في الجهاد الافتراضي
فئة : مقالات
في الجهاد الافتراضي([1])
تتصل الورقة العلميّة التي نقترحها بتناول وجه من وجوه الخطاب المكوّن لما يُسمَّى اليوم "الإسلام المرئي"، ونعني به الخطاب الجهادي على شبكات الميديا الاجتماعيّة أو الميديا الجديدة، وهو مصطلح يحيل على التكنولوجيَّات الجديدة للمعلومات والاتصال كالإنترنت والهاتف الجوَّال والتقنيات الرقميّة بشكل عام، وعلى ممارسات تواصليّة كالتي تحتضنها مواقع الشبكات الاجتماعيّة كالفيسبوك والتويتر وغيرها.[2] وهذه الظاهرة وثيقة الصلة بالثورة الاتصاليّة الحديثة التي داخلت الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة وحتى الدينيّة، وولّدت تحوّلات طالت الشأن الفردي والجماعي، والتي هي وجه من وجوه العولمة التي صار العالم يعيش ضمن نسقها. وهنا يتعيّن الانطلاق من بعض الملاحظات المنهجيّة:
- أوّلها: الاحتراز من بعض القراءات التي تسعى بشكل ضمني أو صريح إلى رفع الحرج عن المسلم الحزين في القرن الحادي والعشرين، الذي يرى حقول الدّم التي ترتكب باسم الإسلام. آية ذلك أنَّ كثيراً من القراءات تقوم اليوم بتبرئة الرسالة واتّهام التاريخ، ونحن نرى دون مواربة أنَّه لا وجاهة للانخراط في مثل هذه الثنائيّة التي تروم بلوغ فكرة أنَّ المسلمين حادوا عن مقاصد النص، وأنَّ النص بريء من وضع مرتكزات نظريّة لقتال الآخر المخالف، ذلك أنَّ الدارس اليوم لظاهرة الجهاد يجد نفسه إزاء منجز فاعل في تشكيل مرتكزات هذه الظاهرة وفي إسنادها، هو هذا الموروث الديني الذي تتغذّى منه الحركات الدينيّة والجهاديّة والجماعات القتاليّة المشكّل من نصّ ومن رجال عاشوا في تاريخنا الإسلامي ومن تاريخ تلقي ممارساته بظلالها على أجيال المسلمين إلى اليوم، خصوصاً ونحن نشهد اليوم عشرات الآلاف من المقاتلين يقاتلون باسم الإله وباسم الوفاء للنص وللممارسة الإسلاميّة الحقّة معاً.
- ثانيها: أنَّ الفهم السليم لتشكّل "إيديولوجيا الجهاد في الإسلام" أساسه مساءلة الموروث الديني ومساءلة تاريخنا العربي والإسلامي دون خوف أو تهيب، حتى إن كنَّا مدركين أنَّ الإجابات موجعة أحياناً كثيرة، وتفصيل القول فيها يخرج دون ريب عن حدود هذه الورقة. إنَّ الناظر إلى ترسانة المفهوميّة وإلى الأحكام المتصلة بالجهاد يجد نفسه أمام امتداد لجانب من الممارسات السياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة تأثر فيها مجتمع الدعوة والمسلمون بالمحاضن التي ظهر في نطاقها الحدث الإسلامي، مثلما يجد نفسه إزاء ممكنات تأويليّة ومجتمعيّة لعلها إلى جوهر الديانة أعلق، باعتبار أنَّ الديانات عموماً تنبني على مفهوم الحق المطلق وعلى مفهوم الحقيقة المطلقة وعلى عدم قبول معتقد الآخر. الديانات وخصوصاً في الخط التوحيدي منها تبني حقائقها في واقع الأمر على نفي حقائق الآخر وتقويض البناءات العقديّة والرمزيّة التي يمتلكها المخالف.
- ثالثها: إنَّ التأكيد على ضرورة تجنّب القراءات التنزيهيّة للنصّ التأسيسي وللتجربة المحمديّة والاستعاضة عنها بالقراءة التفهميّة الرصينة للتاريخ الإسلامي يدفع إلى الإقرار بوجود علاقة وثيقة بين تشكّل نظريّة الجهاد في الإسلام، وصياغة إيديولوجيا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه الإيديولوجيا في تقديرنا هي في جانب كبير منها نظريّة افتراضيّة، وما نقصده بذلك بناءها على فرضيّة اعتبار أحكام الفقهاء تطبيقاً أميناً لما نصّ عليه القرآن من الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في آيات عديدة، وهنا لا بدَّ من التأكيد على البون الشاسع الذي يفصل دعوة القرآن إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضمن السياق التاريخي لمجتمع الدعوة باعتبارها رسالة تدعو إلى الإيمان بالله ونبذ الشرك وعبادة الأوثان كما تدعو إلى الخير وإلى الصلاح[3]، عن تحوّل هذه الدعوة إلى مؤسّسة رسميّة يشرف عليها جهاز الدولة تقوم على "الأمر بالمعروف إذا ظهر تركه والنهي عن المنكر إذا ظهر فعله".[4] لقد استندت إيديولوجيا الجهاد في الإسلام إلى موروث ديني، وانتجت مفهوماً للحقّ لا تراه الجماعة إلا في مقالتها وفيما فرضه سلطان الواقع وتمّ قبوله وتبريره بحجج دينيّة أفضت إلى شرعنة العنف المقدَّس: وهو عنف الكلمة وعنف اليد اللذان تفرّدت بهما المؤسّسة الدينيّة، في حين ترك مجال القلب للمتصوّفة يستثمرونه على نحو فعّال في مجال جهاد النفس.
- رابعها: ضرورة التأكيد على أنَّ الإيديولوجيا المتصلة بالجهاد التي ساندتها المؤسّسة الدينيّة تظهر بجلاء المصالح الفرديّة والجماعيّة التي كان يتمّ التشريع لها، ومن الطريف التوقف على التداخل بين إيديولوجيا الطاعة ومن أهمّ وجوهها إلحاح علماء الدين على وجوب الطاعة لأولي الأمر بررة كانوا أو فجّاراً، وتضامنهم مع السلطة السياسيّة القائمة التي كانوا يضفون عليها كلّ أشكال الشرعيّة، حتى اعتبروا كلّ خروج عن السلطة مساساً بالمقدّس، في المقابل كان الجهاد إيديولوجيا خارجيّة تتوافق مع أدوار العلماء القائمة، والحرص على صيانة القيم الاجتماعيّة والدينيّة وعدم الخروج على السائد ومراقبة سلوك المؤمنين في الفضاء الاجتماعي الذي يشغلونه ويراقبونه من دور وأسواق وحتى مساجد. مفارقة بيّنة إذن بين الدعوة إلى المحافظة والطاعة لولي الأمر من جانب والدعوة إلى العنف وإلى الجهاد وتغيير الأنظمة السياسيّة المخالفة بالقوّة وخصوصاً بسلاح الفتوى من جانب آخر، والنأي من جانب ثالث بأنفسهم عن كلّ ما من شأنه أن يعرّض حياتهم أو مصالحهم للخطر، ونحن نرى بجلاء كيف أنَّ الدعاة اليوم يفتون ويدعون إلى الجهاد بالنفس والمال، ولكنّهم في المقابل لا يعرّضون حياتهم ولا مصالحهم الخاصّة للخطر.
1- الجهاد الافتراضي والعولمة
إنّ المقدّمات الآنفة الذكر تتيح مساءلة الخطاب الديني المبثوث في مواقع التواصل الاجتماعي بنية وصورة وخطاباً تواصليّاً جديداً للبحث في وجوه اتصاله بالخطاب التقليدي ووجوه انفجار بنيته ومكوّناته وعناصره.
وهنا سنطرح جملة من الأسئلة: هل الخطاب الديني المتصل بالجهاد عبر مواقع التواصل الاجتماعي ظلّ خطاباً مشدوداً إلى المرتكزات التقليديّة التي انبنى عليها الخطاب القديم؟ أم تشكّل بعناصر ومكوّنات جديدة ومتنوّعة مثل خطب الدعاة والفتاوى أون لاين أو السيبرنيّة والأناشيد الدينيّة والأدعية ومختلف المحامل الجديدة مثل صور المجاهدين ومقاطع الفيديو التي تحكي بطولات المجاهدين وتصوّر هزائم أعدائهم؟ ما معالم الفاعلين في المسالك التواصليّة الجديدة؟ وما الهيئة التي تشكّل وفقها هذا الجهاد السيبرني؟ ما مكوناته؟ وما معالم المتقبّلين لهذا الخطاب التواصلي الجديد؟
نشير بدءاً إلى أنَّ ما نشهده اليوم من عنف مستشر تحت مسمّى الجهاد يكشف عن أواصر قويّة لا تخفى بين الجهاد والإرهاب بصفته جريمة جنائيّة في القوانين الدوليّة، حتى إن اختلف تعريف الإرهاب وتكييف الفعل والقائم به والدوافع إليه. واليوم نشهد تداخلاً بين مفاهيم مثل التطرّف الديني والإرهاب خصوصاً مع تسارع آليّات العولمة واتساع مداها لتشمل أصقاع العالم الإسلامي.
وهنا يهمّنا التأكيد في هذا المستوى على العلائق القائمة بين الجهاد كإيديولوجيا تنهض على مرتكزات ومبرّرات عقائديّة، وبين العولمة بصفتها سيرورة صارت تتجاوز وتتحدّى كلّ السلط التقليديّة: فهي تتحدّى الرقيب السياسي والاجتماعي والديني، وتتخطّى الحدود الماديّة للدول ولانتشار الأفكار.
وإذا كانت المفاهيم المتعلقة بالعولمة مفاهيم رجراجة متحرّكة ومتحوّلة، والموقف منها متباين، ذلك أنَّ ثمَّة من يراها شكلاً من أشكال الهيمنة الغربيّة المجسّدة للمركزيّة الأوروبيّة في العصر الحديث، وثمَّة من يعتبرها ضرباً من العنصريّة والرغبة في السيطرة والهيمنة، في الوقت الذي يركّز فيه آخرون على البعد الوجودي للعولمة فيما أفرزته من تغيير وحركيّة في العالم؛ إذا كانت المفاهيم المتعلقة بالعولمة هذا حالها، فإنَّ المفاهيم المتعلقة بالجهاد بدورها مفاهيم مكتنزة متحرّكة ومتحوّلة، فالكثيرون يسبغون الشرعيّة الدينيّة على العنف الذي تمارسه الجماعات القتاليّة في أماكن عديدة من العالم تحت تسمية الجهاد.
من هذا المنظور يتعيّن مقاربة إشكاليّة الجهاد بمنطق السوق (الربح/ الخسارة)، بمعنى ماذا يغنم هؤلاء الملتحقون بالجماعات المقاتلة. الجهاد تحرّكه عناصر قديمة ومتجدّدة في آن واحد: أوَّلاً: الغنيمة[5]، وقد تحوّلت رهاناتها اليوم إلى حقول غاز وبترول وسبي لنساء الغير في الدنيا، قبل مغانم الآخرة التي يوعد بها المؤمن. ثانياً: القبيلة، وقد تحوّل كلّ العالم إلى أرض جهاد تتيح التضامن بين سائر أفراده. ثالثاً: العقيدة، وقد صارت تُكيفها إيديولوجيات الهيمنة والعنف، وهي التي تغذي الحركات الجهاديّة اليوم. نحن إزاء إرهاب معولم تحت مُسمَّى الجهاد، تسنده في الشرق كما في الغرب كتابات مشرعنة للعنف تحت غطاء ديني أو سياسي ما، تعمل على تمجيد الموت وطلبه والتغني به وتسويقه[6]، إنَّه سلعة إسلاميّة رائجة في سوق التبادل في العالم الإسلامي وفي الغرب أيضاً، ذلك أنَّ السلفيّة المقاتلة في الغرب تمتح وتتغذّى من "مخيال سياسي" يسمح بتصوّر نفسها جزءاً لا يتجزّأ من معركة عالميّة بين قوى الإسلام والغرب[7]، بفضل انتشار وسائل الإعلام الحديثة وشيوع التنقّل والهجرات بما يساهم في إحداث تحوّل في معتقدات المسلمين الغربيين نحو تبنّيهم إيديولوجيا إسلاميّة عنيفة.[8]
إنَّ الجهاد في صيغته الراهنة أشبه بزواج المتعة بين أيديولوجيا دينيّة عنيفة وبين العولمة، ذلك أنَّ الترابط والالتقاء بينهما حوّل العنف الديني "المشرعن" إلى إيديولوجيا عنكبوتيّة تبثها المحامل الاتصاليّة الجديدة التي تخترق كلّ الحواجز الماديّة للدولة/ الوطن. ومن وجوه هذا الترابط العلائقي بينهما إسهام الوسائط الحديثة في تكوين المجتمع المقاتل، وكذلك أهميَّة الميديا الفائقة في حياة الأفراد والجماعات المقاتلة، من المهم أن نفهم كيف أنَّ هذه السلفيّة المقاتلة (بل السلفيات) تعمل على تشكيل هويّة المسلم، وتكثّف الشعور بالظلم والاضطهاد عبر استخدام متخيّل سياسي وجغرافي جديد لمفهوم الأمّة، مؤثّر وفعّال يتصوّر فيه المجاهد نفسه مدافعاً عن المسلمين في أنحاء العالم، أي في المعركة التي يشنّها إخوانه في الجهاد سواء تعلق الأمر بباريس أو نيويورك أو مقديشو أو الرّقة.
وهنا يجب أن تكون لنا أدوات تحليليّة جديدة لقراءة خطاب الجهاد الافتراضي المتضمّن صور حقول الدم والعنف ومشاهد قطع الرؤوس والتفجيرات وأشلاء الانتحاريين وضحاياهم، وما تحدثه من وقع ومن آثار بالغة الشدّة لا تحدثها بالأثر نفسه أيَّة أشكال إعلاميَّة أخرى، على نحو يصير المشاهد البعيد عن مكان الحرب أو المعركة مشاركاً في توليف الأحداث التي يتقبلها في سرديّة معيّنة، ووضع نفسه داخل هذه السرديّة، ناشطاً متّحداً مع الآخرين ومشاركاً لهم في النضال العالمي نفسه[9]، وفي الانتماء إلى "أمّة متخيّلة" اكتسب كيانها الحياة عبر نقل الحوادث من مناطق مختلفة في العالم إلى شاشات حواسيبنا ومحاملنا الرقميّة.
الجهاد الافتراضي سردية جديدة عابرة للقارّات تساس بشكل متزامن من ساحة المعارك التقليديّة التي تدار فيها الحروب، ومن الميديا الجديدة وخصوصاً مواقع التواصل الاجتماعي التي استحدثت أرض معركة جديدة فيها كلّ عناصر الحرب الماديّة والرمزيّة التقليديّة:
- أرض المعركة: هي هذه الأرض الافتراضيّة الكبيرة التي تشمل كلّ العالم.
- المجاهدون أو المقاتلون: وقد صاروا اليوم يشكّلون جيشاً سيبرنيّاً رهيباً، وهو جيش غير نظامي وغير مرئي ولا يمكن تحديد عدده ولا معالم كلّ المنتمين إليه أو هويّاتهم.
- الأعداء: ويلاحظ أنّ مفهوم العدو مفهوم متحرّك متحوّل، فهو الكافر/ المارق/ الرافضي/ المنافق/ المشرك/ الملحد/ المخالف، وفق منطق مركّب يتدخّل في بنائه العقدي والمذهبي والجيوسياسي وأيضاً عقل إدارة الحرب البراجماتي، نفهم اليوم كيف تتمّ صناعة العدوla fabrication de l’ennemi [10] كما نتبيّن بشكل أفضل سبب تبجيل الدعاة "الجهاد" في سورية على جهاد العدو الصهيوني في فلسطين على سبيل المثال.
- أهداف المعركة: ويلاحظ أنَّ المعجم المعتمد ظلَّ تقليديّاً (إعلاء كلمة الله/ الإثخان في الأرض/ التمكين/ الاستخلاف) في حين أنَّ محامله الدلاليَّة ما تفتأ تتطوّر.
- أدوات الحرب: الجهاد يساس بأسلحة مختلفة وفي مواقع مختلفة، وتعاضد معارك الأرض ومعارك الواقع الافتراضي، فالمعارك التي تجرى على الأرض تساس بسواعد الرجال، ولكن أيضاً بكلّ أشكال الخطاب بالكلمة التي تحوّلت إلى كلمة مرئيّة ومقالة بصريّة.
نحن إزاء أدوات غير تقليديّة مشكّلة في خطاب مكتوب ومسموع ومرئي في آن واحد، ومن المهم التنبّه إلى هذا التحوّل في الثقافة العربيّة الإسلاميّة التي كانت في تاريخها تخشى الصورة والتصوير وتقاومهما بضراوة، إلى واقع جديد صار فيه الجهاد الافتراضي جهاداً ومقبولاً بل هو مطلوب، والمفارقة كبيرة بين ذلك المشهد البائس لرجال طالبان وهم بصدد إحراق الصحون الهوائيّة اللاقطة (وهو موقف رافض للصورة ورافض للانفتاح على العالم وعلى العولمة وعلى آثارها المهدّدة لمرتكزات الذات الماديّة منها والرمزيّة، وهو المشهد الذي تكرّر في الكويت وفي أماكن أخرى)، وبين موقف صيغ على التدريج مع الوعي بأهميّة الصورة، هذا السلاح الذي لا ينفذ إلى بيوت أمّة المسلمين فحسب، وإنّما بالإمكان استخدامه للنفاذ إلى بيوت الكفّار والمشركين أيضاً وتبليع الدعوة إليهم.
هذا يعني أنَّ الجهاد الإسلامي انخرط في إيديولوجيا براجماتيّة تبنّاها لتغيير العالم بكلّ الأسلحة المتاحة. والميديا الجديدة، هذه المحامل الاتصاليّة الحديثة، هي من أشدّ الأسلحة فتكاً، ويكفي أن نذكّر بأنَّ التدخّل في سورية هيّأت له خمس وسبعون فتوى من مؤسّسات رسميّة وغير رسميّة، على رأسها اتحاد العلماء المسلمين ورابطة العالم الإسلامي وغيرها، حين أصدروا فتوى الجهاد بالنفس والمال والسلاح في سورية.[11]
الجهاد الافتراضي عماده صورة، هذه المعرفة السائلة le savoir liquide، هي سلاح فتّاك يستخدم بفاعليّة في خطاب الدعاة، بما يتيح إنتاج فكر أكثر توحشاً وعنفاً من الخطاب القديم، مع القدرة على تخطّي كلّ الأنظمة الرقابيّة، والقدرة على أن يتمّ تمرير هذا الفكر بمحامل جديدة هي أكثر تأثيراً وقدرة على النفاذ إلى جموع المتقبّلين. والواقع، توجد مآزق حقيقيّة للأنظمة التي تحاول منع انتشار الفكر الجهادي بالتضييق على تدفّق الإنترنت وكبت الحريّات والرقابة المسبقة على الحريّات الفرديّة وفرض قوانين صارمة في هذا الشأن.
2- في مكوّنات الخطاب والفاعلين فيه
يمثّل خطاب الجهاد المبثوث في الميديا الاجتماعيّة خطاباً بصريّاً خليطاً من فكر قديم يتمّ تفتيته ودمجه وإعادة إنتاجه وربطه بمعطيات جديدة وبثّه في الواقع عبر شبكات لإدارة العنف المقدَّس. وهنا يجوز الحديث عن إسلام مرئي تشكّله صورة وصوت ومؤثرات سينمائيّة متطوّرة، وظيفته المحوريّة الهيمنة الخفيّة حيناً والصريحة أحياناً على جموع المتقبلين له وحمل الآخرين على الاعتقاد في صحّة هذا الخطاب والخضوع له خضوعاً مطلقاً، حتى إن غاب الإقناع وحلَّ محلّه التأثير النفسي في الآخرين.
يتشكّل هذا الخطاب من ماض متخيّل يصير زمناً مرجعيّاً إليه تنشدّ نفوس المؤمنين وإليه تتجه أفئدتهم لمعانقة مسلمي العصر الأوَّل. هكذا يصير منتهى أمل المتقبّل أن يعانق هذا الجيل الفذ وهذا الزمن الأوَّل/ الصافي بواسطة ماضٍ متخيّل مدين بعناصره إلى النظرة التي ظلّ كلّ جيل يُسقطها على الجيل السابق عليه وعلى السلف عموماً، وزاد في تضخيم هذا الماضي الشعور بتضاؤل الذات وحقارتها إزاء السلف.
إنَّ الصورة التي يتمّ تسويقها في الميديا الاجتماعيّة هي صورة إيديولوجيّة ممأسسـة تتغذّى من ماضٍ سحيق، وتستخدم هذه الصورة بفاعليّة لإعادة صناعة الواقع عبر توظيف تقنيات فنيّة وسينمائيّة متطوّرة لتصوير هيئات المقاتلين وقوّة عددهم وعتادهم وأرض معاركهم وشعاراتهم، في مقابل تصوير الأعداء وهم مهزومون مدحورون خائفون مشرّدون في مشهديّة عنيفة لطريقة إعدام الأسرى بالحرق أحياء أو بذبحهم وتقطيع رؤوسهم والتمثيل بجثثهم.
ومن مكوّنات هذه المقالة المرئيّة والمسموعة التي تُعدّ بضاعة رائجة في إسلام السوق الأدعية التي يتمّ تقاسمها ويتبادل مضامينها المجاهدون والمتقبلون لها، تلك الأناشيد الجهادية[12] التي تصوّر بدورها تصويراً سينمائيّاً، وأشهرها نشيد الغرباء الذي يؤكّد على معنى الغربة، وعلى أنَّ الخلاص لا يتأتى إلّا ببذل النفس والتضحية بها لمعانقة الجيل الإسلامي الأوَّل.
وإذا كانت "صناعة الكلمات" في المجتمعات التقليديّة من اختصاص رجال الدين، يوكل إليهم أمر تحصيل تلك المعرفة ونقلها إلى جموع المتعلّمين[13]، فإنَّ معالم الفاعلين الاجتماعيين القائمين على إنتاج هذا الخطاب أصابها التغيّر اليوم، تماماً كما طال المحامل والوسائط التي يمرّر بواسطتها هذا الخطاب، وإن ظلّت البنى الفكريّة وآليات التفكير جامدة لا تتغيّر.
إنَّ الفاعل الاجتماعي، هذا الباث للخطاب الديني، لم يعد يمثله الخطاب الديني الرسمي، ولم تعد تحتكره المؤسّسة الدينيَّة كما كان في السابق، ذلك أنَّ الفضاء الافتراضي مكّن اليوم من زعامات دينيّة جديدة ومن فاعلين اجتماعيين جدد هم واعون بقيمة الصورة يحرصون على امتلاكها، ويستعينون بمختصّين في صناعة الميديا الجديدة بأشكالها الجديدة المتطوّرة والمتغيّرة، الذين هم بدورهم بمنأى عن العلوم الإنسانيّة.
إنَّ هؤلاء الفاعلين الجدد خليط مشكّل ممَّن هم ينتمون إلى المؤسسة الدينيّة الرسميّة تعوّض به هذه المؤسسة ما شهدته من انحسار في سلطتها[14]، ولكن ممَّن هم خارجها، هؤلاء المتمكّنون من المعرفة الرقميّة الحديثة والحريصون على امتلاك التقنيات التواصليّة الحديثة وتوظيفها توظيفاً رهيباً للتأثير في الرأي العام واستمالة المتفاعلين مع هذه الوسائط بأشكال مختلفة، خصوصاً بعد أن تحوّل العالم اليوم إلى شاشة كبيرة بما أتاح من حريّات كبيرة في مستوى حريّة الإبحار في شبكات الميديا وفي التعبير عن الآراء أيّاً كان جموحها، حتى لو استخدمت هذه الحريّة بفاعليّة للفتك بالحريّة.
وهنا يتعيّن ملاحظة تغيّر هيئات الفاعلين الاجتماعيين ومعالمهم في خطاب الجهاد، ذاك أنَّ التداخل بين الباث والمتقبل في الوسائط الحديثة، دفع الجميع إلى التقبّل، وفي الآن نفسه إلى البثّ والإنتاج، فالذي يتمّ استقطابه بالخطاب الجهادي يتحوّل بدوره إلى فاعل بوجه من الوجوه في هذا الجهاد الافتراضي.
إنَّ تحليل آثار هذا الخطاب المبثوث في الميديا الاجتماعيّة في المتقبل يظهر أنَّ هذا الخطاب المشكّل من نصوص قديمة مكتوبة ومصوّرة ومن فتاوى وصور وأدعية ومقاطع فيديو لمعارك يقوم بها المجاهدون، يمكّن مئات الآلاف من المستلبين من معايشة هذه الأحداث، ومن المشاركة في هذا الجهاد الافتراضي. وهنا يتعيّن أيضاً تحليل مختلف الممكنات التي يتيحها الفضاء الافتراضي لإبداء الرأي ومشاركة الآخرين ما يروق لنا وما نعتقد في صحته ووجاهته.
إنَّ "خطاب الجهاد المعولم" ليس بوسعه أن يصبح له هذا النفاذ وهذه القوة في إسناد المعنى إن لم يوافق أفق انتظار معيّن لدى متقبّل، يسعى إلى تحديد معالمه وفهم أسباب استمالة الخطاب الجهادي العنيف له العديد مراكز البحث والدراسات الاستراتيجيّة وعلماء الاجتماع والنفس والجريمة.
ولا نرى الباحث الدارس لحضور المرأة في خطاب الجهاد في الميديا الاجتماعيّة في حاجة إلى أن يتبّنى قراءة نسويّة ليتبنّى الموقف المناهض، على اعتبار تاريخ المرأة في الإسلام عموماً هو تاريخ الإقصاء والنسيان والتهميش، فالقراءة الموضوعيّة تبين أنَّ المرأة أقصيت من فضاءات المعرفة ومن الفعل في المجال العمومي وحاصرها الفقهاء بترسانة من الأحكام التي رسّخت دونيتها وردّتها إلى فضاء خاص لا تغادره إلّا لحاجة متأكّدة، حرصاً على عدم اختلاط النساء بالرجال، بيد أنَّ العالم الاتصالي الحديث والوسائط الحديثة فرضت وجوهاً جديدة للاتصال وقوّضت جانباً من التقسيم الجندري المألوف للفضاء، فالمرأة لم تعد محتاجة للبقاء في بيتها كي لا تخالط الرجال، العالم الخارجي هو الذي صار يخترق البيوت وينفذ إلى الخلوة التي ردّت المرأة إليها.
شتّان بين ترسانة الأحكام التي حاصر بها الفقهاء المرأة وسيّجوا بها خروجها من البيت، وأبو حامد الغزالي في كتاب الإحياء نموذج واضح على ذلك، وبين العالم التواصلي الجديد وقد دكّ مفهومي الفضاء الخاص والفضاء العام، كما أنَّه قوَّض مفهوم العورة كما بناه الفقهاء.
ومن نتائج هذا الوضع الاجتماعي والثقافي الجديد ما يلاحظ من سعي الفقهاء والدعاة اليوم بشتّى الأسلحة وخصوصاً سلاح الفتوى إلى معالجة آثار الإرباك الذي أحدثته التكنولوجيا الحديثة على أحكامهم، ومحاصرة آثار هذا الواقع الاتصالي الجديد على وضعيّة المرأة، وخصوصاً على الجسد الأنثوي الذي يرومون إبقاءه تحت مراقبتهم، والفتاوى المحرّمة لإبحار المرأة على شبكات الإنترنت التي تتيح لها الاختلاط برجال غرباء وتمكّنها من خلوة افتراضيّة ينشأ عنها في رأي الفقيه كثير من المحظورات دليل على ذلك.
والطريف الذي نقف عليه هو هذا التكيّف السريع الذي لا يخلو من براجماتيّة، ومن قبول ضمني بالمنطق الذي فرضته العوالم التواصليّة الجديدة على المؤسّسات والأفكار من جانب، والسعي المحموم من جانب ثانٍ إلى التصدّي لأيّ إرباك لمنطق العلاقات الاجتماعيّة القائمة في هذه البلدان، فالوسائط الحديثة فتّقت ذهن الدعاة وخصوصاً الداعيات لإيجاد ممكنات جديدة لجهاد المرأة، أي ممارسة المرأة فريضة الجهاد، وإن لم يوجبها الفقهاء على المرأة دون الحاجة إلى الاختلاط بعالم الرجال.
هكذا صارت المرأة في الميديا الجديدة باثاً وفاعلاً مهمّاً في عمليّة إنتاج المعرفة الرقميّة، حتى إن كان الفعل لا يتعدّى في معظم الحالات إعادة إنتاج الثقافة الذكوريّة التقليديّة، يجلو ذلك ما تقدّمه النساء الداعيات من برامج دينيّة على القنوات الفضائيّة وعلى شبكة اليوتيوب.
إنَّ المرأة المسلمة، منذ عقدين من الزمن، هي المتقبّل الأوَّل بامتياز للقنوات الفضائيّة، ذلك أنَّ الخطاب الديني يدخل البيوت دون استئذان، والمرأة دخلنت هذا الخطاب الديني الذكوري وأعادت إنتاجه عبر الأدوار الجديدة التي تتولّى المرأة القيام بها، فالمرأة تؤجر على نشرها للدين وعلى نصرتها له، حتى إن تعلّق الأمر بوضع علامة إعجاب أو نشر مقطع أو مشاركة الآخرين خطاب داعية.
ولا ننسى واقعاً تعليميّاً جديداً له صلة بموضوع الجهاد الافتراضي، ويتمثل في أنَّ عدداً لا بأس به من الشابّات ومن المتعلمات انفتحن في دراستهن الجامعيّة على المعرفة الرقميّة الجديدة وحذقن استخدامها، وبعضهن تخصّصن في صناعة الميديا، وطبعاً وجد العديد من الحركات الجهاديَّة أنَّ من المناسب لها أن ينصرف الرجل إلى الجهاد باليد وأن تتكفّل المرأة بإدارة الجهاد الافتراضي على النت وعلى صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، لا سيَّما أنَّ المرأة متاح لها أن تكون فاعلة في هذا الفضاء دون أن تغادر بيتها.
إنَّ دور المرأة في الجهاد الافتراضي لا يقصي أدواراً أخرى للجهاد بالجسد الأنثوي وتوظيفه سواء فيما يعرف بـ"جهاد النكاح" أو في ظاهرة النساء الانتحاريّات اللاتي يقدمن أجسادهنّ قرباناً في عمليات الانتحار.
إنَّها قضايا محرقة لا تقلّ أهميّة عمَّا نحن بصدد تدبّره، بيد أنَّها تخرج عن حدود هذه الورقة، فما يهمنا هو التأكيد على فاعليّة المرأة في هذا الجهاد الافتراضي: بالكلمة وبإدارة مواقع بروباغندا الحرب المقدَّسة، بصناعة الأيقونات والصور الداعمة للحرب المقدَّسة، وبنصرة المجاهدين عبر تقاسمها وتبليغها وعبر نشر أخبار المقاتلين وشدّ أزرهم بالأدعية والتعويذات، باستقطاب شباب جدد وإدخالهم إلى الجهاد المقدَّس أفواجاً.
ومن الضروري في تقديرنا الاشتغال على جمهور المتقبّلين لخطاب الجهاد، هذه البضاعة الرائجة في سوق إنتاج العنف المقدَّس، لنفهم لماذا صار هذا الخطاب العنيف يستهوي فئات عديدة من المسلمين، ليس فقط الشباب وإن كانوا الغالبية، ذلك أنَّ ثمَّة في سير هؤلاء من بلغوا من العمر عتيّاً، ومع ذلك يجدون في خطاب الدعاة ما يعطيهم معنى بواسطة هذا الخطاب العاطفي الفتاك، بواسطة استنهاض شوق دفين إلى معانقة المطلق وإلى دخلنة مقالة تجيّش فيهم متخيّلاً أخرويّاً غنيّاً بالآمال والأحلام عبر التضحية بالجسد.
إنَّ الاشتغال على أزمة المعنى التي تعيشها فئات عديدة في العالم العربي والإسلامي ييسّر دون ريب فهم ظاهرة الجهاد الافتراضي، ويتيح بشكل أعمّ فهم هذه العوالم الافتراضيّة والتواصليّة الجديدة التي تتعاضد معاً وتنصهر فيها عوالم عديدة:
1 ـ عالم الماضي: هذا الذي ولّى وانقضى، ولم يعد له من أثر سوى ما تصنعه ذاكرتنا عنه وما يتمّ تخيله ونمذجته كي يصير زمناً مرجعيّاً إليه تردّ كلّ الفضائل.
2 ـ عالم الآخرة: وهو عالم افتراضي بامتياز يستحضر بمختلف مكوّناته وطاقته الرمزيّة التي صنعها المتخيّل الديني كي يكون في خدمة إيديولوجيا قتاليّة وأغراض دنيويّة صرفة.
3 ـ عالم الغرب: الذي يحوّله خطاب الجهاد إلى شرّ مطلق تجب محاربته وردّه إلى السنن التي أرادت مشيئة الله أن يكون عليها كلّ الكون.
4 ـ الواقع المتخيل: الذي يصنع دوماً في صلة بما يراد لهذا الواقع أن يصير إليه، ولنا في أدبيّات الحركات الجهاديّة المكتوبة، وفيما نشاهده اليوم من صناعة الميديا، وفي الغربة التي عبّر عنها منظّرو الجهاد في كتاباتهم على نحو ما نظّر له سيد قطب لمبدأ جاهليّة القرن العشرين ومبدأ الحاكميّة لله، مقالة حرّكت وما تزال تحرّك الحركات الجهاديّة في العصر الحديث مثلما تغذّي خطاب الجهاد الافتراضي.
خاتمة
إنَّ خطاب الدعاة والمفتين والعلماء الذي يجلوه الإسلام المرئي يعكس خطابات متنافسة متصارعة متساجلة، إنَّه بضاعة في إسلام السوق تحمل علامة تفتّت سلطة الموقعين عن الله وتشظي خطابهم. فالخطاب الديني في العصر الحديث سمته الكبرى أنَّه صار خطاباً متشظيّاً[15]، منفلتاً من عقاله، ضارباً في كلّ الاتجاهات، صار في تقديرنا ابناً عاقّاً لمؤسّسة دينيّة رعته وغذّته ونفخت فيه من روحها، ولكنّها لم تعد تملك عليه سلطاناً، خصوصاً وهو ينافسها بأدوات الشرعيّة نفسها التي استخدمتها هي في السابق وما تزال تستخدمها.
وهنا يصير من الملحّ والضروري تفكيك الخطاب الديني المرئي وفهم صور وآثار هذا الإسلام غير التقليدي الذي يشحذ أسلحة غير تقليديّة في جموع المتقبلين.
إنَّ تفكيك هذا السلاح الجديد رهين الوعي بما يسميّه الدارسون: "المراقبة السائلة" la surveillance liquide لنتبيّن كيف يتمّ التحكّم الإلكتروني في العالم عبر هذه المراقبة السائلة التي جعلت المرتكزات التي نهض عليها التنوير تسلب من الإنسان الحديث. وإذا كان التنوير حسب كانط هو التحرّر من الوصاية والجهل، وبعد أن سعى الإنسان الحديث إلى القضاء على الإله الرقيب وصار عوضاً عن الإله يخضع العالم لسلطته ونظامه، نراه اليوم يخضع لرقيب ثانٍ أشدّ ضراوة عزّز سلطانه طموحات العالم الحديث لمزيد من الانضباط والنظام، حتى أضحت الحياة اليوميّة محكومة بمنطق اتصالي يغزوها ويسلبها كلّ أثر للخصوصيّة تحوّل العالم بمقتضاه إلى سجن كبير.[16]
ومن المفارقات أن نجد الإنسان في مفتتح القرن الحادي والعشرين، وفي هذا العالم الاتصالي المفتوح في مستوى العلائق الماديّة، يعيش انكماشاً وتقوقعاً على نفسه خوفاً ورعباً وتوجّساً، وكأنَّه يعيش داخل قلعة معزولة ومحصنة خوفاً وفزعاً من حقول الدم[17]، بدل الرغبة في الانفتاح على العالم التي عبّر عنها الإنسان منذ القرن التاسع عشر، ونرى خير الدين التونسي يستشرف في وعي مبكر ما سيصير إليه أمر العالم اليوم حين كتب: "إذا اعتبرنا ما حدث هذه الأيام من الوسائط التي قرّبت تواصل الأبدان والأذهان لم نتوقف أن نتصوّر الدنيا بصورة بلدة متّحدة تسكنها أمم متعدّدة حاجة بعضهم لبعض متأكدة.[18] بين هذا النزوع إلى الانفتاح على الآخر من جانب، والخوف والرعب الذي انتهى إليه الإنسان، لا بدّ في تقديرنا من تبصّر آثار العولمة المتوحشة التي تفرض منطقها على الجميع، ولا بدّ أيضاً من التنبّه إلى خطورة كلّ أشكال العنف في الممارسة وفي الخطاب، ومن بينها عنف الخطاب الديني الذي صار اليوم صناعة وبضاعة تسوّق، إنَّه خطاب على طرف نقيض مع ثقافة حقوق الإنسان ومع أبسط المبادئ الكونيّة، بما يفرض راهنيّة التفكير في الظاهرة وتفكيكها والبحث في سبل تخليص الخطاب الديني من العنف المبثوث فيه، والتفكير الجدّي في "أخلاقيّة جديدة" يتمّ إدراج الخطاب الديني في نطاقها عبر إدارة الاختلاف بمنطق جديد مداره الحق في الاختلاف، لا بصفته تسامحاً أو منّة، بل بصفته حقاً إنسانيّاً لا مجال للمساومة فيه، وعبر نقد جذري للتعليم الذي يقدّم في جامعاتنا العلميّة التي تحوّل بعضها إلى مؤسّسات لإنتاج الأصوليّات.
قائمة المراجع:
ـ إيغرتون فرايزر: الجهاد في الغرب، صعود السلفيّة المقاتلة، ترجمة فادي ملحم، الدوحة 2017.
ـ الجابري محمَّد عابد: العقل السياسي العربي، الدار البيضاء، 1991.
ـ الحمامي الصادق: الميديا الجديدة، الإبستيمولوجيا والإشكاليّات والسياقات، المنشورات الجامعيّة بمنوبة، 2012.
ـ حمزة محمَّد: مؤسّسة التأويل الرسميّة بين شرعيّة الوجود ومقتضيات التأويل، ضمن ندوة مؤسّسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، وعنوانها المؤسّسة الدينيّة في الإسلام. أيّ دور؟ المنعقدة بتونس يومي 29 و30 نونبر 2016.
ـ الفتاوى المتشظية، ضمن ندوة الشأن الديني ومواقع التواصل الاجتماعي، تونس، 16 فيفري 2017.
ـ خير الدين التونسي: أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك، تونس، 1990.
ـ قرامي آمال: الأناشيد الجهاديّة في مواقع التواصل الاجتماعي، ضمن ندوة بيت الحكمة الشأن الديني في مواقع التواصل الاجتماعي.
ـ كوك مايكل: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ط1، بيروت، 2009.
ـ كونيسا بيار: صنع العدو، أو كيف تقتل بضمير مرتاح، تعريب نبيل عجان، المؤسسة العربيّة للأبحاث والنشر، بيروت، ط1، 2015.
ـ الماوردي أبو الحسن: الأحكام السلطانيّة، بيروت، 1986.
- Zygmunt Bauman and David Lyon: Liquid Surveillance, Cambridge, 2013.
وقد عرّبه حجاج أبو جبر تحت عنوان المراقبة السائلة، الشبكة العربيَّة للأبحاث والنشر، بيروت 2017.
[1]- ألقيت هذه الورقة في ندوة: "الجهاد في الإسلام: معترك التأويل والتوظيف"، المنعقدة بتونس: 01 ـ 02 ماي/ مايو 2017، تنسيق: د. بسام الجمل ود. أنس الطريقي. مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.
[2]ـ الصادق الحمامي: الميديا الجديدة، الابستيمولوجيا والإشكاليات والسياقات، المنشورات الجامعية بمنوبة 2012، ص 7.
[3]ـ راجع على سبيل المثال الخبر الذي أورده الطبري في سياق تفسير الآية الحادية والسبعين من سورة التوبة: "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ" عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال :"كلٌ ما ذكره الله في القرآن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فالأمر بالمعروف دعاء من الشرك إلى الإسلام والنهي عن المنكر النهي عن عبادة الشياطين والأوثان." جامع البيان، م6، ص 415.
[4]- الماوردي: الأحكام السلطانية، ص240 وانظر مايكل كوك: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ط1، بيروت، 2009. وقد بيّن كوك كيف ارتكز المفسّرون على تأويل بعض الآيات لقصر النهي عن المنكر في نخبة ذات أهليَّة وكفاية، ص58-62. بما أتاح الربط بين العلم والعمل، وتوجيه معنى الآية لتشكيل نظريَّة نراها من الركائز الأساسيَّة في شرعنة العنف باسم الإسلام.
[5]ـ نذكّر بما اقترحه محمَّد عابد الجابري من مفاتيح ثلاثة لدراسة العقل السياسي الإسلامي، وتتمثل في الغنيمة والقبيلة والعقيدة، وهي مفاتيح ما تزال في تقديرنا تحتفظ بوجاهتها وبفاعليتها الإجرائيّة. انظر العقل السياسي العربي، الدار البيضاء، 1991.
[6]ـ كشف تقرير للأمم المتحدة (5 نيسان 2015) عن وصول عدد المقاتلين الأجانب الذين توجهوا للقتال مع تنظيمي داعش والقاعدة في سورية والعراق ودول أخرى إلى (25) ألف مقاتل ينتمون إلى أكثر من مئة دولة. سعود الشرفات: الإرهاب العالمي المعاصر: الثمرة العفنة لسيرورة العولمة، مقال ضمن موقع مؤسّسة مؤمنون بلا حدود.
[7]ـ فرايزر إيغرتون: الجهاد في الغرب، صعود السلفيّة المقاتلة، ترجمة فادي ملحم، الدوحة، 2017.
[8]ـ فرايزر إيغرتون: الجهاد في الغرب، مرجع سابق.
[9]ـ فرايزر إيغرتون: الجهاد في الغرب، مرجع سابق.
[10]ـ بيار كونيسا: صنع العدو، أو كيف تقتل بضمير مرتاح، تعريب نبيل عجان، المؤسّسة العربيّة للأبحاث والنشر، بيروت، ط1، 2015.
[11]- www.yet.org.
[12]ـ اهتمّت آمال قرامي بالأناشيد الجهاديّة في بحثها المقدّم ضمن ندوة بيت الحكمة الشأن الديني في مواقع التواصل الاجتماعي، المنعقدة ببيت الحكمة في 16 فيفري 2017، وبيّنت أهميّة هذه الأناشيد في بناء المقالة الجهاديّة للإسلام المرئي.
[13]- GOODY: lecture et écriture, op.cit.
[14]ـ راجع مداخلتنا: مؤسسة التأويل الرسميّة بين شرعيَّة الوجود ومقتضيات التأويل، ضمن ندوة مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، وعنوانها المؤسّسة الدينيّة في الإسلام، أيّ دور؟ المنعقدة بتونس يومي 29 و30 نونمبر 2016.
[15]ـ انظر مداخلتنا ببيت الحكمة بتونس بتاريخ 26 فيفري 2017 الفتاوى المتشظّية، ضمن ندوة الشأن الديني ومواقع التواصل الاجتماعي.
[16] -Zygmunt Bauman and David Lyon : Liquid Surveillance, Cambridge,2013.
المراقبة السائلة، تعريب حجاج أبو جبر، الشبكة العربيّة للأبحاث والنشر، بيروت 2017.
[17]ـ وفقا لتقرير مؤشرات الإرهاب العالمي الصادر عن معهد الاقتصاد والسلام (سيدني- أستراليا) 2017 م (مؤشر الإرهاب العالمي Global Terrorism Index) لعام 2016م، تعرضت 93 دولة في العالم (أي ما نسبته (57%) من دول العالم) للإرهاب. ويعتبر هذا أعلى معدل للعمليَّات الإرهابيّة خلال الـ(16) عاماً الماضية، وراح ضحيتها ما مجموعه (32765) شخصاً. وهذا يعني أنَّ أكثر من نصف دول العالم تعرّض للإرهاب،. انظر سعود الشرفات: الإرهاب العالمي المعاصر: الثمرة العفنة لسيرورة العولمة.
http://economicsandpeace.org/wp-content/uploads/2016/11/Global-Terrorism-Index-2016.2.pdf.
[18]ـ أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك، تونس 1986، ص 93.