فلسفة الدين أو في الدين موضوعاً للتأمل
فئة : مقالات
تتلازم الظاهرة الإنسانية، بما هي تشكيل فريد ونادر، مع جملة علاقات تنمّ عن انخراطها في الوجود تأدية وتعبيراً. ما يدل عبر متتالية التوالد العلائقي على صميمية بعض تلك العلاقات في شكل منظومات فهم وتواصل وتداول، تتراءى في صيغ ممارساتية وشعائرية. تحمل بين جوانبها آمال الإنسان وطموحاته الوجودية، عبر مكابدة التاريخ ومعاناته في شكل التعالي ومحاولاته، وفي صور الانغماس ودواعيه.
وهنا نجد الإنسان دارساً أو مدروساً يوظف ملكاته وقدراته المتنوعة في مقاربة أوضاعه السابقة ويعمد إلى تفهمها، بعد مراحل متطاولة من أدائها والعمل وفقها ليبرر ما يفعل أو ليبحث عن آفاق أخرى يجوبها سبراً عن دلالات أركز وأعمق تحمله إلى غنى المعنى وثراء التجربة، والتباين في الغالب يكون واضحاً بين أنماط تعقله للحالات السالفة، حال يعتمد موارد نصية موروثة في شكل تجارب مدونة أو شفاهية، ترتفع عنده إلى مستوى المقدّس الحامل لصفات الجواب الكامل.
وإمّا يقارب وفق ما انتهى إليه من منظوريات بعضها بسيط، وأخرى مركبة وثرية، لما استدمجته من متاحات منهجية ورؤيوية متعددة، فيخلص إلى دعاوى في أحيان حدية وفي أخرى متوازنة، أي بين القبول التام أو الرفض المطلق . كما هو شأن بعض الفلسفات التي قاربت الظاهرة الإنسانية، فمنها ما جعلها طبيعية مادية لا تتجزأ عن مملكة الحيوان وأخرى ارتفعت بها فمثلتها عقلاً خالصاً لا تشوبه حاجة ولا غريزة، وفي الحالين المصدر هو الإنسان ومنظوماته الوجودية والمعرفية والقيمية والرمزية والتدبيرية.
لذا الدعوة إلى الوعي المركب والمقاربات الجمعية أكثر من ضرورة إبستمولوجية، بل تدخل في إطار الحاجة الحضارية لدراسة الظاهرة الإنسانية بشكل استعادات غير لاغية ولا اختزالية.
من هذا المدخل يمكننا أن نموضع متلازمات الظاهرة الإنسانية في مضمار المنهجيات التوليفية غير أحادية الرؤية كماً وغير شمولية، أعني بتلك المتلازمات ما يمنح الإنسان تفسيراً لوجوده وتبريراً لاستمراره، وتعقيلاً لثمرة حياته ومؤداها أن يعمد إلى صياغته تجاوبه مع القضايا السالفة، في تمثيلات ورموز ودلالات تنم عن صلته مع التعالي، جذره أنطولوجيا وأفقه ما وضعه من سبل هداية تسوق الإنسان وتدفع إلى فهم ذاته، والعالم من حوله ونشأتها وأبعادها، ولا يطيق سوى الدين أن يفعل ذلك، إلى جانب الفلسفة والعلم بفوارق أساسية تمنح أهلية لجهة على حساب الأخرى، كما سيرد، وفي الأخير تنبثق منظومات معنى وانخراط وترميز وعلاقة، وتمثل وموقف، وهذا بغية الدين.
ولأنّ الفلسفة بدأت تستعيد زمام التأمل فيما انفصل عنها، فإنّا نعمد إلى رؤيتها ومرجعياتها ومنهجها ونسقها وتطبيقاتها إزاء الدين، من جهة الوقوف عند الدين كما يعرض نفسه وتقدمه الملل المختلفة، في بنيته ووظيفته وعلائقيته، وكما حاولت الفلسفات في أنساقها المتنوعة أن تدل عليه وعلى منشئه وتطوره ومآلاته. لذا كانت فلسفة الدين، فما هي فلسفة الدين؟ ولم جمع بين دين/فلسفة؟ هل الدين فلسفي؟ أم أنّ الفلسفة دين أو لها دين؟ ما الفرق في الفلسفة، بين فلسفيتها ودينيتها؟ وفي الدين بين فلسفيته ودينيته؟ هل الدين الفلسفي وفلسفة الدين واحد؟ أين تبرز أهم إشكاليات فلسفة الدين؟ وفيم تكمن موضوعاته؟ وهل مداره الأحكام والطقوس أم التجارب والأحوال؟ هل الأديان متعددة كما يعرفها الواقع؟ أم هي من طبقة واحدة وكينونة متجذرة لا تعقدها التنوعات؟
تساؤلات جذرية تعبر عن رغبة الفلسفة في موضعة الدين ضمن أفق السؤال المسؤول الجامع بين التخصص والنقد والقاصد إلى الفهم للعمل.
يظهر من مسمى فلسفة الدين تركيبته من اسمين/مصطلحين، يدل كل واحد منهما على معنى خاص بعينه، ودلالته تطورت عبر استعمالات واشتقاقات دلالية كثيرة بل قد تكون متضاربة، وبإضافتها إلى بعضها بعضاً يكون عندنا المعنى المقصود المتولد من تجمع عناصر مفهومية عدة منحت له هويته المعنوية، لذا يفترض القيام بتتبع المعاني في مجالاتها العلمية الخاصة وحقولها المعرفية التي تمثلها وكيف تُنُول الدين والفلسفة بالنسبة إلى كلّ فضاء. لكن نعكس العملية استدراراً للتشابك الدلالي أولاً ثم التفريق بين عناصره، أي نركب ثم نحلل منتهجين بذلك المنهجية التركيبية كرؤية ومستخدمين التحليل كآلية محكومة إلى التركيب وليس العكس.
يقول مرتشيا إلياده: (1986م) "لا بأس من التذكير بأنّ الإنسان الديني يمثل الإنسان الكلي (Total Men) وبالتالي فإنه يجب على علم الأديان أن يصبح فرعاً معرفياً (discipline) كليّاً، بمعنى أنّ عليه أن يستعمل النتائج كلها، وأن يمفصل (Articulate) هذه النتائج ويؤلف بينها، إذ لا يكفي أن يدرك المرء معنى ظاهرة دينية في ثقافة معينة وأن يعمد من ثمّ إلى فك رموز "رسالتها" Message إذ لكل ظاهرة دينية تشكل "شيفرة" Cipher بل يتوجب أيضاً دراسة تاريخها أي تفصيل مسارات تغيراتها وتبدلاتها، وصولاً في نهاية الأمر إلى استخلاص مساهمتها في الثقافة بأسرها".[1]
يدل المعنى السابق على رغبة بناء مقاربة شاملة للمعنى الديني في تركبه، ليتناوله علم الأديان كمادة يبدأ منها تحليلاته، وظني أنّ هذه العملية ليست بعيدة عن مبتغى فلسفة الدين، لأنّها تنطلق من كون الدين خاصية أساسية بالنسبة إلى الإنسان ومن غير الممكن لكل علم على حدة أن يتوصل إلى التصوير العام للصلة بينه وبين الدين.
لذا فهي تتمفصل مع تخصصات عدة، وأخرى تتألف معها حتى تفضي إلى ماهيتها وهندستها المعرفية الخاصة. والولوج إليها في كليتها يتيح الإدراك العام، وهو خصوصية الفهم الفلسفي للظواهر على خلاف العلم، ففرق بين من يقرأ الكتاب من عنوانه إلى فهرسه عبوراً بين مضامينه وتفاصيله وبين من يجتزئ صفحاته ليبني منها الصورة الكليّة، كذلك فلسفة الدين.
فلا "...يمكن أن نفهم تاريخ الفكرين الديني والفلسفي إذا أبقينا على المقابلة بين النحل ضمن الدين الواحد أو على المقابلة بين الملل ضمن الظاهرة الدينية الكليّة، ولم نرتفع إلى مستوى التصور الكلي للدين كما يدعونا إلى ذلك القرآن الكريم، ولحسن الحظ لقد فهم العقل الإنساني ذلك الآن بفضل تقدم الوعي الفلسفي بوحدانية الدين ليس من حيث هو إحدى خصائص الإنسان النوعية في جنس الحيوان، بل وكذلك من خلال مقارنة ثوابت الأشكال التاريخية والعقدية في التاريخ الفعلي للممارسة الدينية لكل الجماعات البشرية التي أمكن للعلم استقراؤها".[2] ورغم الانتساب الإضافي لمضمون فلسفة الدين إلا أنّ الفلسفة تعمد إلى مقاربتها في شكل تجاوز منهجي يتعالى على حيثية الانتماء إلى أفق التجريد العام، فتُصَورن ككائن عقلي منطقي في مقام التعريف، ثم تحدد بالمضبوط المنتمي في مستوى التحقق واليقين.
لذا من اللازم على المقاربات التي تسعى للدخول إلى ماهيتها أن تنظر إلى الدين في كليته ما يجعل الدين كأنه واحد من حيث البنية عند الجميع، من غير الذهول عن تطوراته وارتقاءاته وتشكّلاته التاريخية، فمن ذلك ما يعين على الكشف عن الماهية وكيف مورست وفعلت تجربة ومؤسسات ونظم تفعيل وحماية.
ولم يبلغ الوعي المركب مرحلة الخوض في الدين من وجهة فلسفية إلا بعد استيفائه لموردين مهمين: أحدهما يتصل بالكمال والتتمة التي تعرضت لها التجربة الدينية خاصة في النسخة التوحيدية، والآخر لما نضجت الممارسة الفلسفية وتحولت من التناول المشتت في موضوعات لا رابط بينها إلى مسلكية تأليفية. انتظمت في شكل نسقي متين، خاصة مع الفلسفات الكبرى. يقول الفيلسوف التونسي أبو يعرب المرزوقي "فقد التقى في فلسفة الدين مساران:
1- انطلق من تطور الفكر الديني تطوره الذاتي إلى أن بلغ مرحلة الرسالة التي يعتبرها القرآن حصيلة الرسالات السابقة ومن ثم خاتمتها، وذلك بفضل إعادتها كل الرسالات إلى الفطرة الإنسانية في صلتها بالمطلق حيث يلتقي الدين الطبيعي بالنور الطبيعي.
2- والثاني انطلق من تطور الفكر الفلسفي إلى مرحلة الفلسفة التي تعتبرها صيغتها النسقية الأخيرة حصيلة الفلسفات السابقة ومن ثم خاتمتها، وذلك بفضل إعادة الفلسفات إلى الفطرة الإنسانية في صلتها بالمطلق حيث يلتقي الدين الطبيعي بالنور الطبيعي".[3]
ففلسفة الدين بالتحديد السابق لمصدريتها، تكون قد تألفت في مراحل متقدمة من تطور الوعي البشري، فلو لم يتح لها النضجان والكمالان لما تشكلت بالصيغة الصحيحة أو لا أقل لتغلب أحد طرفي مصدرها على الآخر، فتشوه في الأخير في إطار السياق التاريخي لظهورها وربما يتعدى ذلك إلى دلالتها فهي خلاصة تطور - فختم-إعادة –فطرة -مطلق- النور- الطبيعي. فنحن إزاء جملة عناصر مقومة تشير إلى خصائص أساسية تحدد ماهية كيانات ثلاثة، اثنان منها أصليان والآخر تابع وهو مدين لهما "وبصورة أدق فإنّ المسارين نتجا عن الجدل بين الفكرين الفلسفي والديني".[4] بشكل تغذية إرجاعية دفع أحد المصدرين الآخر إلى أفقه الأقصى ضمن أفقية متراوحة جعلت الفلسفة تتغذى من الدين الأول، كما هو الحال بالنسبة إلى الفلسفات الهندية والصينية واليونانية.
إذ في الأول لا نكاد نجد الفرق بينهما من جهة إدغام الفلسفة في الشأن الديني بما هي صورته التأملية أو المصاغة استدلالياً، بما يبرر ويبرهن على مجموع المعتقدات المختلفة بشعائرها. و"الفلسفة الآسيوية بمعظمها وبخلاف الكثير من الفلسفة الغربية الحديثة لم تفصل الفكر عن التطبيق العملي ونزعت إلى رؤية ما هو مفهومي (conceptuel) وما هو روحي (spiritual)، باعتبارهما مرتبطين بشكل وثيق...، الهندوسية (hindism) والجانية (jainism) والبوذية (boddism)، والكونفوشيوسية (confcism) والطاوية (daouism) على سبيل المثال جميعها مهتمة بالتطبيق فضلاً عن كونها طرائق للفكر. أبعادها الفلسفية تنامت من التفكرات في التطبيق في الوقت عينه ولدت التفكرات والافتراضات الفلسفية المسبقة (présuppositions) أساليب التطبيق العملي هذه ووجهتها..".[5]
كذلك الوضع تاريخياً قياساً لارتباط الفلسفة الغربية في مصدرها اليوناني، مع بعض الأصول ذات المنشأ الديني، وحتى تلك المتوارية في ثوب الأسطرة العارم، إذ مارست تأثيرها في النواة الأولى التي أفضت إلى تشكل اللوغوس، ولو أخذناه ضداً للميتوس، فهو تأثير سلبي وفاعلية معكوسة، "...لقد تكونت الفلسفة في هذه الحركة وفي نهاية هذه الحركة التي وحدها دفعت بها إلى النهاية إذ إنّ الملل والغامضات بقيت رغم توسعها مجموعات مغلقة وسرية. وهذا بالذات ما يحددها لذلك وعلى الرغم من أنّ بعض عناصر العقيدة تتقاطع مع مباحث الفلسفة الناشئة يحتفظ الوحي الغامض بالضرورة بطابع الامتياز الذي يفلت من المناقشة. وبالعكس فالفلسفة في تقدمها حطّمت نطاق الأخوية الذي أبصرت النور فيه. إنّ رسالتها لم تعد محصورة في مجموعة وفي ملة".[6]
يبرز النص السابق التخوم الأولى للفلسفة في تواشجها مع الفضاء الديني وحمولته الأسطورية، وكيف أنها اعتمدت في مادتها الأولى على عناصر ميثولوجية بامتياز، سواء في تفسيرها للعالم ونشأته، أو في مجموع المتأثرات التي تملكها المجموعة الملية، وهي التي دعت الفلاسفة الأُوَل إلى الانخراط في درس الطبيعة، وما وراءها، بطريقة تفهم، تنم عن وضعانية هي في طور التشكل، وحتى لما تعدت الفلسفة بخصائصها الرؤيوية والمنهجية، وبنت لنفسها نطاقاً متميزاً من الموضوعات، تظل مدينة بطريقة غامضة لتلك الروافد الأسطورية/الدينية/ الأولى "ومثلما تحررت الفلسفة من الميثة، وخرج الفيلسوف من المجوس، تكونت المدينة انطلاقا من التنظيم الاجتماعي القديم...".[7]
وما توالى من أشكال حياتية تظهر أنها قطعت مع الماضي، يظل تاريخ الأفكار يواجهنا بحقيقة راسخة أنّ "... ظهور الفلسفة... حدث تاريخي ...متجذر في الماضي، مكون انطلاقاً منه وضده في الوقت ذاته..".[8] وما يعنينا في نسبة الفلسفة إلى الدين أو مماثلاته، هو تأكيد منطق الاتصال الذي افترضناه بداية لتعليل جدوى الانخراط في إبراز التواشج المكين في الصلة بين الفلسفة كنمط تفكير كلي، يمارس تعقلاً للمطلق بتعيناته المتنوعة، والدين كنمط وعي يحمل مقومات الكلي ويتراءى في صور شتى قد تبدو متناقضة، لكنها في النهاية استدعاء للكلي وخوض فيه.
فالفلسفة على ما فيها من نزعة تأملية، ميالة إلى إخضاع الظواهر جميعاً لمعقوليتها، إلا أنّ نشأتها الأولى، لازمت بشكل جذري آن التكون، الأسطورة كمعين رئيسي انبثق عن تفسيرات لها ارتباط بدين ما، أو تدل عليه بصورة لافتة "...صحيح أنه في اليونان فقط كان للأسطورة أن تلهم وتوجه الشعر الملحمي والمسرح التراجيدي والكوميدي فضلاً عن الفنون التشكيلية، لكنّ الصحيح أيضاً أنه خصوصاً في الحضارة اليونانية جرى إخضاع الأسطورة لتحليل مديد وعميق سابر لأغوارها ما جعلها تخرج إلى النور وقد نزعت عنها أسطوريتها نزعاً مبيناً...".[9] ويمكننا الزعم تعليقاً، أنّ النزع فرع عن الانتزاع، أي انفصال اقتضى اتصالاً في البداية استعمل عناصرها، في تجاوزها، وما يعنيني في فلسفة الدين، أنّ الأسطورة بما هي محاولات للتفسير والفهم والتبرير، مثلت امتداداً للدين أو مصدراً للفلسفة، وفي الحالين هي مورد أساسي للثقافة اليونانية - ومن ثمة الغربية -لا من زاوية ما هي وهم متخيل، وتعال أجوف، بل بما تحمله من غنى يدل على ثراء ذاتي يشير إلى البنية الخاصة الآن، وقد يتعدى إلى ما أبقاه من مادة لمصادر دينية سابقة.
ويحذرنا "إلياده" من مفارقة مهدرة قد تحرم فيلسوف الدين أو عالم الأديان من فرصة المعايشة أو ملازمة الحيوية المحاذية لفاعلية الأشكال الأسطورية في طقوسيتها وشعائريتها، لذا يدعو إلى أهمية الربط المقارن بين تجربة أسطورية غائرة وقد تلاشت، ويعني اليونانية، وأخرى حاضرة لم تمارس انتقائية واختزالية الافتراض النظري، ويشير إلى التقاليد الشرقية، حيث فيها تتساوق الأسطورة والديانة "...، وباختصار فإنّ حظنا الأفضل في فهم بنية الفكر الأسطوري يكمن في دراسة الثقافات التي تكون الأسطورة فيها "شيئاً حيّاً"، حيث تشكل قوام الحياة الدينية، أي بكلمة، حيث لا توحي الأسطورة بالوهم، بل تكون التعبير الأرقى والأصدق عن الحقيقة par excellence".[10]
خاصة إذ لم يساير الأنثربولوجيون في إفراط المقارنة وإعمال غنى وثراء تراثات الشعوب التي أسهمت بتجاربها في شكل الظاهرة الدينية/الأسطورية/الفلسفية، كما الشأن للشرق القديم عموماً، ومشكلة الأنثربولوجيين تكمن في انغرازهم غير المبرر عند بعض تقاليد ما ينعت بالشعوب البدائية، بوصفها حالة قارّة لما ساد في فترة تاريخية ما، وغفلتهم غير المفهومة عن الغنى الموجود في تجارب ثقافية كثيرة، حتى الهند وأوروبا، وما أوقعهم في مثل هذا التقصير انطلاقهم من مسبقة أنثربولوجية تفيد أنّ الأسطورة ميثة نزعها الفكر الأوروبي عن بنيته جذرياً، واستعاض عنها بمقولات اللوغوس ومكوناته.
وإلى ما يقترب من المعنى السالف، يشير الفيلسوف الفرنسي بول ريكور paul ricoeur 2005م، إلى عمليات إزالة الأسطرة، مع بقاء الأسطورة كملازم معادل، يقتضي الاعتراف بها لتجاوزها: "... وتعني إزالة الأسطرة، من جهة أخرى، الاعتراف بالأسطرة بوصفها أسطورة، ولكن بغية تحرير العمق الرمزي. وإذا كان هذا هكذا، فيجب الكلام حينئذ عن إزالة الأسطرة، فما نفككه هنا هو العقلانية الثانية التي تحتفظ بالأسطورة أسيرة، وليس الأسطورة، وهو كذلك اللوغوس الكاذب للأسطورة، ويمثل انبثاق هذا الاكتشاف فتحاً للقوة الموحية بأنّ الأسطورة تخفي ما تخفيه تحت قناع الموضوعية. والإيجابي في هذا الهدم هو تشييد الوجود الإنساني انطلاقاً من أصل لا يمتلكه هذا الوجود، ولكن أعلن له عنه رمزياً بكلام تأسيسي".[11]
فعمل الفيلسوف الدؤوب، في بناء الوعي العقلاني، بالفصل مع اللاعقلاني، يضطره باستمرار إلى استحضار الأخير إيجابياً، آن الانفكاك منه، وبذلك تكون الأسطورة قد غذت العمليات الأخرى التي عملت على القطع معها، فيحصل التعالق بين "... التخلي عن الأسطورة وفتح العمق الرمزي".[12]
ويظل العمق الرمزي مديناً بكيفية ما إلى الأسطوري، بما هو استذكار للديني، أو تذكر له آن مجاراته أو محاولة ذلك. فيكفي أن نعلم أنّ الشعوب جميعاً ليست خالية عن الدين/الأديان، كما أنّها مدينة بكيفية ما لرصيدها الأسطوري/الرمزي. ما يدل على أنّ "... لكل جماعة دينية نظامها وقيمها الرمزية بها تعرف، وحينما ينهار هذا النظام أو تهتز تلك القيم تفقد تلك الجماعة هويتها الدينية. وفي هذا السياق شدّد بعض الدارسين على انتماء الرمز الديني -إلى جانب الأسطورة- إلى جوهر الحياة الروحية".[13] فيتأكد لنا الأصل المشترك للظاهرتين: الدينية بما هي تجاوب مع المطلق من جهة ما، والفلسفية كمعادل مساير يبغي الحصول على دلالة المطلق من مدخل يتسم بعمومية مقرّة، أو هكذا يقدّم نفسه.
فالحياة الروحية هي الحاضنة الدالة على العوز المكين الذي عاناه الإنسان، فاحتاج إلى تغذيته أو تفهمه، فمنح الدين أو بحث بالفلسفة العلم. وفق هذه الروافد جميعاً تشكلت مستدمجات وعيه. "يبدو أنّ العالم الغربي قد تناسى جذوره المسيحية، لكن عوض الحديث عن قطيعة نفذتها العقلانية إزاء ما هو ديني وثقافي، يجب الحديث في الواقع عن تعايش بين اللائكية والعلم والدين، أو بلغة أفضل عن حوارات مأساوية أو واثقة من نفسها لم تنقطع أبداً، خلافاً لما توحي به المظاهر. لقد فرضت المسيحية نفسها بصفتها حقيقة أساسية للحياة الغربية، وتركت بصماتها حتى على الملاحدة، على الرغم من أنّهم لم يتفطنوا لذلك ولم يعترفوا به، فالقواعد الأخلاقية والمواقف إزاء الحياة والموت ومفهوم العمل...، كلها مسلكيات يبدو أنّه لا علاقة لها بالشعور المسيحي، وبرغم ذلك فهي متولدة عنه، لكن على الرغم من ذلك، تظل نزعة الحضارة الغربية منذ تطور الفكر الإغريقي، هي الارتقاء إلى العقلانية أي التنصل من الحياة الدينية".[14]
يظهر أنّنا مارسنا التفافاً شديداً على الخلاصات التي قربتنا من دلالة فلسفة الدين، إلا أنّ الزعم بأنّ الدين قد أخلى مكانه للأسطوري ثم للفلسفي دفعنا إلى استعادة القول في الأساس الديني لكل الأشكال المعرفية التي تلته، حتى تلك التي قدمت نفسها بحسبانها انفكاكاً مقصوداً عن المضمون الديني، وما يتصل به، ومع ذلك يؤكد أكبر فلاسفة التاريخ ومؤرخي الذهنيات، أنّ -الدين/الأسطورة/الفلسفة- مستعاد في كافة أشكال الممارسة الإنسانية، بل ويتصف بالاستمرار. "... وبالفعل لم توجد ثقافة في الماضي، ويبدو أنّه لا يمكن أن توجد ثقافة في المستقبل ليس فيها دين بهذا المعنى الواسع...".[15] الذي يتجاوز الأديان المألوفة في المعنى التقليدي، ويمتد ليتضمن في ثناياه كل الممارسات والأفعال والطموحات المنبثقة عن الحاجة البشرية، إلى جملة منظومات تبرر حياته ووجوده، وعند ذاك يصير الدين "... نظاماً من الفكر والعمل تشارك فيه مجموعة، ويعطي للفرد إطاراً للتوجه وموضوعاً للإخلاص".[16]
وإذن فكلّ ما يخلق لدى المرء التزاماً بمقصدية مستهدفة، والتفافاً وجدانياً وعقلياً حولها، ويفي بتشارك الجميع بغرض تجسيدها والتعبير عنها، يكون هو الدين. وكلّ تأمل عقلي في ما تشكل وتكوّن، وأثر ووجّه، وتجلى في خطابات وديباجات، مولدة لتجارب ومستخدمة لأدوات، متوحدة انحصارية، أو متعددة متكثرة، واحد في التكثرات، أو متكثر في الوحدات، يكون بشكل ما هو ما نعنيه بفلسفة الدين.
[1]ـ مرتشيا إلياده: البحث عن التاريخ والمعنى في الدين، ترجمة مسعود المولى، بيروت: المنظمة العربية للترجمة ط 01، 2007، ص 59
[2]ـ أبو يعرب المرزوقي: فلسفة الدين من منظور الفكر الإسلامي، بيروت: دار الهادي، ط 01، 2006، ص 48 وما بعدها.
[3]ـ المرجع السابق، ص 49
[4]ـ المرجع نفسه، ص 49
[5]ـ جون كولر: الفلسفات الآسيوية، ترجمة نصير فليح، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، ط 01، 2013، ص 20
[6]ـ جون بيار فرنان: الأسطورة والفكر عند اليونان، ترجمة جورج رزق، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، ط 01، 2012، ص ص 559-560
[7]ـ المرجع السابق، ص 664
[8]ـ المرجع نفسه، ص 675
[9]ـ مريشا إلياده: البحث عن التاريخ والمعنى في الدين، مرجع سابق، ص 162
[10]ـ المرجع السابق، ص 162
[11]ـ بول ريكور: صراع التأويلات، دراسات هيرمينوطيقية، ترجمة منذر عياشي، بيروت: دار الكتاب الجديد، ط 01، 2005، ص 390
[12]ـ المرجع نفسه، ص 390
[13]- ELIADE (Mircea): Images et symboles: Essais sur le symbolisme agicoreligieux, Edition Gallimard, paris, 1969, p 12.
نقلا عن بسام الجمل: من الرمز إلى الرمز الديني، بحث في المعنى والوظائف والمقاربات، القاهرة، دار رواية، ط 01، 2011، ص 32
[14]ـ فرنان بروديل: قواعد لغة الحضارات، ترجمة الهادي التيهومي، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، ط 01، 2009، ص 79
[15]ـ إيريش فروم: التحليل النفسي والديني، ترجمة محمود منقذ الهاشمي، سورية: دار الحوار، ط 01، 2012، ص ص 87-88
[16]ـ المرجع نفسه، ص 87