في التأسيس الفلسفي للأخلاق، من خلال مشاريع كل من: كونفوشيوس وإيمانويل كانت وطه عبد الرحمن

فئة :  مقالات

في التأسيس الفلسفي للأخلاق، من خلال مشاريع كل من: كونفوشيوس وإيمانويل كانت وطه عبد الرحمن

في التأسيس الفلسفي للأخلاق، من خلال مشاريع كل من:

كونفوشيوس وإيمانويل كانت وطه عبد الرحمن

يسمو الإنسان بكونه متخلقا، أو ربما يجوز لنا القول إنه لا يحمل صفة إنسان إلا بكونه متخلقا، لأن المرء بدون أخلاق لا يعدو أن يكون حيوانا يتصرف وفق دوافعه الطبيعية، وما تمليه الضرورات الطبيعية من نزوع حيوي ولذوي يكاد يعيد الإنسان إلى حالة ما قبل الحضارة، ومن ثم إن الإنسان بكونه موجودا أخلاقيا لا يمكنه أن يحيا على مستوى الغريزة وحدها[1]، وإذا نحن اعتبرنا حالة ما قبل الحضارة حالة من اللا قانون واللا انضباط واللا أخلاق، فإن هذا يعيدنا إلى تحليل سيغموند فرويد للموضوع، فهو الذي ربط بين الحضارة وقمع الجانب الغريزي من الإنسان، إذ وجد في الأخير أن الحضارة مبعث القلق[2] للإنسان الحديث بما هي قامعة نزوعاته الليبيدية وتطالبه -من باب الجبر الاجتماعي- باحترام قواعد السلوك والفعل والتفكير المناسبة للسياقات الثقافية التي تشكل في جوهرها الحضارة الإنسانية المعاصرة.

ثم إن الشعار المأثور القائل إن الإنسان كائن عاقل في عمقه يثوي مسلمة كون الإنسان مسكون بهاجس أخلاقي يجعله يضع بين قوسين كل مكنوناته ودوافع أفعاله وسلوكياته موضع التقييم الأخلاقي لتبيان مدى ملاءمتها للمعايير الأخلاقية، فالإنسان لا يفتأ يتساءل "ما لذي ينبغي علي فعله؟"[3]، إلا أن المنسي في هذا المستوى هو مدى ثبات هذه المعايير، أو لنطرح السؤال بشكل آخر قد يقوض هذه المحاولة من أساسها: هل يمكن التأسيس لأخلاق تشي كل الوقائع بأنها نسبية ومتغيرة؟ فالأخلاقي يختلف من دولة لأخرى، من مجتمع لآخر، من جماعة إثنية لأخرى، الأخلاقي في بلد ككندا قد لا يكون أخلاقيا في مصر، نفس الفعل قد يدخل ضمن ما هو مقبول أخلاقيا في حي الرياض بمدينة الرباط، لكنه يكون مرفوضا جملة وتفصيلا على المستوى الأخلاقي لدى سكان منطقة أسني بجبال الأطلس الكبير، وهذا شيء لا تخطئه عين الملاحظة، سواء السوسيولوجية المنهجية وحتى العين العادية؛ أي عين الحس المشترك، فكلاهما يؤكدان الطابع النسبي للأخلاق، لكن فلاسفة الأخلاق يقيمون فرقا منهجيا يخرجنا من مأزق النسبوية، فهناك المبادئ الأخلاقية من جهة، وقواعد السلوك من جهة ثانية، الأولى مطلقة، والثانية نسبية ومتغيرة[4]، ومن الأمثلة التي يسوقها الدكتور زكريا إبراهيم عن جانب الثبات وجانب التغير في الأخلاق مثال المرأة الهندية التي كانت قديما تحرق نفسها بعد وفاة زوجها، لكي ترقد بجوار شريكها في كفنه، وقد نستنكر اليوم هذا الفعل، لكننا لا نختلف حول ضرورة وفاء الزوجة لزوجها كمبدأ أخلاقي عام[5]، ومهمة الفيلسوف هي البحث عن هذه المبادئ المطلقة والتي تصلح لكل زمان ومكان؛ فالفيلسوف رجل يبحث في النهر المتدفق عن نقطة الماء التي لا تحرك ساكنا، وهي مهمة صعبة إن لم نقل "دون كيشوتية"!

هذا المشروع الدؤوب للفلسفة في البحث عن الثابت امتد حتى للمسألة الأخلاقية، فوسط ذلك التغير الذي يعمي الأعين، تلك النسبوية التي تصرخ في الآذان، يبحث الدون كيشوت – عفوا الفيلسوف عن الثبات والسكون والمطلق، فالرجل الفاضل هنا سيكون فاضلا هناك بالضرورة؛ إذ هناك مبادئ لا يمكن للأخلاق أن تحيد عنها، وإن فعلت فإن الفعل الأخلاقي كله سينسف وستهوي خيامه؛ إذ إن الوجه الآخر للنسبوية هو وفقدان الأساس والسيولة بلغة باومان، ما يعني أيضا اتساع وترهل المعاني الأخلاقية إلى مدى تكون فيه لا تعني شيئا ذا قيمة، ستتحول إلى سرديات وأساطير لا تصلح إلا في حكيها للأطفال قبل النوم، وهو شيء يجب أن نكون ضده إن أردنا استمرار الحضارة واستمرار العيش المشترك، فنسف الأخلاق يعني بما لا شك فيه نسف المجتمع، بل وحتى فكرة المجتمع من أساسها تكون مستحيلة التحقق ولو نظريا دون مسلمة الإنسان الأخلاقي الذي يحترم قواعد وآداب السلوك والفعل والقول والتصرف، ويراعي وجود الآخر في فسيفساء هذا الوجود الممتد في الزمان والمكان، وهذا هو الأمر الذي فطن إليه الفلاسفة وأرادوا أن يحولوا دون الوقوع فيه فكان جهدهم ملخصا في مسار البحث عن أساس للأخلاق، أساس متين يكون هو المبدأ والمنتهى في نظرنا وتفسيرنا وبحثنا في كل القضايا الأخلاقية، وإذ نعرض في هذه الورقة ثلاثة نماذج فلسفية في التأسيس للأخلاق، فإننا لا نقدمها على كونها هي فقط الموجودة في الساحة الفلسفية، وكذلك لا نقيم تراتبا تفاضليا بينها بل على العكس، فإن الأفكار الفلسفية لا تخضع لهذا النوع من الاقتصاد التراتبي؛ لأن فيه إجحافا كبيرا لجهد الفيلسوف وإغفالا وتعاميا عن سياقه التاريخي والاجتماعي وللمكون الابستيمي الحاكم لعصره، ولهذا أكون قريبا من التصور الذي يقارب بين تاريخ الفن والفلسفة، أو تاريخ الدين والفلسفة، [6] بكون الأديان على اختلافها هي أجوبة لسؤال واحد هو سؤال الظمأ الأنطولوجي العميق الذي يسكن الإنسان ويصاحبه في كل وقت وحين.

النماذج التي استقيناها هي مختلفة تماما، بل متناظرة، يفصل بينها حواجب تاريخية وابستيمية ودينية أحيانا، بدءا بكونفوشيوس الذي عاش في 551 ق.م.، ثم إيمانويل كانط في القرن الثامن عشر، ثم أخيرا المغربي طه عبد الرحمان المعاصر لنا.

كونفوشيوس ولحظة التأسيس العملي للأخلاق

يكثر الجدل عند الحديث عن كونفوشيوس خاصة بين من يخرجه من ركاب الفلاسفة، باعتبار أنها تقليد فكري يوناني بالأساس، وأن التقاليد الفكرية الأخرى تنتمي إلى مجال الحكمة الصوفية أو الروحية لا الفلسفة، وآخرون يرون أن الفلسفة ثمرة الإنسانية وليست لها جنسية أو هوية إثنية، ومن ثم فالمفاضلة بين مفكري الإنسانية على أساس إثني أو إقليمي هو غير مقبول، فالعبرة بالمتن والمعنى وقوة الطرح ووجاهته وليس جنسية إو إثنية، والحقيقة أن المتأمل والدارس للفكر الشرقي سيجد أن القول الذي يحصره في الروحانيات قول ظالم ومتهافت[7]، وأبرز دليل هو متن كونفوشيوس وفلسفته العملية والاجتماعية والسياسية المخالفة للكليشيهات التي تلصق عادة بالفلسفة الشرقية.

وبهذا يكون كونفوشيوس فيلسوفا لا يقل أهمية عن نظرائه اليونانيين، الأمر الذي يبدو واضحا من خلال مشروعه الفلسفي في الأخلاق الذي أراد منه صاحبه أن يكون بلسما للوضع السياسي والاجتماعي المتفكك، فكانت فلسفته فلسفة اجتماعية وسياسية بحق، يبحث من خلالها عن مبادئ الفعل التي تؤطر السلوك الإنساني وتؤدي به إلى الفعل الخير، ومن هنا نقول إن تأسيسه للأخلاق تأسيس عملي وواقعي، ويقوم بتصريفه عبر أربعة مبادئ، وإن شئنا الدقة: عبر مبدأ واحد رئيس تدور في فلكه ثلاثة مبادئ فرعية، إلا أنها لا تقل أهمية عن المبدأ الأول؛ إذ تتكامل كل هذه المبادئ في تشييد البناء الأخلاقي الذي يقدمه لنا كونفوشيوس كوصفة دواء لمجتمع أخلاقي تتحقق فيه الرفاهية والسعادة للناس[8].

المبدأ الأساس في التصور الكونفوشيوسي هو "جين"، والتي تحيل إلى معان عديدة كطيبة القلب الإنساني والإحسان والفضيلة والخير. إنها بمعنى آخر ما يجعلنا إنسانيين[9]، وعندما سئل هو نفسه عما هي "جين" أجاب كونفوشيوس قائلا: إنها حب البشر؛ لأن ما يشكل جوهر إنسانيتنا هي قدرتنا على الحب.

ويعتبر كونفوشيوس هذا المبدأ، المبدأ المطلق للفعل الإنساني، وبدونه تكون الحياة ظلاما وغير جديرة أصلا بأن تعاش.

وكما سبق الذكر، فهذا المبدأ يتقوى بمبادئ أخرى تساعده وتتكامل معه، من هذه المبادئ، ما يسمى "لي Li"[10]، وتحيل على قواعد اللياقة وآداب المجتمع، وتكمن أهمية هذا المبدأ في كونه الوجه العيني للمبدأ الأول، فالطيبة والخير والفضيلة التي تشكل روح المبدأ الأول تجد نفسها عمليا في "لي".

ونفس الأمر في المبدأ الثالث، وهو "هسياو Hsiao"[11]، وتعني ولاء الأبناء للآباء، وفيه يؤكد كونفوشيوس على قيمة العائلة؛ إذ هي مفتاح التشكل السليم للمبدأ الأول الأساسي في البناء الأخلاقي الكونفوشيوسي.

ففي العائلة يتعلم الطفل احترام الآخرين وحبهم، حيث يأتي الآباء أولا، فالإخوة والأخوات والأقارب، ثم باتساع النطاق التدريجي حتى تصل للإنسانية جمعاء، وتتعدد أشكال السلوك التي تنبع من هذا المبدأ، فيكون من الواجب على الفرد توقير العائلة واحترامها، وتوقير الأبوين ومن ضمن مظاهر هذا التوقير حماية الجسم من أن يلحق به أذى، حيث إن هذا الجسم من الأبوين وحمايته تكريم للأبوين، هذا فضلا عن السلوك الحسن ورعايتهما وإظهار الثراء العاطفي والروحي تجاههما، وهذه الفضيلة التي تنشأ في العائلة تؤثر في الأفعال خارج المحيط، فمن يحب أبويه وإخوته بإمكانه أن يحب الإنسانية بأسرها.

المبدأ الأخير يسميه كونفوشيوس "يي Yi"[12]، وتترجم عادة بالاستقامة، إن "يي" تدلنا على الطريق الصحيح للتصرف في مواقف محددة، حيث اإننا نكون على توافق مع "جين"، وهكذا فان "يي" هو الاستعداد الأخلاقي للقيام بالسلوك والقدرة على إدراك ما هو صحيح في آن معا.

كانط والتأسيس الميتافيزيقي للأخلاق:

مشروع فيلسوف التنوير إيمانويل كانط في الأخلاق، كان على النقيض من مشروع كونفوشيوس، فكانط يشدد على عدم جدوى بناء أساس للأخلاق من منطلق التجربة والواقع العملي، بل واعتبر كانط أن فعلا كهذا هو إساءة بليغة للأخلاق[13]، ولذلك كان يبحث عن أساس آخر، يكون أكثر قوة وثباتا، لذلك أراد تأسيس ميتافيزيقا للأخلاق، مستقلة تماما عن الإنسان وعن اللاهوت وعن الطبيعة المادية، فمنها نتصور الواجب والقانون الأخلاقي تصورا خالصا وبطريقة قبلية خالصة في العقل[14].

ويجب علينا أن نتعامل بحذر معرفي شديد عند القول إن كانط يؤسس للأخلاق ميتافيزيقيا، وهو نفسه يصحح التمثل الذي يمكن أن يتركب في ذهن القارئ عند قراءة العنوان، فلا يريد أن يبني مشروعه على الميتافيزيقا بكونها فلسفة تأملية، لكن على مجال آخر من مجالاتها، وهو ميتافيزيقا الأخلاق، وهو مجال لفلسفة عملية لا يهم فيها التسليم بمبادئ ما يحدث، بل التشريع لقوانين ما ينبغي أن يحدث حتى لو لم يقدر له أن يحدث أبدا، أي قوانين عملية موضوعية، وفي مثل هذه الفلسفة العملية لا يتم البحث عن الأسباب التي تجعل الشيء يبعث على الإعجاب أو النفور، ولكننا نتحدث هنا عن القانون الموضوعي العملي، وبالتالي عن علاقة الإرادة بذاتها، حيث يسقط كل ما له علاقة بالتجربة من تلقاء نفسه، ومرد ذلك إلى أن العقل بذاته وحده، إذا حدد السلوك أو الفعل، فلابد له بالضرورة أن يفعل ذلك بطريقة قبلية، فهذه الإرادة بالذات هي ملكة تحديد الذات للفعل، بما يتفق مع تمثل قوانين معينة، ومثل هذه الملكة لا يمكن أن نجدها إلا عند الكائنات العاقلة بحسب تعبير كانط.

إن الأخلاق الكانطية تعتمد بدءا على الإرادة الخيرة[15]، وعلى حرية الإنسان، لتصل إلى الأمر المطلق الذي يصوغه على الشكل التالي "لا تفعل الفعل إلا بما يتفق مع المسلمة التي تمكنك في نفس الوقت من أن تريد لها أن تصبح قانونا عاما"[16]، ولا يفهم كانط الإرادة الخيرة بكونها أصلا لفعل أو سلوك ينتج عنه أثر إيجابي مقبول ومرغوب فيه، بل هي إرادة خيرة في ذاتها، بغض النظر عن الأثر الناتج عنها، فالغايات والدوافع التي من الممكن أن تحرك إرادتنا وتؤدي بنا إلى الفعل لا تستطيع أن تعطي لأفعالنا أي قيمة مطلقة أو قيمة أخلاقية، بل يجب على فعل الإرادي كي يكون خيرا من الوجهة الأخلاقية أن يمر من ميزان السؤال التالي: هل تستطيع أن تريد لمسلمتك أن تصبح قانونا عاما؟ فالجواب عن هذا السؤال هو الكفيل بتحديد الأخلاقي من غيره في أفعالنا حسب المنظور الكانطي.

ويمكننا أن نصوغ الأمر المطلق للواجب بصيغة أخرى " افعل كما لو كان على مسلمة فعلك أن ترتفع عن طريق إرادتك إلى قانون طبيعي عام"، ويمكن لبعض الأفعال أن تطابق الواجب بدون أن تنبع منه، وإنما من ميل أو غاية أو دافع آخر وأن تقنع، وهي أفعال تستحق الثناء والتشجيع ولا تستحق الاحترام والتقدير؛ لأنها ينقصها المضمون الأخلاقي[17]، وهذه الميزة لا تتوفر في الفعل إلا عندما يكون مقصده ومنتهاه ومنطلقه شعور بالواجب ذاته، بشكل مجرد عن كل ميل أو رغبة أو هدف خارجي، وهو لا ينفي صفة الفعل الأخلاقي عما يسميه بالأمر الأخلاقي الشرطي[18]، الذي يكون خيرا بالقياس إلى مقصد ممكن أو واقعي أو بوصفه وسيلة لبلوغ شيء آخر يريده الإنسان، إلا أنه أقل قيمة ودرجة على المستوى الأخلاقي، من الصنف الثاني من الأوامر الأخلاقية؛ أي الأوامر المطلقة وهي التي تعبر عن فعل مطلوب من أجل ذاته، لا تربطه صلة بهدف آخر، بل وضروري ضرورة موضوعية.[19]

وينبني طرح كانط الأخلاقي على مبدأ إنساني مهم كان ضمن شعارات التنوير الكبرى، وهو مبدأ احترام الإنسان وتقديره، وألا نعامله كوسيلة أبدا، بل كغايات في ذاتها، تشترك في كونها أعضاء في مملكة الغايات، هذه المملكة التي يتم الانتماء إليها عبر التشريع لقوانينها الكلية، ومن تم الخضوع لهذه القوانين التي يتم تشريعها في هذه المملكة[20].

والأمر العملي المطلق في هذه المملكة هو أن تفعل الفعل، حيث تعامل الإنسانية في شخصك وفي شخص كل إنسان سواك بوصفها دائما وفي نفس الوقت غاية في ذاتها، ولا تعاملها أبدا كما لو كانت مجرد وسيلة[21]، وهذا المبدأ -الذي تعد بمقتضاه الإنسانية وكل طبيعة عاقلة أخرى بوجه عام غاية في ذاتها- لا يستفاد من التجربة، أولا بسبب طابعه العمومي؛ إذ ينطبق على جميع الكائنات العاقلة، ولا تكفي أي تجربة لتحديده، وثانيا لأن الإنسانية تتصور كغاية موضوعية ينبغي لها أن تكون الشرط الذي يحد من جميع الغايات الذاتية، وثالثا لأن هذا المبدأ إنما يصدر تبعا لذلك صدورا ضروريا عن العقل الخالص[22].

وبهذا يكون كانط قد نجح إلى حد كبير في صياغة العقل الأخلاقي للإنسانية من خلال الواجب المطلق، هذا الواجب الذي ينأى بنفسه عن كل محاولات الإحاطة به في التجربة والواقع اليومي للناس، إن تميزه وسر قوته يكمن في طابعه العمومي والتجريدي، ما منح كانط تلك المكانة المرموقة في الفلسفة الأخلاقية حتى كاد يكون من باب الكفر الفلسفي التطرق لموضوع الأخلاق دون التعرج نحو أخلاق الواجب الكانطية.

طه عبد الرحمن والتأسيس الائتماني للأخلاق

اللحظة الثالثة في التأسيس الفلسفي للأخلاق ستكون مع الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن، وهو مشروع انطلق من رؤية إسلامية صوفية أراد من خلالها صاحبها نسف التصورات الدهرانية للوجود والأخلاق؛ لأنها وفق تصوراته ومنطلقاته العقدية والفلسفية أدت إلى انحطاط وتردي القيم بالمجتمعات الغربية.

بالنسبة إلى فيلسوفنا، فإن مسار تردي الحضارة الغربية بلغ قمته مع نيتشه وماركس وسيغموند فرويد[23]، وفي الحقيقة ليس الوحيد الذي اتخذ موقف الرافض والمتوجس من التنوير، بل التقليد السلفي كله كان كذلك منذ لحظاته الأولى مع الأفغاني في ما اعتبره "رسالة الرد على الدهريين"[24]، غير أن نقد الأستاذ طه عبد الرحمن ليس نقدا عاطفيا أو أدبيا بقدر ما كان يتأسس على قواعد فلسفية ومنطقية –وهو أستاذ المنطق- متينة، فبالنسبة إليه مفهوم الإنسان الأعلى النيتشوي ليس ارتقاء بالإنسان بقدر ما هو انحطاط إلى رتبة الحيوان. أما التحليل النفسي الفرويدي والمفاهيم التابعة له مثل اللا وعي والأنا الأعلى، هو إنكار الشاهدية الإلهية، واستكمال إفراغ العالم من الدلالات الدينية[25].

ويمكن القول إن مشروع طه عبد الرحمن الفلسفي ينبني أساسا على مفهوم الأخلاق، فمنها انطلق نقده اللاذع للفلاسفة الدهرانيين، حيث رأى أن خطيئتهم تكمن في انزياحهم عن القيم الأخلاقية التي نجد لبّها وجوهرها في رسالة الأديان السماوية خاصة الدين الإسلامي. ولهذا نستطيع القول إن مشروعه أخلاقي أساسا، فبالنسبة إليه ليست الأخلاق عرض إنساني، بل هي نفسها جوهر إنسانيته، وليست من باب السنن التي يأخذ بها الإنسان أو يتركها دون ضرر، بل هي من الفرائض التي يختل بها قوام الإنسان، إذا ما أنزلها رتبة دون هذه الرتبة، فهي الأساس الذي يعلو به الإنسان عن باقي الموجودات، وفي طرح فيلسوفنا، فإن التصور الحداثي الغربي للإنسان بكونه كائنا عاقلا ومفكرا، هو تصور ناقص، وله في ذلك مبررات، منها أن العقل ليس حكرا على الإنسان، وأن الحيوانات لها نصيب من هذا العقل وإن بدرجة أقل[26].

وبالتالي لزم ألا تكون العقلانية هي فيصل التفرقة بين الإنسان والحيوان، ويسمي طه عبد الرحمن هذه العقلانية، بالعقلانية المجردة من الأخلاق، ويطرح فيلسوفنا في المقابل فكرة العقلانية المسددة بالأخلاق، أو الصفة الأخلاقية للإنسان التي يعتبرها مسلمة ينطلق منها في مشروعه الفلسفي؛ فالأخلاق هي فيصل التفرقة بين الإنسان والحيوان، باعتبار أن هذا الأخير ليس له سلوك أخلاقي بالمعنى الدقيق للكلمة.

ولا يقف فيلسوفنا عند هذه النقطة، بل يذهب إلى استشكال أصل الأخلاق ومصدرها، لكي يتجاوز القلق المفهومي الذي يطرحه الفعل الأخلاقي ومآلاته، ويرجع فيلسوفنا سبب هذا القلق إلى ضياع المرجعية في البحث الأخلاقي[27]، وتتلخص هذه المرجعية في الدين، "حيث إن فك الارتباط بين الأخلاق ومجالها الديني هو الذي أورد البحث فيها إلى ما عليه من قلق مفهومي واصطلاحي"[28].

وبهذا يعيد فيلسوفنا الوصل والرباط بين الدين والأخلاق، فلا أخلاق دون دين؛ إذ إن الأولى مفاهيم إنسانية معنوية غيبية، "فلا أخلاق بدون غيبيات كما لا دين دون غيبيات"[29]، وإذ يسلم طه بانبناء الأخلاق على الدين، فإنه يقيم الفرق بين طريقتين لهذا الانبناء: أحدهما الطريق المباشر، ويقوم في تلقي خبر هذه الأخلاق من الوحي الإلهي، والثاني الطريق غير المباشر ويقوم في اقتباس الأخلاق من الدين مع العمل على إخراجها عن وصفها الديني الأصلي أو مع التستر المبيت على أصلها الديني. ويندرج المشروع الفلسفي في الأخلاق للفيلسوف كانط حسب الفيلسوف طه عبد الرحمن ضمن الطريقة غير المباشرة، إذ عمل كانط على تحويل تصورات دينية إلى نسق فلسفي، أولا: بأخذ مقولات الدين واستبدالها بغيرها كالعقل بدل الإيمان، والإرادة الإنسانية بدل الإرادة الإلهية، ثانيا: عن طريق المقايسة ووضع الأحكام الأخلاقية على مثال الأحكام الدينية، فالله يشرع في الدين، والإنسان في نظر كانط هو المشرع[30].

خلاصة القول في مشروع فيلسوفنا هو أن الدين هو الإطار الذي يمد علم الأخلاق بتصورات وأفكار لا يمكن لنظرية أخلاقية أن تقوم دونها، وبمعنى آخر فالدين والأخلاق شيء واحد، فلا دين بغير أخلاق كما أنه لا أخلاق بغير دين.

ختاما نعيد التأكيد أن هذه المشاريع الفلسفية ليست هي الوحيدة الموجودة في الساحة الفلسفية، فعلاقة الفلسفة بالأخلاق هي علاقة ممتدة عبر تاريخ الفكر الإنساني، والدليل هو أن الأساطير وأشكال التفكير قبل فلسفية كانت هي الأخرى لا يعوزها البحث عن الهم والرهان الأخلاقي. لذا كانت جل الأديان القديمة وأشكال الاعتقاد القديمة وحتى المعاصرة تتوفر على بنية من التعاليم والأوامر والنواهي التي تحدد ما هو أخلاقي في مقابل ما هو غير ذلك[31]، وكلها تحاول الإجابة عن سؤال "ما الذي ينبغي علي أن أفعله؟"، السؤال الأخلاقي الذي يميز الإنسان عن باقي الكائنات، والجدير بالذكر أنه ليست جميع المحاولات الفلسفية تذهب في اتجاه بناء الأخلاق؛ إذ إن البساط تسحبه في الجهة المقابلة عقول مفكرة تريد أن تهدم الصرح الأخلاقي الذي يحاول البعض بناءه، وأبرز مثال على هذا نيتشه بمنهجه الجنيالوجي الذي وضع أصل الأخلاق موضع بحث وتشكيك لانتزاعها من تعاليها إلى أن تعانق حقيقتها المحايثة والنسبية[32]، أو الوضعية المنطقية التي رأت في الأحكام الأخلاقية مجرد تعبيرات عن بعض العواطف أو الانفعالات؛ إذ ليس لقضايا الأخلاق أي معنى نظري أو عرفاني، وأنها قضايا زائفة، ومجرد أوامر أو وصايا مشحونة عاطفيا ووجدانيا، وبالتالي لا سبيل إلى تقديم برهان إثبات أو نفي، إن على صحتها أم على كذبها[33]، وفي نفس الوقت فنحن لا نقيم تفاضلا من أي نوع –تاريخي أو نوعي- بين المشاريع التي تم بحثها في هذا المقال، فكلها في نظرنا متساوية لها وجاهتها ولها نقاط قوة ونقاط ضعف، ولسنا نروم تقييمها أو نقدها في هذا المقال، بل الهدف كان هو الانفتاح والتعرف على هذه النماذج وإحياء التفكير والوعي الأخلاقي في واقع لا يستطيع أحد التعامي على منحى التردي القيمي الذي أصبح يسلكه، خاصة مع الانتشار الواسع للفردانية الفجة وللتفاهة في وسائط التواصل الجماهيري على المستوى المحلي، والحروب الضارية واللا أخلاقية المنتشرة عبر ربوع الكوكب، وكذلك نزوع الرأسمالية المتوحشة إلى الربح بأي ثمن ولو كان الأمر على حساب الأخلاق والعيش المشترك، كل هذا وأكثر يجعل من مقالنا هذا محاولة بسيطة لإعادة النظر في أفعالنا أولا، والعمل ما أمكن على التأثير على المحيط إسوة بشعار منظمة أصدقاء الأرض:

"فكر بشكل عالمي، وتصرف واعمل بشكل محلي"" think globally, act locally"،

وأجد في هذه العبارة شيئا من كانط، حينما يدعونا إلى التصرف بكوننا مشرعين للأخلاق وخاضعين لها في نفس الوقت بانتمائنا لمملكة الغايات، أن نتصرف مع استحضار هذا الشعار واستحضار كانط وكونفوشيوس وطه عبد الرحمن هو انتصار للنفس، وللإنسانية، ولهذا الكوكب الذي يرحب بنا على بساطه، وهذا رهان للفلسفة اليوم، إعادة التفكير في الأخلاق من أجل عيش مشترك ومستدام.

[1] مشكلات فلسفية "الفلسفة الخلقية"، الدكتور زكريا إبراهيم، دار مصر للنشر، ص23

[2] "قلق في الحضارة" في مرآة الحاضر (alaraby.co.uk)

[3] مشكلات فلسفية "الفلسفة الخلقية"، الدكتور زكريا إبراهيم، دار مصر للنشر، ص8

[4] مشكلات فلسفية "الفلسفة الخلقية"، الدكتور زكريا إبراهيم، دار مصر للنشر، ص63

[5] مشكلات فلسفية "الفلسفة الخلقية"، الدكتور زكريا إبراهيم، دار مصر للنشر، ص62

[6] زكريا إبراهيم، مشكلات فلسفية "مشكلة الفلسفة"، مكتبة مصر، ص208

[7] جون كولر، الفكر الشرقي القديم، ترجمة كامل يوسف حسين ومراجعة د. إمام عبد الفتاح إمام، عالم المعرفة العدد 199، سنة 1995، ص10

[8] جون كولر، الفكر الشرقي القديم، ص348

[9] جون كولر، الفكر الشرقي القديم، ص350

[10] جون كولر، الفكر الشرقي القديم، ص352

[11] جون كولر، الفكر الشرقي القديم، ص 355

[12] جون كولر، الفكر الشرقي القديم، ص356

[13] ايمانويل كانط، تأسيس ميتافيزيقا الاخلاق، ترجمة وتقديم وتعليق الدكتور عبد الغفار مكاوي، مراجعة الدكتور عبد الرحمن بدوي، الطبعة الأولى 2002، منشورات الجمل، ص69

[14] ايمانويل كانط، تأسيس ميتافيزيقا الاخلاق، ص 73

[15] زكريا إبراهيم، عبقريات فلسفية: كانت او الفلسفة النقدية، ص133؛ وايمانويل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الاخلاق، ص37

[16] ايمانويل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الاخلاق، ص93

[17] ايمانويل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الاخلاق، ص47

[18] ايمانويل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الاخلاق، ص 80

[19] ايمانويل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الاخلاق، ص-ص: 80-81

[20] ايمانويل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الاخلاق، ص117

[21] ايمانويل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الاخلاق، ص109

[22] ايمانويل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الاخلاق، ص-ص: 111-112

[23] د. عبد الرزاق بلعقروز، جوانب من اجتهادات طه عبد الرحمن الحداثة والعولمة والعقلانية والتجديد الثقافي، الطبعة الاولي 2017، منشورات المؤسسة العربية للفكر والابداع بيروت لبنان، ص 19

[24] مقال "نحن وفلسفة الانوار" كمال عبد اللطيف، دراسات فلسفية اعمال مهداة إلى الأستاذ الطاهر واعزيز، منشورات كلية الآداب بالرباط 1993، ص83

[25] عبد الرزاق بلعقروز، مرجع سابق، ص23

[26] عبد الرزاق بلعقروز، مرجع سابق ص42

[27] عبد الرزاق بلعقروز، مرجع سابق ص 45

[28] مصطفى تاج الدين: "سؤال الاخلاق: مراجعة كتاب"، مجلة التجديد، الجامعة الإسلامية العالمية ماليزيا، العدد 12، 2002، ص236

[29] طه عبد الرحمن: سؤال الاخلاق، مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية، المركز الثقافي العربي، بيروت/الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2000، ص21

[30] عبد الرزاق بلعقروز، مرجع سابق، ص 46

[31] فرس السواح، دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني، منشورات دار علاء الدين، ص 68-80

[32] محمد عابد الجابري، قضايا في الفكر المعاصر: العولمة- صراع الحضارات- العودة إلى الاخلاق- التسامح- الديمقراطية ونظام القيم- الفلسفة والمدينة، الطبعة الخامسة، مركز دراسات الوحدة العربية، ص 48-50

[33] زكريا إبراهيم، مشكلات فلسفية "المشكلة الأخلاقية، ص-ص 67-68