عن تيمة الموت وتيمات أخرى في قصص «تكلم كي لا أموت»


فئة :  مقالات

عن تيمة الموت وتيمات أخرى في قصص «تكلم كي لا أموت»

عن تيمة الموت وتيمات أخرى في قصص «تكلم كي لا أموت»[1]

تجسد قصص «تكلم كي لا أموت» للقاص والروائي المغربي حسن البقالي، محطة فارقة في مسار سردي غني ومتنوع موزع بين القصة قصيرة، والرواية، والقصة القصيرة جدا التي أنتج فيها بشكل بارز كمًّا ونوعا سبع مجموعات حجزت لها موقعا خاصا، محليا وعربيا، داخل المتن القصصي لما ميزها من أسلوب تجديد في صيغها وأشكالها، وعناصرها وموضوعاتها، مما أكسب نصوصها ميزات وسمات متفردة ساهمت في تطوير هذا اللون القصصي الحديث (قصة قصيرة جدا) وبصمه بطابع خاص.

- الجمع بين التنظير والإبداع:

ربط الكاتب مصير القصة القصيرة جدا بالموت بعد أن استنفدت جل موضوعاتها، وغدت متجهة صوب آفة (الاجترار والتكرار)، وهو ما زكاه ثلة من أصدقاء الكاتب؛ من كتاب ومهتمين بالأدب في عدم استساغتهم استحواذ موضوع الموت على نصوص المجموعة، واستحسانهم لفكرة التنويع، إلا أن الكاتب ومن منظور فلسفة الموضوع: "الموضوع جسد: قسم جسدك في جسوم كثيرة واحْسُ قراح القص فالقص دافئ" ص 10، وفي تصويره، بعمق وجمالية، لموضوع القصة وطبيعة علاقته بجسد الكاتب / كيانه، وما ينجم عن ذلك من عدة أجسام تروم التنويع، وتتفادى التكرار، فيغدو القص بطعم خاص (حساء دافئ)، ثم ينتقل لبسط بعض الأسباب التي ساهمت في انسداد أفق القصة القصيرة جدا، بل في تردّيها: "يبدو وضع القصة القصيرة جدا مزريا، بل مخجل أحيانا بالنظر إلى ما تطالعنا به الصفحات والمنتديات من منشورات تحسب على هذا الجنس الأدبي وتقابل بالتقريظ، بينما هي في الواقع مجرد تأتآت لغوية تقف على تخوم السرد ..." ص11، لتبرز خبرة الكاتب في مجال كتابة القصة قصيرة جدا، والتي بقراءة أولية تكشف وتكتشف مكامن الضحالة والرداءة في ما تعج به أغلب المنابر من نصوص قصصية تحسب على جنس القصة قصيرة جدا، بل تتجاوز النشر إلى الإطراء والاستحسان في غياب مواكبة نقدية جادة وممحصة لهذا النوع القصصي بالخصوص، كما يؤكد ذلك الكاتب في تصديره للمجموعة: "وبالنظر كذلك إلى انحسار صوت النقد وخفوته وتراجعه عن التتبع والتأطير" ص 11، مما يجعلنا أمام أسئلة عويصة وشائكة حول راهن ومستقبل القص الموجز: ماهي الشروط الكفيلة بإرساء دعائم القصة القصيرة جدا السردية والفنية التي تساهم في اكتمال صورتها، وتكامل عناصر بنائها؟ أنعتبر التراكم الحاصل في إنتاجها، رغم هزالة ورداءة أغلبها، رهينا بتطوير أساليبها وبلورتها؟ أم إن وسائل التنويع والتجريب قادرة على وقف نزيف استنفاد زخمه الفني والدلالي؟ أم نذعن لحتمية موته؟

لنجدنا أمام قصص صادرة عن رؤية موسومة بالعمق والاستشراف لكاتب خبر السرد بأنواعه المعروفة (قصة قصيرة، رواية، قصة قصيرة جدا)، بل أبدع فيها، وقطع أشواطا كبيرة في تطوير أساليبها، وتجديد أشكالها من خلال غزارة ونوعية نصوصه (7 مجموعات قصصية موجزة)، وإعلانه عن انتهاء زمن هذا النوع الذي آل إلى موت محقق.

- تيمة الموت في قصص المجموعة:

على الرغم من الاعتقاد الذي تكون لدينا من سيطرة موضوع الموت على نصوص الأضمومة، إلا أن هناك تيمات أخرى حضرت في ثناياها بتوهج دلالي وتعبيري درءا للسقوط في مغبة تكرار سمج، واجترار مذموم. فرغم ورود الموت في العديد من القصص، إلا أنه لم يكن واسع الهيمنة والاستحواذ، فقد طالعنا بدءا بعتبة العنوان (تكلم كي لا أموت)، ثم في أول نص «لكن كيف ترى الموت؟» على شكل أسلوب استفهام اقترن في النص الأول برؤية فيلسوف خلص إلى أنه؛ أي الموت، نوم : "ونام الفيلسوف ولم يستيقظ أبدا" ص16، مما يذكرنا بالبيت الشعري للمعري بصدد رؤيته للموت: ضجعة الموت رقدة يستريح الجسم فيها والعيش مثل السهاد، فيغدو الموت أمنية، وطلبا ملحا: "-أمتني ميتة شنيعة، رجاء، وغذّ بي قائمة ضحاياك" ص 32، في تحديد ليس بالجيد لنوع الميتة (شنيعة)، واعتبار الموتى ضحايا ككلمة تفتح آفاقا واسعة ومتشعبة للتساؤل والتأويل، فينحو منحى انزياحيا في قصة «خيط عشواء: "أو تراني مت منذ زمن وأحلم في موتي بأنني حي أحتضر في مشهد يتكرر إلى ما لا نهاية." ص 58، بتصوير فضفاض لموت عصي عن التحديد (منذ زمن)، مقرون بالحلم (وأحلم في موتي)، مع توصيف لمشهد موت متكرر ولا نهائي التجلي والظهور.

ونظرا لاختراق تيمة الموت جل النصوص يصعب أن نحيط بها جميعا، حيث حضر ابتداء من التصدير: "من الجلي المعروف لدى كل من يزاول «حرفة» القص ومن يتلقاه بالقراءة والنقد أن الموت من تيماته الأساسية ..." ص 8؛ فموضوع الموت له حضور وازن في مجال القصة، وما يشكله من اهتمام ومتابعة لدى كل أطرافها (قراء ونقاد)، وهو ما شكل هاجسا لدى القاص كأحد هذه الأطراف في توظيفه لتيمة الموت واشتغاله عليها داخل نصوص أضمومته فصرفه على سؤال شائك وعويص: "هل يمكن إصدار مجموعة من خمسين نصا قصصيا في نفس التيمة التي هي الموت دون السقوط في التكرار والاجترار ودون التسبب في ملل المتلقي وبالتالي موت النص؟" ص 9، إلى آخر نص في المجموعة، بل إلى آخر جملة: "والآن أيها الصبيان الذين لا يهدؤون، إليكم الحروف الأولى: م، و، ت.." ص 111

ــ ميزة نهاية النصوص:

إلا أن ما يثير ملاحظة القارئ من استرسال تكرار موضوع الموت في نصوص المجموعة الخمسين سرعان ما يتبدد بغوصه في قراءتها، واستجلاء أعماقها، وسبر أغوارها مستنبطا ما تزخر بها من تنويع، وما تحفل به من قدرة على الإمساك بخيوط القص الموجز مختزلا في أهم عناصره من تكثيف، وإيجاز، وتلميح ... وهو ما نلحظه في نهاية مجموعة من النصوص من عمق الإشارة، ونجاعة التلميح، مثل قصة «لماذا تصلح الأسود؟» فالأسد رغم قوته وشموخه وهيبته كان مصيره الهلاك على يد حيوان أكثر شراسة وضراوة: "تعكر الماء بشكل مباغت وخطير" ص 23، بتلويثه، على ما يبدو، بدماء الأسد الذي وقع بين فكي تمساح عظيم: "لم يشعر إلا وأنياب فك عظيم تنفجر من الماء وتطبق على عنقه لا تترك له مجالا للإفلات" ص 23، وأن هذا التمساح حيوان عاشب حسب ما تخلص له القصة: "ربما تساءل لحظتئذ بشكل أعمق سخرية : لماذا تصلح الأسود ؟ أو فكر: لو أنني حيوان عاشب فقط" ص23، وفي قصة «الحديقة» التي تفي فيها الإشارة والتلميح إلى المتربصين بالأطفال للاعتداء عليهم بتلطيخ براءتهم، وهتك أعراضهم: "وجه بيدو فيل قاتل يروغ كما يروغ الثعلب يتحين الفرصة السانحة كي يقتات من لحم طفل شارد." ص34

-أوجه الاستيحاء:

وتتمثل في الجانب الديني بما استوحاه القاص من أحداث قرآنية، كقصة قتل قابيل لأخيه سورة «المائدة»: "حين بقي مفزوعا فاغرا فاه إزاء جثة أخيه الهالك لا يدري ما يصنعه بها، أتته الإشارة من طائر أسود بدا على دراية بأمور الدفن." ص 25، وفي تصوير لخلوة دينية في حضرة الخالق مستعينا بالمصحف: "أن تغلق عليك بيتك، بين يديك المصحف وفي الصدر كلمات الله رجراجة مثل مياه بحر ضاج بالحيوانات والأصوات والأزمنة" ص 46، وقصة القتل التي اقترفها موسى سورة «القصص»: "فوجد شخصين يقتتلان، أحدهما إسرائيلي والآخر قبطي، فلكز موسى القبطي فمات." ص 48، والجانب الأدبي الشعري استلهاما لبيت من معلقة زهير بن أبي سلمى:

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولا لا أبا لك يسأم

في قصة «... لا أبا لك يسأم»: "والآن... ما الذي تبقى من حياة دامت ثمانين سنة غير شعور متفاقم بالعجز وذكريات ماض بعيد..." ص 70، وبعض تفاصيل من حياة الروائي والقاص المغربي الراحل محمد زفزاف من ذكر لتربيته لثلاث سلاحف، وروايته الشهيرة «الثعلب الذي يظهر ويختفي»: "سمع عنه كثيرا من قبل .. قيل إنه يربي ثلاث سلاحف وله كتاب بعنوان «الثعلب الذي ...»" ص 74، والشاعر المغربي أحمد المعداوي: "صدر كتاب المعارض الصلب أحمد المعداوي بعنوان «أحزمة الغضب» ..." ص83، "كانوا يتبادلون الأغاني بينما كان أحمد المعداوي يتجرع مسكنا للآلام ويفكر في الهجرة أو الاعتزال" ص 84، وما أحاط بحياة مبد ع فذ من معاناة لم تكن المسكنات كفيلة بوقف نزيفها مما قاده للتفكير في اختيارين : (الهجرة أو الاعتزال)، كما تضمنت نصوص المجموعة رموزا في مجال الفكر والأدب كالفرنسي جان بول سارتر، وأسماء لأساطير إغريقية مثل أورفيوس، وبروكوس من الميتولوجيا اليونانية، وكاليغولا الروماني في سياق إغناء النصوص، ومنحها جرعات من العمق والانفتاح.

-العلاقة بالقارئ / المتلقي:

وهو ما شكل مصدر قلق وحيرة لدى القاص اعتبارا لما يملكه من عدة معرفية (أدبية، وفكرية: نظريا وإبداعيا)، فما يشغل ذهنه، وما يناوش تصوره هو طبيعة القارئ الذي يتلقى نصوصه، والذي يأمل أن يكون متفاعلا، منتجا وليس مستهلكا لا يتجاوز حدود التلقي فقط مثل ما يصدع بذلك: "وفي الوقت الذي عمل الكاتب (واجتهد مليا) على خنق الحكاية وإماتتها، ينتظر من المتلقي أن يؤلفها بدلا عنه." ص12

-العنصر الغرائبي:

والذي يحضر في العديد من قصص الأضمومة، مما يسهم في منحها سعة وتشعبا بخلق أفق انزياح غني ومتنوع كما في نص «جدوى الأدب»: "عوض ذلك واصل الأسد ـ كأي كائن عاقل ـ على درب السجال الفكري وتمكن من تقديم اعتراض من القوة والوجاهة، حيث يقوض من الأساس الدعامة التي زكت طرح الرجل" ص 20، فخلع صفة كائن عاقل على الأسد، في نأي وزوغان عن الاعتقاد السائد، فصفة العاقل عادة ما ترتبط بالإنسان، بل إنه، أي الأسد، غدا طرفا يملك قوة السجال الفكري الصائب والوجيه. وفي نص «زق الحمام»، حيث نقرأ: "وطفق يبكي ويبكي حتى أبكى أمه والمولدة والطبيب وشراشف الأسرة والهوائيات والحمام العابر فوق السطوح" ص 55؛ فالبكاء كصفة إنسانية انزاحت إلى أشياء وكائنات أخرى (شراشف الأسرة، الهوائيات، الحمام) في مشهد مثير للعجب والغرابة لتضفي على النصوص زخما من سلوكيات وأفعال منفلتة من ربقة المعهود، وعقال المألوف. ومغادرة الموتى لقبورهم بغرض المشاركة في حفل غناء ورقص ثم العودة إليها؛ أي القبور، عند انتهاء الحفل: "كان الجو احتفاليا وكنا سعداء جدا فقد غادر أحبابنا قبورهم وشاركونا الغناء والرقص ... في المساء وقد حان وقت الفراق كادوا يبكون من الفرح وهم يلوحون إلينا بأيديهم ويعودون إلى قبورهم ..." ص97

- مجازية الأسلوب:

ويتجلى ذلك في نصوص مثل «مجرد لعب أطفال»: "شاحنة ثملة يعوزها الحِلم حادت عن الطريق ودعست السيارة بمن فيها ..." ص 80، في نقل صفة الثمالة والحِلم للشاحنة، ونص «قصة اللغة»، حيث يرد: "هكذا تطورت اللغة ونما العشب على الألسنة ..." ص 102، بتحويل العشب من التربة التي هي المكان الطبيعي لنموه إلى اللسان وما يطبع ذلك من جمالية في التعبير تساهم في إغناء أبعاده الفنية والرمزية.

فقصص «تكلم كي لا أموت» تنم عن حس الخلق والابتكار الصادر عن عدة معرفية ونقدية لدى كاتب أبدع في مجال السرد (قصة قصيرة، رواية، قصة قصيرة جدا)، بل أسس لرؤية، خصوصا في جنس القص الموجز، تتغيى التغيير والتجديد والإضافة النوعية، كاشفا عما يعتورها من هنات ونواقص، وما يطبع آفاقها من انحباس وانسداد.

[1]- تـكلم كي أموت (قصص) حسن البقالي، مطبعة بلال / فاس 2024