فِي الأسُس النَّظَرية لبروز فلسفة دِيكَارت
فئة : قراءات في كتب
فِي الأسُس النَّظَرية لبروز فلسفة دِيكَارت
زكير مراد
ملخص تنفيذي
سنبدأ هذه القراءة بفرضية مفادها: أن كل فلسفة تتأسس على سند علمي، وحينما ينهار هذا السند العلمي تنهار معه تلك الفلسفة حتما. وهذه هي الفرضية التي سنبرهن عليها في هذا المقال، وسنعتبرها بمثابة مفتاح علمي لقراءة فلسفة ديكارت قراءة علمية؛ أي قراءة فلسفة ديكارت بمنظار علمي وفلسفي في نفس الوقت من خلال التركيز على جدلية الفلسفة والعلم عبر تاريخ الفكر النطري، بدءا بالمنظومة الأرسطية القائمة على نظام تراتبي مبني على ثنائية فوق وتحت، وانطلاقا من هذا النظام التراتبي، سنثبت أن كل فلسفة تتأسس على سند علمي، وهذا ما يبدو بشكل واضح في من خلال البراديغم الأرسطي؛ وكذلك المنظومة الفكرية الحديثة، ابتداء من الثورة الكوبيرنيكية العلمية وصولا إلى الثورة الفلسفية مع ديكارت. ومن هنا، سنحاول قراءة فلسفة ديكارت في سياقها النظري من أجل استيعاب أهم القضايا والإشكالات الفلسفية والعلمية التي تطرق لها ديكارت في فلسفته بشكل عام وفي كتاب التأملات الميتافيزيقية بشكل خاص؛ وبذلك لفهم فلسفة ديكارت، سنحاول وضعها في سياقها النظري ووفق الإشكالات النظرية التي كانت تحرك الفكر النظري، بدءأ من أفلاطون وأرسطو مرورا بالفلسفة الوسيطة وعصر النهضة وصولا إلى فلسفة ديكارت التي يمكن اعتبارها بمثابة ترجمة فلسفية وعلمية لمجموعة من الإشكالات التي كانت مطروحة من قبل في تاريخ الفكر النظري.
مقدِّمة
نحاول في هذا العرض البرهنة فلسفيا وعلميا أن فلسفة ديكارت التي لا يمكن فهمها خارج تاريخ الفكر النظري؛ وهذا ما سنقف عليه بشكل عام في فلسفته وبشكل خاص ومحدد في كتابه: "التأملات الميتافيزيقية"، والذي سنقف عليه بشكل مفصل، محاولين الانطلاق فيه أولا من المنظومة الأرسطية؛ ثم سنقف بشكل مفصل على بصريات الحسن ابن الهيثم في كتاب: "المناظر"؛ وكذلك الإشارة إلى إسهامات مدرستيْ باريس وأكسفورد في تطور الفكر النظري عن طريق اكتشاف مجموعة من الثغرات في المنظومة الفكرية الأرسطية؛ وهذا المسلسل النظري الجديد الذي دشنه ابن الهيثم؛ ومجموعة من الإسهامات النظرية في العصر الوسيط هي التي شكلت أساسا نظريا لبروز الثورة الكوبيرنكية الفلكية (العلمية) في القرن السادس عشر؛ لتتم ترجمة هذه الثورة العلمية فلسفيا مع ديكارت في القرن السابع عشر.
أولاً: في السياق النظري لبروز فلسفة ديكارت
1. المنظومة الأرسطية (الفيزياء والميتافزيقيا)
إن المنظومة الأرسطية بشكل عام؛ تأسست على نظام تراتبي قائم على ثنائية: ما فوق القمر/ وما تحت القمر؛ فما فوق القمر (عالم الثبات والأبدية والحركة الدائرية المكتملة) يتكون من عنصر الأثير؛ وما تحت القمر يتكون من العناصر الأربعة: الماء - الهواء - النار - التراب، وهذه النظرية؛ أي نظرية العناصر الأربعة هي التي شكلت الأساس الذي سيقوم عليه نظام العالم عند أرسطو؛ وهذه التراتبية القائمة في المنظومة الأرسطية هي التي ستنعكس على باقي الحقول والمجالات الأخرى كالمجال السياسي والمجال الاجتماعي...وبذلك، فالأساس النظري الأول الذي قامت عليه الأرسطية هو الفلسفة والعلم؛ وتحديدا الفيزياء والميتافيزيقا، حيث إن الطبيعة في المنظومة الأرسطية هي التي ستؤدي إلى ما بعد الطبيعة؛ أي الانتقال بشكل تراتبي من عالم العناصر الأربعة وصولا إلى الأثير أي إلى المحرك الأول؛ وكل هاته الأفكار والمضامين نجدها مفصلة في فلسفة أرسطو وتحديدا في: كتاب النفس؛ ثم كتاب السماع الطبيعي؛ وفي المقالات الميتافيزيقية الأربع عشرة؛ فهذه الكتب إضافة إلى كتب أخرى هي التي أسست للمنظومة الأرسطية والمنظومة الفكرية المشائية بشكل عام؛ إذ في كتاب "السماع الطبيعي" يفصل أرسطو قوله في الطبيعة بشكل عام؛ وذلك بحديثه عن الطبيعة والحركة؛ حيث إن هذا الكتاب هو الذي يمثل الأساس العلمي لفيزياء أرسطو القائمة طبعا على تصور مركزية الأرض (فيزياء الأرض الثابتة) وضمن هذا الكتاب كرس أرسطو تصوره لمفهوم أساسي في فيزيائه، وهو مفهوم الحركة وكل ما يتعلق بسقوط الأجسام؛ حيث فسر أرسطو ذلك – أي ظاهرة سقوط الأجسام- تفسيرا إحيائيا بكون أن الجسم حينما يسقط، فهو يحن إلى وضعه الطبيعي، وكلما اقترب منه تزداد سرعته؛ وهذه القضايا التي تخص الحركة قد فصل فيها أرسطو بشكل مفصل في المقالات الثالثة والخامسة والسادسة... في كتاب "السماع الطبيعي"؛ وعلى هذا التصور الفيزيائي القائم على مركزية الأرض ستتأسس الميتافيزيقا الأرسطية القائمة هي أيضا على هذه التراتبية الكوسمولوجية ما فوق وما تحت القمر؛ حيث إن ما تحت القمر هو موضوع الفيزياء، وما فوق القمر هو موضوع الميتافيزيقا التي تطرق إليها أسطو في مقالاته الأربع عشرة؛ ومن هنا إذن تتضح تلك العلاقة الوطيدة بين الفلسفة والعلم؛ أي بين الميتافيزيقا والفيزياء؛ إذ إن الطبيعة في المنظومة الأرسطية هي السبيل للوصول إلى المحرك الأول وفق نظام تراتبي كوسمولوجي قائم على ثنائية ما فوق وما تحت القمر؛ لكن إذا انهار هذا الأساس (ثنائية العالم)، فإن المنظومة الأرسطية ستنهار كلها بانهيار أسسها النظرية. وأما بخصوص كتاب "النفس" (كتاب يشمل ثلاث مقالات: الأولى في مذاهب القدماء الرئيسة والثانية في تعريف النفس حسب أرسطو وفي مسوغات هذا التعريف مع الكلام في القوى الحاسة والثالثة في الحس المشترك والتفكير والنزوع؛ وهو كتاب يدخل ضمن الكتب الطبيعية؛ ذلك أن النفس صورة الجسم)؛ نجد أرسطو يكرس فيه التصور الإغريقي للمعرفة ومبادئها بشكل عام؛ حيث إن المعرفة عند أرسطو تبدأ بالحس، مما يجعلها معرفة سلبية؛ لأنها مجرد انطباع؛ ولأن الكائن لا يعي ذاته من تلقاء ذاته كما سيكون عليه الحال في العصر الحديث مع "ديكارت": "أنا أفكر إذن أنا موجود"؛ بل أكثر من ذلك، فإن عملية المعرفة عند أرسطو تحتاج إلى تدخل خارجي (مادة؛ جسم؛ العقل الفعال...) يجعلها تتحول من معرفة حسية إلى معرفة عقلية - الانتقال من القوة إلى الفعل. وأكثر من ذلك، فإن ما كان يميز التصور الأرسطي للمعرفة هو سيادة ثنائية العقل والحواس لكن بشكل منفصل؛ حيث الحواس تدرك المحسوسات والعقل يدرك المعقولات؛ يقول أرسطو في هذا الإطار: "أن يكون العقل بالنسبة إلى المعقولات كنسبة قوة الحس إلى المحسوسات"[1] فمن خلال هذه القولة يوضح أرسطو أن المحسوسات تدرك بواسطة الحواس فقط، في حين فإن العقل يدرك المعقولات فقط ولا دور له في مجال المحسوسات؛ ويضيف أرسطو قائلا: "إن العقل عندما يعقل معقولا شديدا، فإنه على العكس يكون أكثر قدرة على تعقل المعقولات الضعيفة؛ ذلك أن قوة الحس لا توجد مستقلة عن البدن؛ على حين أن العقل مفارق له.."[2]
تأسيسا على ما سبق، فإن المنظومة الفكرية الأرسطية تتأسس على مجموعة من المقومات والأسس النظرية؛ فهي منظومة قائمة أولا على ثنائية ما فوق القمر وما تحت القمر؛ ما تحت القمر هو موضوع علم الطبيعة القابلة للتغير والفساد؛ في حين فإن ما فوق القمر هو عالم السماء الذي يتكون من عنصر الأثير؛ وهو عالم يتميز بالاكتمال والحركة الدائرية المكتملة.إضافة إلى ذلك، فإن العالم في المنظومة الأرسطية عالم متناه وتراتبي ولامتجانس (نظرية المكان غير المتجانسة وذلك راجع إلى اختلاف العناصر التي تكون ثنائية العالم) وبخصوص مسألة العالم المتناهي في المنظومة الأرسطية، نجد ألكسندر كويري قد فصل فيها بشكل دقيق في كتاب: "من العالم المغلق إلى الكون اللامتناهيdu monde clos à l’univers infini »". وبالتالي فهذه المقومات النظرية التي قامت عليها الأرسطية حينما سيتم خلخلتها، فإن ذلك سيؤدي حتما إلى انهيار المنظومة التي تحتضن بالفعل مجموعة من الثغرات (تصور الحركة وسقوط الأجسام مثلا) التي سيتم الاشتغال عليها فيما بعد، سواء في العالم الإسلامي أو في الغرب المسيحي؛ حيث ستظهر نتيجة لذلك مجموعة من الاجتهادات الفلسفية والعلمية التي كشفت عن مجموعة من الثغرات في البراديغم الأرسطي؛ وهذه الاجتهادات والانشغالات النظرية التي تمت في العصور الوسطى هي التي ستمهد لظهور المنظمة الفكرية الجديدة التي ستعوض المنظومة الأرسطية القائمة على ثلاثة عناصر أساسية، وهي: فيزياء أرسطو وميتافيزيقاه، ثم الفلك البطليمي نسبة إلى كلود بطليموس صاحب كتاب: "المجموع الرياضي الأكبر" (المجسطي)؛ وهذه هي أسس المنظومة المشائية. إذن ما هي أهم الإسهامات النظرية التي كشفت عن ثغرات الأرسطية ومهدت لظهور المنظومة الفكرية الحديثة .
2. بصريات ابن الهيثم (كتاب المناظر)
للحديث عن بصريات الحسن ابن الهيثم، لابد من الإشارة أولا إلى أن المنظومة الأرسطية ستسود حوالي عشرين قرنا من الزمن في تاريخ الفكر النظري (أي من أرسطو إلى ديكارت) وطيلة هذه الفترة، فقد تمت مجموعة من الاشتغالات النظرية الفلسفية والعلمية في العالم الإسلامي وفي الغرب المسيحي؛ والتي مهدت لظهور المنظومة الفكرية الجديدة في العصر الحديث؛ وهذه الاشتغالات النظرية هي التي ستشكل أساس فلسفة ديكارت في القرن السابع عشر. ولهذا، قد شكلت بصريات ابن الهيثم أساسا نظريا (علميا ومفهوميا...) للكشف عن مجموعة من الثغرات في المنظومة الأرسطية؛ وكذلك لتطور الفكر العلمي والفلسفي فيما بعد؛ وهذا راجع بطبيعة الحال إلى الإسهامات العلمية لبصريات ابن الهيثم بشكل عام وخصوصا في كتابه "المناظر" الذي تمت ترجمته في القرن الثالث عشر إلى اللاتينية والإيطالية، حيث ستعرف أفكاره انتشارا واسعا في الغرب المسيحي، وتحديدا مع العالم البولوني "بيتيلون" أستاذ نيكولا كوبيرنيك؛ حيث أصبحت بصريات ابن الهيثم تدرس في الجامعات الغربية آنذاك، وخصوصا في جامعة بولونيا بإيطاليا وكذلك جامعة أكسفورد (دانت سكوت)؛ ومن هنا، فإن الاشتغال الفلسفي والعلمي في الغرب المسيحي سيتم بإيعاز من بصريات ابن الهيثم وكذلك فلسفة ابن سينا؛ وهو الأمر الذي سيمهد للثورة الكوبيرنيكية؛ ومع ابن الهيثم أيضا سنبرهن على نتيجة نظرية مفادها أن وراء كل ثورة فلسفية هناك سند علمي؛ وهذا ما يتجلى بوضوح من خلال علم البصريات التي ستشكل أساسا لثورة فلسفية (مفهومية) تحديدا فلسفة دانت سكوت الذي سيترجم المفاهيم البصرية الهيثمية إلى مفاهيم فلسفية...
يقول ابن الهيثم في بداية كتاب المناظر: "إن المتقدمين من أهل النظر قد أمعنوا البحث عن كيفية إحساس البصر؛ وأعملوا فيه أفكارهم وبذلوا فيه اجتهادهم؛ وانتهوا منه إلى الحد الذي وصل النظر إليه؛ ووقفوا منه على ما أوقفهم البحث والتمييز عليه. ومع هذا الحال، فآراؤهم في حقيقة الإبصار مختلفة؛ ومذاهبهم في هيئة الإحساس غير متفقة؛ فالحيرة متوجهة؛ واليقين متعذر؛ والمطلوب غير موثوق بالوصول إليه...".[3]
سنتخذ من هذا القول الهيثمي (ابن الهيثم) مدخلا للتفصيل في الثورة التي أحدثها وزعزع بها أركان البراديغم الأرسطي، ومهد لظهور الفكر الفلسفي والعلمي الحديث بشكل عام وفلسفة ديكارت بشكل خاص؛ ولتوضيح ذلك سنؤسس لهذه الفرضية انطلاقا من مقومات المنظومة الأرسطية من أجل البرهنة بشكل علمي على أهمية الثورة التي أحدثها ابن الهيثم في تاريخ الفكر النظري؛ ومن هنا فإذا كان البراديغم الأرسطي ممثلا في شخص أرسطو يعتقد أن العين تبصر الشيء، حينما تلقي عليه شعاعا ينبعث منها هي ذاتها؛ وبالتالي فالضوء لا دور له في الإبصار؛ فإن ابن الهيثم يقر أن الإبصار ليس مجرد إحساس فقط؛ لأن البصر بواسطة الحس لا يدرك إلا اللون والضوء؛ في حين أن هناك مجموعة من الأشياء تنفلت منه، وتتطلب عنصرا آخر لكي تدرك؛ وهذا العنصر هو العقل؛ فهو الذي يقيس درجة بعد أو قرب الشيء وكبر حجمه أو صغره وأعراضه وألوانه، يقول ابن الهيثم: "والبحث عن هذا المعنى مع غموضه وصعوبة الطريق إلى معرفة حقيقته مركب من العلوم الطبيعية والعلوم التعليمية؛ أما تعلقه بالعلم الطبيعي، فلأن الإبصار أحد الحواس والحواس من الأمور الطبيعية؛ وأما تعلقه بالأمور التعليمية فلأن البصر يدرك الشكل والوضع والعظم والحركة والسكون؛ وله مع ذلك تخصص بالسموات المستقيمة؛ والبحث عن هذه المعاني إنما يكون بالعلوم التعليمية؛ فبحق صار البحث عن هذا المعنى مركبا من العلوم الطبيعية والعلوم التعليمية.."[4]. وبذلك بدأت بوادر إلغاء الحواس مع ابن الهيثم؛ حيث انتقل ما كان يحسب على الحواس إلى العقل من جهة؛ وصارت الجزئيات معقولة من جهة ثانية. فإذا كان أرسطو يعتقد أن الإبصار له مصدر واحد هو العين، فإن ابن الهيثم يعتبر أن وراء الإبصار مصادر متعددة هي الضوء والعين والعقل. وهذه هي الثورة العلمية التي أحدثها ابن الهيثم في البصريات، وهي أن الإبصار لم يعد مقتصرا فقط على الإحساس، وإنما أصبح الأمر يتم بتدخل العقل، حيث تم إلحاق الحواس بالعقل؛ ومع ابن الهيثم أيضا بدأت الإرهاصات الأولى لترييض الطبيعة؛ حيث أصبحت عملية الإبصار عملية رياضية تتم في زمان أي دخول البعد الزماني في الإبصار (حيث أصبح الناظر ينظر إلى الأشياء المحسوسة نظرة رياضية وزمنية...وذلك بإدراك البعد والقرب). ومن هنا تتجلى بشكل واضح الثورة العلمية التي قام بها ابن الهيثم في تاريخ الفكر النظري؛ وذلك لأن هاته القضايا التي جاء بها لم تكن معقولة في البراديغم الأرسطي؛ حيث لم تعد الحواس تدرك المحسوسات والعقل يدرك المعقولات كما كان الحال مع أرسطو؛ بل تم إلحاق مهام الحواس بالعقل في عملية الإبصار مع ابن الهيثم، بعدما كان ذلك يندرج خارج دائرة المعقولية.
وتأسيسا على ما سبق، يتضح أن ابن الهيثم قد أحدث ثورة حقيقية في علم البصريات وفي تاريخ الفكر النظري؛ إذ كشف بذلك عن مجموعة من الثغرات في البراديغم الأرسطي (ثغرات في عملية الإبصار؛ وفي المعرفة...) ولهذا فتح ابن الهيثم الباب على مصراعيه لمجموعة من الاشتغالات النظرية التي ستؤدي وستؤسس نظريا بإيعاز من ابن الهيثم للثورة الفلكية مع كوبيرنيك والفلسفية مع ديكارت؛ ولهذا يجب الإشارة أولا، أن بصريات ابن الهيثم باعتبارها ثورة علمية ستترجم فلسفيا مع مدرسة أكسفورد وخصوصا مع "دانت سكوت Jean Duns scot " في كتابه "Signification et Vérité"، وهو الكتاب الذي يمكن اعتباره بمثابة الوجه الفلسفي لكتاب "المناظر" لابن الهيثم. إضافة إلى ذلك، فإن ابن الهيثم تحدث في كتابه عن مفهوم الناظر، وهو المفهوم الذي سيترجم فلكيا مع كوبيرنيك إلى مفهوم الملاحظ، وسترجم فلسفيا مع ديكارت إلى مفهوم الذات؛ ثم وظف ابن الهيثم أيضا مفهوم أغلاط البصر في عملية الإبصار وهذا المفهوم سيترجم أيضا مع كوبيرنيك فلكيا إلى أوهام البصر، وسيترجم مع ديكارت إلى ما يسميه خداع الحواس؛ من هنا إذن تتضح بشكل علمي ومفهومي مكانة الثورة التي أحدثها أبن الهيثم في تاريخ الفكر النظري الفلسفي والعلمي معا؛ والتي مهدت نظريا لظهور الثورة الكوبيرنكية التي ستتأسس عليها أيضا فلسفة ديكارت- أي على الثورة الكوبيرنيكية- وبذلك، فإن فهم فلسفة ديكارت يستدعي وضعها في سياقها النظري والانطلاق خصوصا من بصريات ابن الهيثم وفلسفة ابن سينا (لأن مسألة التمييز بين النفس والجسد مع ابن سينا من الزاوية الدينية للبرهنة على خلود النفس، ستتحول مع ديكارت إلى مسألة علمية، حيث سيميز ديكارت بين النفس والجسد لكن ليس من أجل البرهنة على خلود النفس، وإنما من أجل التأسيس للفيزياء الحديثة على أسس فلسفية) مرورا بالإسهامات النظرية في الغرب المسيحي مع القديس أغسطين وطوما الأكويني...وخصوصا مع مدرستي أكسفورد وباريس وصولا إلى الثورة الكوبيرنيكية التي ستكون نتيجة علمية لكل هاته الاشتغالات النظرية...
لقد مهدت الاشتغالات الفلسفية والعلمية في العصور الوسطى في تطور الفكر الحديث؛ ولذلك لا يمكن فهم جميع الثورات العلمية والفلسفية ابتداء من القرنين السادس عشر والسابع عشر دون العودة للإسهامات النظرية التي تمت في العصور الوسطى في العالم الإسلامي وفي الغرب المسيحي.
3. مدرستا أكسفورد وباريس، (إرهاصات انهيار البراديغم الأرسطي)
لقد تمت مجموعة من الانشغالات النظرية في تاريخ الفكر النظري في العصور الوسطى التي مهدت ووفرت الشروط النظرية لبروز الثورة الكوبيرنيكية في القرن السادس عشر والثورة الفلسفية مع ديكارت في القرن السابع عشر؛ وهذه الشروط النظرية نجد أسسها في بصريات ابن الهيثم وفلسفة ابن سينا...وكذلك مع البطروجي في علم الفلك في كتاب "الهيئة" الذي تمرد على الفلك البطليمي...وكذلك من قبل مع ابن الشاطر وصخر الدين الطوسي و قطب الدين الشيرازي في مرصد مراغة بإيران الذي عرف فيه علم الفلك تطورا كبيرا وسابق لما سيحدث في الغرب، لكن الاجتهادات النظرية لمرصد مراغة في العالم الإسلامي ستظهر نتائجها في الغرب؛ والسبب في عدم بروز الثورة العلمية في العالم الإسلامي راجع إلى المنطق النظري السائد في العالم الإسلامي، وهو منطق العلم من أجل المنفعة، وليس العلم من أجل العلم والحقيقة كما هو الحال في الغرب؛ والسبب الثاني هو غياب المؤسسات العلمية والجامعية التي ستحتضن هذا الفكر في العالم الإسلامي؛ وهذه الأسباب الرئيسة يذكرها "توبي هف" في كتابه: "فجر العلم الحديث: الإسلام - الصين - الغرب"؛ حيث يقول: "لم يكد طلب العلم في الغرب خلال القرون الخمسة الماضية يصادف أية عقبات تذكر؛ ولو أضفنا ثلاثمائة سنة أخرى في ضوء الدراسات الحديثة الخاصة بحرية الفكر والبحث التي وجدت في جامعات القرنين الثاني عشر والثالث عشر..."[5]؛ ومن أهم الجامعات الغربية التي ساهمت في تطور الفكر النظري هناك جامعة أكسفورد (دانت سكوت - أوكام...) وجامعة باريس (جان بيريدان - نيكولا أوريسم...)؛ وبذلك سنقتصر على بعض إسهامات مدرستا أكسفورد وباريس في تطور الفكر النظري الحديث؛ انطلاقا من كشف لمجموعة من الثغرات في البراديغم الأرسطي على المستوى الفلسفي والعلمي وخصوصا في المجال الفيزيائي؛ وتحديدا في ما يخص مفهوم الحركة وظاهرة سقوط الأجسام في الفيزياء الأرسطية؛ وهذا ما ستعمل على انتقاده مدرسة باريس مع جان بيريدان ونيكولا أوريسم؛ فإذا كانت ظاهرة سقوط الأجسام عند أرسطو يتم تفسيرها تفسيرا إحيائيا (أنثروبومورفيا)، حيث يفسر أرسطو سقوط الجسم بكونه يحن إلى أصله (الجسم تزداد سرعته كلما اقترب من الأصل)، وأن الهواء هو الذي يمنح حركة الجسم....هذه التفسيرات ذات الطابع الإحيائي سيتم انتقادها من طرف علماء مدرسة أكسفورد وخصوصا مدرسة باريس؛ إذ يقر كل من جان بيريدان و نيكول أوريسم أن القاذف حين يقذف بقذيفة، فإنه يضع فيها قوة محركة لامادية هي التي تزيد من سرعة الجسم أو سقوطه...وبذلك، فالهواء ليس محركا للأجسام في حركاتها بل يشكل عائقا ومقاومة أمام حركة الجسم....وبالتالي، فإن كل هاته الانتقادات التي تم توجيها للفيزياء الأرسطية ستساهم في الانكسار التدريجي للبراديغم الأرسطي؛ وهذه الإسهامات العلمية والفلسفية ستمهد الشروط النظرية لبروز الثورة الكوبيرنيكية لتكتمل المنظومة الفكرية الحديثة بظهور فيزياء دوران الأرض مع غاليلي وفلسفة الذات مع ديكارت.
4. الثورة الكوبيرنيكية والمنظومة الفكرية الجديدة
لقد مهدت الاشتغالات العلمية والفلسفية في العصر الوسيط الأرضية النظرية المناسبة لظهور الثورة الكوبيرنيكية؛ ولهذا فإن بروز النظام الفلكي الكوبيرنيكي يتحدد تاريخيا ونظريا بظهور كتاب كوبيرنيك "في حركات الأجرام السماوية" الذي قلب فيه موازين النظام الفلكي البطليمي؛ حيث إن المشكلة التي كانت مطروحة في النظام الفلكي البطليمي هي مشكلة تحير الكواكب؛ إذ لوحظ أن هناك كواكب في السماء تغير مواقعها أثناء الدوران، وبذلك سميت بالكواكب المتحيرة؛ وهنا سيأخذ كوبيرنيك بالدرس الهيثمي (ابن الهيثم) في البصريات وتحديدا حديث ابن الهيثم عن أغلاط البصر؛ ولهذا فمن بصريات ابن الهيثم سينطلق كوبيرنيك ليحل إشكالية تحير الكواكب؛ وسيعتبر أن المشكل ليس في الموضوع، وإنما في الملاحظ؛ وبذلك "فإن كوبيرنيك عندما وجد استحالة تفسير حركات الأجرام السماوية في ضوء التسليم بمركزية الأرض اقترح فرضا عقليا جديدا هو أن الأرض مجرد تابع من التوابع التي التي تدور حول الشمس؛ وبناء على هذا الفرض حاول تفسير حركات تلك الأجرام؛ فتبين له إمكانية تفسيرها كلها بحيث لا تشذ أية ظاهرة سماوية هذا التفسير"[6].
وبذلك، فإن الكوبيرنيكية تمثل لحظة الانتقال من منظومة الوجود (الموضوع) إلى منظومة الذات؛ ومن هنا بدأت المنظومة الجديدة في التشكل؛ وهي المنظومة التي تأسست على الأسس التالية: فلك كوبيرنيك وفيزياء غاليلي (فيزياء دوران الأرض) وميتافيزيقا ديكارت (ميتافيزيقا قائمة على سببية فكرية وليس على تراتبية مادية كما هو الحال في ميتافيزيقا أرسطو)؛ وبلور هذه الأسس الجديدة أدى بشكل حتمي إلى انهيار البراديغم الأرسطي القائم على مركزية الأرض وعلى ثنائية: فوق/ تحت؛ وعلى فكرة تناهي العالم؛ وبالتالي فإن الإسهامات الأولى التي أدت إلى انهيار المنظومة الأرسطية بدأت نظريا في العالم الإسلامي مع ابن الهيثم وابن سينا وابن رشد وابن باجة... وفي الغرب المسيحي مع جامعتي أكسفور وباريس ومع القديس أغسطين وطوما الأكويني؛ ليستمر مسلسل انهيار البراديغم خصوصا مع كوبيرنيك الذي غير المنظومة الفكرية الأرسطية بفكرة دوران الأرض؛ وكذلك مع غاليلي الذي أسس فيزياء دوران الأرض (فيزياء ملائمة للفلك الجديد) ووحد قوانين الأرض والسماء؛ حيث اكتشف سنة 1609 بتوجيه منظاره إلى السماء أن القمر مثله مثل الأرض يتكون من جبال ووديان؛ ومن ثمة، لم تعد ثنائية فوق وتحت قائمة، بل تم تعويضها ب: ما قبل وما بعد؛ وسيكمل ديكارت هذا النسق الحديث بميتافيزيقا جديدة ملائمة للفيزياء الجديدة (فيزياء دوران الأرض).
وانطلاقا مما سبق، يتبين لنا كيف تم الانتقال بشكل علمي من العالم التراتبي القائم على ثنائية فوق/تحت؛ إلى الكون اللامتناهي؛ وهذه هي الفكرة التي سيقول بها "جيوردانو برينو" ليتم إحراقه بسبب هذه الفكرة (لا تناهي الكون) سنة 1600؛ وهذا الانتقال من العالم المتناهي الذي يجد أساسه النظري في المنظومة الأرسطية؛ إلى الكون اللامتناهي؛ فهذا الأمر سيوضحه بشكل واضح ألكسندر كويري في كتابه: « Du monde clos à l ;univers infini » إذ يقول: "malgré ce très grand nombrede facteurs divers ، de théories et de polémique qui dans leur interaction ، forment le font et la trame complexe et mobile de la grand révolution، les étapes principales de la route qui mène du monde clos à l، univers infini"[7]. فهنا إذن تم الانتقال من العالم المتناهي إلى الكون اللامتناهي...فهذا هو السياق النظري العام الذي ظهرت فيه فلسفة ديكارت بشكل عام وخصوصا كتابه "التأملات الميتافيزيقية" الذي ترجم فيه ديكارت بشكل فلسفي هذا السياق النظري، انطلاقا من بصريات ابن الهيثم وصولا إلى الثورة الفلكية (العلمية) مع نيكولا كوبيرنيكوس. إذن ما هي أهم القضايا والإشكالات الفلسفية والعلمية التي شكلت منطلق ومحور كتاب "التأملات الميتافيزيقية".
ثانياً: فلسفة ديكارت وتأملاته الميتافيزيقية
1. مكانة فلسفة ديكارت في المنظومة الفكرية الجديدة
لقد شكل النظام الفلكي الجديد أساسا نظريا لبروز فيزياء جديدة وجدت أساسها النظري في فيزياء غاليلي القائمة على حركة دوران الأرض والملائمة للفلك الجديد؛ وبذلك فإن هذا العلم الجديد يحتاج أيضا إلى ميتافيزيقا جديدة ستشكل بديلا للميتافيزيقا الأرسطية القائمة على مركزية الأرض؛ وهذه الميتافيزيقا الجديدة تبلورت في فلسفة ديكارت، وخصوصا في كتابه: "التأملات الميتافيزيقية" "Méditations métaphysique"؛ حيث إنه ساهم بشكل كبير في بناء هذا النسق الجديد الذي بدأه كوبيرنيك وساهم فيه غاليلي؛ ...ولهذا تعتبر فلسفة ديكارت أساسا نظريا للفلسفة الحديثة كلها؛ لأنها جاءت بمفاهيم جديدة كمفهوم الذات (من مفهوم الناظر في البصريات عند ابن الهيثم ثم مفهوم الملاحظ عند كوبيرنيك في الفلك وصولا إلى مفهوم الذات في فلسفة ديكارت..) وشكلت منعطفا أساسيا في تاريخ الفلسفة؛ ولذلك لايمكن فهمها واستيعابها – أي فلسفة ديكارت- إلا بوضعها في سياقها وإطارها النظري؛ وذلك ضمن سياق تطور الأفكار الجديدة التي أدت إلى بناء نسق جديد متكامل بين الفلك والفيزياء والميتافيزيقا الجديدة مع ديكارت؛ "وذلك لأن تصوراته العلمية تخضع إلى أسس ميتافيزيقية هي التي تحدد لها إطار انبنائها النظري وتمدها بالطابع العقلاني...فقبل أن تدرك قوانين العالم الفيزيائي في سياق السيرورة الخاصة بإنتاج المعرفة العلمية التي دشنتها أعمال غاليليو؛ يبحث ديكارت -ومن خارج الفيزياء- عن الدعامات الفلسفية التي تضمن قبليا مشروعية تلك القوانين وصحتها"[8] .وبذلك، فإن ديكارت جاء هنا بميتافيزيقا جديدة شكلت أساسا للفيزياء الجديدة؛ وخصوصا الفيزياء الغاليلية التي اعتبرها –ديكارت- فاقدة إلى الروح الفلسفية؛ هكذا إذن اكتمل البراديغم والنسق الجديد بعد بروز الميتافيزيقا الجديدة. هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى "فإن الفلسفة الديكارتية في تعبيرها الأصيل أي في كتاب: "التأملات الميتافيزيقية" تقتضي باتباع نظام أسباب المعرفة لا نظام المواد والموضوعات المدروسة؛ وهذا معناه أنه يمكن عرض تلك الفلسفة في أسلوب اكتشافها للحقائق؛ حيث يؤدي التفكير في كل اكتشاف إلى حقيقة جديدة.."[9]؛ ولفهم ذلك جيدا وخصوصا بداية فلسفة ديكارت، يجب العودة إلى سنة 1619؛ حيث أنه ومنذ هذه السنة كانت هناك فيزياء مكتملة؛ فأصبح يبحث لها عن ميتافيزيقا ملائمة حتى سنة1628؛ حيث بدأ في كتابة "العالم أو في النور" ليتخلى عنه بعد ذلك بسبب سماعه بمحاكمة غاليلي؛ ليكتب بعد ذلك "المقال عن المنهج" سنة 1637؛ الذي سيتطرق فيه إلى المنهج وقواعد المنهج دون أسس فيزيائية وهذا ما سيتم في كتاب "التأملات الميتافيزيقية" 1641 الذي ستظهر فيه تلك الأسس والمنطلقات الأولية (أي أسس الفيزياء الحديثة). ومن خلال مضامين وقضايا هذا الكتاب، سنبين أن كتاب التأملات الميتافيزيقية "في تاريخ الفكر النظري؛ لكن لا يمكن استيعاب مضامين هذا الكتاب دون العودة إلى بصريات أبن الهيثم وفلسفة ابن سينا وطوما الأكويني وثم فلك كوبيرنيك؛ فعلى مستوى البصريات يتضح ذلك من خلال تطور الإشكال والمفهوم في تاريخ الفكر النظري: فقد انطلقنا من مفهوم الناظر في البصريات إلى مفهوم الملاحظ في الفلك الكوبيرنيكي لنصل مع ديكارت إلى مفهوم الذات الذي هو بمثابة ترجمة فلسفية لمفهوم الملاحظ في الفلك (ترجمة ثورة علمية إلى ثورة فلسفية)؛ وهناك مفهوم آخر عند ابن الهيثم هو مفهوم أغلاط البصر الذي سيتطور مع كوبيرنيك في الفلك إلى مفهوم أوهام البصر، ليترجم أخيرا مع ديكارت إلى خداع الحواس؛ فمن خلال هذه المفاهيم نثبت الفرضية التي انطلقنا منها في البداية، وهي أنه وراء كل ثورة فلسفية هناك سند علمي؛ وبذلك فإن المدخل الأساسي لفهم فلسفة ديكارت هو المدخل العلمي وكذلك الفلسفي...
2. التأملات الميتافيزيقية: قضايا وإشكالات
قبل الدخول إلى التفصيل في المضامين والإشكالات الواردة في "التأملات الميتافيزيقية"، لابد من الإشارة أولا إلى أن هذا الكتاب "حمل في طبعته الأولى عنوان "تأملات في الفلسفة الأولى حيث البرهنة على وجود الله وخلود النفس" غير أنه أضحى في الطبعة الثانية 1642: "تأملات في الفلسفة الأولى، حيث البرهنة على وجود الله والتمييز بين النفس الإنسانية والبدن"[10]؛ ويرجع الدكتور عبد المجيد باعكريم هذا التغير في العنوان إلى اعتقاد مفاده أن الطبعة الأولى (الطبعة الباريسية) كانت مرصودة إلى مؤسسة معينة، وهي الكنيسة؛ وأنها كانت موجهة إلى دكاترة جامعة السوربون اللاهوتيين؛ والطبعة الهولندية الثانية موجهة إلى الفلاسفة الجدد مثل صديقه إسحاق بيكمان. ومن بين القضايا الأساسية في كتاب "التأملات" انطلاق ديكارت أولا وبشكل منهجي من الشك (الشك المنهجي) في كل شئ ليصل إلى القضية الأولى الأساسية، وهي البرهنة على وجود الذات؛ ووجود الذات تحتاج إلى ضامن لمعارفها وحقائقها ويقينها...ومن هنا جاءت ضرورة البرهنة على وجود الله عند ديكارت (القضية الثانية: البرهنة على وجود الله)؛ والبرهنة على وجود الله؛ وهذا هو السبيل إلى البرهنة على وجود العالم الخارجي (القضية الثالثة)؛ فهذه إذن هي أهم القضايا النظرية في كتاب "التأملات الميتافيزيقية".
أ. البرهنة على وجود الذات (القضية الأولى)
إن أول ما بدأ به ديكارت تأملاته هو الشك أولا في كل الأشياء؛ وذلك من أجل تأسيس كل شئ من جديد؛ حيث يشك في كل المحسوسات؛ لأن الحواس هي سبب الخداع؛ بل أكثر من ذلك فالحواس هي السبب كذلك في الوقوع في أوهام البصر كوبيرنيك؛ فالحواس هي التي أسست للاعتقاد السائد من قبل الذي هو القول بمركزية الأرض وحركة الشمس؛ من هنا فالشك الديكارتي يجد أساسه في الفلك الكوبيرنكي؛ وهذا هو الأمر الذي جعل ديكارت يشك في كل شئ وخصوصا في كل المعارف الناتجة عن الحواس؛ "ليس بالأمر الجديد ما تبينت من أنني منذ حداثة سني قد تلقيت طائفة من الآراء الباطلة وكنت أحسبها صحيحة؛ وأن ما بنيته منذ ذلك الحين على مبادئ هذه حالها من الزعزعة والاضطراب لا يمكن أن يكون إلا شيئا مشكوكا فيه جدا، ولا يقين له أبدا. فحكمت حينئذ بأنه لابد لي مرة في حياتي من الشروع الجدي في إطلاق نفسي من جميع الأراء التي تلقيتها في اعتقادي من قبل؛ ولابد من بدء بناء جديد من الأسس؛ إذا كنت أريد أن أقيم في العلوم شيئا وطيدا مستقرا".[11]
وبذلك، فأن ديكارت شك في كل شئ؛ في كل المحسوسات؛ لأن الحواس تخدعه إلى حد أنه لا يقدر على التمييز بين حالة النوم واليقظ؛ كما انه سيشك بعد ذلك في المعقولات والحقائق الرياضية، انطلاقا من افتراضه لفكرة الإله الخادع أو الشيطان الماكر الذي قد يصور له الأشياء على نحو غير صحيح. وبذلك، فإن الشك لدى ديكارت هو بمثابة منهج لبناء المعرفة والحقائق العلمية؛ حيث إن اكتشاف الحقائق يبدأ بالشك في جميع الأشياء والموضوعات؛ أي بإخلاء الذهن من جميع الأحكام السابقة المتعلقة به؛ حيث يكون طريق الشك هذا كفيلا وحده لإيجاد حقيقة أولى لا تحتمل شكا أو إنكارا؛ تأتي بعدها حقائق أخرى في نظام متناسق بين الأفكار. وإن ما يميز الشك الديكارتي هو أنه شك منهجي ومطلق؛ إذ إن ديكارت انطلق من الصفر لكي يؤسس للعلم والحقائق اليقينية؛ حيث شك في المحسوسات والمعقولات معا؛ أي في الرياضيات؛ مما جعل شكه شكا إراديا أيضا؛ حيث إنه لبناء معرفة يقينية كان يشك في كل شئ حتى لا يبقى سوى الشك. والشك خاصية من خصائص التفكير؛ مما يعني أن الشك تفكير؛ ومن هنا سيتوصل ديكارت إلى أول أساس في فلسفته سيبني عليه كل المعارف الحقائق؛ وهذا الأساس هو الكوجيطو "أنا أفكر إذن أنا موجود"؛ حيث إنه في التأمل الثاني المعنون بـ "معرفة النفس الإنسانية أيسر من معرفة الجسم"؛ يبحث عن نقطة ارتكاز أرخميدية شرط ألا تكون حسية ليبني عليها كل الحقائق؛ يقول ديكارت في هذا الصدد: "سأبذل كل ما في جهدي للمضي في الطريق الذي سلكته أمس متجنبا كل ما قد تسنح لي فيه بادرة من شك؛ كما لو كنت متحققا من بطلانه. وسأمضي في هذا الطريق قدما حتى أهتدي إلى شئ يقيني؛ فإن لم يتيسر لي ذلك لبثت على حالي على الأقل، حتى أعلم علم اليقين أنه ليس في العالم شئ يقيني. فإن أرخيميدس لم يكن يطلب إلا نقطة ثابتة غير متحركة؛ لكي ينقل الكرة الأرضية من مكانها إلى مكان أخر. وكذلك أنا؛ يحق لي أن أعلق أكبر الآمال إن أسعدني الحظ فوجدت شيئا يقينيا لا شك فيه"[12]. وقد عثر ديكارت على نقطة الارتكاز هاته في أول حقيقة يقينية في الكوجيطو، باعتبارها قضية حدسية يدركها العقل مباشرة؛ دون تدخل الحواس (مثال الشمعة ثم القبعات...)؛ وذلك لأن ديكارت يعتبر أن الحس لم يعد مرتكزا للتفكير لأن الأرض تدور وليس هناك شئ ثابت؛ وهذا ما جعل ديكارت يقول: Mais que suis- je donc ? Une chose qui pense.Qu، est- ce que cela ?C، est bien une chose qui doute، qui connaît، qui affirme ، qui nie، qui veut، qui ne veut pa، qui imagine aussi et qui sent[13]
فجميع هذه الأفعال هي أفعال هي أفعال التفكير وبصدد كل منها أستطيع أن أقرر أني موجود حسب ديكارت.وبذلك سيتوجه إلى الفكر وسيعتبر أن بإمكانه أن يفكر دون جسد حيث يرى ديكارت: إن التفكير هو ما يجعلني أعرف وأتيقن مباشرة أني أنا الذي أقوم بكل أفعال؛ إضافة إلى ذلك ليس التفكير سوى وعي المباشر بنفسي في هذه المناسبة أو تلك؛ إنه معرفة الأنا لذاته".[14]
وإذا كان ديكارت في سعيه لبناء المعرفة والحقائق اليقينية؛ يشك في الحواس وكل ما يصدر عنها إضافة إلى ذلك؛ فإنه لم يكتف بتعليق الحكم أمام الأمور الداعية إلى الشك؛ إذ ينكر كل ما هو غير يقيني كوجود العالم الخارجي ووجود الآخرين ووجود جسده بالذات؛ وحتى العمل الطبيعي للعقل يكتشف فجأة أن هذا الإنكار يتضمن دائما إثبات وجود الكائن الذي يفكر؛ يقول ديكارت: "ألست أنا ذلك الشخص نفسه الذي يشك الآن في كل شئ على التقريب؛ ومع ذلك فهو يفهم بعض الأشياء ويتصورها ويؤكد أنها وحدها صحيحة؛ وينكر سائر ما عداها؛ ويريد أن يعرف غيرها؛ ويأبى أن يخدع ويتصور أشياء كثيرة؛ على الرغم من أنه أحيانا؛ ويحس منها الكثير أيضا؛ بواسطة أعضاء الجسم؛ فهل هنالك من ذلك كله شئ لا يعادل في صحته اليقين بأني موجود؛ حتى لو كنت نائما دائما وكان من منحني يبذل كل ما في وسعه من مهارة لإضلالي...[15] فمن خلال كل ما سبق، يتبين أن الشئ الوحيد الذي يصمد أمام هجمات الشك المتكررة؛ وبذلك فإن الكوجيطو هو الأساس الذي يمكن أن تبنى عليه جميع المعارف والحقائق؛ حيث إن معيار الحقيقة يجب البحث عنه في الكوجيطو لاكتشاف حقائق أخرى؛ باعتبار أنه قضية حدسية واضحة ومتميزة وبديهية؛ يصل إليها الحدس فقط دون تدخل الحواس؛ فهي واضحة لأننا لا نحتاج لغيرها لاكتشاف ذلك الوضوح؛ ومتميزة لأنها تختلف عن غيرها. لهذا فإنه للوصول إلى الحقيقة لابد من الحدس والاستدلال؛ فالحدس هو استيعاب مباشر لطبيعة الشئ وماهيته؛ ونظرة لا يقوم بينها وبين تلك الطبيعة حاجز؛ فالبحدس يعرف وجود نفسه وتفكيرها وكذلك يعرف الدائرة والمثلث والامتداد؛ والاستدلال معرفة تعتمد على معارف سابقة؛ أو هو استنتاج أشياء من أشياء أخرى.فديكارت استبعد الحواس من دائرة المعرفة؛ واعتبر أن كل ما يأتينا عن طريق الإدراك الحسي لا يمكن أن يقود إلا إلى الخطأ؛ لذلك وجب رفضه؛ وأن كل ما يمكن أن نعرفه حسيا عن العالم الخارجي يجب التشديد على أنه خال من كل حقيقة، غير أن الإحساس رغم ذلك له وظيفة أساسية تكمن في معرفة موجودات العالم الخارجي. ولذلك، فبالحدس وحده يتحرر العقل من سلطان الحس والخيال، حيث يحصل الفهم بواسطته؛ وليس عن طريق شهادة الحواس المتغيرة والأحكام الخادعة للخيال؛ وبذلك فكل واحد يستطيع بالحدس أن يبين أنه موجود ويفكر أن المثلث له ثلاثة أضلاع. ولهذا، فبالحدس والاستدلال يتم تحصيل معرفة يقينية وواضحة وخالية من أي تأثير للحواس والمادة وإذا كان ديكارت قد اتخذ في فلسفته الشك كمنهج لتحصيل المعرفة؛ فإنه في شكه المنهجي سيذهب إلى نقطة أبعد؛ فيما إذا كان هناك إله ماكر وخادع. ومن هنا سيقول بضرورة وجود ضامن للحقيقة؛ لأنه بدون وجود الله لا يمكن التأكد من وجود أية حقيقة. وبالتالي، فإن القضية الأساسية الأولى في "التأملات" هي قضية البرهنة على وجود الذات المفكرة؛ وكان أساس البرهنة على وجود الذات هو الانطلاق في الشك في كل شئ حتى وصل إلى شئ مفاده أنه يعرف أنه يشك والشك بطبيعة الحال هو خاصية من خصائص التفكير؛ ومن هنا بلورة الذات المفكرة في فلسفة ديكارت وهذا المفهوم –الذات- هو ترجمة فلسفية لمفهوم علمي هو مفهوم الملاحظ في فلك كوبيرنيك؛ فإن كوبيرنيك عاد إلى مفهوم الملاحظ لحل مشكلة تحير الكواكب؛ فإن ديكارت سيبرهن على وجود الذات لبناء كل الحقائق العلمية على أساس الذات بشكل واضح ومتميز؛ فهذه هي القضية الفلسفية الأولى (البرهنة على وجود الذات) التي ستؤدي بشكل منهجي دقيق إلى البرهنة على وجود الله كضامن للحقائق والمعارف التي تؤسسها الذات.
ب. البرهنة على وجود الله (القضية الثانية)
بعد البرهنة على وجود الذات، باعتبارها أساسا لبناء الحقائق والمعارف الفلسفية والعلمية؛ استدعت الضرورة النسقية ضرورة البرهنة على وجود الله كضامن للحقيقة؛ وهنا سيقول ديكارت بوجود ضامن للحقيقة؛ حيث سيسعى في التأمل الثالث "في وجود الله" لإثبات وجود الله كضامن للحقيقة؛ لأنه بدون وجود الله لا يمكن التأكد من وجود أية حقيقة. ومن ثم بدأ في البرهنة على وجود الله رافضا كل البراهين التقليدية؛ براهين طوما الأكويني وابن رشد؛ وكل براهين الفلسفة السكولائية التي تجد أساسها النظري في الفلسفة الأرسطية (الانطلاق من المعلولات إلى العلة للوصول إلى المحرك الأول)؛ وهذا ما لم يتبعه ديكارت معتبرا أنه لا يمكن للمادة أن تفكر؛ ولذلك فإن الشك، باعتباره أول خطوة في التأمل الفلسفي يقضي على المعرفة الحسية؛ حيث إنه مع ديكارت لم يعد العالم واسطة بين الإنسان والله؛ وهذا ما استدعى ميتافيزيقا جديدة لا تأخذ المادة كواسطة للبرهان على العالم؛ لأن المادة عاطلة؛ بل أكثر من ذلك فهي مجرد قوانين ميكانيكية؛ ولهذا فإذا كان الكوجيطو بمثابة أساس نظري لجميع المعارف وأول قضية حدسية واضحة ومتميزة؛ التي تبقى أمام هجمات الشك؛ فإن القضية الثانية الواضحة بعد الأنا عند ديكارت هي الله. وفي الواقع فإذا تمت البرهنة على وجود الله أصبح الخروج ممكنا من النفس إلى العالم والكون والوجود؛ فالله الذي نبرهن على وجوده هو الكائن المطلق القادر على إيجاد عالم وكون بالمعنى الصحيح؛ وهو الموجود الذي لا يخدع مخلوقاته"[16]. ولهذا، فإن النظر في أفكار النفس يؤدي إلى تقسيم تلك الأفكار إلى ثلاثة أنواع؛ حيث يميز ديكارت بين أفكار خارجية أو عارضة؛ وأفكار مصطنعة ثم الأفكار الفطرية. يقول ديكارت "والحق أني ما دمت لا أرى وجها للظن بأن إلها مضلا؛ بل ما دمت لم أنظر بعد في الوجوه التي تثبت وجود إله أيا كان؛ فسبب الشك الذي لا يتعمد إلا على ذلك الظن سبب واه جدا وميتافيزيقي؛ إذا جاز هذا التعبير. ولكن يلزمني؛ لكي يتسنى لي أن أدرأه درءا تاما؛ أن أنظر في وجود إله ....ولي يتيسر لي سبيل النظر في هذا؛ دون إخلال بنظام التأمل الذي رسمته لنفسي - وهو أن أنتقل بالتدريج من المعاني التي أجدها أولا في ذهني إلى تلك التي قد أكتشفها فيه بعد - أقول لابد هنا من أن أقسم خطرات نفسي أجناسا؛ وأن أنظر في أي من هذه الأجناس يقع الصواب والخطأ على جهة التحديد.[17]
وكما سبق الذكر ومن خلال هذه القولة؛ فهناك ثلاثة أنواع من الأفكار؛ فالأفكار الخارجية هي أفكار عارضة صادرة من الحواس وتدل على موضوعات خارجية تشبهها، مثل أفكار اللون والصوت والطعم؛ ومركباتها من أفكار الأجسام؛ أما الأفكار المصطنعة فهي التي يعملها الخيال على أساس تلك الأفكار الخارجية السابقة؛ بتركيب مبتكر يجمع بعضها إلى بعضها الأخر كالقول مثلا: "الحصان الطائر" ثم أخيرا هناك أخيرا أفكار فطرية، وهي التي يتم التعرف عليها بمجرد النظر في طبيعتها؛ مثل أفكارنا عن الوجود والنفس والحقيقة والامتداد وعن الله؛ وتلك الأفكار ثابتة في النفس لا شك في وجودها مهما كان من وجود موضوعات خارجية تقابلها أو عدم وجود مثل تلك الموضوعات. ولهذا، فإن الفحص في الأفكار الأولى لا يؤدي إلى نتيجة ما؛ ذلك لأن الشك ينسحب على الحواس وعلى الموضوعات الخارجية المحسوسة؛ وبذلك يجب استبعاد تلك الأفكار العارضة ويجب أيضا استبعاد الأفكار المصطنعة؛ إذ مهما كان من قيمتها فهي صادرة أصلا عن الأفكار الحسية [18]؛ أما الأفكار الفطرية التي يقول ديكارت أنها وضعت في ذهني؛ فانطلاقا مها ستظهر فكرة الكائن الكامل التي يحملها في ذهنه والذي لديه المعرفة والقدرة الكاملتين؛ خالق جميع الأشياء الخارجة عن ذاته؛ فهذا الكائن الكامل موجود في الكوجيطو؛ لأنه بما أنني أشك فأنا ناقص؛ وبالتالي ضرورة وجود كائن كامل وهو الله؛ فهذا هو البرهان الأول على وجود الله كضامن للحقيقة؛ وبخصوص البرهان الثاني سيأتي ديكارت به لإثبات وجود كائن خالص؛ لذلك سيقول أن الله علة ذاته وعلة ذاتي أنا أيضا؛ فهذين الدليلين الأساسيين على وجود الله قدمهما ديكارت في التأمل الثالث؛ غير أنه لم يكتف بذلك بل أضاف دليلا ثالثا في التأمل الخامس الذي سيسمى فيما بعد بالدليل الأنطولوجي؛ حيث إنه في هذا الدليل تكون علاقة الله بوجوده كعلاقة المثلث ب 180درجة؛ أي إن ماهية الله تتضمن وجوده.
هكذا إذن برهن ديكارت على وجود الله كضامن للحقيقة، حيث اتبع في ذلك نظام الأفكار.ففصل بذلك بين الفكر والمادة وأزاح الإحساس عن دائرة المعرفة؛ لأن المعرفة اليقينية لا تتم إلا بالتحرر من الحواس والخيال؛ واتخذ من الشك منهجا للقضاء عن كل ما يصدر عن الحواس واعتبر أن الحدس وحده كفيل لتحصيل المعرفة اليقينية الواضحة والمتميزة.
ج. البرهنة على وجود العالم الخارجي (القضية الثالثة)
بعد برهنة ديكارت على وجود الذات -الكوجيطو- كحقيقة واضحة ومتميزة؛ ثم البرهنة على وجود الله، باعتباره ضامنا للحقائق والمعارف التي تتأسس على الذات المفكرة؛ فإن هذه القضية الثانية هي السبيل المنهجي والنظري للبرهنة على وجود العالم الخارجي وهذا ما سيؤكده ديكارت في التأمل السادس "في وجود الأشياء المادية وفي التمييز بين نفس الإنسان وبدنه"، وإن هذا التأمل هو أساس كتاب التأملات؛ إذ في هذا التأمل وصل ديكارت إلى الغاية النظرية التي كان يسعى وراءها، وهي تأسيس الفيزياء الحديثة؛ فهذا هو جوهر المشروع الديكارتي؛ أي إن هذا هو الهدف غير المعلن لديكارت منذ البداية؛ وهو تأسيس الفيزياء الحديثة؛ ونظرا لقوة سيطرة الكنيسة آنذاك، فإنه لم يعلن عن مشروعه بشكل صريح؛ وهذا ما سيوضحه في رسائله إلى صديقه "ميرسن" يقول ديكارت في رسالة إلى صديقه ميرسن "أقول لك فيما بيننا؛ إن هذه التأملات الستة تتضمن كل أسس فيزيائي لكن يجب كتمان ذلك"؛ ولذلك فإن غاية ديكارت هي غاية علمية وليس ميتافيزيقية؛ ولتوضيح هذه المسألة يرى الدكتور عبد المجيد باعكريم (في مقال في مجلة وليلي: العنف مقاربات فلسفية) أن إشكالية ديكارت لم تكن دينية ميتافيزيقية، وإنما علمية خالصة؛ فالميتافيزيقا لديه خادمة للعلم؛ وما يخدم إشكاليته ليس خلود النفس؛ وإنما التمييز بين النفس وقد اختزلت في الفكر؛ والمادة وقد ارتدت إلى الامتداد في مكونه الرياضي. أي أن الهدف والغرض النهائي عند ديكارت هو تعطيل المادة وذلك بتفريغها من كل الشوائب التي كانت عالقة بها منذ أرسطو؛ أي تخليص المادة من ذلك التصور الأنثروبومورفي القائم في المنظومة الأرسطية؛ وبذلك فإن تخليص المادة وتعطيلها هو ما سيؤدي إلى بروز مفهوم القصور الذاتي - العطالة - في الفيزياء الحديثة.
فإذا كان ابن سينا في العصر الوسيط قد ميز بين النفس والجسد من أجل البرهنة على خلود النفس؛ فإن ديكارت في العصر الحديث سيميز بين النفس والجسد ليس من أجل البرهنة على خلود النفس، وإنما من أجل التأسيس الفيزياء الحديثة؛ وذلك عن طريق التمييز بين الفكر والامتداد؛ إذ سيصبح الامتداد هو موضوع الفيزياء والفكر(النفس) موضوعا للميتافيزيقا؛ ومن هنا ستطرح إشكالية الإنسان في فلسفة ديكارت؛ فإذا كان أرسطو يعتبر أن التقاء النفس والجسد بالإنسان أمر طبيعي، فإن ديكارت سيعتبر ذلك بمثابة معجزة إلهية.
على سبيل الختم
تأسيسا على ما سبق، يتبين أنه لا يمكن فهم تاريخ تطور الأفكار العلمية والفلسفية إلا عن طريق الإمساك بقوانين تطور الفكر النظري؛ بدءا من المنظومة الأرسطية المشائية وصولا إلى المنظومة الفكرية الحديثة؛ وإن الإمساك بقوانين تطور الفكر النظري يتم ذلك بالكشف عن الإشكالات الأساسية التي تحرك الفكر النظري من الداخل بمعزل عن الذوات السيكولوجية؛ وهذه دعوة لقراءة تاريخ تطور الفكر الفلسفي والعلمي قراءة موضوعية وكونية تتجاوز الأشخاص والحدود الجغرافية؛ لأن ذلك هو السبيل لفهم منطق الفكر واستيعابه بشكل نظري.
وبذلك، فإذا كانت ميتافيزيقا أرسطو قائمة على فيزياء الأرض الثابتة مع المعلم الأول، فهذا يبين بشكل نظري أن وراء كل ثورة فلسفية هناك سند علمي؛ وهذا ما نجده في تاريخ الفكر الفلسفي والعلمي، وخصوصا في العصر الوسيط مع ابن الهيثم في البصريات (ثورة علمية) التي ستشكل أساسا لثورة فلسفية مفهومية مع "دانت سكوت" وهذا السياق النظري هو الذي سيؤدي إلى بروز الثورة الكوبيرنيكية مع كوبيرنيك، فهذه الثورة العلمية الفلكية شكلت أساسا نظريا لبروز فلسفة ديكارت، وهذا ما يوضحه ديكارت في رسالة إلى صديقه ميرسن يقول فيها: "لو كانت الكوبيرنيكية باطلة، فإن كل فلسفتي ستكون باطلة أيضا"؛ وبالتالي فهذا هو السياق النظري الذي ظهرت فيه فلسفة ديكارت بشكل عام؛ وهذا ما يتجلى بشكل واضح من خلال كتاب "التأملات الميتافيزيقية" الذي ترجم المفاهيم العلمية ترجمة فلسفية عن طريقها اكتملت المنظومة الفكرية الحديثة التي تأسست على مفهوم الذات (القضية الأولى في التأملات الميتافيزيقية) وهذا المفهوم نجد أسسه في بصريات ابن الهيثم في مفهوم الناظر الذي سيتطور في الفلك، ويترجم إلى مفهوم الملاحظ ليكتمل هذا المفهوم فلسفيا مع ديكارت في مفهوم الذات؛ الذي سيشكل أساسا للقضايا الأخرى في فلسفة ديكارت؛ وخصوصا القضية الثانية وهي "البرهنة على وجود الله" فالبرهنة على وجود الله عند ديكارت تتأسس على سببية فكرية، وليس على تراتبية مادية كما هو عند أرسطو والمنظومة المشائية بشكل عام (الانطلاق من المعلولات إلى العلة). وبذلك، فوجود الله في فلسفة ديكارت قائم على سببية فكرية؛ لأن التراتبية الأرسطية القائمة على ثنائية فوق/تحت؛ انهارت مع كوبيرنيك وغاليلي؛ فهذا ما يثبت دائما الفرضية التي انطلقنا منها منذ البداية ومفادها أن فلسفة ديكارت لا يمكن فهمها بشكل جيد دون وضعها في سياقها النظري وقراءتها قراءة علمية وفلسفية في الوقت نفسه؛ وبخصوص البرهنة على وجود الله عند ديكارت، فقد فرضته الضرورة النسقية؛ لأن غاية ديكارت ليست البرهنة على وجود الله، وإنما التمييز بين الفكر والامتداد من أجل الـتأسيس للفيزياء الحديثة. ولهذا، فإن فلسفة ديكارت هي نتيجة لسياق نظري وإشكالات فلسفية وعلمية بدأت من العصر الوسيط مع ابن الهيثم وابن سينا وطوما الأكويني وصولا إلى المنظومة الفكرية الحديثة التي تتأسس على فلك كوبيرنيك وفيزياء غاليلي وميتافيزيقا ديكارت؛ هذا من جهة ومن جهة أخرى، فإن فلسفة ديكارت قد فتحت الباب على مصراعيه لتطور الفكر النظري فيما بعد، سواء على المستوى الفلسفي أو العلمي؛ حيث إن فلسفة ديكارت قد أثارت إشكالات نظرية شكلت أساسا نظريا لظهور العلوم الإنسانية والفلسفة المعاصرة بشكل عام.
[1] أرسطوطاليس؛ كتاب النفس؛ نقله إلى العربية أحمد فؤاد الأهواني، وراجعه عن اليونانية: الأب جورج شيحاته قنواتي؛ الطبعة الأولى 1929 ص 128
[2] المصدر نفسه؛ ص: 129
[3] الشيخ علي الحسن ابن الهيثم: في المناظر؛ تحقيق عبد الحميد صبرة؛ الكويت؛ ص: 59
[4] المصدر نفسه: ص60
[5] توبي هف؛ فجر العلم الحديث: الإسلام-الصين- الغرب؛ ترجمة محمد عصفور؛ عالم المعرفة؛ أغسطس 1997؛ ص: 17
[6] محمد عثمان الخشت؛ العقل وما بعد الطبيعة: تأويل جديد لفلسفة هيوم وكانط؛ دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع؛ بيروت؛ ص 30
[7] Alexandre Koyré; Du monde clos à l’univers infini, Traduit de L’anglais par Raissa Tarr, Edition Galimard 1973, pour la traduction francaise, page ;13
[8] محمد هشام؛ في النظرية الفلسفية للمعرفة: أفلاطون- ديكارت- كانط؛ أفريقيا الشرق؛ الدار البيضاء؛ ص 70
[9] نجيب بلدي؛ نوابغ الفكر الغربي 12 "ديكارت" دار المعارف: الطبعة الثانية؛ القاهرة؛ ص 103
[10] مجلة وليلي؛ دفاتر المدرسة العليا للأساتذة بمكناس مجلة بيداغوجية وثقافية؛ العنف مقاربات فلسفية؛ مقال الأستاذ عبد المجيد باعكريم؛ العنف في تاريخ الفكر النظري إشكالية الإيمان والعقل نموذجا؛ ص87
[11] ديكارت؛ التأملات في الفلسفة الأولى؛ ترجمة وتقديم وتعليق: عثمان أمين؛ تصدير مصطفى لبيب؛ المركز القومي للترجمة القاهرة 2009؛ ص71؛
[12] المضدر نفسه؛ ص 93- 94
[13] Desacartes. Méditations métaphysiques .présentation et tradution de Michelle beyssade.le livre de poche classiques de la philosophir p 63
[14] نجيب بلدي؛ نوابغ الفكر الغربي 12 ديكارت؛ ص 99
[15] ديكارت؛ التأملات في الفلسفة الأولى؛ ص 102
[16] نجيب بلدي: نوابغ الفكر الغربي12 ديكارت؛ ص105
[17] ديكارت؛ التأملات في الفلسفة الأولى؛ ص ص 134-135
[18] نجيب بلدي؛ نوابغ الفكر الغربي12 ديكارت؛ ص ص 106-107