاجتماعي والاقتصادي، فوجد في القراءات السطحية والتبسيطية للديانة الإسلامية ضالته، فـ "اقتناها" ليسوغ سلوكه ويبرر أفعاله.
هذا الطرح لا يخلو من صواب، إذ تبين الإحصائيات أن العديد من منفذي العمليات الإرهابية بأوروبا، ينحدرون من عائلات مسلمة، لكنهم سقطوا في "المحذور" جراء استقطابهم من لدن هذه الإيديولوجيا المتطرفة أو تلك.
بيد أنه (الطرح أعني) هو إلى التوصيف أقرب منه إلى التحليل، على اعتبار دفعه بمسلمة أن الغلو يحيل على التطرف والتطرف يحيل على العنف والعنف يحيل على الإرهاب وهكذا دواليك.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الغلو لا يفرز دائما التطرف أو العنف أو الإرهاب، إذ قد يكون "المرء المغالي في التفكير" صاحب مطلب إصلاح اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي، لكن دون أن يوظف العنف أو الإرهاب لإدراك هذا المبتغى.
+ ثاني تفسير "للظاهرة الإرهابية الإسلامية" ويحيل على ظواهر الفقر والإقصاء والتهميش؛ ومفاد هذا التفسير هو القول بأن معظم منفذي العمليات الإرهابية إنما هم شباب من عائلات فقيرة، مهمشة، تقطن بضواحي وهوامش المدن الكبرى، في إهمال تام من لدن السلطات العمومية وفروعها الترابية.
غياب الشغل وانسداد آفاق المستقبل في وجه هؤلاء الشباب، إنما يدفعهم للاحتجاج وللانتفاض، ومن ثمة للانزلاق إلى براثن الجريمة ثم العنف المحدود، وتدريجيا إلى الإرهاب المنظم.
هو تفسير "موضوعي" إلى حد بعيد، لكنه عام ويعطي الانطباع بالمحصلة إلى أن أي منحدر من حي شعبي فقير، هو إرهابي محتمل أو لديه القابلية لذلك. بالمقابل، فإن الانتفاض على واقع اجتماعي ما، قد يتحول إلى عنف محقق، لكن ليس بالضرورة من منطلق ديني خالص.
ثم إن ثمة من الأجانب بأوروبا من هم أكثر عرضة للإقصاء والتهميش، ومع ذلك لا ينشدون العنف فما بالك الإرهاب... أضف إلى ذلك أنه لو سلمنا بهذه الخلفية، فلم استهداف مؤسسات وأشخاص لا علاقة لها بالوضعية الاجتماعية...؟ ألم يكن الأولى استهداف مقرات الدولة "المسؤولة" عن هذه الوضعية، عوض استهداف مقرّ جريدة أو مجلة أو كنيسة أو كنيس؟
لذلك، فإن الذي يؤاخذ على هذا الطرح، إنما تجاهله أو استبعاده للبعد الإيديولوجي الذي ينتقل بالمرء ذي الظروف الاجتماعية الصعبة، من وضعية الاحتجاج والانتفاض إلى سلوك العنف والإرهاب. والشاهد على ذلك أن الذين ثووا خلف تفجيرات نيويورك وواشنطن لم يكونوا منحدرين من عائلات فقيرة، أو من محيط يطاله الإقصاء. لقد كانوا في العديد منهم على الأقل، من عائلات ثرية، وبعضهم بوظائف عليا ببلدانهم أو بالغرب.
حتى الذين ذهبوا أو لا يزالون يطمحون للذهاب إلى سوريا أو العراق، ليسوا في معظمهم من عائلات أو من وضعيات متردّية. العديد منهم استقطب على خلفية من هذه الإيديولوجيا أو تلك.
ولذلك، فإن تفسير "الظاهرة الإرهابية الإسلامية" بالانطلاق من الدين فقط، هو تفسير مجحف، كونه يبني لسببية قد يخالها المرء بديهية ثابتة، في حين أنها ليست كذلك بالمرة، بمنطوق المعالجة المتعددة المشارب والأبعاد.