فوكو والحداثة الفلسفية
فئة : مقالات
يعطي ميشيل فوكو كبير أهمية لنص كانط "ما هي الأنوار؟"، فإضافة إلى أنه تحدث عنه أكثر من مرة، فإنه يعتبره نصّا فريدا من نوعه اعتبارا بأنه النصّ الفلسفيّ الذي تُطرح فيه مسألة الحاضر لأول مرة: ما الذي يحدث الآن؟ ما هو هذا الآن الذي يحدد اللحظة التي أكتب فيها؟ هذا، في نظر فوكو، سؤال لم يتقدم في تاريخ الفلسفة.
صحيح أن الإحالات إلى الحاضر، إلى الراهن والوضع التاريخي، وإلى الملابسات التي يمكن أن تكون لها أهميتها بالنسبة للتفكير الفلسفي، ليست بالأمر الجديد في تاريخ الفلسفة. فالمعروف أن ديكارت يروي في القسم الأول من "مقاله في المنهج"، مساره والقرارات التي اتخذها سواء فيما يخصه هو، أو ما يخص الفلسفة ذاتها، آخذاً بعين الاعتبار الوضعية التاريخية، المعرفية والعلمية التي تميّز حاضره. إلا أننا لن نعثر عند ديكارت على مثل السؤال الذي يجيب عنه كانط، والذي يخص الحاضر الذي ينتمي إليه. فديكارت، الذي كان يعد أباً للفلسفة الحديثة، يقتصر في رجوعه إلى حاضره التاريخي، على البحث عما من شأنه أن يحدّد جوابه عن هذا السؤال أو ذاك، ولم يكن معنيا بالسؤال: ما الذي، في هذا الحاضر، يتخذ دلالته بالنسبة لفكر فلسفي حق.
لعل من المفيد أن نذكّر هنا بأمرين اثنين:
أولهما أن الجواب ظهر سنة 1784 على صفحات "مجلة برلين"، وهذا الأمر لا يخلو من دلالة. ففضلا على أن نزول النص الفلسفي إلى الصحف والمجلات لم يكن أمراً وارداً، فإن طرح المسألة بهذا الشكل يدل على راهنيتها، أو لنقل إنها من القضايا التي كانت "تفرض ذاتها".
ما يؤكد ذلك، وهذا هو الأمر الثاني، هو أن كانط ليس هو من طرح هذا السؤال، وإنما هو سؤال ظهر في هامش مقال كتبه راهب بروتستانتي في عدد شهر دجنبر من سنة 1783 من المجلة نفسها، وكان مندلسون قد سبقه في الشهر السابق إلى الإجابة عنه.
رغم أن نصّ كانط نُشر ضمن كتاب يحمل عنوان "فلسفة التاريخ"، إلا أن فوكو لم يكن يعتبر أن هذا النص يجيب، على غرار النصوص الأخرى التي نشرت معه، على السؤال: إلى أين نتجه، وما دور الأنوار في تحديد المستقبل؟ وما طبيعة هذا المستقبل؟ هل هو رقي وتقدم واتجاه إلى الأحسن، أم هو انحدار وتقهقر؟. إن نص كانط ليس تحليلا للحظة تاريخية، باعتبارها لحظة من لحظات صيرورة تاريخية عامة، وهو لا ينخرط ضمن تفكير تاريخي غائي، إنه، بالأولى، جواب عن السؤال: ما هي الأنوار بالنسبة لنا نحن الذين نعيش هذا الحاضر؟ ما هي الأنوار من حيث هي حاضرنا، وليس بما سيترتب عنها فيما بعد. فهذا النص لا يدخل ضمن "فلسفة التاريخ"، وإنما يؤسس لمبحث جديد هو "أنطلوجيا الحاضر"، أو لنقل إنه يوجه البحث الفلسفي نحو مسار جديد، مسار آخر، مسار الحداثة.
إن تحديد الأنوار على أنها " خروج الإنسان من القصور الذي يرجع إليه هو ذاته، والذي يمثل في عدم قدرة المرء على استخدام فهمه دون قيادة الغير"، تحديد الأنوار على أنها خروج عن الوصاية، وإقرار بأتونوميا الإنسان واستقلاله الذاتي، لهو تأكيد بأن الإنسان أصبح ذاتاً مستقلة، وإقرار بميلاد الإنسان بالنسبة لذاته، ميلاد الإنسان كذات فاعلة.
لا يتعلق الأمر إذن بتحليل الحاضر في علاقته بالماضي والمستقبل، ولا يتم النظر إلى الأنوار هنا بما هي حركة تاريخية، وإنما بما هي شكل جديد لتحديد علاقة الإنسان بالزمان، وعلاقته بذاته، وبما هي ميلاد "للحداثة الفلسفية".