فلسفة الجمال في الفكر العربي: الأسس المكونة للخطاب
فئة : مقالات
فلسفة الجمال في الفكر العربي: الأسس المكونة للخطاب
إن الضرورة اُلملحة لعلم الجمال في الفلسفة تقتضي البحث والتقصي كرونولوجيا لهذا المفهوم، بدءا من مهد الحضارة الإغريقية، مهد التأمل والتفكير، النظر والتفسير، الكتابة والحكمة وشتى العلوم والفنون، إذ لم يكن مفهوم الجمال عند اليونانيين قاصرا على الشعر والنحت والموسيقى والغناء وغيرها من الفنون الجميلة، بل كان يشمل العديد من الصناعات المهنية كالنجارة والحدادة والبناء وغيرها من مظاهر الإنتاج الصناعي.
وقد ذهب الباحثون القدامى واختلفت وجهات نظرهم في تفسير طبيعة الجمال؛ فبعضهم يرى أن الجمال موجود في الطبيعة الحية والجامدة وفي الأعمال الفنية أيضا بشكل موضوعي، ونحا الآخرون إلى الجهة المعاكسة فأعدوا الجمال سمة ذاتية كامنة في طبيعة الإنسان نفسه، عندما يتفاعل مع هذه الطبيعة ومع تلك الأعمال الفنية وأقدم ما وصلنا من مظاهر الفكر الجمالي عند اليونان ما وضعه «هوميروس من تعبير جمالية في أشعاره وأساطيره مثل التناسق والجمال الرائع، لذلك يمكننا القول إن البدايات الحقيقية الجمالية قد ظهرت ما بين القرن العاشر والسابع قبل الميلاد.»[1]
إن المبدع للخطاب عندما يستجيب للجمال، فإنه يستجيب بجميع مشاعره؛ لأنه يخاطب الخيال والفكر معا. وأن كثيرا من الفلاسفة ونقاد الأدب في العصر الحديث ما برحوا يتخذون هذا المعيار؛ معيار النظرة الجمالية عند أرسطو «وقد نجد الجمال الفني يقدر عند هؤلاء بمقدار ما يحدثه في نفس المتذوقين من تأثير.»[2]
فإذا ما عرجنا على العصر الوسيط، نجد مفكريه من مسلمين ومسحيين على السواء، قد صرفوا جهودهم إلى التوفيق بين الفلسفة اليونانية والعقيدة الدينية؛ فلا غرابة أن يكون مفهوم الجمال عندهم مشبعا بالروح الدينية، متخما بالشريعة العقدية، فلا غرابة أن تكون نظرة الجمال لا تحيد عن النزعة الدينية.
فما هو مفهوم الجمال في الفكر العربي؟
وهل تختلف النظرة الجمالية في الحضارة العربية عن الحضارة اليونانية التي سبقتها؟
ثم ما هي الأسس الجمالية المكونة للفكر العربي؟
يتشكل الجمال كنسق بين الإنسان والطبيعة والكون، ولعل هذا هو السبب في أن الفلاسفة قد وضعوا الفن منذ البداية في مقابل الطبيعة على اعتبار أن الإنسان، إنما يحاول عن طريق «الفن أن يستخدم الطبيعة. ويضطرها إلى التلاِؤم مع حاجته. ويلزمها بالتكيف مع أغراضه.»[3] وهناك أمثلة كثيرة أخرى تبين أثر البيئة الطبيعية والاجتماعية على فلسفة الجمال والأدب، فمن ذلك ما ذهب إليه نقاد الشعر العربي في عصوره المختلفة بالحياة التي كان يعيشها الشعراء: فمن أهم سمات الشعر الجاهلي الحنين إلى الديار نظرا لكثرة انتقال البدو وراء الماء والكلأ، فلولا الأماكن وأطلالها ما نظم الشعراء وما ألف أبو القروح:
«قِفا نَبكِ مِن ذِكرى حَبيبٍ وَمَنزِلِ بِسِقطِ اللِوى بَينَ الدَخولِ فَحَومَلِ»
وما استطاع فنان العرب محمد عبده أن يصدح بالغناء «الأماكن كلها مشتاقة لك، كل شيء حولي يذكرني بشيء»؛ فالمكان دافع قوي للكتابة والتأليف والزمن المحرك القوي لفعل التأليف والكتابة ونظرة الشاعر والكاتب تضفي عليهما نظرة جمالية، ذوقية، قوية.
أ- الجمال في الفكر العربي:
« علم الجمال هو مجموعة الأدوات المعرفية التي تمكن صاحبها من دراسة المواقف التي يتخذها الإنسان من مظاهر الكون والمجتمع في إطار العقيدة الدينية، ويعبر عنها في أشكال متعددة تمتد من سلوكه اليومي البسيط إلى أنواع الفنون في إطار المجتمع والتراث ».
ربما كان من حق الدارس للجمال في الفكر العربي، أن يدرس المجتمع وما ينضوي عليه من مجمل العلاقات الاجتماعية الثقافية التي ولدت نتيجة التطور الاجتماعي التاريخي لذلك المجتمع. «وهو تطور يرتبط بتاريخ الثقافة والسياسة والاقتصاد في المجتمع، وبالتقاليد والعادات والنظم الأخلاقية والفكرية والجمالية التي يتميز بها ذلك المجتمع من غيره من المجتمع».[4]
سادت الحضارة العربية أمم عريقة في تاريخها، كما سادت الحضارة الإغريقية أمم قبلها من حضارات شرقية سابقة، وتمتد جذور حضارتنا العربية إلى ما قبل الإسلام بقرون طويلة، واتسعت رقعة المنطقة التي شملتها هذه الحضارة فامتدت من المحيط الأطلنطي غربًا إلى الخليج العربي شرقًا، ومن هضاب الأناضول شمالًا إلى المحيط الهندي جنوبًا. «ولقد نالت أرض هذه الحضارة اهتمام علماء الجيولوجيا والجغرافيا والأجناس والتاريخ، فأجروا عليها العديد من الدراسات والأبحاث وقد انتهت هذه الدراسات إلى أن هذه المنطقة تعد من المناطق النادرة التي تمتاز بشخصية منفردة تميزها عن غيرها، كما أسفرت هذه الدراسات أيضًا على أن الحضارة العربية الكبرى قد صهرت في بوتقتها حضارات جميع الأجناس المكونة لها».[5]
قد نجد العرب مثلهم مثل الشعوب الأخرى فهموا الجمال فهما خاصا، وقدموا تصورا مؤسسا، يستمد مشروعيته من البيئة الطبيعية والاجتماعية، فهو نتيجة الفكر الذي ينظم علاقاتهم المختلفة مع الواقع وظواهره المتعددة؛ فالجمال يسر الحواس التي تحتك بالطبيعة، وقوة تصل إلى ما هو أعمق من الحواس. إنها تهز النفس هزا، هي جمال قوة التعبير عند العربي الذي أصبح الجمال عنده إثارة لمشاعره، وتعبير عن خلجات نفسه المستفيضة وعواطفه الجياشة. فينزل العربي عندئذ من سماء العقل والمنطق إلى مضض العواطف والشعور فتحركه اللفظة المبهرجة وتستفزه المعاني العذبة الجميلة، فما هي الأسس الجمالية لهذا الخطاب؟
ب- الأسس الجمالية في الخطاب العربي:
تستمد الأسس الجمالية في الخطاب الأدبي العربي مشروعيتها من النظرة الجمالية للعرب قبل صدر الإسلام ومن تلك الحضارة العربية التي انطلقت أساسا من شبه الجزيرة العربية الصحراوية شحيحة المراعي، قليلة الموارد مما دعا العرب إلى كثرة الترحال للبحث عن الموارد والسعي الدؤوب في أماكنها المتباعدة ومسالكها الوعرة الشديدة الصعوبة، والحياة في الصحراء لا تتعدى حد الكفاف طعاما وشرابا وزادا ومأوى، فشب العربي على طبيعة المكان في الصحراء بساط مفتوح ومكان رحب يسر الناظرين، يقول الأمير عبد القادر الجزائري بن محي الدين: أو كنتَ أصبحت في الصحراء مرتقياً بساط رملٍ به الحصباء كالدرر
طبيعة البساط المفتوح في الصحراء تصقل موهبته وتبعث فيه روح التأمل وتحرك وجدانه الجمالي، حيث يسير العربي في طرقات متعرجة كثيرة المنحنيات ذات أودية وحول التباب والتلال يكاد الخط المستقيم أن يختفي من أمام عينيه، وهو يشعر ليلا ونهارا بوجوده تحت قبة السماء التي تشمل الكون كله، جعلت ذلك العربي يمعن النظر ويتذوق مظاهر جمال الكون والصحراء والسماء. إنه الإحساس بالسمو والجلال والعظمة واللانهائية.
يتفق علماء النفس والاجتماع على أن الإنسان ابن بيئته، والشخصية الإنسانية تتبلور وتتحدد معالمها وتكتسب مميزاتها في خضم البيئة المتواجدة فيها وما تحمله من خصائص ومقومات وبما لها من تأثير أيضاً بالإيجاب أو السلب، فإن مبدع الخطاب معجمه الأول بما فيه من مفردات وتراكيب وما يحتويه من أدوات وجمل ومواضيع تنطلق من البيئة التي ولد فيها الخطاب الجمالي الذي يكرس مفردات بيئته وأساليبها كما بدت في مرآته المتجلية في رحابة الكون وزرقة السماء وشاسعة الأرض، ثم الأسس الاجتماعية والأخلاقية والدينية والثقافية، التي بلورت فكره ونظرته الجمالية الفلسفية في بناء مهد الحضارة وإبداع مفاهيم إستيطيقية مخالفة لفلسفة الجمال اليونانية، تجلت في تشييد العمران، القائم على الزخرفة العربية ووضع الأقواس والقباب التي صقلت شخصية الإنسان متأثراً بالقرآن، جعلته يقدم بعداً جمالياً قوياً يربط ساحة الذكر بساحة الفكر يقول عزم القائل: «إنّ في خَلْقِ السَمَواتِ وَالأرضِ وَاختِلافِ الليلِ والنَّهارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلبَابِ الذِينَ يَذكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِم وَيَتفَكَرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَواتِ والأَرضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبحَانَكَ فَقِنا عذاب النار».[6]
قائمة المراجع:
- نجم عبد حيدر: علم الجمال آفاقه وتطوره، بغداد، طبعة ثانية، 2001
- أميرة حلمي مطر: فلسفة الجمال من أفلاطون إلى سارتر، القاهرة، كلية الآداب، طبعة 1974
- إبراهيم زكريا: مشكلات فلسفية (مشكلة الفن)، مكتبة مصر.
- حسن الصديق: فلسفة الجمال ومسائل الفن، دار القلم العربي- دار الرفاعي، الطبعة الأولى، 2003
- عيد سعد يونس: فلسفة الفن والجمال في الفكر الإسلامي، مكتبة عالم الكتاب، القاهرة.
[1] نجم عبد حيدر: علم الجمال آفاقه وتطوره، بغداد، طبعة ثانية، 2001، ص: 10
[2] أميرة حلمي مطر: فلسفة الجمال من أفلاطون إلى سارتر، القاهرة، كلية الآداب، طبعة 1974، ص: 20
[3] إبراهيم زكريا: مشكلات فلسفية (مشكلة الفن)، مكتبة مصر، ص: 09
[4] حسن الصديق: فلسفة الجمال ومسائل الفن، دار القلم العربي- دار الرفاعي، الطبعة الأولى، 2003، ص: 24
[5] عيد سعد يونس: فلسفة الفن والجمال في الفكر الإسلامي، مكتبة عالم الكتاب، القاهرة، ص: 45
[6] الآية 191 من سورة آل عمران.