في إخضاع العنف للنسق الفلسفي التحليليّ
فئة : مقالات
في إخضاع العنف للنسق الفلسفي التحليليّ([1])
إنَّ بحثاً يأخذ على عاتقه مهمّة التنقيب عن صورة ونسق للعنف لا يمكن أن يتجزّأ في منهجه، إلّا في حال أراد أن يفرد نفسه في تتبع ظاهرة اجتماعيّة سياسيّة، وأن يتحدّث عنها بظروفها وواقعها وتنظيرها، وهذا ما لا نرمي إليه في بحثنا هذا، حيث يلزمنا تحديد نقاط انطلاق مفهوميّة نحو البحث في ظاهرة العنف، وأكثر ما سيكون ذلك في المجال المعرفي العقلي، الذي يمكن أن يعطي للظاهرة شرعيتها، أو أن يسلبها منها، بدءاً من الفكرة، وانطلاقاً إلى الظواهر العديدة والمترامية فوق سطح العالم، وقد لا يبدأ العنف نفسه من الفكرة، بل من سياقات الانفعالات البشريّة الغريزيّة، إلّا أنَّ ما يعنينا في هذه الدراسة هو العنف الخارج من النّسق، المنعجن مع المفاهيم.
ولذلك؛ لا بدَّ أن ننظر في نظريّة الأنساق المعرفيّة، التي عدّها هيجل شرطاً أساسيّاً لقيام معرفيّ، واختبار الكوليانيّة، من ناحية تمامها كظاهرة مستقلة، مؤسّسة لظاهرة العنف.
وطبعاً، لا يمكننا إغفال الهُويّة كعامل اجتماعي أساسي، وكمبرر مستمرّ بذاته، غير مضبوط وغير ضابط بكلّ ما يمكن أن يدخل في نطاقه؛ لاستحالة أن يخضع لمنهج أو لنمط أو لاعتبار سياسي، ولكونه شاملاً لكافة الأماكن والأزمان.
وتكمن أهميّة البحث في تتبّع الظاهرة العنفيَّة كشيء يمكن إخضاعه للنسق الفلسفي، قبل إخضاعه للمجالات السياسيّة العديدة؛ وذلك لأنَّ منهجة الظاهرة وفلسفتها، من الممكن أن تشكّلا درعاً واقية أكثر من ترك الأمر منوطاً بالمصلحة السياسيّة، أو خاضعاً لتقدير الشعوب والجماهير المرتكزة بدورها على الهُويّة، أو الانفعالات التاريخيّة غير الواعية لمستقبل الفكرة والحدث، ممّا يمكن أن يشمل ظواهر عنف عديدة، غير مختصّة بزمان ومكان معيّنين.
تكمن أهميّة البحث في تتبّع الظاهرة العنفيَّة كشيء يمكن إخضاعه للنسق الفلسفي، قبل إخضاعه للمجالات السياسيّة العديدة
العنف والفلسفة
إنَّ العنف، بوصفه حدثاً إنسانيّاً بحتاً، ينقل معياريته من الإنسان وإليه، ولا يتجاوز بذاته أكثر من تباين واضح بين سمة الأشخاص يتمحور في القوّة، فألف التاريخ أنماطاً منها، حتى صارت جوهراً للتاريخ غير المألوف أيضاً، فلم تأخذ هذه العلاقة شكل واعتبارات الغاب، بل تعدّدت لتشمل التقسيم الأعلى والأدنى للإنسان، تبعاً لمعايير اقتصاديّة وسياسيّة، وظلّ التقسيم حادثاً رغم كلّ المحاولات المضنية من المعرفيين والفلسفيين والتنظيريين لرفع الغاية الإنسانيّة الضيّقة لمصلحة الغاية الواسعة، والإنسان الذاتي إلى الإنسان الكليّ الإقليميّ، ثمّ الإنسان الكليّ الكونيّ، ضمن اعتباريّة انتقاليّة تضمن الحق الإنسانيّ العظيم، رغم نسبيّة المفهوم، وتشتته ضمن هويّات وحالات خاصّة وضمن أحداث مزلزلة كالحروب والويلات والمجاعات.
ويلاحظ أنَّ ثمّة توازياً واضحاً بين محاولات الفلاسفة والتنظيريين وبين الواقع الذي يشكّل الحدث التاريخي، والذي يشكّله العنف بوصفه ضرورة للتأريخ الأممي القومي الذي تحتضنه الاتجاهات السياسيّة المذهبيّة والطارئة، والذي تناهى عن سلطة شعرت بالخطر على نفسها بحسب تعبير حنة أرندت، فقد أشارت إلى أنَّ السلطة المطلقة تنفي العنف إذ تأمن قيامها، فينفي بدوره وجود سلطة مطلقة متحكّمة قائمة بذاتها وعلى ذاتها داخل المجال التفعيلي لها، ممّا لا يجتمع بينهما، وإقرار أرندت بهذا التباين يشير بقوّة إلى مفارقة بين الشرعيّة في كلتا الحالتين، والتي تشكل نقطة حديث وتأمّل في العنف كقرار نابع من السلطة القلقة، بالرّغم من الإقرار بكونه حالة إنسانيّة أصيلة[2].
إلّا أنَّ اختزال العنف بالشكل المألوف له، وهو الحرب والأذى الجسدي، الذي يمكن أن تمارسه السلطة في حال هدّدتها فئة من الناس، قد يفضي بنا إلى التسليم بسلميّة فاعليتها خلال وجودها الشرعي، ومعارضة لذلك، نشير إلى أنَّ سيادة أنظمة معيّنة بشرعيّة معيّنة، قد لا تلتقي بصورها جميعاً، فالدّول التي نظّمت شرعيتها بعيداً عن شخوص السلطة المؤقتين، قد يتباين مفهوم الخطر لديها عن دول تكون فيها سلطة الفرد مطلقة، والتي تختلف عن سلطة الدولة المنظّمة ذاتها في السياق القانوني الشرعي، فلدى الأخيرة قد نصطدم بمفهوم للعنف يكون منظماً ومشرعاً تجاه الآخر خارج الإقليم، أمّا في الحالة الأولى، فيبدأ العنف لحظة يبدأ أصحاب السلطة بالتخطيط لأمد طويل، وأوّل ما يبدأ داخل الدولة نفسها، فنجد أنَّ السعي كلّ السعي لتشكّل الشخوص لنفسها مناعةً من المحكوم، فتكمّم كلّ ما يمكن أن يهدّد وجودها قبل أن يفعل، فنجد أنَّ القيود العنيفة قد تدخل في كلّ مجالات التنمية والحياة الداخلية، مثل: التعليم، والاقتصاد، والعمل، والصحافة والإعلام. ولقياس مستوى العنف الذي ترتكبه هذه الأنظمة التي لا تفصل نفسها عن التشريع وآثاره الفعليّة على الحالة الداخليّة للدولة، يلزم أن نفعّل المعايير النظريّة اللازمة لذلك، وهو ليس غرض البحث، إلّا أنَّ هذا تأكيد على أنَّ العنف قد لا يتجلّى في استخدام السلاح فقط، وأنَّ بدأه قد لا يشترط تهديد السلطة المطلقة، بل درء احتماله يحتاج إلى تسخير كلّ الممكنات لحمايتها وتحصينها، على حساب نجوعها وفائدتها في تحقيق الأفضل، فهو، إضافة إلى ما قالته أرندت، يبدأ حين يكون وجود السلطة غير منطقيّ، وتتجلّى آثاره في كلّ مناحي الدولة الداخليّة، وتتمثل غالباً في الفقر، والجهل، والبطالة، وفي تنفذ رأس المال، والعنف المجتمعي، وانتشار الجريمة، وغياب الديمقراطيّة وحريّة الرأي، وصعوبة الممارسة السياسيّة، وغيرها من المظاهر المعقدة في الدول المعنيّة.
ولأنَّ للسلطة أشكالاً، ومقدّمات تاريخيّة ذات خصوصيّة لا يمكن أن تعمّم، ولأنَّ التنظير حول تطرّفها يأتي دائماً من البيئة نفسها على مدار الأزمان، يجب أن نبحث في احتمال فاعليته في العنف الممارس من قبل السلطات، والمحتمي بشرعيتها، علماً بأنَّ العنف ظاهرة واسعة وشاملة ومظاهرها كبيرة، لكن يشترك الإنسان بكونه المحرّك لها، ولذلك؛ يجب أن نميز بين العنف الناجم عن العقل، في مقابل العنف الناجم عن الغريزة، وقد لا يستقيم التفريق بينهما إلّا بعد توضيحه، فمجال عنف الغريزة يكون لحظيّاً أكثر، ويميل إلى العشوائيّة، وبالرّغم من ذلك نجد دوافعه معروفة لدينا ومألوفة، مثل حبّ المال، أو الرغبة في الشعور بالقوّة، أو فرض السلطة، وقد تمثل ذلك بالصعاليك، وقطّاع الطرق، والجماعات المستعدّة لفعل أبشع مظاهر العنف، مقابل غنائم واضحة، وينتشر هذا النوع من العصابات والميليشات حول العالم بالتساوي، ويمارس عنفه تحت مدار السلطتين، السلطة المطلقة والمؤقتة، رغم الفارق بينهما. أمّا العنف الناجم عن العقل، فهو علم النظريّة المؤسّس للعنف، وكلّ ما يمكن أن يقدّم بوصفه فكراً وتنويراً مكتوباً، على اختلاف سياق المكتوب، وتجنيسه عند الطرح، أو حتى تجنيسه عند التلقي.
تبعاً لذلك، تجدر بنا الإشارة إلى أنَّ تلقي العنف المكتوب تاريخيّاً وفلسفيّاً، يختلف باختلاف مدوّنه، فهناك المدوّن الناقل المبجل للسلطة، المتعاضد مع معانيها وغاياتها، فيستخدم ملكة عقله في توطيد أفكارها وتنسيقها وتأريخ شرعيّتها قبل أحداثها، أمّا المدون الناقد المغاير الذي يحاكم الأحداث بملكة تفكيره، فإنَّه ينظّر في سبيل رفع القيمة الإنسانيّة مستنداً إلى التجربة التاريخيّة للسلطة، وهذا التفصيل يمكن أن نقيمه على كلّ ما هو مكتوب موازاةً مع تأريخ الأحداث التاريخيّة ووقائع الشعوب، فلم تعلُ أمم على أخرى إلّا بالسلاح، ولم يتغيّر مستقبل الكثير من القوميّات إلّا بفعل العنف، مجانبة مع أحداث التنظير التي نقلتها الكتب، فالمؤرخ والكاتب كان ينقل حدثاً حربيّاً، مثلما كان ينقل نظريّات كاتب أو فيلسوف أو رجل علم، أو داعية، أو نبي، ولم تكن هذه المجانبة والموازاة محض تخلٍّ عن أثر الفكرة أو النظريّة بالحدث السياسي، مع الاعتراف الكامل من هذا الواقع التاريخي بأنَّ النظريّة المعرفيّة الفلسفيّة لم تفرض نفسها على الواقع الذي كان يشرع في تشكيل نفسه سياسياً واقتصادياً رغم كلّ المشاحنات والمضاربات بينهما، حيث قامت على التحليل والنظر والكتابة ونشر علمها وكنهها دون أن تسعى لامتلاك السلطة المحضة التي تجعلها ترسل أفكارها إلى العامّة، ومن هنا، برزت العلاقة بين هذين القطبين كعلاقة مجاذبة ومنافرة دون أن يتقاطعا تقاطعاً تامّاً يجعل أيّاً منهما جزءاً لا يتجزّأ من الآخر.
أمّا ما يمكن أن يكون معرض حديثنا وغايتنا، فهو حقيقة أنَّ الفلسفة وعلم النظريّة أشمل من السلطة، إذ من الممكن أن يضعا لها الأسس، ويقيما لها الحدود، ويمنحاها التشريع المستمدّ من الاعتبارات الإنسانيّة، وهذا لا يعني أنَّ السلطة بوصفها متشكّلة بين أيدي مجموعة من الناس لا تستطيع التنظير لنفسها بما يضمن حقوق المنتفعين بها ولها، وقد تشوب هذا التنظير المصالح منطلقة من الإقليميّة والهويّاتيّة، ومحاولات تشريع الوجود الفعلي للسلطة بأنواعها في الدول حاليّاً، والقرارات الداخليّة والخارجيّة التي تتخذها، ممّا يؤكد على ضرورة وجود تدوين نسقي يتخذ طابعاً معرفيّاً يؤسّس لحماية الإنسان انطلاقاً من العقل، ثمّ إلى التشريع، وبطبيعة الحال، لن يتأسّس هذا إلّا من خلال التنظير فلسفيّاً لما يمكن أن ينطلق منه اعتبار الإنسانيّة عقليّاً، بالانفصال عن الغايات السياسيّة العظمى والمسيطرة على السيرة السياسيّة الحاليّة، ودون أن ترتكز على تأويل الحالة المأخوذة عن ردود الأفعال وتنظيرها وتبريرها وفهمها، مع أهميّة هذه الخطوات التي لم تكن كافية لمجابهة هذه الظاهرة الناجمة عن عدم تهذيب أصالة العنف في الإنسان ممنهجاً كان أم غريزيّاً.
وبناءً على ما سبق، حاول هذا البحث تسليط الضوء على إمكانيّة الحؤول دون توغل العنف السياسي أو ما يُسمّى بأيدولوجيّة العنف، التي تُعدّ "تقليباً آخر للأيدولوجيا بعد انهيار نظام القطبيّة الثنائيّة نتيجة صدمة المفاجأة وخيلاء القوّة المنتصرة واختلال التوازن بين القوى العالميّة، وتقوُّض كلّ الثوابت السياسيّة والقيميّة تقريباً، كأنْ ينهار عالم ليظهر على أنقاضه عالم جديد هو الآن بصدد التكوّن، وقد ينهار وهو ما يزال في بدء تشكّله، إن لم تؤسّسه فكرة ولم يخطط له فيلسوف، مثل العوالم السابقة، كأفلاطون، والفارابي، وابن رشد، وكانط، وهيجل"[3]، بوساطة أدوات الفكر، وباتخاذ المنهج سبيلاً لذلك، ولإحقاق هذا التأسيس، يجدر بنا البحث في إمكانيّة وضع نسق تنظيري متكامل تتحقق فيه أركان جديدة، يكون البناء بعد الهدم فيه ناجعاً، من خلال التقارب مع فلسفات متكاملة. وذلك لأنَّ الاستقلال في محاكمة قضيّة يمكن أن تقوّض تحت جناح الخطابات الأيديولوجيّة، مثل العنف، يجعلها في إطار الحديث عن كلّ قيمي وراديكاليّ بالضرورة، يوجّه نفسه لنجدة الإنسان وخلاصه من كلّ ما يلمّ به، فاللافت في كلّ تلك الخطابات التي مارست العنف كجزء لا يتجزّأ من سرّ نجوعها كالأديان والأيدولوجيّات الثوريّة كالماركسيّة، أنَّها حملت قيمة مزدوجة بين حمايته وإيذائه، وهذا يختلف تماماً عن أنظمة الدول التي تستند إلى قوانينها ودساتيرها، فسياق العنف يختلف لديها باختلاف نوع خطابها وضرورتها والمرسل إليه، فهي تملك السلطة، ثمّ ترسل الخطاب، أمّا الأيدولوجيّات، فهي تشكّل الخطاب ثمّ تسعى إلى السلطة من خلال أهداف تبدو مقنعة، وجوهر يمسّ إشكاليّات الإنسان، وهذا ما يجعلنا نعيد النظر في استخدامها لجزئيّة العنف، مع محاولة البحث في استقلاليّة هذه القضيّة، وتتبعها بعيداً عن سياقاتها الفكريّة، ثمّ وضع المقدّمات المنهجيّة التي تفيد في تقنين تشكّل أيديولوجيّة جديدة ذات صيغة معرفيّة تحليليّة تشرّع العنف، حتى لو كانت تمنح نفسها قداسة ما، وحتى ما سبق أن ظهر وتشكّل، فهو ليس ببعيد عن إعادة تلقٍ وتقييم وبحث في موضع الإنسان، والقيمة التي تستند إليها هذه الخطابات في تشكيل موقفها منه، سواء أكان موافقاً لمضمونها قابلاً ومحققاً ومعتنقاً لها، أم موازياً لها دون اعتناق، أم مجابهاً مناهضاً، ولإحقاق تلك القاعدة المنهجيّة التي من شأنها أن تلعب دور المقيّم لشرعيّة الخطابات الفكريّة، يجب أن نشكّل منهجاً مجابهاً يستند بدوره إلى مقدّمات العقل، بالمقاربة مع المناهج الفلسفيّة التامّة، التي ننتقي منها النسق الهيجلي.
إنَّ النسق، كما جاء به هيجل والمثاليّة الألمانيّة، سبيل إلى تقنين أيّ بحث في أيَّة ظاهرة في العالم الموضوعي، شريطة الالتزام بمعاييره الإبستمولوجيّة
أ- العنف والنسق الهيجلي:
عندما آثر هيجل أن تكون الفلسفة نسقاً يحقق من نفسه نتاجاً علميّاً وليس مجرّد حديث متذبذب[4]، فإنَّه سعى بذلك إلى بناء نسق فلسفي أيديولوجي يؤسّس إلى إعادة قراءة للفلسفة، أي الشكل المنهجي من المعرفة، بوساطة التمييز بين نوعين من الأنساق الفلسفيّة، وهما: نسق فلسفي كلّي، ينطبق على تاريخ الفلسفة بكاملها، وأنساق فلسفيّة خاصة بالفلسفة [5]، ممّا يمكّن تكوين قاعدة تنظيريّة للبحث فيما يمكن البحث فيه لغاية التفكر والتأمّل، فهي وعاء يحتضن عمليّة التفكير رغم صرامتها التي تتضح من تعريفها بأنَّها تقوم على فروض أو مسلّمات عقليّة يسوغها العقل الفلسفي ويثبتها داخل النسق، فهي مسلّمات فرديّة خاصّة بالفيلسوف وقابلة للدحض"[6]، ممّا يمنحها ما يبرّر وجودها وهيمنتها على النقد لقوّة تعقل ذاتها بجميع أركانها بدايةً، ثمّ امتلاك القدرة على إنتاج نقد ممنهج نابع من رؤية كاملة الأركان، في أيّ علم أو مجال معرفي إبستمولوجي، وهو على الرغم من ذلك لا يتضمّن "الكلّ المنظم"، بل يتضمّن تالياً أو نتيجة؛ لأنَّه عمل فكري واعٍ ومقصود، وبهذا المعنى يتميّز النسق عن المذهب[7] الذي يمكن أن يشكّل بيئة خصبة للعنف، وذلك لكونه يقوم على التسليم الجازم لمبادئه وفروضه، ويقوم على مسلّمات وأفكار بوصفها صادقة دوماً، ويجب اعتناقها على مبدأ الاعتقاد والتسليم، من غير إخضاعها للنقد والتحليل، بوصفها مبادئ وأصولاً كليّة وغير قابلة للدحض"[8]. فيثار الخطاب فيها لضمان ذاته عالياً في الواقع وممتدّاً عبر التاريخ متجاوزاً لكُنْهِ الرفعة الإنسانيّة، مع الاحتفاظ بالذات المؤمنة والمصدّقة لكلّ ما يحمله هذا الخطاب دون تجزئة أو تفكّر أو رفض أو نقض ونقد.
إنَّ النسق لا يكون مطواعاً للأنسنة أكثر من المذهب فقط، بل إنَّه قد تضمّن تفكر هذا الإنسان بتشريعه ما يحفظ له شموليّة جوهره، دونما تفصيل أو تقنين عنصري يفرض صورة الآخر، كأشخاص يوجّه إليهم العنف، ونعني بالآخر هنا من لا يعتنق هذا الخطاب أساساً له، ممّا يجعله عدوّاً تصيغ نحوه هذه الأيديولوجيّات المواقف المتعّددة.
ويشار إلى أنَّ النسق، كما أتت المثاليّة الألمانيّة عامّةً وهيجل خاصّةً، يأخذ على عاتقه أن يجعل المتعيّن في مقابل الذات المتعالية والوجود المطلق؛ أي الخروج عن الذات في مقابل ما هو كونيّ وإنسانيّ[9].
ولا تأخذ النسقيّة في ذاتها صحّة مطلقة لجوهرها وعلّتها، بل هي أكثر من ذلك دليل إلى الفكر، دون التسليم بصحّة جوهرها، وصواب علّاتها، وشموليّة عناصرها، بل ترجع إلى تكوين جدران منهجيّة عقليّة صارمة للبحث عمّا هو داخل نطاق العالم الموضوعي، وهذا ما لا يتيح تحجّرها، ويحفظ غايات فلسفيّة دون أخرى، ويحميها من الشموليّة[10].
نخلص ممّا سبق إلى أنَّ النسق، كما جاء به هيجل والمثاليّة الألمانيّة، سبيل إلى تقنين أيّ بحث في أيَّة ظاهرة في العالم الموضوعي، شريطة الالتزام بمعاييره الإبستمولوجيّة، فهو "مجموعة من الآراء والنظريّات الفلسفيّة ارتبطت ببعضها بعضاً ارتباطاً منطقيّاً حتى صارت ذات وحدة عضويّة منسقة ومتماسكة، وهو أعمّ من النظريّة"[11]. ممّا يمكن أن يحمل النسق الفكري المجابه للعنف مجموعة من الآراء المختلفة، لكنَّها تصبّ في قاعدة متماسكة وثيمة مشتركة، ألا وهي الإنسان، ممّا يمكن أن يشترك فيه عالم النفس مع الفيلسوف مع السيسيولوجي مع السياسي، كلّ بما ألِف من علمه المستقل، في البحث عن جذور هذه الظاهرة وواقعها وما جعلها حالة عصريّة ملازمة تأخذ طابعها السياسيّ، ليس فقط من أجل شرح الظروف والمجالات التي يمكن أن يتطرّف فيها الإنسان، وعلاقة هذه الظاهرة بالغريزة والبيئة، بل من أجل الوصول إلى تالٍ ونتيجة، يمكن من خلالها تقنين كلّ ما يمكن تقنينه في سبيل الحدّ من هذه الظاهرة، وهذا ما نحتاج إليه بعد الدراسة النسقيّة المتكاملة التي تتعاضد فيها أبرز التوجّهات المعرفيّة، التي تهدف إلى تقديم شرح وافٍ، يجهّز نفسه كبديل فعلي تستند التشريعات كافةً إليه، فالنسق المجابه للعنف يجب أن يكون كلّاً مشكّلاً من أجزاء عديدة، كما هو الأساس الذي بلوره هيجل[12].
ب- النسق المجابه للعنف وإشكال الهويّة:
تُعدّ قضيّة الهُويّة أبرز ما قد يعترض تأمّلات إنسانويّة تطمح لقهر كلّ المبررات الضيّقة التي من شأنها أن تُعلي من قيمة الفرد إلى الفرد المتشابه ثمّ إلى الإقليم، ممّا يقسم الذات عن الأخرى تقسيماً يستند إلى تصنيفها وتقعيدها ضمن خصوصيّة تكوينيّة وتاريخيّة وأيدولوجيّة وثقافيّة، فثمَّة إشكال كبير في تصنيف الهويَّة الذاتيَّة بمعزل عن الكلّ، آخذين بعين الاعتبار إرادة الفرد الحرَّة، التي لا يعيها كلُّ الأفراد بالضرورة، والذين يكونون متماهين مع الكلّ (غير المطلق) وظروفه، لكنَّ الفرد صاحب الإرادة هو من يقيم تكوينه حاملاً في نفسه طيناً جاهزاً للتكوين والتشكيل، يبثّ فيه روحاً وعقلاً جديدين، بحسب إفرازات النقد الذاتي، لكنَّهما غير مكينين وتامَّيْن، لقابليتهما للتعديل والتطوير وأحياناً للتغيير الجذري جرَّاء التفكر والتعقل والتجربة والبحث، والانسياقات متعدّدة الوجوه التي تحول دون اعتناق عقل جديد ثابت ومؤكّد، بعد مرحلة نزع الهُويَّة بالكامل. فيبدأ الإنسان بتشكيل هُويَّة إلى جيل جديد، من باب الاستنارة والنبوَّة وممارسة الوصاية النابعة من الدراية، إذن لم نخرج من إشكال التوريث والثورة على الموروث عبر إعادة تقييمه، وامتلاك حريَّة إعادة صياغته، بل وإرسال زمني متقدّم للقيم الذاتيّة، فالعالم كلّه في تشكيل حركة هُويَّاتيّة لا محالة[13]، ممَّا يوسع احتمال تأصيل جذور هذه الهويّة باللجوء إلى العنف ضدّ صورة الآخر المغاير، بل إسقاطه من القاعدة المشتركة، ألا وهي الأنسنة.
وقد تتجاوز الهوياتيّة شرعيّتها عندما تجور على الآخر لأغراض سياسيّة واقتصاديّة وثقافيّة، فتصير شموليّة كوليانيّة، تستخدم القوّة لقهر الأضعف ولتضمن تبعيته لها، وتتعدّد أشكال هذه القوّة، فتكون سياسيّة اقتصاديّة تجعل من الدول الأضعف مدينةً لها، ثمّ تأخذ هذه الهيمنة طابعاً سياسيّاً، وقد تكون صريحة فتبدأ بالحرب متجاوزةً بذلك أشكال العنف الضمنيّة التي تقوم على سلب عناصر قوّة الطرف الآخر.
ولطالما كانت الأنظمة الشموليّة هي المحرّك الفعلي لتاريخ العالم الحالي بكل حروبه ومآسيه، وحتى بلادته وعدميته، الذي يمكن أن يجابه بذاتويّة نبيلة تناقش نفسها فيما يشكّله الفرد في حياته كما يحب أن تكون عليه الأمور عامّةً لكل الناس، فينتقي اختياراته لكون يحب أن تكون مثالاً نبيلاً يُحتذى به من قبل الإنسان، وهذا ما أكّدته وجوديّة سارتر أثناء حديثه عن استحضار المعنى الإنساني في الحقل الذاتي[14]. وهذا ما يمكن أن يجعل الهويّة/ الذاتيّة سبيلاً للوصول إلى ما هو إنساني دون تذويب الذات فيما هو كليّ مبهم، أو إهمالها ما هو كلي واضح ومشترك وضروري، ممّا يشكّل قاعدة حماية من العنف لما هو خارج عن الذات، لكونه لم يكن خارجاً من أساس عن اعتباراتها التي تهدف لضمان الخير في الإنسانيّة.
خاتمة
في دراسة إمكانيّة تأطير قضيّة العنف في قالب نسقي خالص تظلّ الفكرة مطروحة وقابلة للتطوير في دراسات أخرى تتناول تحديد الفصل الحقيقي لظاهرة العنف عن الطرح الأيديولوجي الذي يهدف إلى أخذه عن الحالة الكليّة، وجعله حلّاً ضمنيّاً تعمد إليه هذه الحلول أو الأفكار أو النظريّات الكليّة الراديكاليّة ذات الطابع التنظيري الفلسفي، ثمَّ تشكيل ما هو معياريّ أمام المجالات المتعدّدة التي تتناول هذه القضيّة الشائكة.
قائمة المصادر والمراجع
1) أرندت، حنّة (دون). في العنف. ت: إبراهيم العريس، بيروت، دار الساقي.
2) الكيلاني، مصطفى، (2015). أيدولوجيا العنف، ط1، عمّان: وزارة الثقافة الأردنيّة.
3) هيجل، (2005). موسوعة العلوم الفلسفيّة، ت: إمام عبد الفتاح إمام، بيروت، دار التنوير.
4) الضاهر، سليمان أحمد، (2014). مفهوم النّسق في الفلسفة، مجلة جامعة دمشق، ع 3+4.
5) السلطان، سليمان (2013). هيجل والفكر النسقوي، مدوّنة سليمان السلطان، تاريخ الاطلاع: 20/8/2017.
6) صليبا، جميل، المعجم الفلسفي، (1979)، بيروت، ج2.
7) السويدات، حلا (2016)، مقال بعنوان الهويّة كمفهوم متراسي، مؤسّسة مؤمنون بلا حدود.
8) سارتر، جان بول (2012). الوجوديّة منزع إنساني، ت: محمّد نجيب عبد المولى وزهير المدنيني، بيروت، دار التنوير.
[1]- نشر في الملف البحثي "العنف: قضايا وإشكالات" بتاريخ 29 مارس 2018، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، تقديم وتنسيق: الطيب بوعزة ومحفوظ أبي يعلا.
[2]ـ انظر: أرندت، حنة (دون). في العنف. ت: إبراهيم العريس، بيروت: دار الساقي، ص 50
[3]ـ الكيلاني، مصطفى، (2015). أيدولوجيا العنف، ط1، عمان: وزارة الثقافة الأردنيّة، ص 130
[4]ـ انظر: هيجل، (2005). موسوعة العلوم الفلسفيّة، ت: إمام عبد الفتاح إمام، بيروت: دار التنوير، ص 70
[5]ـ المصدر نفسه، ص 150
[6]ـ الضاهر، سليمان أحمد، (2014). مفهوم النّسق في الفلسفة، مجلة جامعة دمشق، ع 3+4، ص 372
[7]ـ المصدر نفسه، ص 373
[8]ـ المصدر نفسه، ص 372
[9]ـ هيجل، موسوعة العلوم الفلسفيّة، ص 66
[10]ـ السلطان، سليمان (2013). هيجل والفكر النسقوي، مدوّنة سليمان السلطان، تاريخ الاطلاع: 20/8/2017
[11]ـ صليبا، جميل، المعجم الفلسفي، (1979)، بيروت، ج2، ص 361
[12]ـ الموسوعة الفلسفيّة، (1983)، موسكو، ص 616
[13]ـ انظر: السويدات، حلا (2016). مقال بعنوان الهويّة كمفهوم متراسي، مؤسّسة مؤمنون بلا حدود.
[14]ـ سارتر، جان بول (2012)، الوجوديّة منزع إنساني، ت: محمّد نجيب عبد المولى وزهير المدنيني، بيروت، دار التنوير، ص 43