عناصر لأجل ترجمة مفاهيمية في كتاب "معالم في الطريق" لسيد قطب
فئة : مقالات
عناصر لأجل ترجمة مفاهيمية[1]
في كتاب "معالم في الطريق" لسيد قطب
يحدث أحيانا، أن تستند الأعمال البالغة الشناعة إلى نصوص مغرقة في جمالية فاتنة، بل لعل السماح باقتراف ما لا حد ولا سقف له من أعمال دموية، إنما يشحن قوته الانفعالية من هذه الجمالية نفسها، غير أن ما يتخفى في تلافيف هذه النصوص المؤسسة للتطرف من حيث هو "لغويا" خروج عن الاعتدال، إنما ذلك الاختلاط البلاغي بين الصور الاستعارية وبين الجمل التأكيدية المباشرة، وهو ما يؤشر على وجود انزياح تواصلي ما في عملية تلقي مثل هذه النصوص. فمن الجائز أن القصدية الدلالية لهذه النصوص تتبدد تحت ضغط مقاربات استحواذية تُولد منها ما تحمله على وجه واحد قط، فيما تظل هناك وجوه أخرى يمكن أن نستشفها منها، إذا ما غيرنا استراتيجية التلقي، وقرأنا هذه النصوص بحسن نية، متخلصين أيضا من تصلبنا المبدئي الذي يدين بشكل مسبق؛ أي تصالح مع هذه البؤر المفاهيمية للحساسية الدموية المتوحشة الراسخة لدى الإرهابي؛ وذلك في ظني هو أيضا تطرف يتولد عن ردة فعل دفاعية، قد تتحول أحيانا إلى نزوعات اجتثاثية، تدور هي نفسها في حدود عالم الفُسطاطين الشهير[2] وعالم الأخيار الكُمَّل والأشرار الخُلص. وهذا ما يفرز في الغالب أزواجا مفاهيمية أو لنقل تضعيفات وجيوبا داخل اللغة، تدمر أفعال التواصل من خلال كلمات يفترس بعضها بعضا: جهادي إرهابي، رجعي كافر، غرب شرق، نهاية بداية... لكن الغريب في الأمر أننا نجد أيضا لعبة مرايا حقيقية بين التطرفين في التعامل مع هذه النصوص الفاتنة؛ لأن الجميع على الطرفية يتحدث بطريقته عن الحرية وعن الكرامة والعدل والمساواة. فهل هناك من سبيل لإعادة تأهيل لمثل هذه المتون المؤسسة لاختيارات متوحشة وإرهابية، عبر تحويل جماليتها الاستعارية إلى لغة استدلالية مفاهيمية، تسمح بنزع فتيل سوء الفهم الذي يؤرخ في العادة لثقافة الكراهية على الجانبين؟ إن ما يراهن عليه هذا المقال هو تقديم معطيات إعادة قراءة لنص يلتمع جمالا وحدة، أقصد "معالم في الطريق": كراسة الموت التي بث فيها سيد قطب فوحا وفحيحا يخلط الجمال بالخطر.
1- سيد قطب من البحث عن الجمال إلى الموت من أجل الحقيقة:
من المفاتيح المركزية لقراءة الكتابة القطبية، استحضار العمق الجمالي الذي يمثل في الواقع مبحثه الأساس، باعتبار تكوينه الأكاديمي الذي انتهى به إلى بلوغ شأو كبير في مجال النقد الأدبي، ثم من جهة حضوره الشعري الذي قدم عبره لحظات شعرية ضاربة في الرقة والطلاوة اللغوية. لم يكن سيد قطب أبداً أزهرياً متمرسا بالنصوص الفقهية أو المباحث الشرعية على العموم؛ ويتبدى ذلك واضحا من المرجعيات التي عاود الاعتماد عليها، والإحالة إليها. لكنه على خلاف ذلك، كان عضوا نشطا في مدرسة أبوللو[3]، حيث أظهر تحكماً لا بأس به بالتراث الأدبي، مع انفتاح واسع على الحركة الأدبية المعاصرة له، والتي خاض حروبها وسجالاتها، منتصرا لرؤية عميقة لمفهوم الأدب ووظيفته.
المفارقة إذن داخل هذا النص التأسيسي لما يمكن أن ندعوه بالإسلام السياسي، هو تشكله داخل نفَس أدبي مرهف، يجعل البعد التنظيري على المستوى المفاهيمي ملحقا بل وثانويا، مقارنة بالصياغة الشعرية التي تدور بدءا ومنتهى على قيمة الجمالية، هذه التي تكتفي باعتماد صدق التجربة المولدة للنص أساسا لمصداقيتها، مستغنية بذلك عن مطلب الحقيقة الموضوعية، بكل ما تقتضيه من بناء واستدلال وسجال. من هنا نادرا ما نجد كتابات سيد قطب تحيل إلى كتابات الآخرين، وإن فعلت فإنما ببساطة استحضار نصوص يمثل تكرار استعمالها من طرف صاحب "المعالم" نوعا من الشغف المعرفي أكثر من أي شيء آخر. هذا ما نسجله في حالة كتاب "زاد الميعاد" لابن القيم، الذي مثل موردا مختصرا للأطاريح الشرعية، أو كتاب "الإنسان ذلك المجهول" لألكسي كاريلAlixis Karil ، الذي دعم ارتيابه في مدى صلابة المنطلقات النظرية للحضارة الغربية، والتي حسب سيد قطب، لن يكون بمقدورها أن تؤسس لمشروع حضاري للإنسانية، بينما هي لا تتوفر على تعريف بات وواضح للإنسان نفسه.
ما يهم صاحب "في ظلال القرءان" هو اعتمال الصورة الحية من خلال العبارة، دون أن ينشغل كثيرا باقتصاد الحقيقة الذي من الممكن لتفاصيله أن تشوش على المقدرة التجيشية لنصوص قطب؛ لأن ما يهم عراب الحساسية الجهادية المعاصرة، إنما ذلك الاختلاج الذي يمكن لسحر لغته أن يبته في الأفئدة، ومدى قابلية شحن وجدان القارئ بقوة التجربة الحية التي تمثل نبع كتاباته؛ فهو على هذا الأساس قد تعامل مع نصوصه الفكرية على نفس منوال تعامله مع النصوص الأدبية.
الأدب حسب التعريف الذي قدمه في كتابه المهم "النقد الأدبي أصوله ومناهجه" هو "التعبير عن تجربة شعورية في صورة موحية"[4]، وما يقصده قطب بهذا التعريف هو أن معقد تقييم كل عمل أدبي يدور حول الكفاءة اللغوية والتصويرية والبلاغية والموسيقية في نقل التجربة الوجدانية للمتلقي، ويمثل فعل القراءة بالنسبة إليه فرصة لأن يتضمخ المتلقي بجمالية التعبير ويشحن وجدانيا بصدق التجربة، وفي ذلك إغناء له، ورقي به من حيث ذائقته الفنية، ووجدانه الأخلاقي، ما دام الأدب، كل الأدب، سواء شعرا، أو نثرا، هو حاملٌ مختلفةٌ صورُه لقيم الحياة الراقية.
هذا البعد الأخلاقي الذي يضفيه الناقد سيد قطب على القول الأدبي هو ما سيسمح باستثمار هذا الخطاب في المجال الدعوي أيضا، حيث تنفتح أمامه آفاق العمل من خلال مشروع الداعية الذي يسعى إلى أن يمنح الحياة المعتملة في النصوص الأدبية أجسادا تحقق على أرض الواقع قيمها المتخيلة التي تم تصويرها في براعة ودقة. إن رهان الداعية والأديب ليس هو مجرد الأفكار أو الصور، بل تلك القيم التي يمكنها أن تتجلى سواء بمنطق التفكير أو بمنطق التصوير. ولعل هذا ما يجعل قطب يلح في جميع واجهاته على المسألة القيمية، التي تمثل في كل واجهات الوجود البشري المعضلة الأعمق والأصعب. هذا ما يفسر التركيز على هذا البعد الذي يطالعنا به في كتابه حول النقد الأدبي، حيث يلح على وجوب التعامل مع الأدب من حيث هو مزاوجة متزامنة بين قيم شعورية وقيم تعبيرية[5]، هو بالضبط ما سيفتتح به كتاب "معالم في الطريق" بعد سنوات طويلة، وأحداث جسام.
الأدب إذن، وسيلة للتحرير، معلم من معالم الطريق، والشاعر حمَّال لقيم، تسمح كفاءته التعبيرية، وصدق تجربته بأن يكون رسولا، يحمل رسالة ودعوة. من هنا لم يجد سيد قطب نفسه مطالبا بأن يتحول إلى عالم شرعي، لكي يندر نفسه لمشروعه الشامل، المتمثل في فتح منفذ للبشرية، يخرجها من مأزقها القيمي، ليسمح لها بالنجاة من خبو روحها، وفساد حياتها. لم يكلف صاحب "في ظلال القرآن" نفسه عناء قراءة الأدبيات السلطانية، ولا الخوض في التفاصيل الفقهية، التي كان يعتبرها بالمناسبة هي نفسها نتيجة للتنكب عن نهج الجيل القرآني، مما لا يجعل منها حلا جاهزا لمشاكل العصر التي هي قبل كل شيء معضلة قيمة وليس مجرد تفصيل فقهي حول نوازل طارئة. من هنا، فشعار "الشريعة هي الحل"، إذا ما فهمت على أساس أن التراث الفقهي هو خزان جاهز لحل كل المشاكل، قول لا يتناسب مع منطق سيد قطب، الذي يتجاوز مستوى الأحكام إلى مستوى المبادئ والقيم. لهذا، إن الاستعمال السيء للنصوص المتأخرة لقطب، والتي كتبت في غالبها خلف جدران الزنازن، وتحت وطأة المرض، لم تنتبه إلى الطابع الأدبي لهذه الأعمال، ولذلك فالالتصاق بحَرْفيتها هو في الواقع تحريف لها.
لقد عاش سيد قطب منذ حداثة سنه غربة حقيقية داخل عالم تدفع به واقعية العيش، إلى أن يتجوز في احتياطه للجمال، مغلبا الضرورات التي لا تكون دائما في مصاف القيم العليا، ولا تحترم الحساسيات المرهفة التي لا تنعم إلا وهي محاطة بتجليات الجمال في تنويعاتها الراقية. فحينما نقرأ شعر الرجل، من بدايات القرن العشرين إلى أواسطه، يتضح لنا أن عواطفه ظلت هي نفسها ولو تحت لبوس مختلفة، فهناك حنين دائم إلى طهرانية مفقودة بفعل ثقل الضغوطات المادية التي أصبحت تبدد كل الملامح الروحية للحياة، وتختزلها في حسية نجسة، تجعل قطبا الشاعر يردد باستمرار نوعا من الرثاء لاستحالة علاقة الحب في سياق بكل هذه الرجاسة، كما تتسم أجواؤه الشعرية بإحساس ملازم بالغربة داخل واقع محكوم بالمنطق القطعاني الذي لا يشغل نفسه بأسئلة القيم أو الغايات، وإنما ينخرط في حياة من التبعية الضحلة.
لقد مثلت تجربة الحب المُحبط باعثا قويا في تشكل حساسية قطب؛ فقد راهن على الحب منفذا للعوالم الروحانية، لكنه في كل مرة يجد أن مطلب التعالي هذا يتحطم ويرتكس نحو حسية صادمة بالنسبة إلى طهرانيته الرومانسية أولا، قبل أن تكون دينية؛ ولعلنا نتفاجأ من رهان قديم لسيد قطب على عبادة الجمال:
وحبيب قد سمت روحي إليه وعبدت الطهر فيه والجمال[6]
بل إنه في إحدى قصائد الثلاثينيات، ينبه إلى أن الجمال يعبد بسهولة، أكبر من عبادة الأديان؛ لأنه الأقرب إلى وجدان الأنسان، والأنسب مع منزعه الفطري:
لك يا جمـال عبادتـــي لك أنت وحدك يا جمـال
تعصى تعاليـم الطغــاة أو الهــداة على ضـــلال
وتجــانــــب الأديـان أو تنسى وتهجر عن مــلال
واراك وحـدك يا جمـال تلقى الخضوع والاحتفال[7]
امتناع الحب على منوال طهراني، يفتح قطب الشاب على يباب من الغربة العميقة، وهو الإحساس الذي سيأخذ منقلبات صادمة، حينما ستنضاف إليه مشاعر الظلم والقهر، لكي تكمل تركيبة الذات الكافرة على إطلاق، بأي إمكان لاستعادة وشيجة القرابة مع جموع مأخوذة بتكرار ما تسمع، ومعاقة قبالة مهام الفكر والتجديد
وتقاليــد وأســـرى يعبـدون هــذه الأصنـام مغلولي الفكـر
وإذا ثرت عليها يسخطــون ويقولــون إنما ضـــل وكفــر
ويحهم ما تراهــم يبتغــون؟ أترى نحيا شخوصا من حجر
هذه الإدانة الشاملة والجذرية للجموع، هي ما ستجعل قطب يراهن على بناء صفوة تبني قوتها انطلاقا من مدى قدرتها على القطع مع منطق السائد والقائم، وهو ما يسمح لها باستقلالية حقيقية، تؤهلها لمهمة البعث الجديد لما أصيب بالضمور والوهن والتشوه. الغربة إذن هي مؤشر على التميز وعلى القابلية لتحمل مشروع التحرر الكبير من ربقة التقاليد وعبادة الأصنام، سواء على شكل أنماط حياة مرتكسة ومرصودة لتلبية الحاجيات اليومية دون أي غايات ومثل عليا، أو على شكل مشاريع تحريرية زائفة تجعل الإنسان يستبدل طغيانا بطغيان، حينا باشتراكية ضحلة لا تفي بوعودها أبدا، أو رأسمالية مرابية تعتقد أن مراكمة الثروة كفيلة بملء الخواء الروحي للإنسان. وهذا ما سيعبر عنه قطب بالكثير من التعالي القيمي، سواء في مقالاته/ الرسائل حول رحلته الصادمة إلى أمريكا، أو في قصيدته الشهيرة حول الدولار الذي سيتحول من منظوره إلى صنم جديد تطوف كل القبائل المتاجرة حوله "هبل.. هبل.. هبل رمز السخافة والدجل". فحين نتوقف عن عبادة آلهة الناس، فإننا نختار حينئذ بالضرورة غربتنا
غريب أجل أنا في غربة وإن حف بي الصحب والأقربون
إن مشكلة العالم في هذه المرحلة من نصوص سيد قطب، تكمن في غلبة البشاعة والشناعة بفعل ضمور الجمال تحت وطأة الحسيات الخانقة. لهذا، فكل رهان الرجل كان منعقدا على محاولة التمرس إبداعا ونقدا على ضبط طرائق الخلوص إلى هذا الجمال تعبيرا وشعورا، وذلك لأجل استعادته، واقتسامه. ولم يعتبر صاحب "التصوير الفني في القرآن"[8] النصوص الدينية استثناء، فهي أيضا بدت في هذه المرحلة مجالا فاتنا نصادف فيه تجليات الجمال، تعبيرا وتصويرا، بل إن قطب يعتبر بأن الحواشي التفسيرية، والتشريعية، أصبحت تحول دوننا وما يدعوه "بالقرآن الجميل"، الذي سكن طفولته، وسحره مثلما سحر العرب الذين تنزل بين ظهرانيهم.
ولن يكون للقرآن وقعه، إلا إذا ما استحضرنا هذه الجمالية البلاغية الأخاذة، فهي مفتاح الشحن الروحي الذي مثل رهانا للرجل عبر كل مراحله الفكرية والأدبية. إن البحث عن الصورة الجميلة بحساسية شاعر هي ما سيرجع هذا الغارق في أفاويه الأدب وأفانينه نحو قرآن يسكن في تلافيف ذاكرة "طفل في القرية"[9]، قرآن متخفف من سطوته التشريعية، لكنه يتمتع بكل ألقه البلاغي الذي بمقدوره أن يوفر لنا ملجأ ومرجعا جماليا عميقا، بشرط أن نفهم آلياته البلاغية من حيث هي صور لا وقائع، لنترك الكلمة مرة أخرى لسيد: "وعدت إلى القرآن أقرأه في المصحف لا في كتب التفسير، عدت لأجد قرآني الجميل الحبيب، وأجد صوري المشوقة اللذيذة. إنها ليست في سذاجتها التي كانت هناك، لقد تغير فهمي لها، فعدت الآن أجد مراميها وأغراضها. وأعرف أنها مثل يضرب لا حادث يقع.... ولكن سحرها ما يزال، وجاذبيتها ما تزال...الحمد لله. لقد وجدت القرآن"[10].
إنه قرآن مختلف عن ذلك الذي يستعمل في تسويغ الاختيارات الدموية لما اصطلح عليه بالإسلام السياسي؛ فهو نص يضرب الأمثال، ويصور ويقص، ولا يقتص بعد من أحد، لأن رهانه هو بناء القيم التي دونها تصبح الأحكام تائهة، ومفتقدة للمعنى. ليس يعني هذا طبعا، أن قطب يعطل البعد التشريعي للقرآن، وإنما يعلقه إلى حين، ويضعه بين قوسين، لأجل استجلاء جمالية القرآن المكي خصوصا، وهو يبني العقائد من خلال شحن روحي يتخذ السحر البلاغي سبيلا. "إننا لنستطيع أن ندع مؤقتا قداسة القرآن الدينية، وأغراض الدعوة الإسلامية، وأن نتجاوز حدود الزمان والمكان، لنجد بعد ذلك كله هذا الجمال الفني الخالص، عنصرا مستقلا بجوهره".[11]
إن القراءة الحرفية للقرآن، هي الضد المطلق للمشروع القطبي، على الأقل في واجهاته البلاغية التي لم تجد أي حرج عن الحديث عن الفنية، بل إن سيد قطب كان يراهن في هذه اللحظة على إخراج كتب أخرى تسعى إلى استثمار هذه الواجهة الجمالية في القرآن. ("القصة بين التوراة والقرآن"، "النماذج الإنسانية في القرآن"، "المنطق الوجداني في القرآن"، "أساليب العرض الفني في القرآن")، وهي كلها للأسف نصوص حالت ظروفه دون إخراجها، وكم كانت المكتبة النقدية العربية ستربح لو كتب لمثل هذه الأعمال أن تستفتح مسلكا جديدا في التعامل مع النص القرآني.
ما نرومه من التذكير بهذا الجانب المنسي من ذلك الذي يعد مُنًّظرا للتطرف الديني المعاصر، هو بالضبط التنبيه على أن تطرف رد الفعل من الجهتين، يمكنه أن يولد عماء معرفيا هو في الغالب التربة الخصبة لثقافة الإقصاء والعداء، فأن نطوح برجل من هذا الحجم في خانة كَتَبة الدم والتدمير، هو في رأيي استمرار في الانخراط داخل دواليب خطاب التشنيع الذي تبرَعُ فيه كما العادة الأذرع الإعلامية للأنظمة المستبدة. طبعا ليس في نيتنا تبرئة صاحب المعالم من انزلاق ما نحو حماسة زائدة في إطار التدافع السياسي، وحدة الكتابة السجنية التي من المستحيل أن تخلو من روح الضغينة تجاه جلادها، لكننا مع ذلك ندعي أن القامة الفكرية، وعلى الخصوص النقدية الأدبية، تجعلنا نستبعد أن يكون المقصد الفعلي لما سطره في كتاب المعالم، هو ما نزلته الجماعات التكفيرية في سذاجتها التنظيمية، وبشاعتها الدموية؛ لا لشيء إلا لأن ما فهمه الأتباع داخل أفق شرعي كان بالأولى أن يوضع في سياق بلاغي مختلف، يسمح بأن نستخلص منه أطاريح ومواقف، تخلو من كل تلك العدوانية الجذرية نحو الحياة والعالم، ويكون في مقدورها أن تتحول إلى تعبير أدبي عن مواقف من المقبول أن تجد لها مكانها في سياق العالم المتحضر. ماذا لو كانت الشحنة الجمالية الأخاذة في كتابات قطب تخفي مقولات متداولة في الفكر الليبرالي المعاصر؟ وبالتالي، فإن تأويلها على هذه الشاكلة، يمكنه أن يسحب نصا قويا من يد أطراف لا تصل فعلا إلى مستواه، بل ألا يسمح مثل هذا التمرين لنا جميعا بأن نجرب الاختلاف داخل سياق أكثر تسامحا، حيث يتفهم الحداثيون الطبيعة الشعرية لبعض النصوص فيقرؤونها بميزان يلائمها، ويتفهم أطراف الإسلام السياسي أن مُثلهم ومآخذهم ومطالبهم قابلة لأن نعبر عنها بلغة مفاهيمية تسمح لها بأن تخضع لمعيار الحقيقة الموضوعي، عوض أن تظل غارقة في عماء الوجدانيات التي لا تفلح في إيصال كلمتها إلا لمن هو غارق فيها ومعتقد بها؟
معالم في الطريق: نهاية الجمال وبداية الحقيقة
لم تنحسر قليلا صورة قطب الأديب الناقد وتشرئب ملامح المفكر الثوري إلا من خلال عمله الذي سبق تأليفه في الغالب عن رحلة أمريكا، وإن كان قد حمله معه على شكل مسودة راجعها، وهو في عقر عالم كان يتوجع بالكثير من المفارقات القاتلة بين الحرية وبين المساواة، وأيضا من تفاوتات لا تقوم دائما على أساس من الاستحقاق. أقصد بالعمل "العدالة الاجتماعية في الإسلام"[12]، الذي مثل ردة فعل عميقة إزاء الصورة البشعة للظلم الذي يمثل مقتل كل جمال ممكن؛ إن كل البشاعات الأخلاقية يمكنها أن تواجه على مستوى التجربة الذاتية، وأن تعالج بأنفاس من الجمالية الشعرية، بيد أن ذلك لا يجدي في شيء مع صور الظلم، لأن هذا عكس الانحرافات الأخرى لا يلامس المشاعر فقط، ولكن الوجود الموضوعي للإنسان نفسه، وهو ما يجعلنا وجها لوجه أمام الشيء العمومي الذي هو المدخل الملكي نحو السياسة بدلالتها الصلبة.
أجل قد خاض قطب في السياسة، وانخرط في حراكها وتدافعها مع حزب الوفد، بل لعل ذلك ما جعل النظام الملكي يحاول التخلص منه عبر إبعاده نحو أمريكا في إطار بعثة تكوين، لكن التفكير الجدري في عدالة المجتمعات لا في مجرد هذا الوضع أو ذاك الحدث، إنما افتتحها قطب من خلال هذا العمل، الذي جره أيضا نحو الاشتغال بالتاريخ الإسلامي خصوصا. ويمكننا أن نستحضر في هذا الصدد، احتفاءه برواية نجيب محفوظ، الكاتب الشاب حينئذ، "عبث الأقدار"، حيث يلح سيد قطب الناقد على أهمية انفتاح المجتمعات على تاريخها القديم - الفرعوني في هذه الحالة- من حيث هو خزان للشحن الروحي والوطني. لكن الرهان في حالة قطب هو فتح أوراق التاريخ الراشدي[13]، ما يمثل تحديا كبيرا للمقاربة البلاغية الرخية التي عاش من خلالها تجربته الدينية؛ فإذا كان الظلم بشاعة تتحدى الجمالية البلاغية، فإن التاريخ هو امتحان يشوش على فنية النص الديني من خلال واقعيته.
لقد عاد سيد قطب كثيرا للتاريخ في كتب أخرى، لكننا مع ذلك لم نجده يوما يؤقنم هذا التاريخ بنفس التبسيطية التي ستسود أدبيات كتاب الصحوة اللاحقين، حيث لن يتردد في اتخاذ مسافة فاصلة مع بعض الخطوط الحمراء الشهيرة في الكتابات الشرعية التي جعلت كل الصحابة عدولا لا يجوز في حقهم أي نقد أو تجريح، لهذا سيكلفه ذلك الفصل الذي أفرده لنماذج من التاريخ الإسلامي الكثير من العداء السلفي، الذي بلغ حد التكفير بسبب انتقاده وتشريحه للحكم الأموي، ولمواقف عثمان الصحابي المبشر بالجنة، الذي مع ذلك لم يسلم من نقد قطب، حيث اعتبر ما نتج عن خلافته بداية الخروج عن روح الإسلام "فلما جاء الأميون، وصارت الخلافة ملكا عضوضا في بني أمية، لم يكن ذلك من روح الإسلام، وإنما من وحي الجاهلية"[14]. إن نموذجية التاريخ الإسلامي ليست شاملة، بل تنحصر في لحظات رقي كبرى سمحت لشخصيات بطولية بأن تنتزع نفسها من نظام قيمي قديم وغلاب، إلى نوع من الإبداع في صور الحياة وتأكيد الذات في حريتها وعدم اشتراطها بالمكونات الثقافية السائدة، لذلك فقد كانت مآخذه على عثمان كونه أبدى نوعا من الضعف والارتكاس إلى نفس النظام العصبي السابق عن لحظة ابتداع العالم الحي للإسلام، من خلال من سيدعوهم بالجيل القرآني "هذا التصور لحقيقة الإسلام قد تغير شيئا ما دون شك عهد عثمان - وإن بقي في سياج الإسلام- [15] لقد أدركت الخلافة عثمان، وهو شيخ كبير ومن ورائه مروان بن الحكم يصرف الأمر بكثير من الانحراف عن الإسلام".[16]
إن فكرة التاريخ التي وجهت تطلعات سيد قطب ظلت في جانب منها محكومة بظلال الصورة الأدبية للبطل، ولكن البطولة في التاريخ هي حدث لا يغذي فقط الأحلام الذاتية للأفراد في لحظات صفائهم الجمالي، بل يمكنها أن تشهد بقابلية هذه البطولة من حيث هي انتصار لقيمة وتنزيل لفكرة، لأن تكون مستندا لمشروع حضاري عام يحول الصدق الوجداني إلى حقيقة فعلية. إن البطل لا يكون ملزما إلا بقدر ما يجسد القيمة، فهو بالتالي ليس شخصا أو فردا، بل نموذجا لعبقرية تتقوم بقوام الروح والفكر الذي لا يحده زمان ولا مكان ولا عرق أو عصبية.
إن الحقيقة التي ستوجه أعمال قطب منذ باكورة كتابه الفكري هذا، ستدور على محك القيم في بعدها الكوني دون سواها، فلم يسع سيد أبدا لكي يجعل درس التاريخ مستندا لإلزام الناس بمشروع ثقافي ناجز ينبغي على الناس تكراره بحذافيره دون أن يكلفوا أنفسهم واجب التمحيص والنظر والنقد، وإلا فما الذي يجعل قطب يضع صحابة كبارا في ميزان النقد، على منوال المدرسة العقادية التي تربى الرجل لسنين داخل حساسيتها الأدبية والفكرية.
في الواقع، هذا التصور القيمي للتاريخ يمثل وجه شبه مع الفكر الليبرالي الذي حاول دائما أن يقاوم تبسيطية حل قضايا السياسة من خلال نماذج ثقافية واحدة، ولعل هذا ما جعل مفكريها في الغالب موضوع نقد من طرف التوجهات المحافظة، التي أخذت في وقتنا الراهن صورة نزعة جمعاتية قومانية؛ وذلك لقدر ما راهنت الليبرالية دائما على وجوب تجاوز النسبية الثقافية من خلال اعتماد قيم تشكلت في أتون التاريخ، لكنها مع ذلك ليست مجرد ظواهر تاريخية، مما يجعلها قيما قابلة للتدويل الذي لا يعتبر اعتداء على الخصوصية الثقافية، بقدر ما هو إنقاذ للثقافات من لحظات الاحتقان والشلل أمام المعضلات السياسية والاجتماعية الكبرى.
يجعل تصور قطب للتاريخ الإسلامي على هذه الشاكلة في تقاطب حاد مع التصورات السلفية التي تناصبه العداء بشكل مبدئي، ولا تقبل منه زخمه الدعوي إلا مع الكثير من التحفظات والتشذيبات، التي قد تتحول فعليا إلى تشويه عميق لفكره. فقد كان مبتغى قطب يتوجه إلى روح للإسلام فوق- ثقافية، بإمكانها أن تنجح في كل مكان في العالم، لا من حيث هي انتصار لثقافة على أخرى، بل باعتبارها رشاد ونضج يوفران قيما تناسب الإنسان حينما يفهم نفسه على نحو تكاملي يجمع المادي بالروحاني، بينما انشغلت القراءة السلفية بقشور التاريخ الإسلامي، بل أضفت عليه الكثير من الخصوصية العربية، التي يمكنها أن تكون بمنطق قطب عودة أخرى إلى نعرات جاهلية قبلية ضيقة ومقيتة.
هذا النفس الليبرالي الاجتماعي يظهر أكثر وضوحا في فهم سيد قطب لمبادئ العدالة الاجتماعية نفسها، التي يحددها في ثلاثة أسس: أ- التحرر الوجداني المطلق، حيث إن الخيرات التي يراهن قطب على أنها تشكل عدالة القسمة لا تختزل إلى مجرد الخيرات المادية الصرفة، بل إن مطالب تتجاوز هذا البعد الحسي البهيمي، نحو خيرات تهم بعده الروحي ، ما يمكن أن نعيد صياغته بلغة حداثية بالقول: إنه يكمن في الكرامة الإنسانية، والحرمة التي تجعل حقوقا معينة لدى الإنسان غير قابلة للمساومة أو المتاجرة، لهذا يعتبر قطب أن الإنسان لن يكون ذاتا قادرة على فهم العدالة وتحمل مقتضياتها، إلا حين يتحرر وجدانيا من إكراهات الضرورات، التي ينبغي أن يكفلها له صاحب الأمر بالضرورة ضمانا لإنسانيته، ولكن كذلك عليه التحرر من إكراهات الخسة التي تجعله يبيع كرامته من أجل متع بهيمية. هذا النضج ينتهي بنا إلى الأساس الثاني ب - المساواة الإنسانية الكاملة، التي تعتبر أن العدالة ليست شأنا محليا خالصا، إنها ليست انتصار طرف من البشرية على آخر، ولا، استغلالا له واستعبادا، لأجل جانب من الإنسانية، بل العدالة هي سيادة النعمة الإلهية استحقاقا من خلال الملكية الخاصة أو تكرما من خلال التكافل بين الناس؛ فلا يمكن الحديث عن العدالة الإسلامية إلا من حيث هي مشروع كوني يخص الناس أجمعين.
لكننا للأسف، كثيرا ما نخلط بين الرأسمالية في صورتها الاستعمارية، وبين المشروع الليبرالي الذي راهن على التجارة العادلة عوض الحرب وسيلة لخلق مجتمع إنساني يفسح المكان للجميع كي يحيا؛ إن تصورا كونيا للعدالة هو بالضبط ما وجه المشاريع الليبرالية الكبرى، طبعا قد عرف ذلك منقلبات قاتلة من خلال السياسيين الذين كانوا في أغلبهم عسكريين، لكن هذا لا يمنع أن الأصل داخل هذا الفكر كان هو إشاعة العدل والرفاهية بين الناس، وهو نفسه المنقلب الذي عرفته كتابات قطب من خلال المحاربين الجهاديين. إن المساواة وعدم التمييز اللذين يعطيان للفرد هامشا من الحرية يتجاوز العوائق الثقافية أو الجندرية[17]، ينفتح في الأخير على الأساس الثالث، الذي يصالح الفرد مع الجماعة من خلال: ج - التكافل الاجتماعي الوثيق، الذي يضمن أن الحرية الاقتصادية للفرد لا تحدوها رغبة عمياء في المراكمة الجشعة للثروات، بل إنها فعالية اقتصادية تضع في اعتبارها أن كل ملكية خاصة منغرسة بشكل ما، داخل عمق عمومي يعبر عنه قطب بالاستخلاف المالي، وهو يؤاخذ في هذا الباب الرأسمالية على أنها تغلب البعد الفرداني للملكية دون اعتبار للجماعة، وفي هذا تشجيع للفعالية الاقتصادية، مثلما يؤاخذ الاشتراكية على كونها تقتل الدوافع الطبيعية لهذه الفعالية من خلال إلغاء الملكية الخاصة، وهذا في الواقع نفسه النقد الذي وجهته الليبراليات الاجتماعية للتصور الاكتنازي للرأسمالية الساذجة، التي كانت تعتبر أن العدالة الاجتماعية مجرد وهم يتعارض مع مبدأ الحرية. إن كل التفاصيل المهمة التي سيوردها سيد قطب في كتابه الألمعي هذا، إنما حاولت بإصرار استجلاء روح لإسلام لديه ما يستطيع من خلاله خلق توازن تم افتقاده في عالم متقاطب ومتناحر يشرخ الوجود الإنساني على نفس منوال الأطروحات المتطرفة المعاصرة، إلى معسكر خير وشر تتحدد معالمه حسب المرجعية الإيديولوجية التي ننطلق منها.
هذا الحدس الخَلاصي الذي تشكل بوضوح في هذا العمل، هو ما سيطوره قطب باستمرار عبر الكتابات اللاحقة، التي ستنتهي به في نهاية المطاف إلى خلاصات "المعالم" التي رغم ظاهرها التعبيري الحاد، والصادم أحيانا، فهي مع ذلك تنبني على نفس هذه لمقدمات التي ليست بالقتامة التي بدت عليها في تأويلات أدبيات الإسلام الجهادي، الذي خلط بين سؤال القيم، ومسألة السلوكيات التبسيطية، وبين الكونية الإنسانية، وبين التفوق الثقافي للإسلام من حيث هو مكسب جزء من البشرية مطالب بفرضه على العالمين بحد السيف وإشاعة الرعب، الذي سيأخذ في أبشع صوره التبريرية صورة مغنم حربي، ورفاهية حسية تترجم بالأحرى المنطق الاكتنازي للرأسمالية، أكثر مما تجسد حرب القيم التي تحدث عنها قطب نفسه.[18]
لعل هذا بالضبط، ما جعل مفتتح كتاب "معالم في الطريق" يضرب صفحا عن السياسي، ويصر على أن الخطر المحدق بالبشرية هو افتقادها إلى قيم توجيهية واضحة وصلبة، لأجل تأسيس مشروع حضاري لَام، قادر أن يجعل البشرية تخرج من شتاتها المذهبي والعرقي والاقتصادي، من خلال نقطة أرخميدس[19]التي تتمثل حسب رأيه في إله يمثل كائنا متعاليا يجعل كل البشرية مسؤولة أمامه على كرامة الإنسان، وعدالة حياته. إن منطلق هذا العمل في الواقع هو معاينة البشاعة الحقيقية التي تجعل كل جمال ممتنعا، وتحيل سؤال الحقيقة إلى مهمة محفوفة بمخاطر الأشباه التي تخلط كل الأوراق أمام إنسان لم يعد قادرا على أن يبت أو يقرر في أي من مشاريع حياته، ومرد كل ذلك إلى غياب سند قيمي مرجعي يمكنه أن يوحد العالم، ويفسح الإمكان أمام أممية تتجمع على أسس أخلاقية تكفل الحرية والكرامة للجميع.
"تقف البشرية اليوم على حافة الهاوية...لا بسبب التهديد المعلق على رأسها...فهذا عرض للمرض وليس هو المرض.. ولكن بسبب إفلاسها في عالم "القيم"".[20] يفتتح قطب كتابه بهذه العبارة التي تلخص في الواقع كل شيء في مشروعه الفكري؛ لا بد من استعادة عالم "القيم" الذي تبدد عبر المسار الطويل لتاريخ مثخن بحروب دينية، جعلت الحضارة الغربية تؤسس اختياراتها على عداء للدين، صريح أحيانا وغير معترف به أحيانا أخرى، وتعمل على تغليب التصورات العلموية للعالم، التي انتهت إلى وضع غارق في النجاحات التقنية، لكنه مفلس على مستوى القيم المعيارية، سواء تعلق الأمر بالجمال أو الخير أو الحقيقة نفسها.
على الرغم مما يظهر من رجعية هذا الموقف لأول وهلة، فإننا قد نجد له مخرجا مختلفا إذا استحضرنا أمرين: أولا، إن قطب يتحدث عن القيم وليس عن سلوكيات أو مظاهر ثقافية بعينها، وهذا يفيد أن رهانه ليس محافظا، بل ثوريا يسعى إلى أن يفتتح لحظة جديدة في التاريخ، من خلال بعث الحياة في قيم متفوقة أخلاقيا، عوض أن يستأنف شكلا محددا من أشكال الثقافة والحياة. وهذا ما يجعل عبارة البعث التي استعملها كثيرا في كتابه هذا، أقرب منها لكلمة renaissance بدلالتها الغربية منها إلى عبارة الصحوة الإسلامية التي ستصبح سائدة بعد ذلك؛ فكما أن النهضة الأوروبية لم تكن رجعية، وهي تسعى إلى استعادة الروح اليونانية لكي تخلص نفسها من البوار القيمي للقرون الوسطى، فكذلك يصح أن نعتبر بأن الدلالة الأولية للبعث القطبي ليس رجعيا على الصورة السلفية الضحلة والمتشنجة، والتي ستتحول بفعل عوامل هيمنة مادية قبل أن تكون فكرية إلى القراءة الرسمية لمفهوم الصحوة. الأمر الثاني الذي يمكن أن نستحضره في هذا الصدد، هو أن إدانة الإفلاس القيمي في مرحلة ما بعد الحرب، وإبان انقسام العالم حسب إيديولوجيتين تعتبران كل حكم قيمة حكما يفتقد لأية شرعية علمية، سواء بالدلالة الماركسية أو الوضعية التي سادت داخل الأوساط الثقافية والأكاديمية، التي عايشها قطب أثناء زيارته لأمريكا، خصوصا من خلال التوجه التحليلي الذي ركز كل مشروعه على اجتثاث هذه الأحكام المعيارية وإظهار توتولوجيتها وخوائها القضوي. إن النظر إلى التفوق التقني بعين الحذر حينما يفتقد إلى دعامات قيمية صلبة، لم يعتبر بالأمر الغريب في تلك المرحلة، فكثيرة هي اللحظات النظرية التي كانت تطلق نفس الإنذارات المتخوفة من بشرية تفرغ هويتها باسم العلم من كل ما هو إنساني.
لقد كانت معركة الليبراليين داخل السياق التحليلي خصوصا في الأوساط الأنجلوسكسونية، تدور بالضبط على محاولة الخروج من سطوة هذه النزعة العلموية، وتحصيل بناء جديد لمبادئ تعيد تسويغ القيم الأخلاقية الأساسية المتمثلة في حقوق الإنسان الأساسية، التي لا يمكن أن نضمن إنسانية العالم بدونها. ومن هنا، فإن مشروع قطب وحساسيته لا تبدو غريبة على التصور الليبرالي، على الأقل من جهة توجسه وحذره من نفس الخطر.
ومن المعلوم أن أغلب القراءات الليبرالية حاولت أن تستعيد آلية العقد الاجتماعي لأجل إعادة التفكير في معضلات القضايا الأخلاقية والسياسية التي يواجهها العالم المعاصر، وهو ما اقتضى اللجوء إلى فرضية وضع مثالي سابق عن التاريخ يلعب دور مَعلم توجيهي، أو لنقل لحظة خروج من الثقافة الفاسدة للوضعية الراهنة. إن التفكير من خلال الانخلاع القاطع من السياق الثقافي المباشر، هو ما نجد لدى قطب عبر مفهوم الجيل القرآني؛ الذي لا يفيد كما سلفت الإشارة مرحلة تاريخية، إنما وضعا قيميا خاصا، يمكن استعادت شحنته الروحية عبر عصور التاريخ.
وما يميز هذا الجيل حسب قطب هو قدرته على تنزيل القيم على أرض الواقع دون تخاذل، إنه رعيل مثالي أخذ المسألة القيمية بجدية كاملة، ولهذا فهو لم يضعف أبدا أمام الإكراهات الثقافية الخاصة، لقد تخلص من ضغوطات القبيلة والعصبية ومنطق المرابحة التجاري[21] كل ذلك في سبيل تمتيع الإنسان، كل الإنسان بقيمة الحرية، التي تتمثل في تخلصه من ربقات الارتهان والاشتراط بما هو نسبي، والارتباط بقوة عليا تملك كل شيء ولا يملكها أحد، هذه القوة هي الله في صورته الأولى المكية، وهو السلب المطلق لكل طغيان بشري يسعى إلى حرمان الإنسان من كرامته؛ إن تركيز قطب على الحاكمية الإلهية لم يكن أبدا دفاعا عن نظام حكم فعلي قائم في الأرض، ولقد مر بنا أنه نظر إلى صور ما يدعى بالحكم الإسلامي بالكثير من الحذر والاشتباه، منذ لحظة عثمان نفسها، بل وعبر عن إدانة صريحة لهذا النموذج الأموي الذي أخطأ قيمة السلطة في صورتها الإسلامية، وهو الانزياح الذي سيتم توارثه عبر كل التجارب التاريخية التي ستأتي لاحقا. لقد دافع قطب من خلال مفهوم تعبيد الإنسان لله، على صورة جذرية للحرية؛ بكل بساطة لأن الله لا يوجد في التاريخ، بل هو أفق متعال يمكن تعديل أي نظام حكم حسب معياره العام، الذي يمكن تلخيصه في كون الإنسان خلق للحرية المسؤولة أمام البشرية جمعاء، وأن الناس سواء أمام الله، والتفاوت بينهم لا يبرر إلا من خلال قدرتهم وكفاءتهم في الالتزام بمقتضيات المسؤولية هذه.
ماذا لو استبدلنا كلمة الله بكلمة العقل من حيث هو أداة لتبرير وتسويغ الحرية الإنسانية حين يضع نفسه في الإطار المعقول للأفق الأخلاقي، ألا نجد وجها للشبه بين تصور المعالم والتصورات الليبرالية، التي دافعت أيضا على قيمة الحرية المبررة والمسؤولة أمام الآخر من حيث هو ذات عقل وأخلاق، سيكون ذلك ممكنا حينما نفهم المرجعية القطبية دون أن نثقلها بالدلالات الشرعية الفقهية، التي لا نجد داخل كتاب المعالم ما يوحي باستحضارها الحرفي، فالمقصد كان باستمرار هو روح إسلام يعادي كل محاولة للهيمنة على الإنسان باسم شيء آخر يعادل الإنسان أو يكون أقل درجة منه. الحال أن الحضور الإلهي كأصل للحرية والكرامة لا يتنافى مع اختيارات العقل، لأن هذا الأخير حين يسقط في نزعة حاسبة يتحول إلى أداة استلاب يمكنها أن تبرر الكثير من الشناعات، لهذا فالعقل بهذا المعنى ليس مجرد آلة أو ملكة، إنه خزان لقيم الاستقلالية التي لا تعني بالضرورة التحلل من أي إكراه أو مسؤولية، بل هي بالأحرى إلزام للنفس بالبقاء على الدوام في خانة قيم الحرية والعدالة والمساواة التي تمثل أثافي الإنسانية المتحررة.
هذا التصور يقتضي أمرين: أولا التحرر من إكراهات الثقافة المضادة لهذه القيم، والقدرة على التفكير في معضلات الحياة بعيدا عن شعاراتها السائدة، وهذه الجذرية هي ما يعبر عنها قطب باستعارة الجاهلية، التي لا تفيد بالضرورة مرحلة تاريخية، مادام أنه وصم بها العهد الأموي نفسه، بل هي وضعية وجودية يفقد فيها الإنسان حريته وكرامته أمام مخلوقات ثقافية نسبية، سواء كانت أصناما ظاهرة أو خفية. الجاهلية بهذا المعنى، هي كل وضع يحيد فيه الإنسان عن قيم الحرية والكرامة، ولعل الخطأ في تأويل هذه الاستعارة يعود إلى التعامل بدلالة حرفية مع هذه الكلمة، وهو ما جعل بعض قراء الكتاب، يعتقدون أن الخروج من الجاهلية يتحقق بالضرورة عبر هجرة مكانية على منوال ما فعل المسلمون الأوائل في سياق خاص جدا؛ الحال أن الأمر يتعلق بعقلية أكثر منه بوضعية واقعية، فالهجرة بهذا المعنى لا تتم من خلال فعل جسدي، بل حسب منوال فكري صرف؛ يكفي أن نفكر من خارج المربع القيمي السائد، لكي نكون في وضعية هجرة حقيقية.
يوجد شبه لهذه الهجرة في الفكر الليبرالي المعاصر، الذي يلح على ضرورة التمرن على التفكير بعيدا عن القيم الثقافية الخاصة، لأجل القدرة على خلق فضاء عمومي يتجاوز الأنماط المحلية للتفكير. فكل ثقافة تحتاج إلى لحظات انخلاع خاصة، توفر مسافة ضرورية لبناء الموضوعية في الفكر السياسي، فلا شيء يمنع بالنسبة إلى الليبرالي أن نفتح نقاشا لا يلزم نفسه بالعوائد الفكرية السائدة داخل الجماعة، اللهم تلك النواة من القيم الأخلاقية الكونية التي تهم البشرية جمعاء، ولا تخص ثقافة بعينها، هذا مثلا ما يدعوه لوك بمعقولية الدين المسيحي، أو قوانين العقل لدى توماس هوبس، أو السيكولوجية الإنسانية العامة عند جون رولز، فإذا كانت الهجرة هي الخروج من أنماط تفكير فاسدة وإن كانت سائدة، فإن هذا تقليد ليبرالي شهير. إذا ما فهم الأمر على منوال استعاري على الشاكلة التي أسلفناها.
إن نص معالم في الطريق بالغ القسوة حين نأخذه مأخذا حرفيا، لكن إذا ما دفعنا به إلى أن يؤول نحو لغة أكثر قابلية للاحتواء داخل الخطاب المعاصر، وأظهرنا أن نسخة معدلة منه على المستوى التعبيري يمكن أن تقبل كتصور من ضمن تصورات أخرى تدافع هي أيضا عن العدل والحرية، وتنبذ العبودية لغير الله، هذا الذي ينبغي أخذه بدلالة عامة تفيد ما يتجاوز الفرد في حدود إرادته الانفعالية الضيقة، ويمثله في حدود إرادته المعقولة والمسنودة بقيم أخلاقية عليا. من البين طبعا أن فصولا كثيرة تعاند وتستعصي على مثل هذا التهذيب اللغوي الذي ينطلق من قراءة تحسن الظن بالمقصد العام للكتاب، وتتعامل معه باعتباره نصا أدبيا، عبًّر بصور قاسية عن أفكار لها جانب من المعقولية إذا ما أعيد تبريرها. وهذا أمر تم بالمناسبة مع نصوص ليبرالية كلاسيكية تعاملت مع العبودية ومع الاستعمار بكثير من التسامح، يمثل جون لوك أحد النماذج المهمة لهذه الوجوه التي كانت في حاجة لإعادة الصياغة.
مثلا قد تبدو النظرية الجهادية لدى قطب عنيدة وعدائية، وتخطط لإخضاع كل العالم لمنطقها، حيث تبدو البشرية تحت ناظره حسب فهمه لابن القيم، إلى مسلم مؤمن، ومسالم له آمن، ومحارب خائف، يمثل الأول المسلم المستوفي لمقتضيات الدين العقدية والشعائرية، ويمثل الثاني الذمي الدافع للجزية، بينما العنصر الأخير فهو عدو الإسلام المحارب له، فبالقليل من التفصيل الفقهي يمكن الدحض الشرعي لهذا القول، وهو ما انبرى له المرشد العام للإخوان حسن الهضيبي في كتابه "دعاة لا قضاة"، لكن ماذا لو استبدلنا جهاد بعبارة "الحرب العادلة" the just war، التي تفيد في القاموس الليبرالي الحق في التدخل الدولي حينما تكون حقوق الإنسان الأساسية في خطر، أي حينما يُستعبد الإنسان، ويحرم من قوام إنسانيته بفعل غصب وتنكيل وطغيان، فإذا كان القصد من الجهاد هو حماية الإسلام، والسماح له بأن يُبلغ كلمته، وأن يقيم شرائعه، فإن هذه الحرب العادلة التي تدافع عن مثل هذه القيم هي ما يمثل حلف العالم الحر، ولا مانع من انخراط هؤلاء المسلمون في الدفاع عن نفس القيم وفي ذات الجبهة، وذلك عوض إعلان الحرب على الجميع انطلاقا من سند شرعي ضعيف الأسانيد؛ إن التقسيم الثلاثي لسيد قطب يمكنه أن يتحول إلى صنافة مقبولة في الحساسية الأخلاقية المعاصرة: مجتمع الديمقراطيات الدستورية حيث ينعم الجميع بقائمة طويلة من الحقوق والحريات، بما فيها حرية الدعوة للإسلام، وإبلاغ رسالته للجميع، وممارسة الشعائر، وتحكيم شرع الله في الكثير من خصوصيات الجماعة المسلمة، ثم المجتمعات التقليدية التي تقبل ببعض من هذه الحقوق لكنها تتحفظ على جانب منها، وهي مجتمعات تقدم نوعا من أنواع الجزية لكي تمارس هذه الخصوصية، ما لم تتعد على حقوق الإنسان الأساسية، وإلا ستدخل في خانة المجتمعات المارقة دوليا، والتي تحارب في خوف سطوة مجتمعات الحرية.
كيف سيبدو نص "معالم في الطريق" إذا ما ترجمنا عبارة الجيل القرآني بفرضية الوضعية المثالية للتعاقد، والجاهلية بالمراجعة القيمية الجذرية للثقافة السائدة، والجهاد بالحرب العادلة المدافعة عن حقوق الإنسان الأساسية التي نجد الكثير من الشواهد في القرآن المكي خصوصا، داعمة وداعية لها، بدءا من المساواة الكاملة بين الناس، ورفض العبودية، والمطالبة بحرية التعبير، والدعوة إلى الحوار المناظرة، وذلك إذا ما تعاملنا مع هذا النص من حيث هو عمل أدبي ينتمي إلى أجناس الكتابة السجنية، ووضعناه في سياق الأعمال الأخرى التي كثيرا ما بلغت درجة عليا من الجمالية والانفتاح.
قد يبدو أننا نقوم في هذا المقال بدور محام الشيطان، بمحاولتنا تبرئة ما لا يمكن إلا أن ندينه من حيث هو مرجع تجييشي للميولات العنيفة بل والفاشية، لما يدعى بالإسلام السياسي، ولكن الغرض من مثل هذا الاقتراح هو محاولة جعل خطاب الإسلام السياسي يجرب تمرير مقولاته من خلال عبارات مدنية علَّها تغلق تلك الهوة الفاصلة والعازلة له عن التفاعل مع الفكر السياسي المعاصر، عوض أن يبقى حبيسا لقاموس قروسطوي قد يليق بالاستعمال الأدبي، ولكنه لا يفيد في المجال النظري، ماذا لو جربنا إعادة ترجمة هذه النصوص داخل نفس اللغة بتغيير القاموس دون تبديل اللسان؟
[1]- ذوات العدد40
[2] في بيان القاعدة الشهير قسم ابن لادن العالم إلى فسطاط الإيمان وفسطاط الكفر.
[3] سيد قطب، الأعمال الشعرية الكاملة، دار الناقد الثقافي، طبعة 2008، ص 5
[4] سيد قطب، النقد الأدبي أصوله ومناهجه، دار الشروق، الطبعة السادسة، 1999، ص 11
[5] عنوان أحد فصول كتاب النقد الأدبي.
[6]قصيدة عزلة في ثورة.
[7]قصيدة عبادة جديدة.
[8] سيد قطب، التصوير الفني في القرآن، دار الشروق، 1989
[9] عنوان لسيرة طفولته التي حاول أن يضاهي بها عمل طه حسين في "الأيام"، وحيث توجد الكثير من العناصر المهمة في فهم ذائقة وحساسية قطب، وموقفه من الدين ومن الغرب بمنطق غير أزهري.
[10] التصوير الفني في القرآن، ص 8
[11] نفس المرجع ص 24
[12] سيد قطب، العدالة الاجتماعية في الإسلام، دار الشروق
[13] من الغريب أن مآخذ قطب على بعض الصحابة منهم عثمان ومعاوية.. هو نفسه ما سيمثل مبررا للجهاديين الذين تربوا على كتابات قطب، لأجل تصفية فرج فودة صاحب كتاب "الحقيقة الغائبة".
[14] سيد قطب، العدالة الاجتماعية في الإسلام، ص 154
[15] لا شيء يمنع أن تكون هذه الجملة الاعتراضية قد أضيفت إلى النص، من خلال حملة الاستحواذ على أعمال سيد من طرف أشياع الجماعة التي أصبحت أكثر سلفية، بعد هروب قياديها إلى دول الخليج، خصوصا محمد قطب الذي فرخ في جامعة الدعوة بالمدينة المنورة، جيلا من الأصولية المتبلدة والخاضعة لسلطة الفقيه الشرعي التقليدي، وهذا ما أنتج ما يدعى بالطبعات الشرعية لكتب سيد، حيث تم تشذيب أعماله من ما عد لديهم شائبا عقائديا، بينما عبر عن رداءة صاحب المعالم وعدم التصاقه بالمعنى السلفي لفكرة الرجوع إلى النبع الصافي للجيل القرآني.
[16] مرجع سابق، ص 159
[17] هناك في تحليل قطب لمسألة التفاوت في الإرث، ما يسمح أن نفهم منه اشتراطه بضمانات الكفالة داخل المجتمعات الذكورية، مما يمكن أن يفتح الباب أمام مراجعة على أساس قاعدة: المعلول يدور مع العلة وجودا وعدما.
[18] من الواضح أن تجربة داعش قد فضت البعد المقاولاتي للحرب الجهادية في صورتها السلفية، ولعل هذا ما جعلها في وفاق كامل مع روح المضاربة للمقاولات الكبرى التي انتعشت بشكل واضح في عهد هيمنة دولة الإسلام سواء في العراق والشام، أو في الحدود الأفغانية الباكستانية (مدخل هرمز) وغيرها من مجالات هيمنة الصورة السلفية للجهاد.
[19] أشتهر أرخميدس بأنه طالب بموضع قدم خارج الأرض، لكي يكون قادرا على إخراجها من مدارها، وهي عبارة استعملها ميكايل صاندل في انتقاد جون رولز لا مجال لتفصيل القول فيها.
[20] سيد قطب، معالم في الطريق، دار الشروق ص7
[21] طبعا إن الدخول في تفاصيل التاريخ يمكنها أن تنتزع من هذا الجيل هذه المثالية الطهرانية، لكن مبتغى قطب كان أصلا هو الحفاظ على هذه المثالية، لأجل تحقيق رؤية متعالية للقيم التي يراهن عليها.