فتوى
فئة : ترجمات
فتوى([1])
فيصل سعد
تنطبق الفتوى بوصفها مشورة في مسألة فقهية في الإسلام على كلّ المجالات المدنية أو الدينيّة. وتقديم الفتوى هو الفتيا أو الإفتاء، وتطلق التسمية نفسها على مهنة الاستفتاء. أمّا من يقدّم الفتاوى أو يمارسها، فهو مفت، ومن يطلب فتوى فهو مستفتٍ. وتتطابق مؤسسة الفتوى مع مؤسسة فقه القانون الرومانية التي يحق لفقيه القانون رسميًّا أن يجيب فيها من يسأل من الأفراد أو القضاة.
وقد تأكّدت الحاجة إلى الاستفتاء في الإسلام مبكّرًا، إذ اقتضى العدد المتزايد لأتباع الدين الجديد المتحكّم بطابعه الشمولي في المظاهر الزمنيّة والروحية على حدّ سواء، وفي الحياة اليوميّة وفي استمرار العمل بأحكام البلاد المفتوحة وأعرافها المتعيّن وصلها بأي شكل بالتعاليم الجديدة، وصهرها في المدوّنة الفقهية الإسلاميّة التي كانت آخذة في التكوّن، اقتضى الالتجاء الدائم إلى آراء الأشخاص الأكفاء. وكان دور المفتي، تمامًا كدور الحكيمات في القانون الروماني، مهمًّا في تثبيت بنية الفقه الإسلاميّ. وتعدّ المدوّنات المتضمّنة لأجوبة المفتين المشهورين من بين أهمّ الآثار الفقهية.
إنّ الشروط المطلوبة في الفقه الكلاسيكي للاضطلاع بخطة الإفتاء أو حتى لتقديم فتوى هي: الإسلام والعدالة [اُنظر عدل] والاجتهاد أو القدرة على استنباط الحلول للنوازل بإعمال العقل. ويرى دارسون أنّه لم يكن يوجد فقهاء في تلك العصور لهم تلك المقدرة، وإنّما فقهاء ليس لهم سوى نقل آراء سابقيهم... فآراؤهم لا تكوّن فتاوى بالمعنى الدقيق، وإنّما مجرّد "عروض آراء". وخلافًا للقاضي، يمكن للمفتي أن يكون امرأة وعبدًا وأعمى وأبكم (إلاّ إذا تعلّق الأمر بمفت موظّف عمومي).
وتُطلب الشروط المذكورة آنفًا، عندما يتعلّق الأمر بفتوى معزولة أو بفتوى تُمارس بوصفها خطّة على حدّ سواء.
وتقدّم الفتاوى للأفراد بالقدر نفسه الذي تقدّم به للقضاة في ممارسة خطّتهم، ولكلّ السلطات الأخرى. وتأمر الشريعة القضاة خصوصًا، بطلب المشورة. وظلّ مفتون في عدد من البلدان، مثل الأندلس التي اتسعّت فيها مؤسسة الشورى، دائمًا ملحقين لمكاتب القضاء بصفتهم مشاوير. والفتوى في الأصل مهنة حرّة، لكنّ السلطة تتدخّل فيها بطرائق مختلفة. وتراقب الدولة ممارسة هذه المهنة وتدخل المراقبة عادة في صلاحيات القاضي الذي يمكنه عند الاقتضاء أن يحجر على مفت. ومنذ القرن1هـ/ 7م أخذت الدولة على عاتقها أن تعيّن بنفسها قضاة مختصّين بمثابة مفتين لتوجيه اختيار الأفراد، ثمّ أنشأت فيما بعد مراكز رسميّة للفتيا التي أضحت وظيفة عمومية تترتّب مثل القضاء العدليّ في صنف الوظائف الدينية. ومن جهة أخرى، يبقى القائمون بتلك الخطط تحت تصرّف الأفراد، ولكنّهم مرتبطون مباشرة بخدمة السلطة. وهكذا يكوّن هؤلاء المفتون في دولة المماليك جزءًا من (مجلس المظالم) للسلطان ولولاة الأقاليم. وأمكن لخطة المفتي في عصور عدّة، وفي مناطق متعدّدة مثلما هو الحال في الإمبراطوريّة العثمانية أن تنضمّ لخطّة القاضي. وكان يُحظر على القائم بالفتوى أن يقدّم فتاوى بخصوص القضايا التي يكون فيها موقوفًا. ولا تلحق خطّة الفتيا ضررًا بالممارسة الحرّة للمهنة؛ غير أنّه مع إدخال القوانين والتشريعات المستعارة من الأنظمة الأوروبيّة في أغلب فروع المدوّنة القانونيّة تقريبًا آلت هذه الوظيفة إلى الإهمال. وتبدو ممارسة الفتوى في المواد التي بقيت متأثّرة عمومًا بمبادئ التشريع الإسلامي شأن الأحوال الشخصيّة والأوقاف في طريقها إلى الزوال.
و لم تبق الخطّة على حالها إلا بوصفها وظيفة عموميّة، بل بوصفها أمرًا باقيًا في التاريخ موسومًا بطابع الدولة الإسلامي. ولذلك، لم يدعُ عمليًّا أصحاب هذه الوظيفة في الدّول الإسلاميّة التي لها هيكلة الدولة إلى تبرير عملهم التشريعيّ.
وعرفت خطّة الفُتيا تحوّلاً مهمًّا في الدول التي تمثّل فيها المجموعة الإسلاميّة شريحة من السكّان - شأن لبنان - فقد أصبح "مفتي الجمهورية" القائد الديني للمجموعة وممثّلها في هذه الخطّة لدى السلطات. وهو رئيس كلّ القائمين بالعبادة والعاملين في مصالح الأوقاف الإسلامية. وتنتدبه مدى الحياة هيأة تتكوّن من أشخاص أكفاء من بين المجموعة (أمر تشريعي، 18، مؤرخ في 13 جانفي 1955). مع أنّه مازال يوجد مفتون بالمعنى التقليدي تابعون لمفتي الجمهوريّة.
بيبليوغرافيا
Ibn Khaldun, Mukaddima, éd. Beyrouth, 220 (trad. Angl., Rosenthal, I, 451 sqq.) ; Tyan, Histoire de l’Organisation judiciaire en pays d’Islam, dans Ann.Univ. de Lyon I , 1938,I éd.323 sqq. et les référence y indiquées ;Juynboll ,Handbuch des islamischen Gesetzes , Leyde 1910, 55sqq.; Ibn Nudjaym, al –Bahr al-ra’ik ,Caire s.d,265 sqq. ; Damas efendi, Madjma’ al –anhur, Istanbul1328/1910, 154 sqq
(E.TYAN)
في الإمبراطورية العثمانيّة
يظهر أنّه كانت لحظة الإفتاء عند العثمانيين الأوائل الطابع الظرفي نفسه الذي كان في سائر الأمكنة، حتى ذلك العصر في البلاد الخاضعة للنفوذ الإسلاميّ. فقد أصبح بإمكان كلّ شخص مشهور بعلمه وبتقواه أن يُدعى إلى الاضطلاع بدور الحكم الذي ترتضيه الأطراف المتواجهة في نزاع حول مسألة فقهية. ويمكن لرأيه أن يكون حاسمًا، لكن بما أنّ هيأة تنظّمها الإمبراطوريّة تتّسع بسرعة كانت تتطلّب نظامًا أكثر توحيدًا للممارسة القضائية، فإنّ مثل هذه السلطة ظلّت موكولة شيئًا فشيئًا لعدد قليل من القائمين بالوظائف العمومية (قضاة العسكر، والعسكر ومؤدّبو السلاطين وقضاة المدن الكبرى مثل بروسيّة وأدرنة إلخ...) والذين يمكن أن نوكل إليهم اتخاذ قرارات مفتين من درجة أقلّ. لكن لم تكن هذه الممارسة كذلك مُرضية البتّة؛ لأنّها كانت تبدو معلمنة للشرع الإلهي، وجاعلة منه أداة لتحقيق إرادة الحاكم. وأُسند كذلك في حكم مراد الثاني (824- 855 هـ /1421 - 1451 م) الحق في إصدار الفتاوى حصريّاً إلى شخص يُدعى شيخ الإسلام؛ ذلك أنّه لم يكن له، على الرغم من تعيين السلطان له، أيّ دور في مجالس الدولة، ولم يكن يتقاضى أيّ أجر نظير الأحكام التي يُصدر. وكان ينظر إليه على أنّه فوق كلّ اعتبار مدنيّ. ولم يكُن له أيّ اتصال مع الأطراف المتنازعة أو ممثّليها، وكانت كلّ قضيّة يوكل الحكم فيها إليه يحرّرها كاتب الفتوى في شكل فرضيّة. ويتولّى مراجعة تقديمها وإصلاحه كاتب آخر من المصلحة نفسها يُدعى "المُمَيّز"، حيث إنّ الأمر لم يكن يتعلّق إلاّ بمجرّد سؤال في القانون يكون عليه أن يقرّره. وكان "الفتوى أميني" يسجّل هذه الفتاوى ويحفظها في مصلحة للأرشيف الخاص (فتواخان)، إذ يمكن العودة إليها عند الحاجة. وكان هؤلاء لأشخاص الثلاثة يتقاسمون القوانين التي تخضع إليها الفتوى؛ أي ثمانية إجراءات في منتصف القرن 17م (ب، ريكوت، الوضع الحالي للإمبراطورية العثمانية، لندن 1670، 190). وعلى الرغم من أنّه مع الوقت اتّسعت وظيفة شيخ الإسلام إلى حدّ أنّها صارت تشمل عددًا آخر من المصالح والوظائف (اُنظر تنظيمها برعاية مصطفى خيري بين 1914 - إستنبول 1334، salnamesie ilmiyye1916) (مثلما أشير إليها في، 1400، وما بعدها)، فقد بقي القطاع الخاص بالفتاوى إجمالاً مثلما وصفنا أعلاه. وكانت بعض الفتاوى المختارة لبعض الشيوخ المميّزين تُجمع أحيانًا في شكل كتب. لكن لا تلك المجموعات ولا القرارات المحفوظة في "الفتوى خان" كانت تساوي الأقضية السابقة: ذلك أنّ هذا الشكل من فقه القضاء غير معروف.
ونجد أشخاصًا يحملون لقب مفتي، ويمارسون وظيفتهم مع القضاة في كلّ المقاطعات، لكن لا صلة لهم بالفتاوى إلاّ من حيث الاسم. وفي حين ينبغي نظريًّا أن يكون المفتي رجلاً متعمّقًا جدًّا في المصادر الرسميّة لمذهبه، وأن يكون فوق كلّ شبهة فإنّه عمليًّا لم يكن السكان المحلّيون يطلبون منه إلاّ الاتصاف بالخصلة الأخيرة (التنزه عن الشبهات).
وبالفعل، مثلما أنّ القاضي كان عادة موظّفًا عرضيًّا غريبًا عن المنطقة، وكان فضلاً عن ذلك يُعدُّ الفاعل والناطق باسم السلطة الدنيويّة، فإنّه لم يكن لأحكامه سلطة دينيّة إلاّ إذا كانت تحظى بموافقة ضمنيّة من شخص مسنّ محترم محليًّا لتقواه، وله درجة من الثقافة أرفع بقليل من المستوى المتوسّط الذي كان متدنّيًا جدًّا. ويمكن أحيانًا لقاض متقاعد أن يضطلع بهذه الخطّة في مكان إقامته تمامًا مثلما يضطلع بها فرد من عائلة مثقّفة في المدن الكبرى، لكن من ناحية أخرى لم يكن المفتون ينتمون إلى طبقة العلماء. ولم يكن حضورهم في الأقاليم ضروريًّا إلاّ لإقامة التمييز القانوني بين "القضاء" و"الإفتاء" ولتجنّب المصاريف والآجال التي قد تكون اقتضتها ضرورة العودة فيها باستمرار إلى إسطنبول للحصول على توجيهات من شيخ الإسلام. وعلى الرغم من أنّ لهؤلاء المفتين وثيقة تولية من هذا الشيخ، فإنّهم لم يكونوا بأي شكل جزءًا من تنظيم مركزيّ. وكان أجرهم الوحيد جزءًا من الموارد التي يجبيها القاضي نظير الأعمال التي يشاركون فيها. تلك هي الحال في أراضي الإمبراطورية العثمانية (بلاد الروم والأناضول) حيث كان المذهب الحنفي بالذات معتمدًا. على أنّه كان يمكن لتقاليد وممارسات في الأقاليم العربية (مصر وسوريا وشمال إفريقيا)، حيث لم يكن القضاة يعيّنون من إسطنبول إلاّ في عدد من المدن العربية (مصر ودمشق وحلب والقدس ومكة والمدينة)- وهي مجرّد وظائف براتب بلا عمل على نهج الوظائف الأكثر رقيًّا- أن تبقى سارية المفعول. وهناك غالبًا ما ظلّ مفتو مختلف المذاهب الأخرى هم أصحاب الرتب الدينية والقضائية الأساسيين. هكذا، كان يعرّفهم شيخ الإسلام الذي كان، بمقابل ما، يمكّنهم من الإجازة في الوظيفة، وتعرّفهم السلطات المدنية التي كانت تنفّذ أحكامهم.
لقد كانت الفتوى وثيقة ذات صبغة توافقية لم تتغيّر البتّة على مرّ العصور، إذ بدأت ابتهالاً دينيًّا بالعربية مكتوبًا في الغالب بطريقة معقّدة ومنمنمة الزخرفة. وكانت هذه الوثيقة تتغيّر بحسب اختيارات كاتب التحرير. على أنّه بعد منتصف القرن 12 هـ/18م بقيت عبارة "التوفيق من الله" ثابتة لا تتغيّر. أمّا بقية الوثيقة المكتوبة بالتركية، فقُدّم لها بالكلمات التالية "ب مسألة أو (بخصوص): كيف أجاب الأئمّة الأحناف عن هذه المسألة؟ ومن ثمّ كان يليها عرض المسألة المتنازع فيها والمقدّمة في شكل فرضيّة. أمّا هويّة الأطراف المتنازعة، فكانت مخفيّة تحت أسماء مستعارة (زيد، عمرو، هند، زينب). وعند انتهاء العرض كانت النقطة الوحيدة محلّ النزاع تقدّم في شكل سؤال مباشر تليها إحدى صيغ العريضة كالتالي: "هل يمكن لهذا أن يفسّر، وهل يمكن (لهذا التفسير) أن يُجازى عليه في الآخرة ؟ وغالبًا ما تختصر بعد ذلك في بيان "بيرولا". وكان القرار يُكتب على الصفحة نفسها بخطّ الشيخ، ويقدّم له بلفظ الجواب الذي تتباعد فيه الحروف بطريقة تظهر فصلاً بين السؤال والجواب. وسرعان ما كانت قابلية كلّ حكم بشريّ للخطأ تِؤكّد بعبارة الله أعلم مرسومة على السطر نفسه. وكان الجواب دائمًا مختصرًا. وغالبًا ما كان يعبّر عنه بمجرّد عبارة "نعم" أو "لا". ولم يكن البتة مدعّمًا بأسباب أو بشواهد ذات قيمة. وتنتهي الوثيقة بإمضاء الشيخ (وكان استعمال الخاتم ممنوعًا إلاّ إذا كانت حالة الشيخ الصحيّة لا تسمح له بالكتابة..).
سنة 1924 ألغيت خطّة شيخ الإسلام في الوقت ذاته الذي ألغيت فيه الخلافة العثمانية، وعُوّضت بمصلحة الشؤون الدينية الملحقة بديوان الوزير الأوّل. ويديرها موظّف يعيّنه هذا الأخير.
للاطلاع على الملف كاملا المرجو الضغط هنا
_______________________________________________________________
Bibliographie: voir Shaykh – al Islam
J.R.WALSH
[1]- ترجمة مادّة "فتوى" من دائرة المعارف الإسلامية، ط2، بالفرنسية جزء 2 ص، ص، 886، 887