في الحاجة إلى براديغم مؤسس للإنسية في النص الديني
فئة : مقالات
مقدمة:
يشهد العالم اليوم تعدداً في الأديان والمعتقدات - توحيدية ووثنية -، وتنوعاً في الطوائف والمذاهب الدينية، ويعكس هذا من جهة حواراً واحتراماً لمعتقدات الآخر، ومن جهة ثانية يكشف عن شدة ارتباط الإنسان بعقيدته وموروثه الدينيين، وبين هذا التنوع والغنى تعرضت الأديان السماوية للنقد والتمحيص -بشكل رئيس اليهودية والمسيحية والإسلام-، وتعرضت نصوصها للبحث والدراسة بحثاً عن الحقيقة. كما تحظى بانتشار واهتمام واسعيْن في العالم، الشيء الذي يؤهلها لتكون بديلاً؛ بالنظر إلى أصلها التوحيدي وعالمية خطابها، كل ذلك يجعلها مرشحة أكثر من غيرها لتقديم جواب ديني لمعضلة الإنسان المعاصر، ثم بالنظر أيضا إلى ما شَهِدَهُ تاريخ هذه الأديان الثلاثة من حوار وتعايش في مراكز حضارية مختلفة (المدينة، الأندلس، فلسطين..) ثمة إذن "جواب ديني" مرشح لتقديم جواب كلي للإنسان والعالم ضمن إسهامات الحقول المعرفية الأخرى.
إنّ موضوع الإنسان في النصوص الدينية يعتبر بحثاً في إشكالات تأويل النصوص والبحث "الهرمنيوطيقي" (Hermeneutique)، لأنه ينطلق من إشكالات فهم النصوص واكتشاف تصوّرها للإنسان والكون، لهذا ينظر مجتهد الشبستري إلى أن البحث في الدين يتبلور من جهتين؛ من الله إلى الإنسان ومن الإنسان إلى الله،[1] هذه الازدواجية في مقاربة النصوص تفضي بنا بشكل منهجي إلى سؤال مركزي، قوامه: ما مضمون الخطاب الإنساني في النصوص الدينية؟ أي ما الذي تقدّمه نصوص الأديان السماوية للإنسان.
إنّ الحاجة اليوم إلى رؤية للإنسان تتجاوز إخفاقات المنظور الفكر المادي مع الحضارة المعاصرة، واستلابات الإنسان المختلفة، يجعل الرهان على الدين أمراً صعباً، وبشكل خاص مع التحولات والتطورات المهمة التي بشّرت بها العلوم الإنسانية والاجتماعية مع مطلع القرن 19 وبداية القرن 20، غير أنها إلى اليوم لم تقدم جواباً له من المؤهلات ما يجعله قادراً على أن يرشّح نفسه ليشكّل الجواب الإنسي لمشكلة الإنسان، وبالمقابل لطالما قدمت الأديان السماوية الثلاثة نفسها على أنها جاءت لخلاص الناس ولتقودهم إلى النجاة في الدنيا والآخرة. والرسل والأنبياء، إنما يبعثهم الله لإصلاح الواقع الإنساني، ومن ثمة كان غاية الدين الإنسان أوّلاً وخيراً، لهذا بعث الله النبي الخاتم محمد (ص) "رحمة إلى العالمين" وأرسله إلى الناس كافة. من هذا المنطلق الإنسي للدين، تكون الحاجة إلى اكتشاف وفهم الأسس الدينية للإنسان في الأديان السماوية، والنظر في جوابها لأسئلة الإنسان، علها تتجاوز إشكالات الواقع المعاصر...
1-منهج دراسة النصوص الدينية في علاقته بالإنسان
إن البحث عن براديغم قادر على استنطاق النصوص الدينية، والوصول إلى رؤية معرفية لا تلغي الإنسان والدين، يقتضي البحث عن تصوّرٍ لحقيقة الإنسان ووظيفته في الكون، يحظى فيها الدين بموقعه من أجل توجيه جهد الإنسان وفق مقصود الله، وهي العلاقة الجدليّة التي سعت النصوص الدينية الثلاثة لتشكيلها وتنظيم الإنسان من خلالها، غير أن التأويل التاريخي والتفاعلات الناتجة عنه أبعدت الإنسان عن مضامين الرؤية الإلهية، ليتم تعوضها بالدلالات التاريخية، وقد عمل الوحي الإلهي على تصحيح الصورة عبر مراحل وحقب تاريخية، بالوحي الذي يرشد الناس إلى منهج الله تعالى، وجاء الكتاب الخاتم مصدّقاً ومهيمناً على ما قبله من الكتاب، ليعالج مشكلة العالم، ويرتب العلاقة من جديد بين الوحي والإنسان والكون برؤية جدلية تكاملية يعهد فيها للإنسان بأمانة الاستخلاف: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾[2] مع عظمها وثقلها ﴿إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾[3] كلّ ذلك من أجل الإنسان وللإنسان. فالقرآن حينما يقدّم نفسه هادياً إلى صراط الله ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾[4] إنّما ذلك من أجل أن يستعيد الإنسان حرّيته ومسؤوليته في إقامة أمّة الوسط، ويتحرّر العالم من الأغلال ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[5] وتكون العبودية لله تعالى وحده، إذ مقصود العالم وغايته، في الخطاب القرآني، أنسنة الإنسان وتحرّره[6]، تلك كانت غاية القراءة التجديدية للفكر الإسلامي؛ فعند متابعة وتناول "مقولة (الإنسان) في الخطاب القرآني في ضوء الجهود التجديدية التي برزت في العصر الحديث، فإنّنا نكون بالضرورة مواجهين لقضية المنهج الذي ينبغي اعتماده في تفسير النصّ. وما مـيّز المقاربة الحديثة في تناولها مسألة (الإنسان) هو الطرح الذي تجاوزت به ما ظهر مبكّراً من جهود المفسّرين الأوائل المهتمّين بالدلالة القرآنية."،[7]وهو ما يعني الانتقال بالمقارنة الدينية، لتصبح أنموذجاً تفسيرياً له كلّ مقوّمات البناء والتفكيك لتجاوز المنظور المادي للإنسان، من خلال إبراز ما تحفل به النصوص الدينية من مقدرة على تلمس حاجة الإنسان المعاصر، عبر استثمار المجهود الذي أسّسه عدد من الباحثين والمفكّرين في تعاملهم مع النصوص الدينية؛ فـ "مثل هذه التوجّهات الحداثية التي تسعى إلى إرساء فكر ديني يعيد اكتشاف معاني القرآن وفق شروط الوعي المعاصر، وتنهل من روح الحداثة التي لا ترى للحياة غائية محددة خارج الوعي الإنساني مؤكدة أن هذه الروح لا تتناقض مع حراك الوحي الذي لم يتجاهل الشروط الموضوعية للسياق التاريخي"[8] على مستوى النص القرآني، وهي ذات الغاية عند نُقّاد الأصول المرجعية لليهودية والمسيحية[9]، متمثلة في النزعة القائمة عند البروتستانتية في فهم الكتاب المقدس، "وتحرك الكاثولكيّين في الآونة الأخيرة في تفسير وتأويل الكتاب المقدّس من موقع استخدام آليات الهرمنيوطقيا بعد شلايرماخر".[10]
إنّ التأسيس لمنهج مستوعب لتطور مناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية وتوظيفه في إعادة قراءة النصوص، تقتضي من آلية البحث ومنهج قراءة النصوص التميز بالأصالة المنهجية، فتتجاوز إشكالية خصوصية النص الديني، وإمكانية دراسته بأدوات ومناهج منقولة من حقل معرفي إلى آخر، ولا يتم ذلك إلا بمنهج التكامل المعرفي المتجاوز لإشكالات التبيئة المفهومية والمنهجية، وإعادة توظيف هذه المناهج خارج نطاق التوظيف الغربي لها التي انتهت إلى ما يسميه أبو القاسم الحاج حمد (توهّمات وضعيّة) والعمل على الاشتغال ضمنها في إطار المنظور «الكوني».[11] والشرط الأساسي في هذه المقاربة هو قراءة النصوص ضمن الإطار المرجعي لكل نص.
2-براديغم الإنسان في النص الديني
أ-براديغم الإنسان في الخطاب القرآني
إنّ الإنسان هو الوحيد من بين كل المخلوقات من عُلّقت عليه أهمية عظيمة في القرآن الكريم. وفي الحقيقة، فإنّ الإنسان بطبيعته وسلوكه ونفسيته وواجباته ومصيره، ينال اهتماماً مركزياً في الفكر القرآني بالقدر الذي تناله مسألة (الله) ذاته".[12] فهو بالأهمية بمكان، حيث يشكل القطب الرئيس الثاني الذي يقف وجهاً لوجه بإزاء القطب الأساسي «الله»".[13] بهذا نال مكانة التشريف والتكريم الإلهي بحمل أمانة الاستخلاف ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾[14] وتُقدّم قصّة خلق الإنسان في القرآن المجيد جوانب مضيئة تكشف مكانة الإنسان في النظام الكوني، من خلال التكريم الإلهي له بالسجود الملائكي بعد التسوية ونفخ فيه من روحه ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ﴾.[15]
إنّ الاهتمام بالإنسان الذي خلقه الله، ونفخ فيه من روحه، وكرَّمه، واستأمنه على العالم واستخلفه فيه، يكشف أنّ الإنسان أصبح في مركز الكون بعد أن حمل عبء الأمانة والاستخلاف.[16] كلّ هذا يعني أنّ الإنسان في الرؤية القرآنية "كما يصوره القرآن يسمح لأجل إيجاد فكرة إنسانية قرآنية التصور، شاملة مستمدة من المنبع الإسلامي الأصيل، والبحث فيها يتصل بمجالات عديدة للمعرفة الإنسانية، في إطار الرؤية الإسلامية التوحيدية التصوّر لإلقاء الضوء على المفاهيم الإنسانية القرآنية المتصلة بالذات الإلهية."[17] فقد جاء النموذج القرآني في تصوره للإنسان - اجتماعياً - نموذجاً مستوعباً لما صلح من ماض الإنسان، "متجهاً به إلى الكمال في التشريع بما يتمشى، ومتطلبات الحياة الاجتماعية المتجددة، ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً﴾،[18] وهو أنموذج خرج بالإنسان من نمط المجتمعات المحلية، إلى نمط المجتمع العالمي، شرّع «للإنسان الشامل» في كل زمان ومكان، تاركاً لمبادئه أبعاداً مرنة، مبسّطة، هي مصدر قوّته الاجتماعية، وأصالته التشريعية تعتمد على تعليل للظاهرة، والتخريج لها أكبر ما تعتمد على الالتزام الملقن، والحتمية المجرّدة، مصدّقا لقوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾[19] وبمقتضى ذلك خُوطب الرسول صلى الله عليه وسلم بخطاب الرسالة بمنطلق عالمي ﴿وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً﴾؛[20] فالإنسان وفق الرؤية التوحيدية تتحدّد ماهيته وطبيعته في العلم الإلهي قبل الوجود الإنساني، إذ الإنسان وفق هذا التصوّر لا يبدع ماهيّته كما تعتقد الفلسفة الوجودية، وإنّما هو يحقّقها من خلال جهده الإرادي بإخراجها من طور القوّة والكمون إلى طور الفعل والظهور، فتكون الإرادة الإنسانية هي حجر الزاوية في مشروع تحقيق إنسانية الإنسان".[21]
يَقِفُ القرآن في تصويره للإنسان إذن اجتماعياً "موقفاً وسطاً بين «الحتمية السوسيولوجية» وبين «الحرية الإنسانية»، فكان في ذلك خير تشريع جسد الحقيقية الاجتماعية للإنسان في شكل واقعي ملموس، مؤكداً معالم «قارية المجتمع» و«مظاهر حركيته» عبر روح عملية رائعة".[22]
ب-الإنسان في قراءة الكتاب المقدس
*- العهد القديم وتفوّق العنصر الإنساني
يقدّم الكتاب المقدّس قصّة خلق الإنسان ضمن قصّة رؤية يهوه (الله) للكون في الفقرات الأولى من سفر التكوين من خلال فصلين؛ الفصل الأول اختص بعرض أيام الخلق الستة التي تتألف من ثمانية أوامر، بينما انفرد الفصل الثاني بإتمام ما بقي من الخلق واختص بعرض قصة آدم وخلق حواء وخروجها من الجنة بعد إغواء الحية لهما. ويكشف خلق الإنسان في سفر التكوين عن تحوّل في أحداث التكوين، وبمقتضاه جعلت التوراة (الإنسان) سيد العالم، وانتقلت به إلى مستوى مشابهة الله (يهوه) في الخلق (فَخَلَقَ اللهُ الإنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ ذَكَرا وَأنْثَى خَلَقَهُمْ).[23] بعد أن أكسبه صفة التسلّط على مخلوقات العالم.
فإيمان العهد القديم يتّجه إلى التحرّر من إيمان الفكر الأسطوري، بثانوية الإنسان في الوجود، وارتباط التفوق الإنساني بالعنصر الإلهي الكائن في الإنسان، وذلك بمبالغة الهدف من الخلق الذي حدده في التسلط على مخلوقات البر والبحر، جاء في سفر التكوين: ﴿وَقَالَ اللهُ: «نَعْمَلُ الإنسان عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا فَيَتَسَلَّطُونَ عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى الْبَهَائِمِ وَعَلَى كُلِّ الارْضِ وَعَلَى جَمِيعِ الدَّبَّابَاتِ الَّتِي تَدِبُّ عَلَى الارْضِ». فَخَلَقَ اللهُ الانْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ. ذَكَرا وَانْثَى خَلَقَهُمْ. وَبَارَكَهُمُ اللهُ وَقَالَ لَهُمْ: «اثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلاوا الارْضَ وَاخْضِعُوهَا وَتَسَلَّطُوا عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى كُلِّ حَيَوَانٍ يَدِبُّ عَلَى الارْضِ»﴾.[24] وغاية فكر التسلّط أن يشكل "إنسان" التوراة نقطة ارتكاز وتحوّل بين العالم المادي المحسوس والعالم ما فوق الإنسان وقوانينه، لهذا تحيط التوراة الإنسان في المنظور اليهودي بجسر غيبي لاهوتي يسلب الإنسان في إرادته من خلال عبادات وشعائر طقوسية مرتبطة بعقيدة نزعة السمو العرق اليهودي على بقيّة الجنس البشريّ.
*- الإنسان رؤية العهد الجديد
قبل الانبثاق الأوّل للعقائد المسيحيّة مع المجامع الكنائسية كان الفضاء الديني المسيحي محكوماً بمتابعة سيرة المسيح عليه السلام كما صاغها الحواريون، لذلك يتأسّس الخطاب الإنجيلي في العهد الجديد للإنسان من خلال "متابعة لسيرة إله متجسّد يخاطب الأب ويتوجّه إليه، ثم يتوجّه إلى الناس ويدعوهم إلى نفسه، وبذلك فإن العهد الجديد يتضمن مزيجًا من خطابين:
*يخاطب الابن المسيح الله الأب، من موقعه كإنسان.
*وحينما يخاطب الناس، فإنما يخاطبهم من موقعه كإله".[25]
وفق هذا الخطاب تتأسّس رؤية المسيحية للوجود والإنسان؛ [فـ]"اللاهوت المسيحيّ (الثيولوجيا) لا يحاول فهم "من يكون الله" إلاّ لكي يسير نحو فهم "من يكون الإنسان" (الأنثروبولوجيا)، والعكس صحيح: كلّما تساءل الإنسان عن ذاته "من أنا" شدّه السؤال عن الله".[26] إذ الإيمان المسيحي قائم على مرتكز الروح المتصلة بالإنسان، والقادرة على تشكيل قوة التماس، والاستجابة الروحية التي تسمو بالفرد، من خلال الإيمان المسيحي الذي يقوم على حادث تاريخي بمقتضاه -وفق الثيولوجيا المسيحية- التي ترّد الإيمان إلى حادث تاريخي أخبر الله بواسطته عن ذاته من خلال شهود الحادثة التاريخية؛ أي حواريّي عيسى المسيح، وقد انتقلت الواقعة التاريخية عبر قضايا ومقولات إيمانية ينبغي توريتها للأجيال المتلاحقة، وبهذا المنظور تنسج علاقة الإنسان في المسيحية بالربّ على أساس من الخضوع والتسليم، جاء في العهد الجديد ﴿فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «تُحِبُّ الرَّبَّ إِلَهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ﴾.[27] و﴿إِذاً ابْنُ الإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ السَّبْتِ أَيْضاً»﴾.[28] من أجل ذلك تتّجه المسيحية إلى الإنسان من أجل تخليصه لكي توصله إلى فضاء الإنسانية، لهذا فإنّ الالتزام بالوصايا العشر التي وردت في العهد القديم في منظور العهد الجديد، يجب أن ينبع من القيم الخيّرة للإنسان وليس من خوفه من العقاب، ويؤكّد أنّ الإنسان أهمّ من القانون، وإنّ القانون الذي أتى في الوصايا في خدمة الإنسان وليس الإنسان في خدمة القانون.
فحضور الإنسان إذن، في العهد الجديد حضور قويّ، فالله هو الذي خلق الإنسان في الأساس، ثم تجسّد وصار إنسانًا من أجل أن يفتديه ويخلّصه من الخطيئة. وهكذا يصبح علم الإنسان المرتبط أصلاً بعلم اللاهوت غير قابل للانفصال عن العلم الخاص بيسوع المسيح «ابن الإنسان».[29] بهذا تتأسس رؤية المسيحية للإنسانية الإنسان في تحديدها انطلاقاً من علاقتها بما هو إلهي، "فعلى مستوى الخلاص يكون الإنسان إنساناً بوصفه ابن الله الذي يدرك نداء الأب في المسيح ويستجيب له".[30]
خاتمة في أفق استئناف النظر
إنّ البحث المقارن لخطاب الإنسية في النصوص الثلاثة (اليهودية والمسيحية والإسلام) يأخذ في بعضٍ من جوانبه ما يعبر عنه: "بالمنهجية التقدمية التراجعية، بمعنى تسليط أضواء الماضي على الحاضر، وأضواء الحاضر على الماضي لكي يضيء الماضي والحاضر في آن معاً"،[31] وهو ما يتيح إمكانية دراسة النصوص على نحو يمهد لدراسة الإنسان في الرؤية الدينية، مع مراعاة فترات التطوّر الإنساني فيها ثقافياً واقتصادياً واجتماعياً وأدبيا،ً باستيعاب عقلية الشعوب وتطورها الثقافي. وهذا على اعتبار أنه لا توجد إلا طريقة واحدة، تصلح لتناول الموضوع الديني، تقوم على ارتباط الدارس بالأحداث الدينية، فقبل كتابة تاريخ شيء ما، يترتب علينا أن نفهم جيداً تاريخ ذلك الشيء ذاته: نفهمه بذاته، ومن أجل ذاته."[32] وهو ما جعل الدارس الأنطولوجي، يدرك في أيامنا، في الآن عينه، أهمية الرمزية بالنسبة للفكر القديم، ومدى صلاحيّتها وجدواها لأبناء ذلك الزمان، وما تحمل من «نبل»، فضلاً عن تماسكها الذاتي، وجرأتها على المستوى النظري".[33]
[1]- محمد مجتهد الشبستري، "قراءة بشرية للدين"، تعريب أحمد القبانجي، دار الانتشار العربي، بيروت - لبنان، ط 1، 2009م، ص 11
[2]- البقرة: 29
[3]- الأحزاب: 72
[4]- الشورى: 49
[5]-الأعراف: 157
[6]- Abdelwahab Bouhdiba, "L’homme en Islam", Sud Editions-Tunis 2006, p7-10
[7]- أحميدة النيفر، "الإنسية وحداثة القراءة القرآنية: من إقبال إلى طه عبد الرحمن"، ضمن أعمال مهداة للأستاذ عبد المجيد الشرفي، جامعة تونس، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، وحدة البحث التاريخ الاقتصادي والاجتماعي، تونس 2010، ص 120
[8]- أحميدة النيفر، "الإنسية وحداثة القراءة القرآنية: من إقبال إلى طه عبد الرحمن"، المرجع السابق، ص 122
[9]- يمكن الاستشهاد على حركة النقد التي عرفتها الأصول الدينية لليهودية والمسيحية (الكتاب المقدس) بالنموذج الناقد باروخ أو بندكت سبينوزا في رسالته الشهيرة "رسالة في اللاهوت والسياسة" يبرز فيها هذا الاتجاه النقدي للكتاب المقدس، يقول: «إنّنا نرى معظم اللاهوتيين وقد اشتغلوا بالبحث عن وسيلة لاستخلاص بدعهم الخاصة وأحكامهم التعسفية من الكتب المقدسة بتأويلها قسراً، وبتبرير هذه البدع والأحكام بالسلطة الإلهية (...) والأمر الوحيد الذي يخشونه بعلمهم هذا ليس الخوف من أن ينسبوا إلى الروح القدس عقيدة باطلة أو أن يحيدوا عن طريق الخلاص، بل أن يقنعهم الآخرون بخطئهم، وأن يروا أعداءهم وقد قضوا على سلطتهم، وأن يكونوا موضع احتقار الآخرين. والحق أنه لو كان الناس صادقين في شهادتهم بصحة الكتاب لكان لهم أسلوب في الحياة مختلف كل الاختلاف، لما اضطربت نفوسهم بكل هذه المنازعات، ولما تصارعوا بمثل هذه الكراهية.» انظر سبينوزا، "رسالة في اللاهوت والسياسة"، ترجمة، حسن حنفي، مراجعة، فؤاد زكريا، دار الطليعة، بيروت - لبنان، ط 3، كانون الثاني 1994م، ص 241
[10]- محمد مجتهد الشبستري، "قراءة بشرية للدين"، مرجع سابق، ص 29
[11]- انظر محمد أبو القاسم الحاج حمد، "العالمية الإسلامية الثانية: جدلية الغيب والإنسان والطبيعة "، مرجع سابق، ص 80
[12]- توشيهيكو إيزوتسو، "الله والإنسان في القرآن"، ترجمة وتقديم، د. هلال محمد الجهاد، مركز دراسات الوحدة العربية - بيروت، ط1، مارس 2007م، ص 128
[13]- توشيهيكو إيزوتسو، "الله والإنسان في القرآن"، المرجع السابق، ص 128
[14]- الأحزاب: 72
[15]- الحجر: الآيات 29-32
[16]- عبد الوهاب المسيري، "الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان"، دار الفكر دمشق - برامكة، ط 4، سنة 1431هـ/2010م، ص 37
[17]- محمد أمين جير، "الإنسان والخلافة الأرض"، المرجع السابق، ص 21
[18]- الإسراء: 89
[19]- الأعراف: 158
[20]- النساء: 79
[21]- محمد محفوظ، "مفهوم الكرامة الإنسانية في القرآن الكريم"، مجلة الكلمة، عدد 69، السنة السابعة عشرة – خريف 2010م/1431هـ، تصدر عن منتدى الكلمة للدراسات والأبحاث، مؤسسة دلتا - بيروت، ص ص 6–7
[22]- رشدي فكار، "تأملات إسلامية في قضايا الإنسان والمجتمع"، مكتبة وهبة القاهرة، ط 2، سنة 1407هـ/1987، ص 111
[23]- تك 1: 27
[24]- سفر التكوين 1: 26- 28
[25]- ليلى نقولا الرحباني (Leila Nicolas Rahbani) "الإنسان في الأديان"، مجلة الكلمة اللندنية، عدد أيلول 2010/09/04
[26]- الأب بسّام آشجي "مجد الله هو الإنسان الحيّ.. قراءة في الأنثروبولوجيا المسيحيّة عند القديس إيرناوس" أنظر الرابط الآتي: http://www.terezia.org/section.php?id=1633، استرجعتها بتاريخ 28 غشت 2013م.
[27]- متى 22: 37
[28]- مرقس 2-28
[29]-ليلى نقولا الرحباني (Leila Nicolas Rahbani) "الإنسان في الأديان"، مجلة الكلمة اللندنية، عدد أيلول 2010/09/04، مرجع سابق.
[30]- مارتن هايدغر، "رسالة في النزعة الإنسانية"، ترجمة، مينة جلال، مجلة مدارات فلسفية، العدد السادس – صيف 2001م، ص 49
[31]- محمد أركون، "نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية"، دار الساقي، بيروت –لبنان-، ط 1، 2011م، ص ص 7-8
[32]- مرسيا إلياد، "تاريخ الأديان"، مجلة العرب والفكر العالمي، مركز الإنماء القومي، لبنان - بيروت، عدد 29 و30، صيف 2010م، ص 34
[33]- مرسيا إلياد، "تاريخ الأديان"، مرجع سابق، ص 10