مصطفى الرزرازي: عوامل انجذاب الشباب إلى التطرف
فئة : حوارات
عوامل انجذاب الشباب إلى التطرف([1])
يرى الدكتور مصطفى الرزرازي الخبير في قضايا الإرهاب والتطرف الديني، أنه من الضروري الحفاظ على مسافة فاصلة في تمييز التطرف كحالة انغلاق فكري وسلوكي داخل المجتمع، وبين التطرف العنيف الذي أصبح مجرما في عرف القوانين الوطنية والدولية، مضيفا أن المرحلة الانتقالية من التطرف الفكري إلى التطرف المسلكي، تكمن في لحظة الانتماء التنظيمي للجماعات والتيارات ذات الحمولة الفكرية المتطرفة، حيث تتحول بحسبه تبعا للطبيعة الديناميكية للجماعات إلى قوة يعكسها تعصب الأفراد في أفكارهم وفي سلوكياتهم، لتجد لاحقا سبلا لتصريفها كأفعال عدائية ملموسة ضد الآخرين، سواء اتخذ هذا العداء طبيعة رمزية أو لفظية أو فعلية.
وأبدى الباحث المغربي قلقه أيضا، من اتساع قاعدة الشباب المنخرطة في هذه المشاريع، مرجعا ذلك إلى عدد من العوامل والشروط البنيوية؛ الأول يرتبط بظاهرة النمو الحضري للفضاء العمومي بشكل متسارع ومتوحش، دون أن ترافقه عملية التنشئة السياسية الهادفة إلى نقل الناس إلى حالة المواطنة المدنية، والثاني يرتبط بتدمير ثقافة السوق والمنافسة لثقافة التفاوض مع الواقع والتضامن مع المحيط، بينما يرتبط الثالث، بعجز مؤسساتنا التربوية والتنموية في الاستثمار في المستقبل. طبعا هناك عامل دفع وعوامل جذب مؤثرة وفاعلة في توسيع دائرة التعاطي مع تنامي ظاهرة التطرف الديني داخل مجتمعاتنا.
وبخصوص الأدوار المفترضة لمؤسسات التنشئة الاجتماعية لمحاربة التطرف الديني، اعتبر الرزرازي أن المدرسة لم تعد اليوم فاعلا أساسيا في الضبط الاجتماعي. أما الأسرة، فبالنظر إلى المتغيرات التي طرأت على الأدوار الوالدية للآباء والأمهات، فقد اتسع دور الأسرة من حيث هي حاضنة اقتصادية، ومن حيث هي فضاء لتدبير العلاقة البيولوجية بين الآباء والأطفال، على حساب الدور الوظيفي للأب والأم؛ وذلك طبعا ليس بسبب أي تقصير من طرف الفاعلين، وإنما بسبب التطور الإنساني العام الذي ينحو بالبشرية نحو إنتاج شخصيات فردية أكثر استقلالا، وأقل حاجة لحالة التوحد والهيام العاطفي بموضوع الأم في تدبير الطاقة الوجدانية للطفل مند السنوات الأولى لحياته.
وأضاف الباحث المغربي، أن ظاهرة التطرف الجهادي شهدت تحولا منذ حوالي عشر سنوات، بانتقال حركات الجهاد العالمي من الصيغة التنظيمية المركزية في تدبير عملياتها إلى صيغة الشبكات اللامركزية. كما نجد أن العمليات الانتحارية لا تنحصر على شريحة العزاب، أو الفقراء، أو مرضى الاكتئاب أو الذكور دون النساء أو الأميين دون المتعلمين، بل امتدت لتتسع قاعدتها الاجتماعية، وتشمل الطبقات الوسطى والعليا، ومن فئات الحاصلين على الشهادات العليا. ويبقى المراهق الشخص الأكثر ترشيحا للانسياب، والاستقطاب لهشاشة آلياته الدفاعية، وعدم اكتمال نضجه، خاصة في الشق المتعلق بالذكاء الاجتماعي والذكاء العاطفي.
ويعد الباحث المغربي الدكتور مصطفى الرزرازي، خبيرا في قضايا التطرف والإرهاب، وباحثا في الشؤون الاستراتيجية وتدبير الأزمات، حيث حصل على الدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة طوكيو الوطنية عام 1997، ثم دكتوراه في علم النفس الإكلينيكي من جامعة محمد الخامس بالرباط عام 2014. درس الدكتور الرزرازي بالعديد من الجامعات الآسيوية والعربية والأمريكية، وهو الآن يدرس تدبير الأزمات بجامعة سابورو اليابانية، وبالمدرسة العليا للحكامة والاقتصاد بجامعة محمد السادس، وكذا جامعة محمد الخامس كأستاذ زائر، وهو يدير اليوم الفريق الدولي للدراسات العابرة للأقاليم والأقاليم الصاعدة. وعلاوة على كونه رئيسا للمرصد المغربي حول التطرف والعنف، وكذا المركز الإفريقي للدراسات الآسيوية، فهو يعمل كباحث مركزي بمركز البحوث والدراسات للمكتب الشريف للفوسفاط، وباحث- مشارك بالمعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية في الرباط.
ألف الدكتور الرزرازي عددا كبيرا من الدراسات حول التطرف والإرهاب، وقضايا أخرى، صدرت له بعدة لغات عربية وإنجليزية ويابانية وصينية وكورية وفرنسية وإسبانية، من أهمها: "آليات الاستقطاب عند الجماعات الإسلامية المغربية" 1998، و"الحلم المستحيل: دراسة حول تحالفات النخب العسكرية اليابانية مع قيادات آسيا الوسطى خلال فترة ما بين الحربين العالميتين" 1998، و"من أجل بناء منهج لقياس الهوة بين الحدود الذهنية والحدود المادية" 1999، و"قراءة تشخيصية لشخصية أسامة بن لادن" 2000، و"الأمن القومي ومقومات بناء الوعي بالمصلحة" 2001، و"من الأسرة البيولوجية إلى الأسرة الإيمانية - آليات الانشطار في بناء الشخصية الإسلامية عند عبد السلام ياسين" 2004، و"دراسة عيادية حول العمليات الانتحارية في العالم المعاصر- بحث حول الديناميكيات النفسية للانتحاريين - الاستشهاديين -" 2014.
أشرف على إصدار "الكتاب الأبيض حول الإرهاب في المغرب" 2015، ثم كتاب "في قلب التعاون الأمني بين المغرب وأوروبا" 2015. وصدر له كتاب "حرب المغرب حول الإرهاب - دروس في التعاون الأمني -" 2016
محمد قنفودي: كيف يمكن تعريف التطرف الديني؟ وهل من مؤشرات لقياس هذه الظاهرة؟
الدكتور مصطفى الرزرازي: تجتاح العالم اليوم موجة من التطرف العنيف، ومن مميزاته أنه تطرف عملي سلوكي في معظم الأحوال، يعبر عن نفسه بأعمال عنف موجهة ضد مختلف فئات المجتمع ومؤسساته، وتحركه دوافع وحوافز وأسباب، بعضها عرقي أو ديني أو أيديولوجي، وبعضها الآخر مرتبط بديناميكية الأفراد كذوات اجتماعية ونفسية، لكن تطورها وتناميها، مرتبط بشكل مباشر أو غير مباشر، بالأوضاع والشروط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية التي نمت وترعرعت فيها هذه الجماعات أو أولئك الأفراد.
وإذا كان من الصعب الفصل بين المسافات الفاصلة بين التطرف كحالة فكرية لها امتدادات سلوكية، وبين الإرهاب كعنف ممنهج تؤطره خلفيات فكرية تتغذى من التطرف نفسه، ثم بين العمليات الإرهابية كإحدى وسائل تجسيد السلوك العنفي من خلال معادلة تتأرج بين استعمال "الإرهابي" لجسده كسلاح، وبين كونه مجرد مطية لتجسيد تطرفه الفكري والسلوكي من خلال ممارسة العنف على الآخرين وعلى ذاته، فإنه من باب الموضوعية الحفاظ على مسافة فاصلة بين تمييز التطرف كحالة انغلاق فكري وسلوكي داخل المجتمع، وبين التطرف العنيف الذي أصبح مجرما في عرف القوانين الوطنية والدولية.
ثم هناك صعوبات تعترضنا في الفصل بين مختلف المراحل التي يمر منها الفرد، إلا أننا ولأسباب إجرائية، نعرف التطرف باعتباره يتأسس على مجموع المعتقدات والأفكار التي تختلف عن المعتاد والمتعارف عليه سياسياً واجتماعياً ودينياً، لكن دون أن ترتبط تلك المعتقدات والأفكار بسلوكيات مادية عنيفة في مواجهة المجتمع أو الدولة؛ إلا أن هذه الأفكار قد تتحول إلى عوامل تأسيسية للتطرف العنيف حين تتجسد في جماعة أو هيئة سياسية أو دينية أو اجتماعية، وتصبح أحد المقومات المؤسسة لوجودها، فتتحول تبعا للطبيعة الدينامكية للجماعات إلى قوة يعكسها تعصب الأفراد في أفكارهم وفي سلوكياتهم، لتجد لاحقا سبلا لتصريفها كأفعال عدائية ملموسة ضد الآخرين، سواء اتخذ هذا العداء طبيعة رمزية أو لفظية أو فعلية.
فإذا كان التطرف هو الخروج عن القواعد الفكرية والقيم السلوكية التي يتعارف عليها ويرتضيها المجتمع، والتي تمثل الأداء والأفكار والمعتقدات وطرق السلوك الفردي والجماعي السائدة فيه، فإن التعصب هو من أكثر المفاهيم ارتباطا بالتطرف وتوصيفا للحالة الذهنية للشخصية المتطرفة، ذلك أن أهم سمة للتعصب هي تحميله بالمضمون الانفعالي والتحيز، بما يعنيه ذلك من تشويه للمعرفة Distortion of Cognition. وقد يبدو التطرف مظهرا من مظاهر سوء التوافق المجتمعي، الذي يعبر عن وجود فجوة كبيرة في انحراف القيم والمعايير عن مستواها الطبيعي والمتوسط، إذ لا ينتج عن اعتدال في تطبيق الأحكام والقواعد الشائعة، بل يعكس تجاوزا وإسرافا ومبالغة لما ألفه المجتمع وأقره من زاوية قيمه على أنه الطبيعي والعادي.
وعادة ما يحيل التطرف على حالة فكرية وذهنية، تزداد حين ينتقل من طور الفكر والاعتقاد والتصور النظري إلى طور الممارسة والتطرف السلوكي، الذي يعبر عن نفسه بأشكال مادية، من أعمال قتل وتفجيرات وتصفيات واستخدام لوسائل العنف المادي المختلفة لتحقيق أهداف الجماعة. وعادة ما يكون التطرف السلوكي والمادي نتيجة وانعكاساً للتشبع بتطرف قبلي في الفكر والقناعات والاعتقاد.
وتجدر الإشارة إلى أن التطرف ليس حكراً على الجماعات الدينية، فكما أن هناك تكفيراً دينياً، هناك تكفير سياسي وعلماني، ومثلما أن هناك توجهات إسلامية متطرفة ترفض الاعتراف بالآخرين وتعمل على إلغائهم، هناك في المقابل علمانية متطرفة تستخف بالقيم الدينية، وتتجرأ على الثوابت الدينية، وترفض محاورة من يخالفونها الرأي، وتصنفهم على أنهم خارجون عن الإجماع المألوف، وتمارس بحقهم سياسة الإقصاء والإنكار والاستئصال.
ويعرف التطرف الديني بالميل إلى التشدد والمغالاة في الأمور الدينية بالقدر الذي يتجاوز حدّ الاعتدال، وذلك بالخروج على التعاليم الدينية السائدة والتعصب للرأي إلى الحد الذي يجعله يقصي ما دونه في التعبير عن تصوره على اعتبار رأيه هو الحقيقة، الأمر الذي يعزز لديه التمثل بأن الآخر حامل الرأي المغاير/ الخطأ/ موضوع مشروع للتعديل والتغيير، ثم يخفض لديه مشاعر الشعور بالذنب في إنتاج ديناميكية قبول ممارسة العدوان والعنف على الآخر، باعتباره موضوعا مدنسا/ضالا/فاسدا، ومن تم مستباحا.
فالتطرف العنيف هو أشبه "بالجينات الأساسية الكامنة التي تنشط حين تتوفر البيئة المواتية لكي تفرز فعل الإرهاب". والتطرف العنيف وما يدفع إليه من تغذية لأفكار ومشاعر الكراهية، يتحول إلى عدوان، يترجمه الفعل الإرهابي، ويقوم على خلفية الادعاء بامتلاك الحقيقة المطلقة وفرض الرأي على الآخرين وإساءة الظن بهم وكراهيتهم وتكفيرهم والتحريض ضدهم والوصاية عليهم. فالمتطرف يدّعي غالبا أنه مالك "للحقيقة المطلقة"، بل يسعى إلى عزل مخالفيه أو شيطنتهم قبل إٌقصائهم وإنكارهم.
محمد قنفودي: كيف يمكن تقييم ظاهرة التطرف الديني في العالم العربي؟ وما مدى انخراط الشباب العربي فيها؟
الدكتور مصطفى الرزرازي: في غياب آليات علمية ممنهجة ومضبوطة، تبقى إشكالية التقييم جد معقدة في تقديري، إذ هناك عدة استطلاعات أو بحوث ميدانية في أغلبها إحصائية اشتغلت على ظاهرة التدين داخل شرائح الشباب، لكن غالبا ما يتم إسقاط أو تكييف مؤشرات التدين على ظاهرة التطرف، أو الذهاب إلى ضم مؤشرات الميول الدينية عامة كأحد عوامل الدفع نحو التطرف، وهذه مغالطة خطيرة؛ لأننا إذا أخذنا متغير التدين في بيئة كباكستان، أو مصر أو لبنان أو المغرب أو موريتانيا، فإن الفاصل بين القيمة الاجتماعية المعيارية والقيمة الشاذة يبدو متداخلا ومتباينا، ومع ذلك، يمكننا القول إن اتساع القابلية لدى الشارع العربي على الفكر المتطرف، وخاصة في أوساط الشباب، هي مقلقة بكل تأكيد، لها أسبابها المتعددة، لكن هناك عوامل عامة وبنيوية، ترتبط في مجال انشغالي العلمي بأربعة عوامل أساسية؛ الأول: يرتبط بظاهرة النمو الحضري للفضاء العمومي بشكل متسارع ومتوحش، الذي يتحقق في شقه التقني، لكن دون أن ترافقه عملية التنشئة السياسية الهادفة إلى نقل الناس إلى حالة المواطنة المدنية، والثاني يرتبط بتدمير ثقافة السوق والمنافسة لثقافة التفاوض مع الواقع والتضامن مع المحيط، ويرتبط الثالث بعجز مؤسساتنا التربوية والتنموية عن الاستثمار في المستقبل. طبعا هناك عامل دفع وعوامل جذب مؤثرة وفاعلة تساهم في توسيع دائرة التعاطي مع تنامي ظاهرة التطرف الديني داخل مجتمعاتنا.
لكن وجب التنبيه هنا إلى أن مخاطر التطرف في مجتمعاتنا، لا يجب أن تستند على القياس الإحصائي، على اعتبار أن التطرف العنيف هو ظاهرة تدخل ضمن ديناميكيات الانحراف، وليس ضمن ديناميكيات التغير الاجتماعي. ومن تم، فالنظر إلى تناميها يقاس ويدرس في أثره السلبي، مثله مثل ظاهرة الجريمة مثلا، وإلا سقطنا في متاهات لا تمكننا لا من فهم للظاهرة، ولا من بناء وسائل الحد منها.
محمد قنفودي: في نظرك ما هي الشروط المساهمة في تطرف الشباب العربي؟ وهل يمكن للشروط الاقتصادية أن تكون دافعا أقوى من باقي الشروط؟
الدكتور مصطفى الرزرازي: بكل تأكيد، العوامل الاقتصادية مؤثرة، لكن بطريقة غير مباشرة. في دراسة قمنا بإنجازها خلال الفترة ما بين 2007-2014، قمنا بتناول وتمييز عوامل الدفع والجذب نحو التطرف العنيف، وفق مقاربة تختلف عما ذهبت إليه مجمل الدراسات الغربية. فعوامل الدفع والجذب هي تلك العوامل التي تدفع الأفراد بقوة نحو التطرف أو تجذبهم إليه. وخلصنا أيضا إلى أن عوامل الدفع هي تلك الديناميكيات التي تؤسس عند الأشخاص الجاهزية الموضوعية والنفسية للخروج عن الوضع النمطي أو العادي للحياة الاجتماعية العامة. وعلى الرغم من أنه تم اختصار عوامل الدفع في مجمل الأدبيات في العوامل الموضوعية التي تم اختصارها في المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية التي تؤدي إلى تنمية الجاهزية نحو التطرف، إلا أننا نميز بين عوامل الدفع الموضوعية والذاتية، وكذلك الشأن بالنسبة إلى عوامل الجذب، التي تنقسم في تعريفنا إلى موضوعية وأخرى ذاتية.
ومن بين عوامل الدفع الموضوعية، نذكر: غياب أو ضعف الدولة في لعب دورها كآلية تدبير عقلاني للسكان، والحكامة غير الجيدة في تدبير الشأن العام المولدة للشعور بالقهر، والظروف الاجتماعية والاقتصادية السيئة، والتمييز الثقافي، والتمييز بين الجنسين، والتمييز الديني أو العرقي، والاستعمار، والبطالة، والأمية، وانعدام الشعور بالأمن، والأزمات والكوارث (المجاعة، الحروب، الاضطرابات السياسية والعسكرية إلى غير ذلك من أشكال الأزمات الطارئة)، والهجرة القسرية، والاضطهاد السياسي، والتوزيع غير المتكافئ للفرص داخل المجتمع، والفقر، وانعدام الأمن الروحي، والبيئة الدينية المنحرفة، والسياسة الغربية غير العادلة في تدبير العلاقات الدولية، ووجود سياسات عنصرية غربية، أو سياسات هجرة إقصائية وفاشلة في تدبير الاندماج.
أما عوامل الدفع الذاتية، فيمكن التركيز ضمنها على الروابط العائلية المفككة للشخص، والحوادث الصدمية في تاريخ الشخص، والتمثلات المنحرفة عند الشخص نحو المجتمع أو العالم، والتمثلات المنحرفة للشخص عن ذاته، والتاريخ الإجرامي أو التجربة السجنية للشخص، والجهل بالدين وبالمعرفة الدينية، ثم الفشل الدراسي.
وبالنسبة إلى عوامل الجذب الموضوعية، فلعل أهمها توفير جبهة التطرف (أو ادعاءها توفير): فرص للعمل، وفرص لتحسين الظروف المعيشية، وفرص للحرية السياسية أو الدينية، وفرص للمتعة، وفرص لتحسين الوضع الاجتماعي، وفرص للحماية أو الأمان، وفرص لإعادة بناء روابط عائلية أفضل، وخطاب يلبي المشاعر العدوانية للشخص ويستجيب لدافعية الانتقام عنده، وخطاب يدعو إلى المساواة، وخطاب يدعو إلى التغيير، وخطاب يدعو إلى إقامة مملكة الله. وترافقها عوامل الجذب الذاتية، والتي تتجسد في تلبية: الرغبة في التغيير، والرغبة في الانتقام، والرغبة في الانتحار، والرغبة في المغامرة أو في وجود اختلالات في الذكاء الاجتماعي، أو اختلالات في الذكاء العاطفي، أو اختلالات في الذكاء المعرفي عند المستقطبين.
لكن منذ حوالي سبع سنوات، وبالتحديد تزامنا مع ظهور تنظيم الدولة الإسلامية، نجد هناك انعطافا نحو التركيز على شريحة خاصة من الشباب، يتميزون بالفشل الدراسي، لهم سوابق في الجريمة والإدمان، وينتمون إلى فئات هشة عاطفيا واجتماعيا، حيث إنهم لا يملكون أي مشروع للمستقل، وأغلبهم يرتبط الخلاص لديهم بمشروع الهجرة، ليس فحسب من دول الجنوب نحو دول الشمال، بل حتى من داخل دول الشمال نفسها.
محمد قنفودي: ما هي الأدوار المفترضة لمؤسسات التنشئة الاجتماعية في مواجهة التطرف الديني لدى الشباب؟
الدكتور مصطفى الرزرازي: إذا ما حاولنا تحديد أهم مؤسسات التنشئة الاجتماعية اليوم داخل مجتمعاتنا، سنجد أن المؤسستين المركزيتين، وهما الأسرة والمدرسة، قد تراجعتا عن أداء دورهما الوظيفي المرتبط بالتنشئة، بسبب تغيرات بنيوية طرأت على صيرورة التشكيل، عبر نفيها للأسرة والمدرسة ولأدوار الفاعلين المركزيين داخل هاتين المؤسستين: ففي مقابل اتساع دائرة مصادر المعرفة التي لم تعد حكرا على المدرسة، وعلى التلقين المدرسي، نجد أن القسم والمعلم والامتحان والكتاب المدرسي كلها فقدت حيزا مهمّا في تدبير شخصية التلميذ، سواء في الشق المتعلق بالتلقين والتكوين، أو بالتهذيب أو "بالانضباط".
لقد لعب ظهور المدارس الخاصة، وتنوع برامج التعليم أيضا، دورا آخر في تقليص وظيفة المدرسة في بناء نمط واحد للشخصية "المهذبة". وبلغة أخرى، لم تعد المدرسة اليوم، فاعلا أساسيا في الضبط الاجتماعي. أما الأسرة، فبالنظر إلى التغيرات التي طرأت على الأدوار الوالدية للآباء والأمهات، فقد اتسع دور الأسرة من حيث هي حاضنة اقتصادية، ومن حيث هي فضاء لتدبير العلاقة البيولوجية بين الآباء والأطفال، على حساب الدور الوظيفي للأب والأم؛ ذلك طبعا ليس بسبب أي تقصير من طرف الفاعلين، وإنما بسبب التطور الإنساني العام الذي ينحو بالبشرية نحو إنتاج شخصيات فردية أكثر استقلالا، وأقل حاجة لحالة التوحد والهيام العاطفي بموضوع الأم في تدبير الطاقة الوجدانية للطفل مند السنوات الأولى لحياته.
بل إن حتى بعض الوسائط التنشئوية مثل التقافز الذي لعب أدوارا مهمة خلال العقود الأٍربعة الأخيرة، نجده اليوم يتراجع لصالح وسائط الذكاء الاصطناعي المرتبطة بالأجهزة الذكية، واتساع الدور الوجداني للعوالم الفضائية، على حساب رقعة الفضاء الاجتماعي المادي.
لا أريد أن أطيل هنا، وإنما أخلص إلى أن التغير الوظيفي، كما طرأ على مؤسسة الدولة، التي تنازلت عن عدد من وظائفها لصالح المؤسسات الخاصة، على نفس النمط، تراجع دور المسجد، والمدرسة، والأسرة في احتكار دور الضابط الاجتماعي والثقافي.
محمد قنفودي: هل يمكن تحليل التطرف الديني لدى الشباب بالبعد السيكولوجي والسلوكي؟ وإن كان كذلك، هل يمكن اعتباره "ظاهرة مرضية"؟ كيف ذلك؟
الدكتور مصطفى الرزرازي: في الواقع، هناك مدرستان نفسيتان في هذا الإطار؛ مدرسة حاولت الاشتغال على القيم المتطرفة، وعلاقتها بتدبير البناء النفسي للأشخاص أو المجتمعات، ثم مدرسة، ركزت على الأفراد من حيث هم ذوات، يتم إخضاعها للتحليل لفهم مسارات كل تجربة منفردة في النوح نحو التطرف.
في مقاربتي البحثية لهذا الموضوع، انتهيت بعد أكثر من عقدين إلى البحث النفسي حول ظاهرة التطرف الديني، إلى أن عملية إعادة بناء الفرد ليصبح متطرفا تبدأ باستبدال مشاعر الذنب والعدوان السلبي بعدوان إيجابي على الذات، تليها عملية الإدماج داخل منظومة الجماعة بما تمنح من مشاعر الدفء تحل محل دفء الأسرة البيولوجية، تليها عملية التماهي والتوحد بمثال أعلى إيجابي جديد (القدوة). وهنا تنشط آلية الانشطار الانفعالي Clivage / Split-off. فيوجه الحب كله إلى موضوع معين يحتل عند الذات مرتبة المثال المنزه عن الشوائب (الخير، الطيبة الكاملة)، كما يوجه العدوان كله على موضوع آخر، فيصبح نموذجا ومجسدا للشر كله (الولاء والبراء).
لكن لا تكفي عملية إعداد الفرد وترويضه لقبول أهداف الجماعة الجهادية، ما لم يتم توفير تعزيزات معنوية، وروحية ونفسية لخفض قلق الموت، ومن تم تهيئ الفرد لقبول تنفيذ العنف على الذات وعلى الآخرين.
إذا ما سلمنا بأن أغلب الأفراد الذين يتم استقطابهم من لدن الجماعات الجهادية هم من شريحة الشباب، فإنه من الواضح أن طبيعة الفترة العمرية للمراهقة تلعب حتما دورا - افتراضيا- في تهيئ المراهق لعملية الاستقطاب بما يشمل تقبله لقيمها الفكرية المبنية على تغذية العدوان والكراهية.
وإذا ما سلمنا بأن الاستجابات العدوانية الإيجابية هي آلية لخفض مستوى التوتر النفسي، حيث إذا كانت الاستجابات العدوانية السلبية مؤشرا على قوة الأنا وقدرته على المقاومة، فإن التطرف - التصلب يمثل دفاعاً ضد القلق، إذ عندما تشعر الذات بالتوتر تميل إلى البحث عن مجموعة من الأفكار والسلوكيات المتسمة بالتصلب كآلية دفاعية لحماية الضعف الذي تشعر به داخلها.
من هنا، يبدو أن تجربة نبذ الموضوع وعلاقته بالمرحلة المبكرة للاستقطاب، وفصل المراهق عن محيطه الأسري، تبدو مركزية في فهم أول مراحل الإعداد للفرد، وتحويله إلى مشروع انتحاري- استشهادي (بالفعل أو بالقوة)، إذ في تجربة الانشطار كما يعيشها المراهق داخل الجماعة الجهادية الأصولية، يبدو الفصل عن المحيط وتعزيز وسائل الإنكار والنبذ ذا أهمية ديناميكية نفسية مركزية في فصل الموضوعات السيئة عن الموضوعات الطيبة بشكل حاد، يتم معها تجاوز قلق الانفصال بتعزيز الانشطار ونقل القلق من "قلق لا إرادي" مرتبط بحالة الخطر، إلى "قلق إرادي" بعد إسقاطه على عدو- مصدر خطر خارجي، ويصبح معه هذا القلق عنصرا وظيفيا إيجابيا في عمل الأنا.
محمد قنفودي: بعد انحصار حركات التطرف في بؤر التوتر خاصة في سوريا والعراق، هل يمكن اعتبار ذلك مؤشرا على انحصار ظاهرة التطرف الديني؟ أم إن شروط انبعاثها من جديد لازالت موجودة؟
الدكتور مصطفى الرزرازي: لا أظن ذلك، لأن ولادة تنظيم دولة الخلافة، ليس إلا محطة من محطات تطور الفكرة الجهادية داخل عالمنا المعاصر. وأتوقع أننا سنشهد أشكالا أكثر تطورا في المستقبل القريب، وكما يقول بعض علماء الأنثروبولوجيا، إذا كان المقدس قادرا على تغيير الاسم، فإنه لا يغير المكان. أما المدنّس، فخطورته تكمن في تلبس لباس المقدس، وسرقة قداسته مع قدرته الفائقة على اختراق أمكنة جديدة، بأسماء جديدة، وأشكال جديدة.
اليوم وبالموازاة مع تراجع تنظيم دولة الخلافة، نجد ظهور تشكيلات تنظيمية وتكتلات جهادية جديدة هنا وهناك، في إفريقيا، وخاصة الساحل، مثل التحالف الرباعي لجبهة نصرة الإسلام والمسلمين، أو في دول جنوب شرق آسيا.
إذا عدت إلى الجانب الذي يعنيني أكثر، نجد أن مخرجات المسح الميداني الذي قمنا به، تشير إلى أن ظاهرة التطرف الجهادي شهدت تحولا منذ حوالي عشر سنوات، بانتقال حركات الجهاد العالمي من الصيغة التنظيمية المركزية في تدبير عملياتها إلى صيغة الشبكات اللامركزية، كما نجد أن العمليات الانتحارية لا تنحصر على شريحة العزاب، أو الفقراء، أو مرضى الاكتئاب أو الذكور دون النساء أو الأميين دون المتعلمين، بل امتدّت لتتسع قاعدتها الاجتماعية، وتشمل الطبقات الوسطى والعليا، ومن فئات الحاصلين على الشهادات العليا. ويبقى المراهق الشخص الأكثر ترشيحا للانسياب، والاستقطاب لهشاشة آلياته الدفاعية، وعدم اكتمال نضجه، خاصة في الشق المتعلق بالذكاء الاجتماعي والذكاء العاطفي.
أظن أن مزيدا من البحث النفسي الاجتماعي سيساعد لا محالة على فهم الظاهرة، ومن تم وضع الإستراتيجيات والبرامج الكفيلة بتفاديها وإنقاذ ضحاياها، سواء من أولئك الذين يموتون كضحايا للعمليات الانتحارية، أو أولئك الذين ينفذون هذه العمليات بعد أن تم استقطابهم وترويضهم عقليا ونفسيا وجسديا، ثم تحويلهم إلى آلات للقتل الجماعي، أو أولئك الذين اختاروا لأسباب ذاتية أن يموتوا ويأخذوا معهم الآخرين. علينا البحث في مختلف العمليات النفسية التي تصنع فردا قادرا على إفناء نفسه وإفناء الآخرين.
ويبدو أن هذا التكييف الديني للعمليات الأخيرة التي طالت عدة عواصم أوروبية تنضوي ضمن ما كان قد أعلن تنظيم داعش عنه قبل عام ونصف تقريبا، وسماه "جهاد الممكن" بعد أن انهارت عقيدة التمكين والاستخلاف. ويقصد بجهاد التمكين وفق ما تقره أدبيات تنظيم داعش، أن يمارس الإرهابي العمل بكل ما هو متاح إليه ولا يحتاج الأمر إلى خلايا كبيرة أو غيره، فيمكن أن يقوم بعملية دهس أو طعن دون أن يحتاج إلى لوجيستيك كبير ومعقد، ولا حتى مركز تدبير عمليات، إذ يدعو التنظيم عبر وسائله التواصلية مناصريه إلى تنفيذ عملية نصرة أو انتقام على منوال ما نصطلح عليه بلامركزية ولا قيادية العمل الجهادي.
بالنظر إلى المستقبل، هناك مستويان من التحليل؛ الأول: يرتبط بخصوصيات هذه العمليات، من حيث هي تتسم بعنصري المفاجأة والسرعة في استهداف أكبر عدد من المدنيين عبر وسائط يستخدمها المتطرفون، ثم من حيث استعمال وسائل لوجيستيكية غير محرمة من قبيل السيارات. أما المستوى الثاني، فيرتبط بهوية الفاعلين، ومدى قدرة أجهزة مكافحة الإرهاب، على تتبع المشتبه فيهم، وضبط تحركاتهم، وتحديد مواقع التدريب.
المستوى الثاني يفرض اليوم، التنسيق والتعاون بين أجهزة الأمن ومختلف الوكالات، علاوة على تحسيس الرأي العام المحلي، بعدم السقوط في حالة الهلع والذعر، وتعويضهما بالحذر.
الضربات المتزامنة التي عاشتها أوروبا خلال السنوات الثلاث الأخيرة، قد تكون مدروسة كما وقع في أحداث باريس، وقد تكون ناتجة عن ظاهرة العدوى والتداعي والإيحاء بين المتطرفين، وهو ما قد نلاحظه بين ما حدث في برشلونة ثم في فنلندا.
[1]- نشر هذا الحوار في مجلة ذوات الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 51