فؤاد زكريا والاستشراق
فئة : قراءات في كتب
فؤاد زكريا والاستشراق
"الاستشراق ليس بالقَطع معرفةً بَريئة من الشوائب، ولكن الخطر الأكبر يَكْمُن في أن نُنكِر عيوبنا لمُجرَّد أنَّ غَيرَنا يقول بها لأهداف غير موضوعية. إن دَورنا الثقافي في المرحلة الراهِنة هو أن نُمسِك ثَورَ التَّخلُّف من قَرنَيه، وأن ننقُد أنفسنا قبل أن نَنقُدَ الصُّورة التي يُكوِّنها الآخرون عَنَّا، حتى لو كانت هذه صورةً لا تَستهدِف إلا التَّشوِيه."[1]
****
تزخر المكتبة العربية بالكثير من الكتيبات القصيرة، التي تلخص مواقف فكرية وتصورات وآراء ترتبط بمختلف من المواضيع التي أثير حولها الكثير من الجدل، من بين تلك المواضيع موضوع الاستشراق؛ وهو موضوع أدلى بشأنه الكثير من المثقفين العرب وغير العرب برأيهم وتصورهم حوله. الأمر هنا يتعلق ببحث لفؤاد زكريا تحت عنوان: نقد الاستشراق وأزمة الثقافة العربية المعاصرة. وقد صدر مجددا عن مؤسسة هنداوي عام 2019م. ويضم مقدمة وثلاثة مباحث، وهي: النقد الدِّيني، النقد السياسي الحضاري، تحليل اجتماعي-نفسي لنقد الاستشراق.
الغاية التي جعلتنا نعود لهذه الكتيب الصغير، ترتبط باستحضار وجهة نظر تتصف بالموضوعية في النظر تراث الاستشراق، وهي نظرة مفيدة منهجيا في بناء تصور يتصف بالعلمية بمعزل عن المقاربات الأيديولوجية (الدينية أو السياسية) التي تختزل الاستشراق في كل ما هو سيئ.
لا شك في أن "الاستشراق يُرضي عند الكثيرين من أصحابه نزَعات التعصُّب التي يُمارِسها المُنتَمُون إلى ثقافةٍ مُعادية دينيٍّا، وأحيانًا عُنصريٍّا، لثقافةٍ أخرى، وكذلك نزَعات الاستِعلاء التي تشعُر بها ثقافة مُتفوِّقة نحوَ ثقافةٍ أصبحَتْ في المرحلة التاريخية الراهنة أضعفَ منها بكثير، ولكن هذا جانب واحد من صورةٍ شديدة التعقيد."[2] وإذا شئنا أن نقيم النزعة العلمية للاستشراق في أحد من جوانبها، فسنجدها في حالات كثيرة تتسع بشكل مفرط، فهي "تُدقِّق في تفاصيل موضوعاتها بهدَف الاستِيعاب الكامل. ولكن هذا التدقيق التفصيلي والإفراط في استِخدام المَنهج المُنضبِط قد يؤدِّي أحيانًا إلى تغيير صورة الموضوع الذي يتمُّ بحثُه، بحيث تَختفي معالمه الأصلية وسط ذلك الحَشْد الهائل من المعلومات والمُقارَنات التي يقوم بها باحِثون يَعرفون عِشرين لغةً مثلًا ما بين شرقية وغربية"[3] فالاستشراقية بهذه المواصفات جعلته موضع نقد، وشك وريبة في العالم الإسلامي طيلة القرن العشرين
النقد الدِّيني
يرى فؤاد زكريا أن العالم العربي والإسلامي، عرَف منذ وقتٍ طويل، نُقَّادًا للاستشراق هاجَموه على أساسٍ ديني، وسعَوا إلى الدفاع عن الإسلام ضدَّ الصُّورة المُتَجنِّية التي رسمتْها له كتابات كثيرٍ من المُستشرِقين. ولكنَّ الأمر لم يقِف عند هذا الحد، بل إنَّ الكثيرين من هؤلاء النُّقَّاد قد جَمعوا في فئةٍ واحدة بين المُستشرِقين والمُلحِدين، أو بين المُستشرِقين وأعداء الإسلام أو الأمة العربية، من أكثر التَّعبيرات وُرودًا على الألسُن. «افتراءات أو أكاذيب المُستشرِقين».[4]
هذا الموقف الذي يسفه كل ما قال به وكتبه المستشرقون، كان سائدا ولازال في مختلف الجامعية التي تدرس الشريعة والدراسات الإسلامية، ولم تنج منها حتى شعب الأدب العربي. أما المؤسسات والمعاهد الدينية، فمنها من يعرف قطيعة تامة مع كتابات المستشرقين. وهذا يعني أن الأصل في نقد الاستشراق كان بدافع ديني أكثر ما هو سياسي، "والذي كان يحدُث في هذا الهجوم من المُنطلَق الدِّيني على الاستشراق هو أن المُهاجِم، كان في واقِع الأمر مُدافعًا؛ فهو يدخُل في مُبارَزة مع «عدوٍّ للإسلام» مُحاولًا أن يُثبِت له أنه وقَع في أخطاء أساسية، مقصودة أو غير مقصودة، وساعِيًا إلى أن يُعيد إلى الإسلام صورته النَّقِيَّة عند المُسلِم المؤمن، وناظرًا إلى كلِّ خروجٍ عن هذه الصورة عند المُستشرِق على أنه جُزء من المؤامرة."[5]؛ بمعنى أن المختصين في التراث الفقهي والتفسيري...لا يقبلون بأي وجه من وجوه الاختلاف في فهم مدونات التراث الإسلامي، في غفلة منهم بأن مدونات التراث ليست بالضرورة، متفق حول كل ما جاء فيها وما تضمه من أحكام وأقوال وآراء... في غفلة منهم أن مدونات التراث لا يتفق حول مضمون ما جاء فيها، من أحكام وأقوال وآراء... فالتراث الإسلامي صاغته الكثير من الفرق والمذاهب والمدارس وفق سياقات ثقافية واجتماعية وسياسية متعددة، فالنظر الى التراث كأنه رأي وتصور واحد، أمر غير مقبول، ومن هذه الزاوية فمن حق الآخر، أن يراه من زاوية تخصه وفق مناهج أخرى، لم يقل بها التراث. وتزداد المشكلة هنا تعقيدا عندما يتم مصادرة آراء المختلفين في قراءتهم للتراث بدعوى أنها تستند على الاستشراق، مثل ما وقع في مصر، مع طه حسين، أو أحمد خلف الله، او نصر حامد أبو زيد، بما يؤكد أن الاستشراق له دور بشكل عفوي في إيقاظ مشكلة تتعلق بنظرتنا الى تراثنا. أما نظرتنا إليه في ستَنطوي في نهاية الأمر "على مبدأ أساسي لا يُصرِّح به أصحاب هذا المَوقف، ولكنه موجود ضمنًا في كلِّ حرفٍ مما يكتُبون، هو أننا أصحاب حقيقة مُطلَقة، وكلُّ من يؤيِّد حقيقتنا المُطلَقة على صواب، وكلُّ من يُعارِضها على خطأ".[6]
النقد السياسي الحضاري
يرى فؤاد زكريا، أن الجديد في موقف الباحثين العرب من الاستشراق، هو ظهور نوعٍ آخر من النقد لم تكن دوافعه دينيةً على الإطلاق، وإنما كانت سياسيةً حضارية في المحلِّ الأوَّل. وعلى حين أنَّ أصحاب النقد الديني كانوا يهدفون إلى الدفاع عن العقيدة الإسلامية ضِدَّ التشويهات أو الانحرافات التي تتميَّز بها نظرة كثيرٍ من المُستشرِقين إلى الإسلام، فإن أصحاب النقد السياسي الحضاري يهدفون قبل كلِّ شيء، إلى فضح الأهداف السياسية والتشويهات الثقافية للاستشراق من حيث هو أداة لهَيْمنة الغرب على الشرق في المَيدان الفكري.[7] فالحس السياسي في نقد الاستشراق بشكل مباشر كان أهمَّ معالمه كتابٌ أحرَز شُهرة واسعةً هو كتاب إدوارد سعيد "الاستشراق" في صدوره الأول 1978م فالجديد معه هو تحويل مجال النقد من الديني الى السياسي الحضاري، وهو أمر جعل النقد الدِّيني يختفي أو يتوارى عن الأذهان.[8] يُثير النقد السياسي والحضاري للاستشراق مشكلة الموضوعية في العلوم الإنسانية من خلال البحث في مدى نزاهة البحث الاستشرافي وحريته. فالبحث في الشرق، كما يرى إد. سعيد، لا يُمكن أن يكون موضوعيٍّا أو حرٍّا؛ لأنه خاضع دائمًا لاعتباراتٍ تُبعِده عن النزاهة، كالاستِعلاء أو الرغبة في السيطرة أو التمركز الأوروبي حول الذات، فضلًا عن تداخل الخيال والصُّوَر النَّمطية والاتِّجاهات النفسية المَوروثة منذ العصور الوسطى الأوروبية.[9]
يرى فؤاد زكريا، أنَّ المشكلة الحقيقية التي يُثيرها نقد المُثقَّفِين العرب للاستشراق على أسُسٍ سياسية حضارية، هي مشكلة حدود الاتِّصال بين الثقافات. فالاستشراق نموذج لعِلم يرتكز كله على فكرة الاتِّصال هذه؛ إذ يقوم فيه باحِثون ينتمون إلى ثقافة مُعيَّنة بدراسةٍ مُتعمِّقة، ربما استغرقَتْ منهم حياتَهم كلها، لثقافةٍ أخرى أجنبية بالنسبة إليهم؛ فما هي حدود الفَهم الذي يستطيع هؤلاء بلوغَها؟ وهل يؤدِّي التفرُّغ والتَّخصُّص التامُّ إلى اندِماجٍ كاملٍ في الثقافة الأخرى، أم إنَّ الانتماء الأصلي للمُستشرِق إلى نَمَطٍ آخر في التفكير وفي النظرة إلى الحياة يُحتِّم وجود حدودٍ مُعيَّنة لاتِّصاله بالثقافة الأخرى، مهما حاول أن يندمج فيها؟[10]
فمَوجة نقد "الاستشراق من الزاوية السياسية والحضارية في الخمسينيات من هذا القرن، على حِين أنَّ نَقدَه من الزاوية الدِّينية كان أقدَمَ من ذلك بكثير. ومنذ أن كتَبَ أنور عبد الملك مقالَهُ الهام عن أزمة الاستشراق، بدأ حوارٌ جادٌّ حول هذا الموضوع، دارت مُعظَم حلقاته خارج حدود الوطن العربي. ولكن العمل الذي فجَّرَ المشكلة في الخارج ونقلها بعد ذلك بِصورةٍ حَيَّة إلى الداخل، هو كِتاب إدوارد سعيد عن الاستشراق. ومنذ ذلك الحين توالَتْ كتابات مُتعدِّدة حول هذا الموضوع بطريقةٍ تُوحي بأن المُثقَّفين العرَب كانوا يَنتظرون إشارة البَدْء للهُجوم على الاستشراق بكلِّ العُنفِ الذي يؤدِّي إليه غضَبٌ وسُخطٌ مُختَزَنان منذ أمدٍ بعيد."[11]
يرى فؤاد زكريا، بأن الكثير من الكتابات تتَّسِم حول الاستشراق بأنها في أغلب الأحيان أحُادية الجانب. ولستُ أعني بذلك أنها تتجاهَل أيَّ جانبٍ آخر في موضوع الاستشراق، وإنما أعني أن تركيز فئةٍ منها على الجانب الدِّيني يَمنعُها من أن تُدرِك بوضوحٍ الأبعاد السياسية والحضارية للمُشكلة وتُعطيها ما تستحقُّه من أهمية، على حين أنَّ إرجاع الفئة الأخرى مُشكِلات الاستشراق كلها إلى العامل السياسي الحضاري يَحُول بينها وبين عمل حسابٍ كافٍ للبُعد الدِّيني. وأعتقد أنَّ المُعالَجة الشاملة لمُختلِف هذه الجوانب، بطريقةٍ مُتساوية في الأهمية، هي إحدى النقاط التي تُبرِّر في نظرنا إضافة هذا البحث الجديد إلى سَيلِ البحوث التي تدفَّقَتْ أخيرًا حول هذا الموضوع.[12]
[1] فؤاد زكريا، نقد الاستشراق وأزمة الثقافة العربية المعاصرة، مؤسسة هنداوي عام 2019م، ص.67
[2] فؤاد زكريا، نقد الاستشراق وأزمة الثقافة العربية المعاصرة، مؤسسة هنداوي عام 2019م، ص.53
[3] نفسه، ص.54
[4] نفسه، ص. 7
[5] نفسه، ص.12
[6] نفسه، ص.24
[7] نفسه، ص. 27
[8] نفسه، ص. 8
[9] نفسه، ص. 30
[10] نفسه، ص.37
[11] نفسه، ص.52
[12] نفسه، ص. 9