فلسفة النشوة الجنسية
فئة : مقالات
فلسفة النشوة الجنسية[[1]]
أحمد دلول
في علم النفس يُسمُّونه بالطاعون النفسي.[2] وفي علم اللاهوت هو سبب أساسي للدنَس الذي يُوجِب الغسل. ليس الغسل الجسدي فحسب، وإنما النفسي أيضا في بعض الأحيان؛ إذ إنه من الأسباب الأكثر عُمقا وتأصُّلا للشعور بالذنب، بل وحتَّى لنشوء العُصاب.[3] هو النواة التي ينبثق منها تأويلنا الوجداني لمفهوم "التابو"، وأوَّل ما يترادف في أذهاننا، مع مفهوم "الشهوة الحرام". عند ذِكرهِ تحمرُّ الوجنات وتتوه العيون، مع أنه الوسيلة الحصرية والشرعية لاستمرار الحياة؛ هو موت صغير، أو حياة كبرى لامتناهية، كمُعاند للفناء؛ فناء النوع. هو رابض في مياهنا الجوفية، وينسلُّ خلسة إلى كؤوسنا من حيث لا ندري، مُحتويا لضده في ذاته؛ فقد يراودنا كشيطانٍ مُتَخَفٍّ على هيئة ملاك أبيض، أو قد يُداهمنا كذئب يُخفي شدقيه بقناع طفل بريء؛ ثم تقع بسببهِ الحماقات الكبرى. هو منتصف الجسر الذي يلتقي عنده الحائرون من الذكور والإناث، ثم يعود كلٌّ إلى ضفته أكثر حيرة؛ ثم لا يجدون تفسيرا لحيرتهم، إلا بالعودة لانتظار بعضهم عند منتصف الجسر. هو المُهر الجامح الذي يرمح ما بين النساء والرجال، فاجتمع الحكماء منهم لكي يلجموه، ولكنهم ألجموا البشر، وبقي هو جامحا حرَّا، يرمح فيما بينهم وفيما حولهم وفيما وراء دوافعهم وأفعالهم. صهيله للحياة بلسمها ودافع استمرارها؛ إن قيَّدوه يصهل من عيونهم، من مسامات جلدهم، يصهل في عمق وجودهم وفي فضاء وجدانهم إلى أن يُطلقوه؛ ذلك اللاعب الخفي الذي يُحرِّك الدُمى من وراء الستار؛ ذلك الشغف الذي كلَّهُ شغف، والذي لا يجاريه أي شغف؛ ما هو؟ ما مصدرهُ؟ أو ما هي "ماهية" ذلك الشعور المُبهم اللذيذ الذي نعايشه أثناء الجنس؟ وما هي آلية حدوث تلك النشوة الغامضة، التي تومض عندما تتشابك الأجساد العارية؟
بما أن العلم بطبيعته تجريبي، فهو لا يستطيع أن يجيبنا عن تساؤلات من تلك الخامة؛ إذ إنه يبحث عن مأربه في الأشياء، يغوص فيها، ويتحرَّى في قوانينها وخواص عناصرها، ولكنه لا يحاول استنطاق جوهرها، ولا يستطيع الالتفاف على كثافة موادها للنفاذ إلى ماهيتها. فتلك بطبيعة الحال ليست مهمته، وأدوات الماهية والماوراء ليست أدواته. وبالمقابل، فإن الفلسفة تستطيع الذهاب إلى حيث لا يستطيع أن يذهب العلم؛ إذ إن لها من الخفَّة في ذاتها، ما يمنحها القدرة على التحليق إلى آفاق، لا يستطيع العلم بلوغها بثقالته التجريبية، التي تشدَّه وتُقيِّده غالبا، ضمن ما هو محسوس ومُدرَك. ولذلك، فلكي نحاول النفاذ إلى "ماهية" تلك الظاهرة العجيبة، لا مناص لنا من اللجوء إلى الفلسفة والاستعانة بأدواتها.
علاوة على ذلك، فنحن هنا لسنا أمام مُجرَّد ظاهرة ڤيزيولوجية بسيطة، كعمل الأمعاء مثلا، لكي نستطيع الإحاطة بها بيسر وشمول، ثم إن العلوم البيولوجية عموما، لم تُطفئ ظمأنا تماما، حتى ولو فسَّرت لنا الآلية الڤيزيولوجية لحدوث الرغبة الجنسية، عبر تسليط الضوء على دور الهرمونات وآلية تحفيزها، وعلى آلية عمل الغدد، وآلية عمل أجزاء من المخ، كمنطقة تحت المهاد المُخّية مثلا.[4] فكل هذا لم يُقرِّبنا كثيرا من الإحاطة بكنهها؛ ذلك أن فاعلية الدماغ وڤيزيولوجيته، لا يُحيطان بالضرورة بفضاء سيكولوجية الكائن الحي، تبعا لما يُشير إليه عالم النفس "كارل يونغ": بأن النفس ليست مُجرَّد "ظاهرة ثانوية ناجمة عن سياق كيميائي عضوي في الدماغ [...] إن ارتباط النفس بالدماغ لا يُثبت بحد ذاته، أن النفس ظاهرة لاحقة؛ وظيفة ثانوية تتوقف سببيا على سياقات كيميائية عضوية [...] لا تُزودنا بنية الدماغ ولا ڤيزيولوجيته بتفسير للسياق النفسي"[5] وعلى الرغم من أن علم النفس قد ذهب بعيدا، وأضاء لنا أعماق مملكة اللاشعور مثلا، مما يفتح لنا "مدخلا" لا غنى عنه، بغية الخوض في تفكيك تلك الظاهرة. إلّا أن علم النفس لم يكشف لنا "الماهية" مما نتوق لمعرفته في هذا المضمار. وبالتالي لا يُمكننا حصر تلك الظاهرة، على أنها مُجرَّد ظاهرة نفسية خالصة فحسب؛ بمعنى "الاكتفاء" بآخر ما توصل إليه علم النفس الحديث، عند مُحاولة سبر عُمق أغوارها. ولا هي ظاهرة روحية مثلا؛ بمعنى أن نتمكَّن من النفاذ إلى خفاياها عبر مرجعية روحية ما. وفي الحقيقة حتى ولو كانت محاولة تعليلها مزيجا من كل هذا، ولكن ما نبتغيه هو أبعد من ذلك؛ فنحن هنا نروم "الماهية". فما هي "ماهية" تلك الغريزة اللغز، الحاكمة بلا تاج أو صولجان، والتي تمنحنا كل تلك اللذَّة الجامحة، وكل ذلك الدفق من الفرح العارم، الذي ينهمر بسخاء في عمق خلايانا ويجتاح عناصرنا كلها، كدهشة لا تشبه أيّا من الأحاسيس المنطقية أو المفهومة التي نعايشها؟ ومن أين يأتي كل هذا؟
قبل التوغل في ألغاز الحكاية وحيرتها ومتاهاتها، لا بأس من البدء بمُقدِّمة قصيرة، حول تطور مفهوم فضاء النفس الفردية في العصر الحديث؛ حيث ظهر بأن للنفس بُعدا جماعيا، تبعا للمؤرخ وعالِم الاجتماع الفرنسي "غوستاڤ لوبون" مثلا، الذي كان من الرواد الأوائل الذين تحدَّثوا عن علم نفس جماعي بالمعنى الأفقي والعمودي، عبر سعيه لتأسيس مفهوم "علم نفس الجماهير" الذي يرتبط أساسا لدى "لوبون" بالعِرق الذي ينحدر منه الأفراد، والذين يتفاعلون بدورهم لاشعوريا، تبعا للرسابات الموروثة عن الأسلاف.[6] أما "سيغموند فرويد" فقد ذهب إلى أبعد من ذلك؛ إذ تحدَّث عن قاعدة لاشعورية أحادية الشكل ومشتركة؛ ليس في العرق الواحد فحسب، وإنما لدى جميع البشر، وتمتدُّ جذورها حتى الإنسان البدائي، الذي لا يزال على قيد الحياة في كل فرد منا. ومن ثُمَّ، فإن القليل من المُثيرات كافية، لكي تجعله يستيقظ ويُبعَث من جديد؛ كما يحدث عندما يتفاعل الأفراد مثلا، مع انفعال جمهور ما، ينتمون إليه، ثُمَّ ليتحوَّل الجمهور فجأة إلى عشيرة بدائية، أو أنه يمتلك الميل لذلك.[7] ومَرَدُّ ذلك حسبما يفترض "فرويد" هو وجود استمرارية في الحياة العاطفية للبشر، تسمح بتجاوز الانقطاعات في الوقائع النفسية، بسبب زوال الأفراد؛ عبر توريث الاستعدادت النفسية مثلا.[8]
ذلك الذي كان قد بدأه "لوبون" و"فرويد" وغيرهما، قام "يونغ" بالاجتهاد في فهمه وتأويله، ضمن مفاهيم عدَّة، منها مفهوم (النفس الموضوعية - objektiv psyche) التي تحلُّ موضوعيا على صاحبها من حيث لا يدري. إنها "النفس الخافية" التي تتجلى على هيئة دوافع داخلية ومشاعر وانفعالات وأحلام، من دون أن يكون لذاتية العقل الواعي، أي دور في صياغتها أو تجلّيها.[9] بمعنى أنه عندما يتعلَّق الأمر باللاشعور، فإن "الذات الفردية" ليست "ذاتية" تماما، ولا هي "فردية" خالصة، بل إنها ذات موضوعية، لا بل وجماعية كذلك في مُعظم ما تخفيه، حيث تَزاحَم لصياغتها واستمراريتها، كل من سبقونا من أسلاف، منذ أزمان بعيدة مضت، لتوريثنا بشكل مُتعاقب، ما أسماه "يونغ" بالـ "الخافية الجمعية" أو "اللاشعور الجمعي".[10]
وذلك ما يُمهِّد لنا الطريق للولوج إلى مفهوم في علم الأحياء يُسمَّى بالـ (تأسُّل - Atavism)[11]، والذي يُشير في سياقه النفسي، إلى وجود قناة اتصال، تحمل لنا شحنات انفعالية من أجدادنا القدماء، وتمتدُّ من تجاربهم ومخاوفهم، وصولا إلى أعماق لاشعورنا، الذي لا يزال يترسَّب فيه ما عايشوه.[12] فالطفل يُولَد ولديه خوف فطري، مما كان قد عايشه هؤلاء الأجداد، كالخوف من الأفاعي والظلام مثلا. مثل ما يتلقف الإنسان في نومه أحلاما كانت نائمة في لاشعوره الجمعي، ثم لتنهض خلسة من أعماقه، على هيئة رموز أو "نماذج بدئية" تأتيه فجأة من الإنسان البدائي.[13] ويُفسِّر ذلك المفهوم في سياقه البيولوجي، ظاهرة عودة بعض الصفات الآتية من الأجداد القدماء، حيث تظهر تلك الصفات فجأة في نسلنا، من دون أن تظهر فينا، أو فيما نعرفه من أجيال سبقتنا؛ كعودة ظهور عضو زائد في المواليد الجدد، كان موجودا لدى أسلاف البشر، ولكنه اختفى عبر المسار التطوري الطويل في الأجيال السابقة. ولكن نظرا لندرة حدوث تلك الظواهر المُتأتية من أسلاف البشر، وتجنبا للخوض في تعقيدات وإشكاليات "نظرية التطوُّر" نسوق مثلا موازيا، هو أكثر تحديدا ووضوحا، بغية مُحاولة إيجاد مقاربة حول ما نسعى لتبيانه؛ كأن يُنجِب أبوان ذوي بشرة سمراء وعيون بنيّة مثلا، طفلا أشقرا عيونه زرقاء، مما يدل بشكل واضح ولا يحتمل الشكَّ أو التأويل، إلى أن الطفل ينتمي إلى خلفية عرقية، تختلف تماما عن تلك التي ينتمي إليها والداه المُفترضان، ثُمَّ لتُثبِتَ نتائج تحليل الحمض النووي “DNA” بأن كِلا الوالدين، هما فعلا الآباء البيولوجيون الحقيقيون للطفل.[14] وتعليل ذلك، أن الطفل هو ليس ابنا لوالديه فحسب، بقدر ما هو ابن حياة تمتدُّ منذ الأزل.[15] وبالتالي، فإن سجن فرديتنا الضيِّق، الذي له فُوَّهة أمامية مفتوحة على الموت، له بالمُقابل سراديب خلفية مفتوحة على حياة لامُتناهية؛ إذ إن عُمر الفرد منا، ليس سوى بضعة عقود فحسب، ولكن تلك الفردية، هي امتداد لحياة عمرها ملايين بلا عدد من السنين.[16] فالحياة التي تسكننا، كانت قد وصلتنا عبر سلسلة لا متناهية من الأنفس المتمثلة بآبائنا وأجدادنا الذين تناسلوا لنكون، والذين لا يزالون ينبضون في أعماقنا. وتلك السلسلة التي نحن امتداد لها لم تنقطع أبدا، وإلا لما كُنَّا موجودين أصلا. وبذلك فنحن لسنا مُجرَّد أفراد مُعلَّقين في الخواء، بل إن لكل فرد منَّا نَسَبا ثريَّا وسيرة جماعية عجائبية وطويلة، تمتدُّ جذورها بعيدا إلى قاع تاريخ الحياة، وتكمن في ثنايا خلايانا، كمنظومة تُخفي ملامح وتجارب كل من سبقونا من أنفس؛ أي أن عناصر دمنا مجبولة بالأزل.
فإذا استهلّينا بحثنا هذا بالذكور؛ نظرا ليُسر ووضوح عمل الآلية الجنسية لديهم، لأمكننا القول: بأن كل نطفة من ملايين النطاف الموجودة في ثمرة نفس الرجل، تحمل الكثير من صفات عرقه ولونه وتفاصيل شكله ومزاجه وميوله واستعداداته النفسية المُسبقة، وكذلك نقاط قوَّته وضعفه، بالإضافة إلى خلاصة تجاربه ومخاوفه الكامنة، هو وأسلافه وأجداده القدماء. ونحن عندما نستحضر تلك النطاف من أعمق أعماقنا، نكون قد أيقظنا منظومة سلسلة طويلة من الحياة، حيث يكمن في كل نطفة، الصفات العامة للسلسة برمَّتها. أو لنكون قد طُفنا من حيث لا ندري، على عدد غير مُحدَّد من أطياف أنفس أسلافنا، لإيقاظهم بما فيهم من صفات. تلك الأطياف التي تصبح في داخلنا كسربٍ لا متناهٍ من دوائر الظل، أو الشموع المُطفأة، التي تتسارع تدريجيا بالحضور والتهافت على دائرة روحنا، لكي تتقاطع معها ولتستمدَّ منها نشوة الحياة والنور من جديد؛ بسرعة وغزارة يتناسبان مع جمال شريكنا الجنسي ولهفتنا نحوه. ولنكون قد دعوناهم للاحتفال بما يُشبه العُرس في داخلنا، ومن ثمَّ لينفضَّ العُرس فجأة وليخلُد المدعوون ثانية إلى النوم، مُباشرة بعد بلوغ النشوة. فإن أسعدهم العُرس، رقدوا بهدوء وعُمق وسلام، إلى أن يحين وقت نهوضهم ثانية، فيستنهضون شهوتنا للتناسل مع الجنس الآخر، الذي يجدون في وصاله قيامتهم وبعثهم من جديد، وكذلك إمكانية بقائهم من خلال استمرار صفاتهم في نسلنا.
تبعاً لهذه الفرضية إذن، فإن اللذَّة التي نشعر بها أثناء الجنس، ناتجة عن مُعايشة الحياة الأزلية في داخلنا؛ وكأن النفس الفردية هي ومضة من نور، تجرُّ وارءها سلسلة لا متناهية من الأنوار الخامدة المُطفأة. وفي تلك اللحظات التي نُمارس فيها الجنس، يتم تفعيل أو إنارة تلك الأنوار المُطفَأة في داخلنا من جديد، وهذا ما يُفترَض بأنه يمنحنا ذلك الشعور المُبهم اللذيذ؛ بمعنى أن فعل الجنس هو تفعيل لفضاء لامتناهٍ من الحياة، أو الحيوات الكامنة في أعماقنا. أو أنه تفعيل لأزلية نفس فردية تجرُّ سلسلة لامتناهية من الأنفس التي تحيا في داخلها. تلك الأنفس التي عادة ما تكون في حالة كُمون، أو في حالة سُبات، ولكن أثناء مُمارسة الجنس تُبعَث من جديد؛ حيث يمسك المرء بحبل أزلي من أنفس أسلافه وينزلق إلى أعماق وادي الأزل، إلى أن يبلغ ذروة ما، من سلسلة الأنفس الكامنة فيه. وهناك في "ذروة الوادي" تبدأ النفس الفردية بالانفتاح على سلسلة لامتناهية من أنفس سبقتها، فتصبح وكأنها فضاء من الأنفس أو الحيوات. وبذلك، يزول البرزخ ما بين النفس وأزليتها فيتعانقان، وبعناقهما يشتعل البرق في عمق ظلام الأزل، ليُضيء في لحظات غامضة ملايين من السنين، تُسافر فيها النفس إلى أعماق بعيدة الغور.
في سرده للنظريات والآراء حول تاريخ الغريزة الجنسية، وحول أصل التناسل عن طريق اندماج الخلايا المُختلفة الجنس، يقول "فرويد" مُستندا على المعقول من آراء "داروين": "وعلى ضوء هذا الرأي، لا يكون الجنس أمرا عريقا في القِدم، وتكون الغرائز القوية العنيفة، التي تهدف إلى الجمع بين الجنسين، تكرارا لأمر حدث يوما عن طريق الصدفة، ثم بقي واستقر، لما تبيَّن من نفعه وجدواه"[17] بمعنى أن الغريزة الجنسية، لم تصبح عنيفة وقوية، إلا بفعل التكرار الطويل، عبر الأجيال المُتعاقبة، وبأنها كانت في بدايات الحياة العضوية، أقرب إلى الأمر العملي النافع، من قربها إلى المُتعة العارمة التي نعرفها.
استنادا لما يُمكن فهمه وتأويله، مما ذهب إليه "فرويد"، نجد أن في افتراضاته سببا منطقيا للاجتهاد والتساؤل: ما معنى أن تصبح الغريزة الجنسية قوية وعنيفة بسبب التكرار الطويل عبر تاريخ الحياة؟ وكيف لها أن تتحول من مُجرَّد فعل نفعي روتيني، إلى حاجة وجودية تترافق ممارستها مع أقصى ما يُمكن تحصيله من لذَّة؟ ومن ثُمَّ، ما هو دور الإعادة والتكرار عبر الأجيال المُتعاقبة، في التصاعد التدريجي للشهوة والمُتعة وفي الترسيخ المُتطارد للغريزة الجنسية؟
كمحاولة لتعليل الجانب المحوري من نظريتنا حول ماهية المُتعة الجنسية، نفترض بأن السبب وراء ذلك، هو أن المُتعة الجنسية القوية والجامحة، تتناسب طردا مع وجود إرث طويل من الحياة، ورصيد زاخر بها، وذلك ما لم يكن متوفرا لدى الكائنات، في بدايات الحياة العضوية؛ إذ إن الأحياء وقتذاك، لم يكن قد سبقتهم سلسلة طويلة من الأسلاف بما يكفي، لكي ينتشوا بالطواف عليهم، وليقتبسوا منهم نشوة الحياة أثناء فعل الجنس؛ بمعنى أن عُمق الحياة في داخلهم كان ضحلا، أو أن سلسلة تعاقب الحياة قبلهم كانت محدودة، وليس فيها تراكمٍ كافٍ من الحيوات، لمنحهم ذلك الفرح العارم، عند محاولتهم "للحجِّ إلى الحياة" في داخلهم؛ عبر فعل الجنس.
ثمَّة معرفة يقينية لدى البشر، بأن الجسد مصيره الفناء. وثمَّة من يعتقد بأن للروح خامة إلهية مصيرها الخلود. أما النفس، فتتميَّز بقابليتها لنوع من البقاء "الموازي" المشروط بالتناسل. ويبدو أن من يقسرنا على طلب ذلك البقاء الموازي عبر الجنس، هو ليس ذواتنا الفردية، وإنما ما تراكم فينا من ذوات، لم تَمُتْ تماما، ولا تحيا في واقع خارج عن ذواتنا. إنهم أسلافنا المُستترون في خلايانا، والذين لا بُدَّ لهم من نوع من النهوض والفاعلية أثناء مُمارستنا للجنس؛ وذلك لكي يطبعوا نطافنا ببصماتهم؛ ذلك النهوض الذي يُتيح لهم فرصة افتراضية للخلود، عبر استمرارية صفاتهم في نسلنا. فنحن أتينا أصلا عبر نطافهم، ولكنهم في الحقيقة كامنون أيضا في نطافنا، بل وكامنون حتى في سلوكنا ويتحكمون في أدقّ تفاصيل حياتنا عبر جيناتهم الكامنة فينا. وبالتالي، فإنه عندما يستحضر الرجل خُلاصة ماء عناصره، عبر ذلك الكمّ الهائل من النطاف أثناء فعل الجنس، فإن تلك النطاف تصبح دائمة الحركة والسعي بعد إطلاقها، لكي تجتهد في سباق، للظفر بفردوس الحياة المُتمثّل ببويضة مُفترضة بغية تلقيحها. والنطفة التي تستطيع بلوغ هدفها، سوف تضمن نوعا من الاستمرارية لوجودها، عبر المولود القادم، الذي هو مشروع امتداد لحياة مُستمرَّة لامتناهية، أو إنه أشبه بجسر غرائزي، سوف يبقى دائم السعي إلى الامتداد، مشرئبا نحو ضفة الأبدية؛ من خلال التناسل. أما النطاف الأخرى، التي ضلَّت هدفها وخاب سعيها في الاستمرارية عبر حياة جديدة، فسوف تتوه ثمَّ تسقط في هاوية العدم.
وبذلك، فإن رغبتهم في نيل الخلود والاستمرار، هي التي تدفع أنفس أسلافنا في داخلنا، لكي يستنهضوا شهوتنا للتناسل بشكل دوري، ثم لينهضوا بدورهم للاحتفال، عندما نطاوع رغبتهم عبر ممارسة الجنس، ولكي يدلوا بدلوهم في محاولة مصيرية للبقاء؛ بمعنى أنه من المُفترض أن يكونوا هُم من يُولِّد الحنين إلى الجنس في داخلنا، وعندما نمتلأ بحنينا، لا بُدَّ لنا من البوح به إلى الضفة الآخرى من الجسد، في عُمق جسد أنثوي مُفترَض؛ أي إننا نفترض، بأن من يقف وراء "الليبيدو الجنسي" هم أسلافنا وأجدادنا القدماء، الذين هم "علَّة" الدافع الجنسي الذي يتفاعل في داخلنا. أما الجنس الآخر، فهو مُجرَّد "سبب" لهُ، أو أنه مُجرَّد وسيلة فحسب. وبما أن عددهم ليس بالقليل أبدا، فنحن في الحقيقة، لا طاقة لنا على مقاومة جيش لامتناهٍ من أطياف أنفس أسلافنا، ولذلك فنحن نخضع لرغبتهم في بَسْطِ ومَدِّ وجودهم الموازي، عبر فعلنا للجنس، بشكل دوري وقسري رغما عن أنفنا، ولو بعد حين؛ إذ عندما تهبُّ نسائم الأزل، ففي البداية تداعب أبواب وجداننا بِرِقَّة وحنان، ولكن عندما يشتدُّ عصفها، فمن له الاستطاعة على كَبْح حنينه إلى امتداده الأزلي، ومن يقوى على الترفّع أو التعفّف عنه! وهل يتعفّف النهر عن الماء! أم هل يتعفّف الأنف عن الهواء! فكما للجسد، فإن للنفس أنفا وتنفسا وهواء أزليا عليلا؛ حتى لو كان أنف النفس يتموضع بالمقلوب من أنف الجسد.
عندما يرى الرجل مثلا، امرأة فاتنة تتعرَّى، فإننا نفترض بأنه يرى من خلال جسدها أطياف أزليته، فيتوق إلى عناق ذلك الجسد والالتحام فيه؛ لكي ينفذ من خلاله إلى عمق تلك الأزلية. مثلما تتراءى للمرء أطياف مشهد ساحر من خلال نافذة مُوارِبة، فيتوق لأن يقترب منها ويفتحها؛ ليطلّ عبرها على فضاء ذلك المشهد. ويبدو أنه هذا هو حال النساء والرجال؛ إنهم ينظرون إلى بعضهم كنوافذ، يقفزون من خلال بعضهم، من أجل إطلالة خاطفة على فضاء أزليتهم. وبذلك، فإن حُبَّهم لبعضهم، هو ليس بالضرورة حُبَّا بالآخر لذاته، وإنما رغبة به، كوسيلة للعبور من خلاله إلى منتهى رغبتهم؛ فتلك الكأس التي تدور على شفاه العطاشى، ينهلون حلو شرابها من بعضهم، مع انهم ليس لهم من بعضهم غاية سواها. وهذا ما يُذكِّرنا بقول "جبران خليل جبران": "يُعانق المُحبَّان ما بينهما، أكثر مما يُعانق أحدهما الآخر".
ولكن ماذا عن المرأة؟ وما هي ماهية ذلك الشعور المُبهم اللذيذ لديها؟ ما دامت ومضة نشوتها لا تُمطر شيئا من مادة أزليتها، كما يحدث لدى الرجل. في الحقيقة إن الرجل قد يبلغ مُنتهى شهوته بِحَكَّة من نسيم عابر. أما شهوة المرأة، فهي سرٌّ تائه في مغاور سحيقة. وبما أن نشوة المرأة تحكمها مزاجية مُعقَّدة، وغير مُتاحة دائما. فلذلك، وربما حرصا على استمرارية الحياة، فإن إفراز ثمرة نفس المرأة أو بويضتها، غير مُرتبط بنشوتها، وهي ثمرة لا تحتاج إلى تفعيل كما عند الرجل، بل تأتي دوريا من تلقاء نفسها.
ولكن مع ذلك، فإن تلك الثمرة تحمل في الحقيقة خلاصة أزلية نفس المرأة وصفات أسلافها، مثل ثمرة نفس الرجل. ولذلك، فإنه عندما يتم طرح تلك الثمرة في داخلها، تصبح المرأة في ذروة شهوتها. ثم عندما يتم إيجاد متنفس فعلي لتلك الشهوة عبر الجنس، فإننا نفترض بأن المرأة أيضا، تحصل على ذلك الشعور المُبهم اللذيذ من خلال معايشة أزلية نفسها، ولكن من دون أن ترتبط نشوتها بطرح أي ثمرة؛ أي ان المرأة تُرعِد وتُبرق، ولكنها لا تُمطر بإرادتها، بل إن المطر لديها قد يكون سابقا للرعد والبرق ومُحفّزا لهما، على عكس الرجل. وبذلك يُمكننا القول تبعا لهذه الفرضية، بأن مصدر الرغبة واللذّة، واحد لدى الرجل والمرأة، حتى ولو اختلفت الأولويات والنتائج.
إذن، تتعدد الأعراض وعلَّة اللذَّة واحدة؛ فعلى الرغم من أن النفس مُتَّصلة لاشعوريا بأنفس أسلافها، إلَّا أن ذلك الاتصال يبقى مُنفعِلا وغير فاعل، خفيا، خاملا، يتوسل التفعيل. وبذلك تبقى النفس الفردية نفسا جزئية معزولة عمَّا سبقها من أنفس؛ بمعنى التحقق والإحساس والمُعايشة للحياة المُتوارية في أعماقها. وذلك ما يتوق الإنسان لِكَسرِه، عبر إطلالة خارج محدودية نفسه الفردية، إلى فضاء أزلي بلا حدود، وليس هناك من وسيلة مُتاحة لتحقيق ذلك سوى فعل الجنس الذي هو تفعيل للحياة الأزلية في داخلنا واستحضار لرحيقها وجَني لشهدها، حيث يزور المرء أزليته، ومن هناك يقطف كذلك ثمرات الخلود. أوإنه ينهل من حلاوة أزليته، إلى أن يشتعل جرح الفناء من فرط الرغبة بالحياة، فيغرف من تلك الأزلية ثُمَّ ينثرها في وجه الأبد، ليترك نسخة عن أزلية نفسه في نسله. وما مُمَارَسة الجنس، سوى تقاطع نفسين في عمق الأزل؛ إذ إن تشابُك الأجساد العارية هو مقدمة لتقاطع الأنفس، التي تُرعد فتُومض أزليتها، مُبشِّرة بإمكانية إضاءة نفس جديدة.
وعلى الرغم من أن الإنسان يُدرك في أعماقه بأن "الخلود الشخصي" مُجرَّد وهم، ولكنه مع ذلك لا يستطيع أن يتقبَّل الموت كحقيقة؛ فيهيم لاشعوريا، نحو أسباب التناسل لكي يتحايل على الفناء. ولذلك، فإن كل سعي نقوم به، قد يكون دافعه الخفي غالبا: إما الهروب من الفناء، أو التوق الكامن لنشوة وصال الجنس الآخر، ويبدو أننا نلجأ إلى الثاني هربا من الأول، حتى إن الكثير من طقوس حياتنا، بما في ذلك البريئة منها، قد لا تكون سوى مُجرَّد تغليف وتذويق، لتوقنا للقرب من بعضنا، بغية الذهاب معا، للتنقيب في خفايا سراديب الأزل؛ نكاية بالفناء. وبالتالي، فإن التذكير والتأنيث ليسا مجرَّد سبب لاستمرار الحياة، بل إنهما الدافع لها أيضا. ويبدو أننا نسير في طريق قسري، لا نُدرك بكامل وعينا فحوى وجودنا فيه؛ ذلك أن طريق الحياة ليس مرصوفا لنا فحسب، وإنما هو أيضا مرصوف بنا، وينسلّ عبر الفارق ما بيننا كأنثى وذكر، في امتداده نحو اللانهاية.
فنحن العابرون ونحن الطريق، ونحن الحاصدون ونحن الحصاد. وعَبْرنا سوف يمتدُّ طريق كنا قد عبرناه. ولسوف نستمرُّ في الرقص حول تلك النار التي أوقدت في شرايننا منذ الأزل. ولسوف يستمرُّ النحل في لسع أجسادنا، ثم لا نُطلِقه إلى أن يملأ جرارنا بالعسل. وكلما حبلت سماؤنا بالوجد، سوف نتوق إلى من يَحُكّ مكمن البرق فيها، لكي تفتح أبوابها وتُمطرنا بالياسمين. وكلما أينعت كرومنا، لا بُدَّ لنا من قاطف لها، لكي يعصرها ويبعثها خمرا. فإذا هبَّ النبيذ على خيال الكروم وأيقظ شهوتها، تاقت لأن تُفني نفسها لتكونه؛ كفتيل سراج مُطفَأ مسَّهُ لهب، فانتشى وصبا، ليغمد حنينه في نهم النار، توقا لرعشة النور. كرحيق زهرة أغواهُ الحصاد، فأغوى نحلة لكي تعبر به نحو الشهد. فإذا تساررت الأنفس، ثم تكاشفت الأجساد وتوحدت، فثمة خمر عتيق يغلي في العروق، ومنه يندلع اللهب.
ولكن لماذا تترافق مُمَارَسة الجنس أحيانا مع الشعور بالإثم والخزي؟ ولماذا تقترن زيارات الأزل بالخصوصية والتستّر والخجل؟ مع أنها كما أسلفنا، هي الوسيلة الحصرية والشرعية لاستمرار الحياة!
أما عن الشعور بالإثم والخزي؛ فنفترض ان سبب ذلك هو خيبة أمل تشبه الصدمة الناجمة عن سقوط مُفاجئ من مكانٍ عالٍ، كانت قد رفعتنا إليه الشهوة. وذلك ما يحصل غالبا إذا ذهب المرء إلى أزليته وحيدا، بدون رفقة نافذة. أو إذا كانت النافذة ذات إطلالة سيئة. وكذلك إذا اصطدم المرء بنافذة، كان قد اندفع نحوها ولم تُفتَح له. أو إذا أطلَّ من نافذة مُحرَّم عليه الإطلال منها؛ مع أن ذلك التحريم يبقى نسبيا، وغالبا ما ترسم حدوده التربية الأسرية وثقافة الجماعة التي ينتمي إليها الفرد. ولكن مع ذلك، يبقى "التابو الجنسي" راسخا في جميع الثقافات، ولو ضمن هوامش متفاوتة.
وأما عن الخصوصية والتستر والخجل؛ فنفترض أن السبب وراء ذلك، أن العملية الجنسية هي أشبه بمكاشفة مع الآخر حتى الهتك النهائي. ولكن ذلك يتطلب منا التعرّي؛ ليس فقط من ثيابنا، وانما كذلك من "الأنا العليا" أو من أقنعتنا التي نتقنَّع بها أمام البشر؛ أي إنها تُجبرنا على خلع قناع إنسانيتنا، أو إزاحته ولو قليلا، لكي يتسنَّى للوحش المُحاصَر في داخلنا لأن ينطلق ويتنفس بحُرِّية وفطرية ولامبالاة، وإلا فلن يكون هناك لذَّة حقيقية، وهذا ما نخجل من أن يراه فينا الآخرون. وفي الحقيقة، حتى عندما تكون العلاقة الجنسية سويَّة وشرعية تماما، تبعا للمرجعية الدينية والأخلاقية والإجتماعية، ولكن مع هذا، لا بد من التحلّل ولو نسبيا، من عبء الموروث الأخلاقي المُكتسَب، ومما تراكم في داخلنا من عناصر دخيلة؛ بغية إطلاق الغرائزي الأصيل، الذي قيَّدته الإنسانية فينا. أو لا بُدَّ من الدخول في "إجازة شرعية" إلى الساحة الخلفية للأخلاق، حيث يتحرر المرء هناك من الكثير، مما اعتاد أن يلتزم به علانية أمام الجماعة من أدب ولباقة وتهذيب؛ وذلك أثناء ممارسته لأخطر وأغرب الغرائز فيه؛ ففعل الجنس أصلا (بما هو كمُمارسة وفعل) يتنافى مع السلوك الإنساني المألوف، ولذلك فإنه فمن المُستهجَن والمُستقبَح، بل ومن الممنوع مُمارسته في العلن، أو في فضاء عمومي مفتوح، تبعا لقوانين أية جماعة، مهما تحضَّرت أو تحرَّرت. ومهما اجتهد البشر في وضع القيود والحدود والمُقدّمات والحواشي لممارسة تلك الغريزة، ومهما أحاطوها باللباقة والتنميق، إلا أنها تبقى نوعا من الحنين إلى الحيوان القديم وغير المُدَجَّن فينا، وذلك على الرغم مما قد يُمهِّد لتلك الغريزة أو يتداخل معها، من إحاسيس نبيلة ووجدانيات راقية ومشاعر إنسانية سامية، والتي تُميّز فضاءها بلا شك، وبشكل جوهري، عن الغريزة الحيوانية البحتة. ومما يمنحها طابع مُقايضة وجدانية، هي من أعدل وأجمل ما يُمكن مُقايضته بين إنسانين؛ تلك المقايضة التي تثقب الروح وتسكُب في الثقب بلسما، يتعافى معه كلُّ ما في الوجود من أشياء إلى حين.
ثمة سؤال آخر يُعتبر مدعاة للعجب والتأمل؛ فكيف للمتعة أن تتجلَّى أحيانا على هيئة ألم؟ ذلك أن مُمَارَسة الجنس قد يرافقها أصوات وآهات، هي أقرب إلى الأنين والنحيب، أو حتى الصراخ والعويل أحيانا. فكيف للمرء أن يتألم من فرط اللذَّة والسرور!
في الحقيقة، يُمكننا أن نُشبِّه ظاهرة النشوة بموت صغير معكوس؛ فالإنسان يتألَّم عندما تداهمه أسباب الموت، ولكنه يتألَّم أيضا عندما تداهمه أسباب الحياة بسخاء أكثر مما يحتمل. ذلك أن النشوة الجنسية تؤجّج في أعماقنا بركانا من الحياة كان خامدا، عمقه هو عمق ما نستطيع بلوغه من أزليتنا، وذلك ما يُحطِّم لوهلة حدود أنفسنا الفردية وينثرها فجأة في فضاء من الأزل.
إنها سَكرة الحياة المُتماهية عكسيا مع سَكرة الموت؛ ذلك أن الحياة والموت هما أشبه بعجلتين لعَرَبَة واحدة، يسيران بالتوافق والتوازي على سكَّة وجودنا. وكلَّما دارت عجلة الحياة، اقتربنا من الفناء؛ وذلك لأنها مُرغَمة لأن تدور بالتوافق مع عجلة الموت، بفعل عامل الزمن. أما أثناء مُمارسة الجنس، فهما يدوران باتجاهين مُتعاكسين؛ حيث تحاول عجلة الحياة في تلك اللحظات ان تُعاند الفناء، فتدور في الاتجاه المعاكس لدوران عجلة الموت. وذلك يتطلب بأن يمتلك المرء نوعا من الطاقة والحيوية، لا بُدَّ من هدرهما.
وعلى الرغم من أن عجلة الموت هي التي ستُقرِّر وجهة العَرَبَة في النهاية، إلا أنه في تلك اللحظات القليلة تنتصر عجلة الحياة؛ فتنخطف عَرَبة وجودنا فجأة إلى الوراء، لتعود بنا لوهلة، إلى بدايات سكَّة الحياة، في سفر فُجائي غريب وبعيد. ولكن بعد أن تنتشي العَرَبة بالنهل من ينابيع الحياة الأولى، لا يلبث أن يُعيدها الصحو إلى مكانها، الذي كانت عليه قبل النشوة، ثُمَّ لتُعاود السير من جديد على سكَّة وجودنا نحو الفناء؛ تلك السكَّة التي ستنتهي على أي حال عند تخوم الموت.
ختاما، وكامتداد لنظريتنا الافتراضية حول ماهية النشوة الجنسية، ثمة سؤال يطرح إجابة افتراضية كذلك؛ أفلا يمكننا القول، بأن ثمة عوامل قد تؤدي إلى ملامسة أزلية الحياة في أنفسنا، مما يُسبب بدوره رغبة جامحة للجنس، من دون أن يكون لتلك العوامل علاقة مباشرة بالجنس، ولكنها قد تؤدي مع ذلك إلى إثارة جنسية مُفاجئة وغريبة أحيانا؟ كما يحدث عند نشوة الإنسان بشرب الخمر مثلا. أفلا يمكن أن تكون تلك النشوة الناتجة عن الخمر، معلولة لدغدغة أزلية الحياة في داخلنا، عبر استنهاض الحياة النائمة فينا، أو عبر مُمَاحكة أطياف أسلافنا وإيقاظهم في داخلنا، ليستنهضوا بالتوازي، رغبتنا في النشوة الجنسية، المتشابهة افتراضيا، في ماهيتها وعلّتها مع نشوة الخمر، ولو بشكل نسبي؟ فمن المنتشي في كلا النشوتين: نحن، أم من يتوارى في عروقنا من أسلافنا؟ ولكن هل نحن حقا، شيء آخر سواهم؟
[1]- هذا البحث مُستوحى؛ بفحواه وباقتباسات لبعض نصوصه، من رواية "فلسفية" لكاتبهِ، بعنوان "الحجُّ إلى الحياة".
[2]- بيير داكو، "الانتصارات المذهلة لعلم النفس الحديث"، ترجمة: وجيه أسعد، مؤسسة الرسالة، دمشق، الطبعة الثانية، ص 575
[3]- يقول سيغموند فرويد في كتابه "الطوطم والتابو": "يتبين للمرء لدى التحليل الدوافعي للعصابات، أن القوى الدوافعية ذات المنشأ الجنسي، تُمارس تأثيرا حاسما فيها" ص 96. كما يرى في "عُقدة أوديب" - ذات الدافع الجنسي أصلا - بأنها "العُقدة النواة لعموم العصابات" ص 155. أو "نواة جميع العصابات" ص 184/ سيغموند فرويد، "الطوطم والتابو"، ترجمهُ عن الألمانية: بوعلي ياسين، دار الحوار للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1983، سوريا، اللاذقية.
[4]- جيرالد هوتر، "الرجل والمرأة أيهما الجنس الأضعف؟ الفروق الفيسيولوجية والنفسية والتربوية" ترجمة: د. عُلا عادل، العربي للنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى 2011، ص 172، حيث يتطرق الكاتب لشرح الآلية الڤيزيولوجية لحدوث الشهوة الجنسية.
[5]- كارل غوستاڤ يونغ، "التنقيب في أغوار النفس"، ترجمة: نهاد خياطة، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى 1996، ص 47
[6]- سيغموند فرويد، "علم نفس الجماهير"، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى 2006. أنظر مقدمة المُترجم الصفحة 5 والصفحة 18، وكذلك اقتباس "فرويد" لكلام "غوستاڤ لوبون" حول مفهوم "علم نفس الجماهير" في الصفحة 27. تمَّ النقل بتصرُّف.
[7]- المصدر نفسه، الصفحة 28 والصفحة 108 بتصرُّف.
[8]- سيغموند فرويد، "الطوطم والتابو"، مصدر سابق، ص 185بتصرُّف.
[9]- كارل غوستاڤ يونغ، "التنقيب في أغوار النفس"، مصدر سابق، ص 81 بتصرُّف.
[10]- كارل غوستاڤ يونغ، "البنية النفسية عند الإنسان"، ترجمة نهاد خياطة، دار الحوار للنشر والتوزيع، سوريا، اللاذقية، الطبعة الأولى 1994. فصل "مفهوم الخافية الجامعة أو اللاشعور الجمعي" ص 75-87
[11]- أنظر مثلا، كتاب سيغموند فرويد، "الطوطم والتابو"، مصدر سابق، ص 89. أنظر كذلك كتاب "الإنتصارات المذهلة لعلم النفس الحديث"، مصدر سابق، حاشية الصفحة 184
[12]- أنظر مثلا كتاب "الانتصارات المُذهلة لعلم النفس الحديث"، مصدر سابق، ص 316 حول دور "التأسُّل" في تثبيت الشعور بالدونية لدى النساء مثلا.
[13]- أنظر مثلا كتاب "البنية النفسية عند الإنسان"، مصدر سابق، ص 70-73 وكذلك ص 85-86
[14]- نتائج تحليل الحمض النووي، تُعيد الأطفال الشقر إلى العائلات الغجرية، كما يظهر في الرابطين أدناه:
Mystery girl Maria's parents found in Bulgaria by DNA / bbc news
غجر الرومان في عين العاصفة.. بعد قضية الطفلة الشقراء في اليونان/ جريدة الشرق الأوسط.
[15]- باستعمالنا لمُصطلح "الأزل" لا يعني بالضرورة أننا ننفي وجود نقطة بداية للحياة، وإنما هو مُجرَّد إشارة، إلى أن بدء الحياة يمتدُّ إلى أزمان سحيقة، كما يرد في الحاشية التالية.
[16]- "يعتقد العلم الحديث أن الحياة بدأت على الأرض قبل ثلاثة أو أربعة بلايين عام، وجميع أنواع الحياة على الأرض لها العمر نفسه تماما؛ فيمكن القول أن فيلا، أو إنسانا، هو في الحقيقة مستعمرة ملتحمة من كائنات وحيدة الخلية، لأن كل خلية في جسمنا تحمل المادة الوراثية نفسها. فالصيغة الكاملة لما نحن، تختبئ في كل خلية صغيرة" / نقلا عن: جوستاين غاردر. "عالم صوفي" (رواية حول تاريخ الفلسفة) ترجمة: حياة الحويك عطية، دار المنى، استوكهولم 2012، ص 445-446.
[17]- سيغموند فرويد، "ما فوق مبدأ اللذة"، ترجمة: د. إسحق رمزي، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الخامسة 1996، ص 97