فتحي المسكيني: الحريّة والتّعايش (الجزء الثالث)
فئة : حوارات
د. نادر الحمامي: نستأنف حوارنا مع الأستاذ فتحي المسكيني، بعد أن نجدّد شكرنا له على قبوله أن يكون ضيفنا اليوم. ومن أهم ما توصّلنا إليه في الجزأين الأوّلين من حوارنا؛ بحث الفلسفة الأخلاقية، بصورة عامة، عن أفق انتظار قد يخرج بنا عن الهويّات المغلقة إلى هوية ترسم حدودها أخلاقيةٌ جديدةٌ، من بين أسسها الكبيرة التي كانت موضوع بحث عميق في الفلسفة، مسألة التّفاهم أو التّعايش وما يرتبط بها من غيريّة وذاتيّة، إلى جانب قضيّة الحرّية، ذلك أنّ التّعايش يتطلّب مَن نعيش معه، بخلاف ما ذهب إليه شوبنهاور (Arthur Schopenhauer) (1788-1860) مثلاً، الذي ربط مسألة الحرّية بمسألة الوحدة، وفي ذلك إلغاء لمسألة التّعايش، وربّما لم تنشأ محاولات تقويم هذه النّظرة إلاّ مع نيتشه، باحتشام كبير، ليتمّ تطويرها مع هايدغر (Martin Heidegger) (1889-1976) في ''الكينونة والزمن'' الذي قام الأستاذ فتحي بترجمته، ليتطوّر لاحقا مع حنا أرندت تلميذة هايدغر، وينتهي مع ليفيناس (Emmanuel Levinas) (1906-1995) إلى طرح قضيّة فلسفيّة ماتزال محلّ جدل كبير إلى الآن، وهي أن نعرف ذواتنا بالآخر ونعرف الآخر بذواتنا. فكيف تنظر إلى هذه المسألة أستاذ فتحي؟
د. فتحي المسكيني: نعم، المشكل مترامي الأطراف؛ فمسألة "الهو هو" و"الغير" (Le même et l'autre) بلغة أفلاطون (Platon) (427 ق.م - 347 ق.م)، التي وصلت إلينا من خلال نصوص الفارابي (874-950) أو نصوص ابن رشد (1126-1198)، أصبحنا في بداية هذا القرن الواحد والعشرين نبدو كأنّنا نستأنفها، وفي الحقيقة نحن نتكلّم رطانة مختلفة، لأنّ "الهو هو" أصبح يدّعي أنّه الهويّة، والهويّة تدّعي أنّها الإجابة المناسبة عن سؤال من نحن، ونحن ندّعي أنّنا نستطيع أن نفهم ''الغير'' بوصفه غيرنا، وهذا قد طرح مسائل فلسفية كبيرة، فهل أن هذا "الغير" مختلف عنّي فقط، أم أنّه يغايرني إلى درجة أنّه لا يمكن أن يكون أنا؟
المشكل الذي طرحه شوبنهاور أن الإنسان لا يستطيع أن يكون حرّا فعلاً إلاّ عندما يكون وحيداً، ولو ترجمنا هذا القول على مستوى مسألة الآخر، فسنقول إن الإنسان لا يستطيع أن يكون حرّاً إلاّ بلا آخر. طبعاً، نحن لا نلوم شوبنهاور على هذا، لأنّ له الأساس الفلسفي الذي يقيم عليه هذا النّوع من الطّرح، لكن شوبنهاور ليس معلّماً كبيراً للإنسانيّة من هذه الزّاوية، فهو فيلسوف لا يؤسّس مجتمعاً. وبحسب تصنيف الفلاسفة، نجد فلاسفة يعدوننا بنوع معين من المجتمع أو من التّعايش بين النّاس، وهم يشبهون في هذا الأنبياء، كما نجد فلاسفة لا يعدوننا بأيّ شيء عدا أن نصبح متألّهين أو متوحّدين أو فنّانين، وقد كتب ابن باجة (1095-1130) كتابا حول ''تدبير المتوحّد''، لكن تلك ''الوحدة'' قد غيرت من ملامحها؛ فلا نستطيع أن نكون وحيدين لأن عناصر إنسانيتنا تفترض وجود آخرين عديدين وليس آخرا واحدا، فنحن موجودون في سرديّة وحدويّة لها أكثر من أربعة آلاف سنة، وهي تشكّل لنا ذاكرة ورواسب أخلاقيّة ومصادر لذواتنا أو لأنفسنا، ولذلك فإن أسلافنا يشاركوننا في كل كلمة ننطق بها في أيّ موضوع، هذا عدا أنّ أسماءنا نفسها هي إشارات تستفزّ، فعندما نعطي اسم محمّد لشخص ما، فكـأنّنا نعتبر أن العمر الرّمزي لهذا الشخص هو 1400 سنة، وهذا يعني أن الآخر ماثل هنا دائماً. وفي مجتمع هووي مركّب ومكوّن من عنصر قومي واحد، فالآخر لا وجود له، أو يربّى النّاس على اعتباره ذلك الخارج الذي لن نلتقي به إلا على حدودنا، وهذا خطأ كبير، لأنّه يؤدّي إلى بناء دكتاتوريّات، فالفكر الدّكتاتوري هو فكر هووي يؤمن بزعيم أوحد، وهو لم يصبح كذلك إلاّ لأنّ تصوّرنا للإنسان قائم على الهويّة الواحدة، فعندما نربّي أطفالنا مثلاً على أن يكونوا مسلمين فقط، فكأنّنا نربّيهم على انتظار الدّكتاتور ونعلّمهم أن يتهوّوا، ولفظ التهوّي نحته الكندي (805-873) في "رسالة إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى"، وعندما نتهوّى فنحن نقبل على أنفسنا أن نفتعل وأن نطاوع وأن نصبح هوويّين. وعندما نصرّ على هذا النّوع الهووي من تربية الإنسان، فذلك يعدّ كارثة أخلاقية، لأنّه لا يؤهّلنا للهجرة إلى الإنسانية، كما لا يؤهّل ثقافتنا لاحتمالات الكونيّة. ومفهوم الكونيّة نفسه ليس بمنأى عن النقد، فيمكن أن يتحوّل إلى متراس أو حاجز أمام الثّقافات الأخرى.
د. نادر الحمامي: لنقل بوضوح أنّك تعوّض مفهوم الكونيّة (universalité) بمفهوم الإنسانيّة (Humanité)، وأنّك تعتبر أن الأفكار المتعلّقة بالهويّة يجب أن تُطرح للنقاش في إطار التحوّل من الكونيّة إلى الإنسانية.
د. فتحي المسكيني: نعم، علينا القيام بذلك رغم أنّ مفهوم الإنسانيّة يبدو متعباً ومرهقاً نتيجة النقد الهائل الذي سُلّط عليه، من خلال التّفكير الذي نقد فلسفة الذات وفكرة الإنسانويّة. فمن الرّائع أن سارتر (Jean-Paul Sartre) (1905-1980) مثلاً، اعتبر أنّ الوجوديّة مذهب إنسانيّ، في وقت كان يبدو فيه الفيلسوف قد حسم أمره إزاء الإنسانيّة، وطوّر نزعة مضادّة للإنسانوية مع هايدغر ونيتشه، وقام بنوع من المراجعة لفكرة الإنسان مع فرويد (Sigmund Freud) (1856-1939). لذلك، فثمّة مفاهيم تبدو لنا مرهقةً نتيجة ما كتب عنها أو ما سُلّط عليها من نقد، إلاّ أنّها ما تزال تحتمل وعوداً كبرى لم تُستنفذ بعدُ. من ذلك أنّ هابرماس مثلاً، يفترض أن العقلانيّة مثل الحداثة، هي طاقات لم تُستنفذ بعد، ولذلك فهو يسمي الحداثة "مشروعا لم ينجز بعد".
د. نادر الحمامي: نعم، فهي مشاريع مستمرّة ومفتوحة، ولذلك نجد رفضاً واسعاً لفكرة "ما بعد الحداثة".
د. فتحي المسكيني: نجد أن هابرماس يرفض ذلك في سياق الردّ على ليوتار (Jean-François Lyotard) (1924-1998)، الذي قدّم الحداثة باعتبارها ''أزمة السّرديات الكبرى''، فعندما نقول إن التّاريخ الحديث هو تاريخ التقدّم، وعندما نقول إن المجتمع يقوم على مبدأ الذّاتيّة أو الفرديّة، وعندما نقول إنّ العامل، بالمعنى البلوريتاري، لبّ الصّراع في المجتمع الرّأسمالي... فهذه كلّها سرديّات كبرى. فالسّرديات الكبرى التي يقصدها ليوتار هي سرديّات حديثة فقط، ولذلك فهو لا يتحدّث عن الإسلام، على سبيل المثال، باعتباره أحد تلك السرديّات الكبرى. وقد انتهى ليوتار إلى أنّ من نخاطبهم لم يعودوا على ثقة ممّا نقول لهم، نتيجة أنّ هذه السّرديات قد دخلت في طور أزمة شرعنة أو شرعيّة (légitimité)، بمعنى أن المعرفة التي نُدلي بها إلى النّاس حول أنفسهم أو حول الآخرين أضحت جزءاً من خطّة ما لممارسة نوع من السّلطة عليهم أو على عقولهم.
د. نادر الحمامي: هل أنت مع القائلين بأنّ زمن السّرديات الكبرى قد انتهى دون رجعة؟ ألا يمكن للعقل البشري اليوم أن يؤسّس لسرديات كبرى أخرى جديدة؟
د. فتحي المسكيني: سوف يستمر العقل البشري في إنتاج سرديّات جديدة، وهذه السّرديات سوف تستمرّ في الادّعاء بأنّها سرديات تأسيسيّة. لقد تكلّم هيغل، مثلاً، عن نهاية التّاريخ وهو يعلم أنّ التّاريخ لم يتوقّف بعد أن عرفنا نهايته التّأمليّة أو الأخلاقيّة؛ ونستنتج من ذلك أنّ النقاش حول فكرة ما يمكن أن ينتهي، ولكن النّاس سيواصلون استدعاء تلك الفكرة، ويعشون تاريخهم بشكل ما بعد تاريخي. والأمثلة على ذلك كثيرة؛ فالنقاش حول الحروب القومية اليوم يتم بشكل ما بعد قومي، إذ لم يعد ممكناً للدّولة الأمّة أن تخوض حروباً قوميّة، ورغم ذلك، سنواصل الحديث عن انتمائنا لأوطاننا وعن الدّفاع عنها، بشلّ ما بعد قومي. والتديّن الرّاهن هو ظاهرة ما بعد دينية، لكن التّاريخ سيواصل إنتاج مؤمنين جدد، هم مؤمنون ما بعد دينيّين أو ما بعد لاهوتيّين، لأنّك لن تجد شخصاً يقول لك، اليوم، أنّه ينظر إليك نظرة لاهوتيّة، فمفهوم اللاّهوت قد انسحب، لكن الدّين ما يزال يكلّمنا.
د. نادر الحمامي: انسحب مفهوم اللاّهوت لكن الفكرة القديمة لا تزال موجودة، وذات تأثير في المجال الإسلامي عبر إنتاج ثنائيات لمفاهيم بعينها. من ذلك مثلاً، قضية الهوية، ونجد أنّك قد بحثت فيها في "الهجرة إلى الإنسانية" من خلال مفهوم "النّصر" في علاقة بـ"الغيريّة"، ورأيتَ أن علاقتنا بالآخر ظلّت قائمة على ذلك المفهوم، فكأنّنا نخلق عدوّاً من أجل أن نعرف أنفسنا بتمايزنا عنه، في حين أن المجتمعات التي تحوّلت خرجت من مرحلة كونها شعوبا قائمة على النّصر إلى مجتمعات أصبحت قائمة على النّجاح، وهكذا أصبح مفهوم "النجاح" في مقابل مفهوم "النصر".
د. فتحي المسكيني: هذا التّمييز الذي وضعته بين شعوب تنتصر ومجتمعات تنجح، لم يكن، في الحقيقة، تمييزاً بين مجتمعات تعوّل على الدّين ومجتمعات تعوّل على العلم، فيمكن أن تنجح بالدّين كما يمكن أن تنجح بالعلم، ويمكن أن تنتصر بالدّين كما يمكن أن تنتصر بالعلم، لكن المشكل يكمن في كيفيّة تمثّل الكيان الجمعي لنفسه، حتى نكون في النّهاية قادرين على أن نعيش داخله، وأن نشارك الآخرين في تعريف أنفسنا من خلاله، وأن نتأوّل مصادر أنفسنا اعتماداً على ذلك. لكنّ الدّولة الأمّة لا ترى المجتمعات، وكأنّها تريد أن تقول أنتم شعب ولكم سيناريو من الانتصارات التي ينبغي أن تحقّقوها لتكونوا شعباً خالداً، والحال أنّ هذا الحلم القومي لم يعد مقنعاً للنّاس، وهم يجدون حرجاً في أن ينتموا إلى قوميّتهم، أو في أن ينتموا إلى دولهم انتماءً قوميّاً، فيغيّرون انتماءهم ليصبح انتماءً إلى مجتمعات؛ فلا يمكن أن نتحدّث عن الفرنسيّ اليوم مثلاً، على أنّه ذلك الذي ينتمي إلى فرنسا باعتبارها الدّولة الأمّة، أي فرنسا التي تريد أن تنتصر على ألمانيا، أو تحارب في إفريقيا بدافع قوميّ، ولكنّنا نتحدّث عن أولئك الذين ينتمون إلى المجتمع الفرنسي.
د. نادر الحمامي: هل هذا التغيير يتمّ على مستوى الدّول أو على مستوى المجتمعات؟
د. فتحي المسكيني: الدولة دائما هي الدّولة ولن تغيّر من منطقها، تماماً مثل السّلطة، والسّلطة هي نفسها، سواء عند اليونان أو عندنا نحن، السّلطة دائما هي السّلطة...
د. نادر الحمامي: ألا يُعدّ انتظار تغيير من الدّولة ضرباً من الوهم؟
د. فتحي المسكيني: هو يخفّف شكل الحياة بالنّسبة إلى النّاس الذين يقيمون في أفق تلك الدّولة؛ أي السكّان، لذلك لا يتكلم فوكو (Michel Foucault) (1926-1984) عن الشّعب، وبالنّسبة إليه ثمّة فقط ''سُكّان'' (population)، إلاّ أن الدّولة الأمّة تخاطب النّاس باعتبار أنّهم شعب، ولكنها تعاملهم، في الوقت نفسه، باعتبار أنّهم سكّان.
د. نادر الحمامي: أو لنقل إنّها تعاملهم باعتبار أنّهم جماهير.
د. فتحي المسكيني: "الجماهير" توصيف يساري، يُراد منه القول: نحن العُمّال نستطيع أن نكوّن كتلاً اقتصادية اجتماعية أو كتلاً حيوية للدّفاع عن أنفسنا أو للدّفاع عن حقوق ما ضدّ طبقة أخرى أو ضدّ دولة لا تعترف بنا. إلاّ أنّ المجتمعات أصبحت تنجح لأنّها لم تعد تخوض معارك الانتصار، ونحن في تونس مثلاً، عندما نقول إنّنا قمنا بثورة وكتبنا دستوراً، فهذه كلها ليست انتصارات شعب، وإنّما هي أشكال من برامج النّجاح التي يمكننا أن نعِد بها أطفالنا.
د. نادر الحمامي: ألا يجعلنا هذا الوعد نسير في الاتّجاه الصّحيح للتّاريخ، بمعنى أن نتحوّل من ثقافة النّصر إلى ثقافة النّجاح، فالنّجاح هو ما يرتبط بمقولة ''نموذج العيش'' كما بينتَ ذلك، أي عوض الحديث عن نصر وانتصار يصبح مشغلنا إنتاج نموذج العيش؟
د. فتحي المسكيني: نحن لا نجدّف بمصطلح الدّولة الأمّة، لكن نضعه في سياقه التّاريخي حتى نتحرر من سطوته، فإذا استُعملت ''الدّولة الأمّة'' أو نُشّطت باسم حزب سياسي مثلاً، يدّعي أنّه يريد أن يدفع شعباً ما لخوض معارك الانتصار، فإنّ الأفق اليوم لم يعد ملائما لذلك، ومن ثمّ فالمشكل يكمن في التّوقيت التّاريخي، فنحن نوقّت أنفسنا بشكل سيّء، لأنّنا عندما نقول مثلا "نحن مسلمون"، ينبغي أن نكمل الجملة بدقّة، كما يلي "نحن مسلمون في بداية القرن الواحد والعشرين، بعد انحسار دور الدّولة الأمّة في بلورة شكل العيش للمواطنة الحديثة". عندما نتكلم بهذه الدقّة، سيختلف الأمر كثيراً. لكن لو أخذ كل منّا يمارس نوعاً من التّعمية المنهجيّة حتّى يستطيع أن يقدّم مضموناً لا يبرّره السّياق التّاريخي الذي نعيش فيه، فعندئذ لن يحصل الاتّفاق. وإذا اعتبرنا أن اليسار إيديولوجي وأنّ الذين ينشّطون المدوّنات الدّينية دعويّون، فإنّنا سنجد في النّهاية أنّ الإيديولوجي والدّعوي ليسا سوى خطّتين لإنتاج وعي زائف بالمرحلة.
د. نادر الحمامي: الوعي الزّائف الذي لن يوصل إلى التّمييز، في نموذج العيش، بين ما يمكن أن نسميه الحياة الخاصّة والحياة العامّة، لأنّ الدّعوي والإيديولوجي لا يوليان اهتماماً كبيراً للحياة الخاصّة القائمة على الخير، بل يتّجهان إلى فكرة العدل في الحياة العامّة.
د. فتحي المسكيني: في فترة ما تمّت بلورة التّمييز بين الخاص والعمومي (publique)، وليس العام (le général)؛ أي بين دائرة الحياة الخاصّة ودائرة الحياة العموميّة، وقد اعتُبر ذلك مكسباً في طور ما من بلورة الأفكار الحديثة، لكن يمكن أن ننتبه إلى أمر مختلف في الفكر الماركسي وما بعد الماركسي؛ فمع أنطونيو نيغري (Antonio Negri dit Toni Negri) (1933) نلاحظ أن التّمييز اللّيبرالي بين الخاص والعمومي لا يكفي لإقامة العدل الذي نتحدّث عنه، لأنّ ترك الحياة الخاصّة للنّاس هو نوع من التّواطؤ ضدّهم، لأنهم إذا كانوا لا يملكون لقمة العيش مثلاً، وتقول لهم إن مسألة لقمة العيش تدخل في نطاق الحياة الخاصّة، فأنت تريد أن تتخلّص من واجباتك نحوهم. ولذلك اقترح نيغري تمييزاً جديداً؛ بين المفرد (le singulier) (وليس الفردي) والمشترك (le commun). فهل الهويّة مشكل متعلّق بالحياة الخاصّة أم بالحياة العمومية؟ إذا قلنا إنها تتعلّق بما هو مفرد وليس مشتركاً سنطرح مشكلين مختلفين، لأن النّاس سيتساءلون مثلاً، كما ظهر مؤخّراً في تونس، هل للمثليين الحق في أن يمارسوا قناعاتهم؟ فهل سنعتبر أن ذلك يدخل ضمن الحياة الخاصة أم ضمن الحياة العمومية؟
د. نادر الحمامي: سأستند إلى هذا في طرحٍ آخر يتعلّق بالمسألة الدّينية، ف كأنّني أفهم من كلامك، ضمنيّا، أن الطّرح الحداثي القائل بوجوب إبقاء الدّين داخل دائرة المجال الخاص والفردي، هو طرح خاطئ، وأنّ المسألة الدّينية يجب أن تطرح في المجال العمومي لنقاشها، حتى لا تكون حجّة لدى شق آخر من المعادين للفكر الحداثي، ليقدّموا أنفسهم على أنّهم هم الوحيدون المكلّفون بفهم الظّاهرة الدّينية.
د. فتحي المسكيني: نعم، هو مشكل مركّب، وينبغي أن نتلطّف في بلورة التّمفصل الذي يؤدي إلى الإحراج في كل مرّة، فعندما نقول علينا ترك الدّين أو الإيمان للحياة الخاصّة، فهذا مغرٍ على مستوى التّبسيط المنهجي للنّقاش، والأمر سيفيد في بعض المعارك، ولن يفيد في بعض المعارك الأخرى، ولو ذكرنا المثليّين لقلنا ربّما ترك هذا المجال من حقهم في مستوى الحياة الخاصة مفيد أكثر، ولكن في المسألة الدّينية سيصبح الأمر طمساً للخطورة التي علينا أن ننتبه إليها، فالمنتقبة مثلاً تمارس حقّاً شخصيّاً في حياتها الخاصّة عندما تظهر في الفضاء العمومي وهي منتقبة، وهذا يطرح إشكالاً.
د. نادر الحمامي: إذا قمنا بعمليّة قياس، فالشّعار الأوّل لدى المدافعين على النّقاب، هو أنّه يدخل ضمن الحريّة الشّخصيّة.
د. فتحي المسكيني: هناك شيء ينبغي أن نثبته ههنا، وهو أنّك لا يمكن أن تدافع عن نفسك بقيم لا تؤمن بها.
د. نادر الحمامي: نعم، ولكن إذا وضعتَ هذه المسألة في إطار القياس فإنّك ستعطي القائلين بذلك سلاحاً.
د. فتحي المسكيني: أنا أتحدّث عن إطار الصّلاحية المعياريّة لهذا النّوع من القول، كأن يقدّم شخص نفسه على أنّه يرفض، مدوّنة حقوق الإنسان أو مدوّنة الذّات الحديثة أو مدوّنة الفرد الحديث، جملة وتفصيلاً، ثم يقول إنّ من حقّي أن أتمتّع بدائرة الحياة الخاصّة.
د. نادر الحمامي: والعكس صحيح، فهناك من الحداثيّين من يدافع عن عقوبة الإعدام، على سبيل المثال.
د. فتحي المسكيني: نعم، فتجزئة النّقاش يمكن أن تؤدي إلى كوارث، ولذلك ينبغي أن نعالج المسألة، باعتبارها مترابطة أو مركّبة في سياق واحد؛ فعندما نقول يجب أن يُترك الدّين لمجال الحياة الخاصّة، فذلك أخطر من أن يترك إلى أحد ليتصرّف فيه، وتلك الخطورة عابرة للأفراد بل هي عابرة لشعوب بأكملها، لأنّها مشاكل معولمة، قابلة للتأثّر بما يسمّى (l'effet papillon) ''أثر الفراشة''.
د. نادر الحمامي: ذلك يعني أن ما يمكن أن يحدث هنا، يمكن أن يحدث في أماكن أخرى بطريقة العدوى.
د. فتحي المسكيني: نعم، كلّنا معرَّضون إلى معارك جديدة، هي معارك المناعة، وقد بيّنت في بعض نصوصي السّابقة كيف أنّنا ننتقل من مشاكل الجماعة إلى مشاكل المناعة؛ إلاّ أنّنا يمكن أن نتخاصم حول مشاكل الجماعة في أفق الدّولة الحديثة، وننتهي إلى اعتبار أن الحلّ بين المتناقشين جميعهم هو القانون. ويمكن أن يقبل عديد الإسلاميين بهذا ويدخلوا في إطاره، ويتحوّلوا من أحزاب دينيّة إلى أحزاب مدنيّة. ولكن مشاكل المناعة من نوع آخر، ذلك أنّني عندما أواصل شرعنة نوع معيّن من الخطاب، وأقدّمه باعتباره وجبة أخلاقيّة للأطفال، دون أن أنتهك القانون، فأنا في الحقيقة أعرّض المناعة العميقة للمجتمع الذي أعيش فيه للخطر، وهذه نظرية تسمى ''أفعال ناتجة عن القول'' (l'acte perlocutoire) أي أن يكون لديك قول (مثال: خطبة في مسجد) يمكن أن تنجم عنه أفعال إرهابيّة. وأذكر هنا كتاب أوستين (John Langshaw Austin) (1911-1960) (How to Do Things with Words) ''وقد ترجم إلى الفرنسيّة وإلى العربيّة بشكل رديء ''عندما يكون الكلام هو الفعل'' وهو يعني ''كيف نفعل الأشياء بالكلمات'' فما يقوم به كل خطاب لا علاقة له بالسّياق التّاريخي الذي نوجد فيه، وإنّما المقصود به إنتاج أكثر ما يمكن من الأفعال.
د. نادر الحمامي: ذلك ينطبق تماماً على خطاب التّكفير، فحين تقول لشخص ما ''أنت كافرٌ'' فكأنّك أصدرت أمراً لمنفذ ما بأنّ يقوم بقتله.
د. فتحي المسكيني: ولكن التّكفير ليس الأخطر، فهو يحمل رايةً وعلامة وتعريفا واضحاً، والذين يكفرون يستعملون خطاباً محدّدا يمكن محاصرته، ولكن ماذا نفعل مع كل الأفعال النّاتجة عن القول التي تهدّد المناعة، وهي ليست مقنّعة، بل موجودة حتى في كتب التدريس، في برامج التّربية الإسلامية مثلاً.
د. نادر الحمامي: نعم هذا هو المشكل، حتى أننا نجد في كتب خاصة بالأطفال أنّ سُلحفاة بحريّة نخاطب سمكة وتقول لها إن ثيابك تلتصق بجسدك وهذه فتنة...
د. فتحي المسكيني: نعم هذا على مستوى كتب الأطفال، وتلك الكتب يمكن ألاّ نكتبها وألّا نقرأها، ولكن لا نستطيع أن نمنع النّاس من أن يواصلوا استنبات ذاتيتهم من النّصوص الدّينية، لأنّهم سيواصلون ذلك بأشكال عديدة؛ مثل استحضار القرآن في عقد الزّواج وفي التّأبين والدّفن والحديث بأخلاق دينيّة... وهذا سيتواصل إلى أمد طويل، ولذلك فالمطلوب ليس أن نقوم بتنوير رديء أي تنوير عنيف يقنع النّاس بأن يُلقوا جزءاً من أنفسهم في سلّة المهملات على أساس أنّه خطر...
د. نادر الحمامي: ولكنّنا لم نتمكّن من هذا التّنوير الذّاتي أيضاً.
د. فتحي المسكيني: التنوير الذّاتي، والتّنوير دائماً يكون إزاء تقليد، وهذا التّقليد هو مقدّس دائما، بينما التّحديث شيء آخر، لذلك يمكن للنّاس أن يقوموا بالتّحديث وليس بالتّنوير. والنّاس لا يحتاجون إلى التّنوير إلاّ إذا ظهر من داخل النّقاشات التي يقوم بها مجتهدون ينتمون بصدق إلى تراثهم، وأنا دائماً أنتظر أن يقول بعض الذي نقوله أناسٌ من أهل "الصّناعة"؛ أي من العلوم الشّرعية والفقه مثلاً، فسيكون لكلامهم الطّاقة الإنجازيّة التي لا تسمّى عندئذ تنويراً بل هي ستصبح التنوير الذّاتي الذي نتحدّث عنه.
د. نادر الحمامي: وهذا ما لم يقم به مثقّف الدّولة الأمّة الذي تعتبره أنت مثقّفاً هوويّاً وأنّه يكرّر نفسه.
د. فتحي المسكيني: نحن نقول إن السّلطة تخلق معارضيها، مثلما تخلق الدّولة الأمّة مثقّفيها. ففي دولة الملّة لا يوجد مثقّفون، وعندما ندخل في بعد امبراطوري أو معولم الآن سينتهي المثقف الهووي، لأن الوضع الإمبراطوري الذي يعيشه العالم يسخر من إمكانيّة أن يلعب المثقّف دوراً ما، ولذلك يتساءل كثيرون قائلين: ''أين مثقفونا وأين نخبتنا؟''، وهؤلاء يتكلّمون عن وضع كان في ما قبل التّسعينيات؛ أي عندما كانت الدّولة الأمّة تتحكّم في مساحة هوويّة وتبني التّمييز بين الخاص والعام كما تريد، لإنتاج مواطن على قياس تلك الدّولة. الآن، نجد أن دساتير عديد الدّول العربيّة والإسلاميّة مثيرة للسّخرية، لأنّها تكرّس أوضاعاً كانت تنتمي لحقبة ما قبل الاستعمار، ثمّ أوضاعاً سابقة عن الاستقلال نفسه، بل على الاستعمار نفسه.
د. نادر الحمامي: هذه الدّساتير التي تلبس لباس العصر الحديث، لا ترقى في الحقيقة إلى تصوّر مفهوم المواطنة، وأنت تعلم أن عبارة (Citizenship) قد تمت ترجمتها ترجمة رديئة إلى ''مواطنة'' في حين أنّها تعني في الأصل عبارة ''مدينية''، التي لم نؤسّها بعد (في تقديري).
د. فتحي المسكيني: لقد بحثت في هذا اللّفظ، ووجدت أن الفارابي أشار إليه مرة واحدة، وكان ذلك في كتاب ''تحصيل السّعادة'' حين تكلّم عن ''المدينّيين''، ويبدو أنّنا لم نستأنف ذلك للأسف، وليس من الصّدفة أن هذا اللّفظ قد تاه عنّا ولم يصلنا، فنحن لسنا مدينيّين، ثمّ إنّ ثقافة الملّة لا تؤهّلنا لأن نكون مواطنين بالمعنى الحديث. المشكل أنّنا بعد أن استأنفنا أنفسنا وأصبحنا نريد أن نبني مجتمعاً تعرّضنا إلى مشكل مفهوم الشّعب نتيجة الاستعمار، الذي فرض علينا أن نصبح شعباً لكي ننتصر. فلا يمكن أن تكون سعيداً في وقت الاستعمار، لأنّك لن تنجح باعتبار أنّك شخص أو عضو في المجتمع، لأنّ النّجاح هو نجاح أعضاء المجتمع أو أشخاص، بينما الانتصار هو انتصار للفرد الهووي الذي تدعوه إلى أن يدافع عن بلاد أو عن شعب أو إقليم أو دين إلى غير ذلك... لذلك، نجد أن الإسلاميّين مازالوا يستلفون معارك هوويّة من فترة الاستعمار أو من الفترة الكولونياليّة، وتنشيطها لحثّ النّاس على نوع معيّن من المعارك ما بعد القوميّة وما بعد الدّينية. فالذهاب إلى المسجد اليوم لم يعد سلوكاً دينيّاً، وإنّما هو سلوك ما بعد ديني، لأنّ الدّين لم يعد يمثّل بنية العصر، وشكل الحياة اليوم لا علاقة له بما قبل الحداثة؛ أي بالعصور الوسطى، ولم يعد له علاقة بالحداثة حتى. وما يسميه ليوتار "أزمة السرديات التأسيسية" ويسميه "الوضعيّة ما بعد الحديثة" ليست وضعيّة مريحة كما يعتقد البعض، وإنّما هي وضعيّة أزمة، فلا يستطيع أن يصبح ما بعد حديث إلا الحديث.
د. نادر الحمامي: ألا تستوجب وضعية الأزمة اتّخاذ قرار، حتى بالمعنى الطبّي القديم؟
د. فتحي المسكيني: القرار هو أن نسمح بالانتماء إلى أنفسنا بشكل مغاير، فطالما أنّنا هوويّين، فلن نستطيع أن نبني مفهوم الآخريّة المناسب لكي ننجح في ما بيننا، لأنّ النّجاح الأصحّ هو أن ننجح عند أنفسنا، ولو أنّني أعفو أو أصفح عن نفسي بشكل مناسب، مثلاً، فلن أواصل تكفير النّاس، ولو اعترف المسلم المعاصر الآن بأنّه هو نفسه ينتمي إلى تاريخ من القتل، لا يجب أن ينشّطه ولا أن يعلّمه لأبنائه، لأنّه جزء رديء من الذاكرة العميقة، فسوف يتصالح مع ذاته أوّلا ومع الآخر ثانيا.
د. نادر الحمامي: وهل يوجد هذا الاعتراف في ذاكرتنا العميقة؟
د. فتحي المسكيني: ينبغي أن نعيد رسم ذكرتنا العميقة نفسها من جديد، فقتل عمر أو قتل علي أو قتل عثمان مثلاً، هو جزء من ذاكرتنا العميقة، ولا ينبغي أن نتعامل معه على أنّه أقواس فارغة.
د. نادر الحمامي: أو أنّها تابوهات لا يمكن الاقتراب منها، ونجدها مثلاً في الصّدع بالعقيدة السنّية والكف عمّا شجر بينهم، لأنّ ذلك يعيق مسألة الاعتراف.
د. فتحي المسكيني: ثمّة قرارات تأويليّة ربّما كانت مناسبة سابقاً، مثلما فعل ابن خلدون عندما لم يكن يريد أن يخوض في مسألة الفتنة الكبرى، لأنه لم يعتبر ذلك الأمر مناسباً للخطاب في ذلك الوقت، لا لمصلحة الملة ولا لمصلحة المسلمين، لقد استند في ذلك إلى التّأويل، وأنا أتصوّر أن على رأس كل عصر هناك من يساعد على اتّخاذ القرارات التّأويلية المناسبة ّأو الصّحّية دون أن يدعي أنه قد حسم الأمر. ونحن نقرأ الآن كتابات الإسلاميّين من العالم الإسلامي، كما نقرأ كتابات المسلمين في أوروبا، وكتابات المسلم الأمريكي، ولا نلاحظ أن هؤلاء كلّهم يمكن أن يساعدوننا على أن نتخذ القرار التّأويلي الصحّي وليس الحقيقي، فلا يوجد نقاش حول حقيقة أي شيء، والمعرفة الموضوعيّة لا تسيء إلى أحد، لكن المشكل الكبير هو أنّنا لا نتجرّأ على أن نتحمّل مسؤوليّة الانتماء إلى أنفسنا، وأن نقول مثلاً، نعم إن تاريخ الدّولة الأمويّة أو العبّاسية هو تاريخ قتل، وأنّنا لا أيمكن الآن أن نعِد المؤمنين ما بعد الدّينيين بأن تأسيس الخلافة هو الحّل، أو أنّ الإسلام هو الحلّ، لأنّ الإسلام لم يعد الحلّ للملّة نفسها منذ وقت طويل، فما بالك للمجتمعات الحديثة.
د. نادر الحمامي: إذن، يبقى الإشكال في تركيز الانتماء إلى ذواتنا أوّلاً، وأخذ قرار تأويلي في ذلك.
د. فتحي المسكيني: الانتماء إلى ذواتنا معركة خطيرة جدّاً، أخطر حتى من معارك الهويّة، ومن يظنّ أن حماية الدّين هي حماية للهويّة أو حماية للإله مثلاً، فهو مخطئٌ، فمن السّخف أن نفكّر في حماية الإله وهو خالق السّماوات والأرض والجبّارين إلخ...
د. نادر الحمامي: هذا الخطاب يروّجه من يدّعون أنّهم حماة المقدّس.
د. فتحي المسكيني: هذا مشكل كبير جدّاً طبعاً، فليس لدينا مقدّسات، لأنّ الدّين شيء والمقدّس شيء آخر. المقدّس لم يدخل إلى التّفكير الإنساني إلاّ في بداية القرن العشرين، أما الدّين فهو مشكل قديم، لكن هذا الأمر لم يسلم من الخلط في ثقافتنا، حتى أنّ كلمة "دِين" في اللغة العربيّة لا تقابل كلمة (religion) في اللّغات اللاّتينية، وعندما نترجم القرآن إلى تلك اللغات نقول إنّه الدّين، لذلك يذهب في ظنّ الغرب أنّنا نتحدث عن الشيء نفسه (الدّين كما يفهمه الأجنبي)، لذلك فهم سرعان ما يتبرؤون منّا على أساس أنّنا أناس وثنيّون، أو أنّنا لسنا جزءاً من الإنسانية التّوحيديّة، بل يذهبون حتى إلى إقصائنا من السّياق اليهودي- المسيحي، حتّى أن فلاسفة نقرأ لهم ونحبّهم، مثل هابرماس، لا يعترفون بأنّ المسلمين هم جزء من هذا كلّه. الشجاعة الرّهيبة التي أريد أن أشير إليها ههنا هي شجاعة ديريدا الذي يعتبر أن العنصر الإبراهيمي أو التّوحيدي أهمّ من العنصر اليهودي- المسيحي، وهذا هو الشّكل الوحيد لإعادة الإسلام إلى العائلة، وأنا ألاحظ أنه حتى المسلم الأوربي وحتى محمد أركون لا يساعد المسلمين على أن ينتموا إلى أنفسهم بشكل مناسب هو يريد أن يقول لهم عليكم أن تقوموا بالتنوير حتى تستطيعوا كذا... وأنا أقول لا فهم ليسوا في حاجة إلى التنوير، وإنما هم في حاجة إلى ما يعتقدون أنه يناسب فهمهم لأنفسهم، وعندما يبنون هذا الفهم المناسب لأنفسهم لن يفتكه منهم لا تكفيري ولا غير تكفيري.
د. نادر الحمامي: إذن تبقى القضية المركزيّة التي يمكن أن تكون منطلقاً لاستئناف بحث آخر أو حوار آخر أو لقاء آخر، هي مسألة إعادة الانتماء إلى أنفسنا أوّلاً وقبل كلّ شيء، وربّما يكون ذلك بداية سبيل إلى معرفة ذواتنا، ليس بالآخر، وإنّما معرفة ذواتنا بذواتنا، ولعلّ هذا هو الطّريق الذي ينبغي الشّروع في سلوكه فلسفيّاً.
د. فتحي المسكيني: أريد أن أذكّر بعنوان كتبته عند موت المفكّر السّوري صادق جلال العظم، فقد كتبتُ نصّاً بعنوان ''نقد الذّات أقوى من كل انتماء''.
د. نادر الحمامي: نعم، وإعادة التّفكير في هذا الانتماء الذّاتي مشروع يتحقّق لديك من خلال الكتابة والبحث والتّأليف في الفلسفة، والانخراط في الشّأن العام، إلى جانب التّرجمة باعتبارها فعلاً سياسيّا وفعل انتماء أيضاً. فقد قرأتُ ترجمتك لهايدغر مثلاً، وتوقّفت كثيرا عند المقدّمة التي وضعتها لذلك الكتاب، وشدّت انتباهي تلك الفقرة التي عنونتها ''ماذا نترجم ولماذا نترجم؟''، ولذلك أقول: مخطئ من يعتقد أن التّرجمة هي نقل لنص من لغة إلى لغة يفهمها الآخرون، وإنّما هي التّفكير بالآخر ومعه في ما نحن فيه، أي في انتماءاتنا. بهذا نكون قد طرقنا مجالات كبيرة في مسائل ينبغي تعميق النّظر فيها وتقليبها وتجاوز الكثير من المسلّمات والثّنائيات والمفاهيم والمصطلحات التي تدلّ على فكر معيّن، لذلك أعتبر هذا الحوار نقطة انطلاق للتّفكير لا غاية في حد ذاته. أجدّد شكري لك الأستاذ المفكر فتحي المسكيني على هذا الحوار الممتع.
د. فتحي المسكيني: شكراً جزيلاً.