فؤاد زكريا.. أطروحة فصل الديني عن السياسي في سياقها التاريخي
فئة : مقالات
فؤاد زكريا..
أطروحة فصل الديني عن السياسي في سياقها التاريخي
ملخص الدراسة
تنطلق هذه الدراسة من تحليل السياق التاريخي لخطاب الفصل بين الدين والسياسة عند فؤاد زكريا، وبالتالي علاقة هذا الخطاب بالتاريخ وبالعصر الذي عاش فيه، وخاصة منذ النصف الثاني من القرن العشرين إلى غاية بداية الألفية الثالثة الذي شَهد تحولات كبرى في الفكر والسياسة؛ فالخطاب العلماني عند فؤاد زكريا هو إفراز للظرفية التاريخية/السياسية التي كانت فيها الأحداث تغلي خاصة في مصر والمنطقة العربية، وتدور حول مفاهيم الدولة والدين والثورة والعسكر والإسلام السياسي.
الظرفية التاريخية
ينفرد المفكر المصري فؤاد زكريا (1927 - 2010) دون كثير من المفكرين العرب بدفاعه الشديد عن كل ما يتعلق بالعقل والعقلانية، كما اشتهر بعدم اعترافه بأي سلطة غير سلطة العقل، وبعدم قناعته بأي نوع من التفكير غير التفكير العلمي، وبالتالي لا يمكن للمسلمين والعرب الخروج من دائرة التخلف، إلا بالمنهج العقلاني – النقدي والتفكير العلمي. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، إذا كانت نصوص من مقالات ودراسات وكتب تتميز بشيء، فهي تتميز بارتباطها الشديد بالواقع؛ أي إنها نصوص وكتابات عبرت بشكل من الأشكال عن الواقع التاريخي الذي نشأت في ظله، كما أنها في نفس الوقت تفاعلت مع أحداث وتحولات هذه الحقبة الزمنية التي شملت النصف الثاني من القرن العشرين، وهي فترة زمنية مليئة بالأحداث الدرامية والتحولات التراجيدية. إنها أحداث جلّى زعزعت مُعتقدات وغيرت قناعات، وفيها حلت إيديولوجيات مكان إيديولوجيات[1].
والسؤال المركزي في هذه الدراسة هو: ما علاقة الخطاب العلماني عند فؤاد زكريا بالواقع العربي/المصري الذي عاش فيه وكان شاهدا عليه؟ وبصياغة أخرى ما علاقة نصوص وأفكار ومفاهيم ومقولات فؤاد زكريا بالسياق التاريخي الذي عاش فيه؟
بالفعل قدم لنا فؤاد زكريا نصوصا مرتبطة بالواقع العربي عامة والمصري خاصة؛ وذلك بسبب طبيعة الإشكالية المركزية المطروحة على طاولة الفكر العربي منذ منتصف القرن التاسع عشر، والتي انخرط فيها صاحبنا بقوة، أقصد إشكالية التخلف البنيوي والتأخر التاريخي، وهذه الإشكالية كانت هي المحرك الرئيس لكافة إنتاجه الفكري الغزير من مؤلفات وترجمات منذ رسالة الدكتوراه بعنوان "مشكلة الحقيقة" التي ناقشها عام 1956 وحتى وفاته عام 2010.
ولهذا كانت المفاهيم والمقولات والنظريات والمناهج التي استخدمها لصيقة بالسياسة والاجتماع ولها صلة وطيدة بالدين والثقافة، كما كانت تعكس الصراعات الإيديولوجية التي كانت تعج بها المنطقة العربية الممتدة من مراكش إلى البحرين، بين اليسار واليمين بين القوى الرجعية والقوى التقدمية، بين قوى الاستعمار وقوى التحرر الوطني من ناحية، كما كانت تعبر عن التحولات الكبرى التي عرفها العالم العربي، خاصة ذلك المخاض العسير المتمثل في نشوء نظام الدولة الوطنية في مصر وسوريا والعراق، وكذلك تلك التغيرات العميقة التي مست البُنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية من ناحية أخرى.
وهكذا جاءت نصوص فؤاد زكريا، غزيرة ومتنوعة، سواء ما تعلق منها بنقد الاستبداد السياسي والدولة التسلطية والإيديولوجيات الشمولية وكافة السلفيات من سلفية ماركسية إلى سلفية دينية، أو ما تعلق منها بضبط وتحديد المفاهيم المغلوطة والشائعة بين عامة الناس، أو كانت ذات صلة بالسجالات التي خاضها مع أصحاب المشاريع الفكرية والسياسية التي كانت تطرح من حين لآخر في الساحة العربية، مثل مشروع اليسار الإسلامي لحسن حنفي ومشروع الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة الذي كانت تتبناه تيارات الإسلام السياسي أو مشروع عسكرة الدولة الذي كان جار على قدم وساق منذ الإطاحة بالنظام الملكي[2].
وهكذا صدرت كتابات فؤاد زكريا في سياق تاريخي بالغ الأهمية وشديد التقلبات وكثير الاضطراب على جميع المستويات، ومن هذه الأحداث التي عاشها وعاصرها، وأثرت في نصوصه وفي نحته لمقولات معينة وفي تبنيه لمفاهيم محددة وفي الأفكار التي دافع عنها وفي الاتجاهات الفكرية التي انتقدها، أقول من هذه الأحداث البارزة انقلاب 23 يوليو عام 1952الذي قام به ما يسمى بالضباط الأحرار، والذي تحول فيما بعد إلى ثورة سياسية اجتماعية اقتصادية قادها الضباط الأحرار أي العسكر، وهي الحدث الأبرز الذي نستطيع أن نؤرخ من خلاله على نهاية مقولة مفهوم النهضة ليترك المجال لمفهوم آخر هو مفهوم الثورة[3]، وتزامن ذلك مع موجة صعود تيار القومية العربية في الخمسينيات والستينيات ممثلا في الناصرية وحزب البعث العربي الاشتراكي. وفي هذه الحقبة أو كما يسميها البعض بسنوات الغليان[4]، كان الصدام الحتمي بين جماعة الإخوان المسلمين وجماعة الضباط الأحرار أدى إلى تراجع وانكماش تيار الإسلام السياسي قرابة العقدين من الزمن وانسحابه مؤقتا من الساحة، وبقي الأمر كذلك حتى الهزيمة المروعة للجيوش العربية والمعروفة إعلاميا بنكسة حزيران عام 1967؛ وذلك عندما استولت إسرائيل على سيناء والجولان والضفة الغربية وقطاع غزة في ستة أيام. ولا ننسى الحدث الأبرز، وهو القرار التاريخي بتأميم قناة السويس، والذي أعقبه مباشرة العدوان الثلاثي عام 1956، والصدام الثاني بين العسكر والإخوان كان عام، 1965 والذي انتهى بإعدام مُنظّر الحركات الجهادية/التكفيرية سيد قطب عام 1966.
وقبل ذلك تميزت الحقبة بتبلور المشروع الناصري الذي أعلن عن أهدافه على المستوى السياسي التخلص من الاستعمار وبالقضاء على الإقطاع وعلى الصعيد الاقتصادي بالإصلاح الزراعي وبناء قاعدة صناعية قوية، وفي الجانب الاجتماعي بتوسيع قاعدة الطبقة الوسطى وتحرير المرأة وتحقيق العدالة الاجتماعية، كل ذلك في إطار دولة وطنية مركزية حديثة[5]، ولكن هذا المشروع الوطني تعرض للإجهاض وتم ضربه من قبل القوى الاستعمارية/ الإمبريالية العالمية في عام 1967 ضربة قاصمة، لم تقم له بعدها قائمة. كل هذه الأحداث ألقت بظلال كثيفة ليس فقط على الخطاب الداعي إلى الفصل بين السياسة والدين، بل وعلى خطاب العقلانية والتنوير العربي برمته.
ومما لا شك فيه أن الحدث الأكثر تأثيرا في هذا الخطاب هو ثورة يوليو1952 التي اعتبرها صاحب كتاب "كم عمر الغضب؟" ليس فقط انقلابا عسكريا على النظام الملكي، ولكن انقلابا على التجربة الليبرالية بكاملها إجهاضًا لها وهي في المهد! ولهذا لم يتردد لحظة واحدة في نقد التجربة الناصرية كما طالت نيرانه التجربة الناصرية بأكملها، محملاً إياهما كل ما أصاب مصر من نكسات وهزائم بسبب سياسة تكميم الأفواه والممارسات الاستبدادية القمعية للنظام العسكري الذي قطع الطريق أمام نضج وتبلور الليبرالية كما كانت دولة العسكر السبب الرئيس في استشراء ورم سرطاني إثمه الأصولية الدينية الذي عانى منه العالم العربي طويلاً، ومازال يعاني منه إلى يوم الناس هذا.
من تديين المجتمع...إلى تديين الدولة
منذ نهاية الستينيات وحتى نهاية الثمانينيات، كانت هي الحقبة الزمنية الحاسمة في تشكل الخطاب الزكراوي وتبلورت مفاهيمه ومقولاته الأساسية، كما تحددت قضاياه واشكالياته وأطروحته في فصل الدين عن السياسة، واهتمامه بقضايا الإسلام السياسي والاستبداد السياسي ودعوته إلى العقلانية ونقده اللاذع الذي وجهه للإيديولوجيات الشمولية. والجدير بالذكر أنه في هذه الحقبة الممتدة من هزيمة يونيو1967 وحتى حرب الخليج الثانية في عام 1991 تعرضت كل الأنظمة الاقتصادية/الاجتماعية والسياسية في مصر للتفكك والانحلال والتذرر، وانتقلت الدولة وانتقل معها المجتمع من نظام حكم كان يسير في اتجاه اليسار إلى نظام حكم أصبح يسير في اتجاه اليمين، على المستوى الداخلي وعلى الصعيد الخارجي[6].
وما نبغي الإشارة إليه هو أن كل الأمور تغيرت وكل الأحوال تبدلت، بالتوازي مع انتقال الأنظمة وتغير السياسات، تقريبًا مائة وثمانين درجة، مما أصاب النخبة السياسية والمجتمع المدني وعامة جموع الشعب بالصدمة، وكأن السلطة السياسية في نظام ثورة يوليو كانت مصابة بانفصام في الشخصية! والحقيقة أن التغيرات والتحولات مست جوانب كثيرة في المجتمع، الُبنى التحتية والبنى الفوقية؛ ففي الجانب السياسي تولى مقاليد الحكم نظام سياسي يميني أعلن منذ البداية عن نواياه في التقارب مع الولايات المتحدة الأمريكية والتصالح مع دولة إسرائيل، وعلى المستوى الاقتصادي تبنى النظام الجديد سياسة الانفتاح (الانفتاح سَداح مَداح كما سماها الكاتب الصحفي أحمد بهاء الدين)؛ وذلك بربط الاقتصاد بالسوق الرأسمالية العالمية، كما أدت هذه السياسة إلى جعل الاقتصاد الوطني اقتصادا ريعيا بامتياز.
وبالتالي أصبحت الدولة ريعية بالكامل، بل وتعتمد في دخلها على قطاعات غير منتجة للثروة عكس رأسمالية المركز التي هي رأسمالية مُنتجة كما هو الحال في أوروبا وأمريكا واليابان، هذه القطاعات غير المنتجة هي كما نعرف قناة السويس، عائدات المصريين في الخارج والسياحة والمعونات الخارجية. وبعد مرور سنوات على سياسة الانفتاح، تراجع ما تبقى من قطاعات الإنتاج وتم خصخصة القطاع العام.
والنتيجة هي ظهور قطاع خاص طفيلي يتغذى من المضاربة والسمسرة في التجارة والاستيراد، ويعيش على المتاجرة والممنوعات وكذلك من النهب واختلاس المال العام[7]. وعلى المستوى الاجتماعي بدأت سياسة الانفتاح الاقتصادي تلقي بظلالها على المجتمع؛ إذ وقع فرز طبقي ليس الفرز الطبقي العادي في النظام الرأسمالي، الطبقة البورجوازية والطبقة العاملة، ولكن إفرازات رأسمالية الأطراف، أو كما تسمى في الأدبيات الماركسية بالرأسمالية المتوحشة، حيث الفقر المدقع والغنى الفاحش وتآكل الطبقة الوسطى.
وبالفعل وبعد سنوات قلائل من انتهاج سياسة الانفتاح، وهو انفتاح من دون ضوابط، أقول بعد سنوات قلائل ظهرت طبقة برجوازية طفيلية غير منتجة تنشط في قطاع الخدمات وتتغذى من الريع وتراكم الثروة من الاستيراد والمضاربة والمتاجرة في الممنوعات.[8] ومع مرور الوقت، دخلت هذه الطبقة الطفيلية في تحالف موضوعي مع رجالات الطبقة الحاكمة ومع قوى الإسلام السياسي؛ أي حدث تداخل بين الدين والسياسة والمال. واللافت للنظر أن الاقتصاد الريعي لا ينتج فقط طبقة طفيلية، بل يؤدي إلى تفاقم نسبة البطالة حتى بين خريجي الجامعات وهذا ما حدث في مصر؛ إذ إن تخلي الدولة عن الاستثمار في المشروعات الكبرى وتوقف الإنفاق الحكومي على القطاع العام وعلى القطاع الزراعي كل ذلك ساهم في زيادة البطالة، وبالتالي الزيادة في الهجرة إلى الخارج وخاصة إلى دول الخليج. هذه الهجرة الجماعية وخاصة من الريف والقرى كانت لها آثار اجتماعية خطيرة من حيث تفكك الروابط الأسرية وانحلال الضوابط الاجتماعية، وتزعزع القيم المدنية/الحضرية وانفلات أخلاقي غير مسبوق[9].
لكن الأخطر من كل ذلك، أن هذه الهجرة الجماعية التي تمت في عقدي السبعينيات والثمانينيات كانت بمثابة الجسر الناقل لأكثر المذاهب الإسلامية تشددًا هو المذهب الحنبلي/ الوهابي، وهو مذهب نشأت أفكاره وتشكلت مقولاته في منطقة بدوية صحراوية. وهذا المذهب هو امتداد للخط السني العقائدي الذي يرى أنه لا اجتهاد مع النص، وبالتالي النقل أولى من العقل، والنص قبل الواقع، هذا الخط يبدأ من الإمام أحمد بن حنبل ويمر على الإمام أحمد بن تيمية وينتهي عند الإمام محمد بن عبد الوهاب، هذا هو الخط الذي ساد في التاريخ الاسلامي في مقابل خط المعتزلة وابن رشد العقلاني الذي تم القضاء عليه قضاءً مبرماً.
وهكذا لم يجلب المهاجرون معهم من دول الخليج وخاصة المملكة السعودية، أجهزة كهرومنزلية فقط، بل جلبوا معهم أفكارًا في غاية التطرف وعادات اجتماعية في غاية التقليدية، جلبوا البداوة إلى مجتمع حضري عرف حياة ليبرالية وطبقة أرستقراطية وازدهارا في الثقافة والفنون والآداب. وبمناسبة الحديث عن الهجرة في السبعينيات، لا ننسى أنه عاد إلى بلدهم الأم أغلب قيادات الإخوان المسلمين الذين هاجروا إلى بلاد النفط في الخمسينيات والستينيات؛ إذ سمح لهم العهد الجديد بالنشاط العلني في المساجد والجامعات والنقابات، وبعبارة أخرى تركهم يسرحون ويمرحون في كل دواليب المجتمع بكل حرية؛ لأن نظام الرئيس محمد أنور السادات(1918-1981) كان في أمس الحاجة إليهم لضرب معارضيه السياسيين وخصومه الإيديولوجيين من كافة تيارات اليسار، من الناصريين ومن الشيوعيين ومن القوميين العرب الذين كانوا يتشكلون من الطلبة والأساتذة والعمال خاصة في الجامعات.[10]
كان نظام السادات يريد التخلص من هذا التيار الذي سبب له صداعًا وشوش على سياساته اليمينية المتحالفة مع الولايات المتحدة والمتصالحة مع إسرائيل في الخارج وسياسته في الداخل التي أفرزت اللصوص من ناحية ودعمت اتجاها سياسيا/دينيا يعض بالنواجذ على النصوص من ناحية أخرى.
وإذا كان العهد السابق قد بَنى شرعيته، على الزعامة الكاريزمية للرئيس جمال عبد الناصر (1918-1970) من جهة، ومن جهة أخرى على الإنجازات التي حققتها على المستوى السياسي الاجتماعي والاقتصادي وخاصة تركيزه على العدالة الاجتماعية. والحقيقة التي لا مراء فيها أن أفضل ما قدمته الناصرية هو إعطاء الأمل للشعب في غدٍ أحسن والأكثر فضلاً من كل ذلك هو فتح الآفاق، سواء من خلال التوزيع العادل للثروة أو في بناء الدولة الوطنية الحديثة والحفاظ على السيادة الوطنية أو من خلال مقاومة الاستعمار والعداء التاريخي مع إسرائيل، بالإضافة إلى كل ذلك، عدم فقدان الإرادة وعدم الاستسلام حتى بعد هزيمة حزيران 1967 المُفزعة [11].
إذا كان كل ذلك وأكثر أسس شرعية النظام الناصري، فإن النظام الساداتي بنى شرعيته على معادلة الحرب مقابل السلام، حرب أكتوبر عام 1973 والسلام مع دولة إسرائيل عام 1979، ولكن هذا النوع من الشرعية سرعان ما تآكل بسبب سوء توزيع الثروة والأزمة الاقتصادية والبطالة وغلاء الأسعار والقمع الذي طال الجميع. والنتيجة، هي انتفاضة 18 و19 يناير عام 1977 والتي كانت بداية النهاية للرئيس السادات الذي قضى في حادث المنصة الشهير على يد جماعات التطرف الديني وبالتحديد جماعة الجهاد.
ولسنا في حاجة إلى شرح كبير للقول إن اغتيال الرئيس هو بمثابة انقلاب السحر على الساحر؛ فالرئيس السادات هو الذي أحضر العفريت، نقصد جماعات التطرف الديني، وهو الذي استخدمه في ضرب التيارات والقوى المدنية اليسارية والليبرالية، لكنه لم يعرف كيف يدخله إلى القمقم مرة أخرى؛ لأن هذا العفريت قد كَبر حجمه وتضخمت أعداده، ولذا تجاوز الخطوط المرسومة له، بل ورفض أن يكون مجرد أداة في يد النظام الحاكم؛ لأنه هو الآخر كانت له حساباته الخاصة وأجندته المرتبطة بمشروع عودة الخلافة وإقامة الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة وإعلان الجهاد على الكفار والقضاء على المجتمع الجاهلي وتحطيم الأصنام!.[12]
والحقيقة أن جماعات الإسلام السياسي في أرض الكنانة لم تتردد لحظة واحدة في مرحلة السبعينيات وبداية الثمانينيات من التذكير بمشروعها السياسي الكلياني، ولفت الانتباه إلى أيديولوجيتها الشمولية، والدليل أن هذه الجماعات سرعان ما انتقلت من ساحة الكلام والوعظ والإرشاد إلى ساحة العنف والقتال والإرهاب، وكما نعرف الإرهاب هو أعلى مراحل الأصولية الدينية، خاصة وأن الجو السياسي كان مناسبًا لاستعراض عضلات هذه الجماعات، وكانت التربة خصبة لتفريخ الأتباع والأنصار وعلاوة على الجو المناسب والتربة الخصبة والبيئة الحاضنة.
وما ينبغي ذكره هنا، هو أن السلطة الحاكمة قامت بإجراءات ساهمت في انتشار الإيديولوجية الأصولية أفقيًا وعموديًا، وبالتالي تغلغلها في جسم المجتمع بشكل لم يسبق له مثيل، منها الزيادة في البرامج الدينية في وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية بشكل لافت للنظر، كما تم غض النظر عن نشاطات الإسلاميين في المؤسسات التربوية وفي المساجد والشوارع وفي أماكن العمل، كما تركتهم يغرقون المجتمع بسيل جارف من المنشورات والكتيبات وشرائط الكاسيط المحشوة بخطاب ديني متطرف[13]، في نفس الوقت الذي كان فيه يتم التضييق على النشطاء السياسيين ورجالات الفكر الحر والثقافة العقلانية والمعرفة النقدية. والجدير بالملاحظة، أن الرئيس السادات دشن عهده بإطلاق سراح جميع المعتقلين وجميع المحبوسين الإسلاميين، كما سمح بعودة كل من هاجر قسرًا إلى الخارج من قيادات وشيوخ الإخوان المسلمين، وهكذا كانت كل الأجواء مهيأة في منتصف السبعينيات، كي تنتقل بعض فصائل الإسلام السياسي من الدعوة إلى الإرهاب، ومن القول إلى الفعل ومن الكلام إلى الرصاص.
وبالفعل تحركت بعض الجماعات الدينية وقامت بعمليات استعراضية/إعلامية، وطالت نيرانها الجميع بما في ذلك رجال الدين، ونذكر من أهم هذه العمليات حادث الكلية الفنية العسكرية عام 1974 الذي قامت بتنفيذه جماعة صالح سرية وكذلك حادثة اختطاف وقتل الشيخ محمد حسين الذهبي عام 1977 على يد تنظيم يسمى إعلاميا بجماعة ̎التكفير والهجرة ̎ بزعامة مصطفى شكري. وفي أجواء الرعب هذه كان أنور السادات يطلق على نفسه اسم "الرئيس المؤمن̎ وعلى الدولة المصرية دولة ̎ العلم والإيمان".[14]
ومن مفارقات التاريخ أن الرئيس المؤمن ̎ تم القضاء عليه على يد جماعة تعتقد في نفسها الإيمان المطلق، وترى أنها بعملها هذا تقدم خدمة جليلة للمؤمنين في كل مكان وللأمة الإسلامية!! والحقيقة أن اغتيال الرئيس أنور السادات، هو نتيجة منطقية لمقدمات وسوابق تم فيها الاستخدام السياسي المفرط للدين، والاستخدام الديني المفرط للسياسة، وما يؤكد ذلك أن الخطاب السياسي في تلك الحقبة انطوى على مفاهيم ومقولات دينية والخطاب الديني احتوى بدوره على كل مصطلحات السياسة.
ولا غرو أن كان عقد السبعينيات في مصر هو من أكثر العقود التي جرى فيها بكثافة تسيس الدين وتديين السياسة؛ فالكل تلاعب بالدين، والكل استخدم الدين، بما في ذلك النظام الحاكم والجماعات الدينية وحتى الكنيسة القبطية دخلت في معمعة السياسة. وإذا كانت الأمور قد جرت على هذا المنوال على جميع المستويات وكافة الأصعدة، من تقارب مع أمريكا ومن التصالح مع إسرائيل، رغم نداءات "لا تصالح" ومن الارتماء في أحضان الرأسمالية العالمية، ومن اكتساح الطبقة الطفيلية للمجال الاجتماعي/الاقتصادي، فإن ما حدث على المستوى الثقافي كان بمثابة الكارثة؛ إذ حلت ثقافة منحلة وساد فن هابط وهيمن فكر توفيقي- تلفيقي، وغابت الثقافة الجادة والفن الرفيع والفكر النقدي/ العقلاني.[15]
حصاد مر..و فاتورة باهظة
والنتيجة المنطقية لكل ما جرى في السبعينيات هي انخفاض المستوى الفكري للمجتمع الذي يؤدي بدوره إلى انحدار مستوى النقاش الثقافي الفكري/ السياسي، ويتجلى ذلك في عودة الجدل في قضايا سبق طرحها منذ مائة عام مثل قضايا الحجاب والسفور، وفي رفع شعارات من قبيل الأفكار المستوردة والغزو الثقافي[16]، وتجلت الردة الثقافية بوضوح في انتشار الأساطير والخرافات انتشار النار في الهشيم، ليس فقط بين الأوساط الشعبية ولكن حتى بين الفئات والشرائح المتعلمة والمثقفة، وفي الدعوة إلى ربط الإيمان بالعلم وفي التشكيك في المنهج التجريبي والزعم بأسلمة العلوم والقول بالإعجاز العلمي في القرآن والطب النبوي والمبالغة في بناء المساجد مع الاستخدام المفرط لمكبرات الصوت!
مسألة أخرى في غاية الأهمية، لابد أن نشير إليها ونحن بصدد عرض السياق التاريخي الذي ظهرت فيه كتابات ونصوص فؤاد زكريا هي مسألة، هي غياب الديمقراطية بكل ما تعنيه من حريات وحقوق ومجال عام مفتوح وصحافة حرة وبرلمان حقيقي وفصل السلطات والصراع السياسي السلمي؛ فغياب الديمقراطية كانت القاسم المشترك لكل الأنظمة الحاكمة، منذ أن استولى الضباط الأحرار على السلطة في عام 1952[17]. وبالفعل كانت الديمقراطية هي الغائب الأكبر وكان الاستبداد هو الحاضر الأكبر، وغيابها معناه غياب الحريات والحقوق الفردية والجماعية وغياب التعددية الحزبية وغياب السياسية بالمعنى الأرسطي. أما الدعوات إلى التداول السلمي على السلطة واستقلال القضاء وسيادة القانون، فكانت من الدعوات التي تؤدي بكل من يتفوه بها إلى الاختفاء وراء الشمس!
وعندما تغيب شمس الديمقراطية يحضر ظلام الاستبداد وتحضر معه الواحدية في جميع القطاعات وجميع المجالات؛ فالدولة تختزل في السلطة والسلطة تختزل في الرئيس الذي تمنح له في "الدستور" صلاحيات إلهية! كما أن السلطة التنفيذية تبتلع السلطتين التشريعية والقضائية. أما ما يسمى بالمجتمع المدني، فلا وجود له في ظل هيمنة الرئيس الذي لا شريك له ![18]
وهكذا كانت الصفة الغالبة على الدولة وفي الحقبة التي نحن بصددها هي الاستبداد السياسي والقمع البوليسي؛ أي تم تثبيت أركان الدولة التسلطية، وكل ذلك آتٍ من السلطة الحاكمة المعصومة، والتي لا تنطق عن الهوى ومادامت معصومة، فهي تعتبر المعارضين السياسيين خونة وعملاء، وبالتالي كل من ينتقد سياسات قيادة الثورة هو ثورة مضادة، وكل من يبدي رأيًا مخالفًا "للإمام المعصوم "، فهو شريك في مؤامرة خارجية لقلب نظام الحكم، وكل من يعارض سياسة الحكومة، فهو يعارض الدولة ويريد هدم الدولة، لقد وقع التماهي بين السلطة والدولة. [19] وفي هذه الحقبة التاريخية المزدحمة بالأحداث والممتدة من هزيمة حزيران 1967 إلى حرب الخليج الثانية عام 1991، أنتج أستاذنا تقريبا معظم مؤلفاته الفكرية ودخل في سجالاته الفكرية وجدالاته السياسية مع اليسار ومع اليمين، ولا عجب في ذلك لأنها كانت بالفعل حقبة كثيفة في أحداثها، سريعة في تحولاتها صادمة في مخرجاتها.... وبعبارة أخرى، بدا فؤاد زكريا وكأنه يؤذن في مالطا! في سياق تاريخي جري فيه، وبكثافة.. تديين السياسة وتسييس الدين!
وبالتفاعل مع هذه الأحداث قراءة ومتابعة ونقدا كان فؤاد زكريا ينحت مفاهيمه الفكرية، ويصيغ مقولاته الفلسفية ويقدم أطروحته في فصل الدين عن السياسة، كما كان في نفس الوقت يصحح المفاهيم والأفكار الفاسدة والطروحات الفكرية المغلوطة!
نقد الاستبداد والتطرف
في الحقيقة أنه لا يمكن الفصل بين الفكر والواقع، فكما أن الفكر يعبر بشكل من الأشكال عن الواقع، فإن الواقع يعكس الفكر، وهذا يتجلى أكثر في الفكر المهموم بالواقع، في الفكر الذي يبغي التغيير نحو الأفضل ولكنه كخطوة أولى يريد فهم الواقع ومن ثم تحليله وتشريحه تشريحا كاملا، من أجل تشخيص المرض أو الأمراض التي يعاني منها وتحديد العلل التي تمنع التقدم نحو الأمام أي تحقيق تنمية حقيقية في المجال السياسي، ببناء نظام سياسي ديمقراطي والميدان الاقتصادي، بالانتقال إلى اقتصاد منتج وكذلك، وهذا هو الأهم على المستوى الثقافي؛ أي من طريقة التفكير الخرافي إلى التفكير العلمي/العقلاني[20].
واللافت للانتباه في خطاب فؤاد زكريا أنه انتقد الفكر السائد، الفكر الموروث عن القرون الوسطى، فكر الهوية الثابتة المنغلقة على ذاتها، فكر يعتقد بأننا الأفضل في كل شيء. كما انتقد الواقع وما يعج به من سلبيات وتناقضات ومفارقات. ولهذا كان النقد هو المنهج، وهو الطريق الأساسي عنده منذ بداية دخوله المعترك الفكري، وكان ذلك واضحًا في عنوان أولى مؤلفاته في قضايا الواقع واليومي والسائد فيما يتعلق بالمسألة الثقافية، وهو كتاب ̎ آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة ̎ الصادر عام 1966. كما كان المنهج النقدي جليًا في آخر كتبه ̎ الثقافة العربية وأزمة الخليج ̎ الذي نشره عام 1991. وبين الكتابين كانت سهام النقد المزدوج، موجهة بالدرجة الأولى للاستبداد السياسي والتطرف الديني ثانيا[21].
ومن المفاهيم الأساسية التي وظفها كثيرًا في معاركه الفكرية، مفهوم العقل وهذا بالنظر إلى الكم الهائل من اللاعقل السائد ليس فقط في اليومي والعادي وعند العامة من الناس وفي الأوساط الشعبية، بل السائد بقوة في الفكر العربي المعاصر خصوصًا وفي الثقافة العربية المعاصرة عموما، حيث الخرافة والشعوذة والأساطير السائدة في الصحافة ووسائل الإعلام الثقيلة؛ أي في الإذاعة والتلفزيون والدليل القاطع على ذلك برامج الدروشة الدينية؛ أي برامج الشيوخ والدعاة مثل دروس محمد متولي الشعراوي التي كانت تذاع كل يوم في التلفزيون الرسمي، والتي كان قد حرم من خلالها كل شيء بما في ذلك تحريم تهنئة الأقباط في أعيادهم وتحريم زرع الأعضاء…إلخ وغيرها من البرامج الدينية التي كانت تذاع بشكل مكثف وتزداد كثافة مع ازدياد التطرف والعنف والإرهاب الأصولي، ناهيك عن الاحتفالات الرسمية بالمناسبات الدينية الإسلامية[22].
مفهوم العقل كان من الضروري توظيفه في مواجهة واقع مختلف وفي زعزعة معتقدات راسخة منذ مئات السنين عند العامة وعند الخاصة سواء بسواء. وبالإضافة إلى هذين المفهومين المركزيين عند فؤاد زكريا، هناك مجموعة مفاهيم مترابطة، إما من حيث الدلالة أو من حيث المجال المعرفي، وهي الحقيقة المطلقة والحقيقة النسبية، زيادة على مفهوم التعصب ونقيضه أي التسامح. فالاعتقاد بامتلاك الحقيقة المطلقة يؤدي إلى التعصب والاعتقاد بأن الحقيقة نسبية يؤدي حتمًا إلى التسامح، هنا تروج مقولات وتعبيرات من قبيل الأفكار المستوردة والحلول المستوردة والغزو الفكري وأسلمة المعرفة والحاكمية وجاهلية القرن العشرين، كما سادت مفاهيم في صيغة أزواج مثل دنيا ودين، ودين ودولة، والعلم والإيمان.
والواقع أن استخدام مفاهيم من قبيل المُطلق والنسبي لم يأت اعتباطا، بل جاء تعبيرًا عن الإيديولوجيات الشمولية التي هيمنت على الفكر والواقع العربيين، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؛ فالقوميون يعتقدون أن الوحدة العربية الشاملة ضرورة حتمية في إطار دولة واحدة، تضم الأمة العربية من المحيط إلى الخليج، والإسلاميون يتصورون أن قيام الخلافة الإسلامية التي تجمع شتات الأمة الإسلامية مسألة لا نقاش فيها.
وهكذا حَكًمت المطلقات الفكر العربي، وكان من الطبيعي أن يتحول الاعتقاد بالمطلق إلى تعصب ويصبح التعصب في لمح البصر عنفًا وقتلاً، رأينا ذلك في تعامل الأحزاب القومية عندما تصل إلى السلطة مع المعارضين وتابعنا عن كثب كيف تتعامل الجماعات الدينية المتطرفة ليس فقط مع من يخالفها الرأي بل ومع من ليس معها، حتى قبل أن تصل إلى سدة الحكم. أما إذا وصلت إلى السلطة، فالخبر الوحيد الذي سوف يكون متداولاً في وسائل الإعلام، هو قطع الرؤوس وتقطيع الأيدي والأرجل والجلد. وهكذا نصل إلى أن المفاهيم الكبرى التي استخدمها فؤاد زكريا، هي مفاهيم في شكل أزواج مثل الزوج العقل/ العقلانية، الدولة الدينية/الدولة العلمانية، بالإضافة إلى الزوج الحقيقة المطلقة/الحقيقة النسبية.
أشرنا سابقًا إلى أن كل ما أنتجه فؤاد زكريا من أفكار ومقولات ومفاهيم، تميزت بصفة أساسية هي صفة الارتباط الشديد بالواقع السياسي الاجتماعي العربي عموما والواقع المصري خصوصا، نقصد بالارتباط الشديد بالواقع التفاعل مع الأحداث والتطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية المتلاحقة على مصر والمنطقة في النصف الثاني من القرن العشرين، وخاصة في الفترة التي حددناها وتبدأ مع هزيمة حزيران عام 1967 وتنتهي عند ضرب العراق في فبراير 1991، كما نقصد أيضا بالارتباط الشديد بالواقع متابعة هذه الأحداث والتطورات عن كثب وليس هذا فحسب، بل محاولة معرفتها معرفة صحيحة وفهمها فهمًا عميقًا، وبالتالي القدرة على تحليلها التحليل الكافي، انطلاقا من المعرفة التاريخية وبالاستناد على المناهج العلمية والرؤية الفلسفية. وبالفعل كان أستاذ الفلسفة بجامعة الكويت، يتابع الأحداث متابعة دقيقة ويعرف كل ما يجري في مصر والمنطقة العربية، ويظهر ذلك جليًا في كتاباته ونصوصه من خلال عرض الأحداث والواقع التاريخية وتحليلها والسعي إلى اكتشاف القوانين التي تحكمها. إن الارتباط الشديد بالواقع في كتاباته كان له معنى واحد هو إنزال الفلسفة من برجها العاجي إلى أرض الواقع؛ أي إنزالها إلى مستوى التنظير والتجريد إلى الواقع وما يروج فيه من أحداث، والفلسفة عند داعية العلمانية لم تعد فكرًا نظريًا بعيدا كل البعد عن هموم الناس ومشاغلهم اليومية، بل باتت قريبة منهم تفهم مشكلاتهم وتتفهم أوضاعهم وتنتقد سلبياتهم وتفتح لهم آفاقًا وتقدم لهم حلولا وتقترح عليهم بدائل، والأهم من كل ذلك تدعوهم إلى عدم اليأس والاستسلام للقدر كما تطالبهم بالتأمل عن وعي والتفكير بمعرفة في قضاياهم وهمومهم وتحذرهم من الوعي الزائف ومن تبني قضايا خاطئة[23]وتنبههم إلى أن الخرافة والشعوذة والدجل والدروشة الدينية هي ثقافة فاسدة من رأسها إلى أخمص قدميها والاقتناع بها تؤدي مباشرة إلى التهلكة. وهكذا نستنتج أن الارتباط الشديد بالواقع عند فؤاد زكريا له ما يبرره، وباختصار أن الواقع العربي هو على العموم واقع متخلف وراكد في جميع المجالات، سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وثقافيًا، هذا التخلف يمنع أي مفكر ملتزم بقضايا الدولة والمجتمع من التحليق بفكره في سماء الواقع وبالابتعاد عن القضايا الحقيقية. مع العلم أن التخلف في العالم العربي هو تخلف بنيوي معقد ومتشابك، وهو يزداد تعقيدًا وتشابكًا مع مرور الوقت، حيث يصبح فيه العقد الذي يمضي أفضل دائما من العقد القادم؛ لأن الأوضاع لا تسير نحو الأفضل، بل نحو الأسوأ. هذا الانزلاق الدائم نحو الأسوأ يفرض على الكاتب الالتزام الدائم؛ لأنه لا مناص من بذل مجهود في القراءة والمعرفة والمتابعة لمعرفة ما جرى وما يجري وفهم أسباب هذا الانتقال في العالم العربي من السيء إلى الأسوأ ومن كارثة كبرى إلى كارثة أكبر منها. والحقيقة أن الانزلاق الدائم يجبر الكاتب والمفكر والمثقف على الالتزام الدائم، وقد كان فؤاد زكريا من هؤلاء الذين التزموا بهموم وقضايا المجتمع كما التزموا بالموضوعية والمنهج العلمي في تحليل هذه القضايا وفهم هذه المشكلات، وكذلك بالتعامل مع السائد من رؤى وتصورات وأفكار ومقولات سياسية وفكرية، أقول التعامل معها من موقف نقدي مهما كانت هذه التصورات حتى ولو كانت تصورات للاقتداء بالنموذج الأمريكي[24].
ومن الواضح أن الارتباط الشديد بالواقع معرفة وفهمًا ومتابعة وتفاعلاً، ليست هي السمة الوحيدة، في كل ما أنتجه فؤاد زكريا بل هناك سمات أخرى، يمكن إجمالها في المفاهيم التالية:
1. الموقف النقدي: ومعناه نقد النظام الثقافي الفقهي -التقليدي السائد في العالم العربي منذ العصور الوسطى.
2. الرؤية العقلانية: ويقصد بها استخدام العقل والمنطق والعلم في كل شيء في الفهم والمعرفة والسياسة والاجتماع.
3. الاتجاه التنويري: وهي الوعي بالتاريخ وبالزمن وبمتطلبات العصر وإدراك تحديات المستقبل.
وهي سمات أساسية ميزت مقالاته ودراساته طوال خمسة عقود، وهي السمات التي نستطيع القول إنها عبرت عن واقع يفتقدها من ناحية ومن ناحية أخرى، تفاعلت جدليا فيما بينها وكل واحدة تؤدي إلى الأخرى؛ فكل القضايا تمر على ميزان العقل بما في ذلك ما يسمى بالصحوة الإسلامية[25]، وبما في ذلك أيضا النظام الحاكم؛ فالكل يخضع عند فؤاد زكريا لمنهج العقلانية والموقف النقدي من سياسات السلطة الحاكمة إلى ممارسات الجماعات الدينية. والموقف النقدي عند صاحب كتاب ̎ التفكير العلمي ̎ لا ينطلق من فراغ ولا يتجه في الفراغ؛ بمعنى أنه ليس نقدًا من أجل النقد، بل بالعكس تماما إنه نقد ينطلق من الوعي بالواقع العربي المتخلف، بل وشديد التخلف. هذا الواقع الذي قلنا عنه إن الأوضاع تسير فيه من السيئ إلى الأسوأ، والناس فيه تنام على كارثة كبرى وتصحو على كارثة أكبر منها! هذا الواقع يلزم الكاتب والمفكر والمثقف بممارسة النقد على أوسع نطاق، ممارسة نقدية مسلحة بالمناهج العلمية ومبنية على أسس فلسفية، ومستندة على آخر ما وصلت إليه العلوم الإنسانية[26].
ولا يكتفي داعية العقلانية-النقدية بذلك، بل يرى أن هذا النوع من النقد لابد أن يشمل جميع الأوضاع السائدة وكافة الأفكار والتصورات والمقولات والشعارات المهيمنة على العقل العربي منذ عقود، أو بمعنى أدق منذ قرون؛ فالنقد ضروري بالنظر إلى التفكير الخرافي المنتشر بين العامة والخاصة والعقلية النقلية التي لم تتزعزع عن مكانتها والمهيمنة على شريحة واسعة من الكتاب والمثقفين وعلى عامة الناس بسبب النمو الديمغرافي المرعب. كما أن النقد في كتاباته ونصوصه يطال الدولة والمجتمع والسلطة المعارضة والأحزاب اليسارية والحركات الإسلامية والرأسمالية والماركسية والساداتية وحتى الناصرية.
خلاصة القول إن الخطاب العلماني لفؤاد زكريا هو نتاج الظرفية التاريخية، كما أنه خطاب يعكس كافة أشكال الصراعات الإيديولوجية بين القوى الاجتماعية في الداخل بين اليمين واليسار وصراعات القوى الوطنية مع القوى الخارجية الإمبريالية/الاستعمارية. ولو لا هذه الظروف والمعطيات التاريخية ما كان ليكون هناك خطاب علماني يدعو صراحة إلى فصل الدين عن السياسة أولا وفصل الدين عن الدولة ثانيا. ومن الضروري الإشارة كذلك إلى أننا وضعنا دعوة فؤاد زكريا للفصل بين الشأن الديني والشأن السياسي في السياق التاريخي المصري /العربي؛ أي إننا أردنا أن نقول بذلك إن هذا الخطاب العلماني العربي المعاصر، هو خطاب مؤطر بشروط تاريخية، وتمت صياغته ضمن مناخ سياسي محدد وفي ظروف اجتماعية/ ثقافية محددة، نقصد ظروفا بالغة السوء وكل شيء فيه يشير إلى الانحطاط والتراجع، وفي ظل التراجع والانحطاط والتأزم صاغ فؤاد زكريا مقالته الداعية إلى العلمانية، باعتبارها هي الحل لهكذا أوضاع يُرثى لها، ولذلك فهاجس التخلف والتأخر والتراجع كان هو مُحرك الدعوة عند المفكر العقلاني؛ فالعلمانية بالنسبة إليه ليست مجرد فكرة أو مشروعا يناقض المشروع الأصولي، بل إنها حل تاريخي لمشاكل تاريخية يعاني منها العرب منذ مؤتمر سقيفة بني ساعدة[27]. إنها ليست مسألة تقنية لحل مشكلة العلاقة بين الدين والسياسة من جهة، وبين الدين والدولة من جهة أخرى، بل إنها حل حضاري[28]. ولهذا، فالعلمانية عند فؤاد زكريا ليست قضية من القضايا التي يمكن تأجيلها أو ترحيلها للمستقبل، بل هي ضرورة حضارية.[29]
وما نخلص إليه في الأخير، أنه في هذا السياق التاريخي الذي تم فيه تسييس الدين وتديين السياسة، وجهر فؤاد زكريا بدعوته إلى فصل الدين عن السياسة.
المصادر والمراجع:
- مجدي حماد: ثورة يوليو 1952. مركز دراسات الوحدة العربية ط1 بيروت 1993
- عبد الباقي الهرماسي وآخرون: الدين في المجتمع العربي. مركز دراسات الوحدة العربية ط1 بيروت 1990
- نصر حامد أبو زيد: نقد الخطاب الديني. سينا للنشر ط2 القاهرة 1994
- سيد قطب: معالم في الطريق دار الشروق بيروت 2008
- محمد حسنين هيكل: سنوات الغليان مركز الاهرام للترجمة والنشر ط1 القاهرة 1988 مصر.
- سعد الدين إبراهيم وآخرون: أزمة الديمقراطية في الوطن العربي مركز دراسات الوحدة العربية ط2 بيروت 1987
- فؤاد زكريا: خطاب إلى العقل العربي، سلسة كتاب العربي، الكتاب السابع عشر الكويت 1987
- .........: الحقيقة والوهم في الحركات الإسلامية المعاصرة
- .........: العرب والنموذج الأمريكي. دار ابن رشد للطباعة والنشرط2 القاهرة 1981
- .........: الصحوة الإسلامية في ميزان العقل. دار الوفاء للطباعة والنشر ط1 القاهرة 2006
- .........: التفكير العلمي. دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر القاهرة 2004.
- عصام عبد الله: أفكار حول العلم والحضارة والإنسان. مجلة العربي، العدد 492، نوفمبر 1999، الكويت
- مصطفى دحماني: العدل عند الجماعات في الإسلام...من التدافع السياسي إلى الصراع الإيديولوجي، مجلة المستقبل العربي. مركز دراسات الوحدة العربية، العدد 531 أيار/ مايو 2023
- حسام عيسى: مصر إلى أين؟ مجلة المستقبل العربي مركز دراسات الوحدة العربية العدد 237 نوفمبر 1998
- Mohamed Arkoun: la pensée arabe.que sais-je. Presses universitaires de France 3em. Édition 1985 paris
[1]- عصام عبد الله: أفكار حول العلم والحضارة والإنسان مجلة العربي ص 115
[2]- فؤاد زكريا: الحقيقة والوهم في الحركات الإسلامية المعاصرة، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع ط1، القاهرة 1986 ص82
[3]- Mohamed Arkoun: la pensée arabe.que sais-je presses universitaire de France. p 90
[4]- محمد حسنين هيكل: سنوات الغليان، مركز الأهرام للدراسات والنشر ط1 القاهرة 1988
[5]- مجدي حماد: ثورة يوليو 1952، مركز دراسات الوحدة العربية ط1 بيروت 1993 ص 30
[6]- حسام عيسى: مصر إلى أين؟ مجلة المستقبل العربي مركز دراسات الوحدة العربية العدد 237 نوفمبر1998 ص 31
[7]- سمير نعيم: المحددات الاقتصادية والاجتماعية للتطرف الديني ضمن كتاب- الدين في المجتمع العربي. مركز دراسات الوحدة العربية ط1 بيروت 1990 ص 217
[8]- المرجع نفسه ص 224
[9]- المرجع نفسه ص 225
[10]- نصر حامد أبو زيد: نقد الخطاب الديني. سنا للنشر ط2 القاهرة 1994 ص 114
[11]- حسام عيسى: المرجع نفسه ص 34
[12]- سيد قطب: معالم في الطريق دار الشروق بيروت 2008 ص 22
[13]- سمير نعيم: المرجع نفسه، ص 233
[14]- نصر حامد أبو زيد: المرجع نفسه، ص 113
[15]- سمير نعيم: المرجع نفسه، ص ص 235 و236
[16]- فؤاد زكريا: خطاب إلى العقل العربي، سلسلة كتاب العربي، الكتاب السابع عشر الكويت 1987 ص 73
[17]- طارق البشري: الديمقراطية وثورة يوليو 1952-1970 ضمن كتاب- أزمة الديمقراطية في الوطن العربي- مركز دراسات الوحدة العربية ط2 بيروت 1987 ص 579
[18]- المرجع نفسه ص 591
[19]- نصر حامد أبو زيد: المرجع نفسه ص 114
[20]- فؤاد زكريا: خطاب إلى العقل العربي المصدر نفسه ص 19
[21]- فؤاد زكريا: الحقيقة والوهم في الحركات الإسلامية المعاصرة. المصدر نفسه ص 47
[22]- فؤاد زكريا: خطاب إلى العقل العربي المصدر نفسه ص 84
[23]- فؤاد زكريا: خطاب إلى العقل العربي. المصدر نفسه ص 36
[24]- فؤاد زكريا: العرب والنموذج الأمريكي. دار ابن رشد للطباعة والنشر ط2 القاهرة 1981 ص 30
[25]- فؤاد زكريا الصحوة الإسلامية في ميزان العقل. دار الوفاء للطباعة والنشر ط1 القاهرة 2006 ص 90
[26]- فؤاد زكريا: التفكير العلمي. دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر القاهرة 2004 ص 15
[27]- مصطفى دحماني: العدل عند الجماعات في الإسلام... من التدافع السياسي إلى الصراع الإيديولوجي، مجلة المستقبل العربي.مركز دراسات الوحدة العربية. العدد 531 أيار/ مايو 2023 بيروت ص 143
[28]- فؤاد زكريا: العلمانية ضرورة حضارية المصدر نفسه ص 269
[29]- المصدر نفسه ص 288