في الحاجة إلى نقد مشروع "الدولة الإسلامية"
فئة : مقالات
كثيرة هي المفاهيم "الإسلامية" التي نحتاج إلى وضعها على طاولة النقد والتشريح والمراجعة، لا من أجل دك أسسها وهدم أركانها، أو بيان تهافتها وعدم ملاءمتها، لما تفرضه علينا اللحظة التاريخية من أسئلة محرجة، ولكن من أجل بيان مضمونها وتحديده بوضوح قبل اتخاذ أي موقف منه سلبًا أو إيجابًا.
إن المتأمل في المفاهيم المعبرة عن المشروع "الإسلامي" المعاصر يجدها طافحة بشتى أنواع المفاهيم والشعارات العامة والغامضة التي أصبحت من كثرة تداولها واستعمالاتها مسلمات ويقينيات غير قابلة للنقاش، وكأنها وحي مقدس لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه.
ولعل من أكثر هذه المفاهيم التباسًا وغموضًا مفهوم "الدولة الإسلامية" الذي يشكل القاسم المشترك بين كل تيارات الإسلام السياسي المعاصرة، من حيث إن هدفها المشترك، من أندونيسيا إلى المغرب الأقصى، هو إقامة الدولة الإسلامية أو إحياء مشروع الخلافة الإسلامية.
إن المتأمل في دلالة هذا المفهوم سيجدها لا تعني شيئًا محدد الدلالة والمعنى، مما يبين مدى حاجته إلى إعادة النظر والنقد والمراجعة والتقويم. وكخطوة جريئة، على هذا الدرب المحفوف بالألغام، نشر المفكر الإسلامي السوداني عبد الوهاب الأفندي كتابًا اختار له العنوان التالي: "لمن تقوم الدولة الإسلامية؟".[1]
استهل الكاتب عمله بشن هجوم قوي على شعار"الدولة الإسلامية" التي بدأت الدعوة إليها منذ خمسينيات القرن الماضي، مع جماعة الإخوان المسلمين في مصر، والجماعة الإسلامية في باكستان، معتبرًا هذه الدعوة مجرد جري وراء وهم أو سراب قاد "المجتمعات المسلمة في كل أنحاء العالم إلى حالة الفوضى".[2]
لقد بدأ النقاش حول موضوع "الدولة الإسلامية" بسبب عاملين اثنين؛ أولهما الهجمة الاستعمارية الشرسة على جل أقطار العالم الإسلامي، حيث أصبحت معظم أقطاره خاضعة لنفوذ دول غربية كافرة بالإسلام عقيدة وشريعة، وسقوط الخلافة العثمانية وتحول الإسلام إلى دين بدون دولة لأول مرة في تاريخه.[3]
المفاهيم المعبرة عن المشروع "الإسلامي" المعاصر طافحة بشتى أنواع المفاهيم والشعارات العامة والغامضة التي أصبحت من كثرة تداولها واستعمالاتها مسلمات ويقينيات غير قابلة للنقاش
لقد كان أنموذج الخلافة الإسلامية، حسب الأفندي، ولعدة قرون، مجرد وهم، ولكنه وهم جميل يبعث على الطمأنينة، ومثل زوالها صدمة كبرى للمسلمين.[4]
لقد فقد الجدل حول الخلافة الإسلامية أهميته، ولا معنى للاستمرار في الجري وراء سرابه، والدوران في حلقاته المفرغة، بحثًا عن تبريرات ملتوية للديمقراطية من المصادر الإسلامية عن طريق الاستشهاد بالشورى والإجماع...إلخ، لأنه من البديهي أن الحكم الديمقراطي يتفوق بكثير على الحكم الفردي، وأن "القيم التي تدعمها تنسجم تمامًا مع قيم الإسلام، والتي لا تعدو بدورها أن تكون قيمًا إنسانية كالعدل والإنصاف والنزاهة والسلوك العقلاني. لم يأتِ الإسلام بقيم خاصة به ومختلفة عن القيم التي آمن بها بنو البشر على مر العصور، ولم يقدم تعريفات جديدة وغير مألوفة لهذه القيم".[5]
هكذا، يعتقد الأفندي، أنه عوضًا عن الرجوع لنصوص الماوردي ونصوص أخرى "أكل عليها الدهر وشرب، لنكتشف فيما إذا كانت الديمقراطية تتماشى مع الإسلام علينا أن نصيح مع قابيل: ياويلتنا، أعجزنا عن إيجاد برلماناتنا الفعالة وديمقراطيتنا الناجحة؟"[6].
ومن أجل هذه الغاية، يدعو الأفندي إلى ضرورة مراجعة التراث السياسي الإسلامي مراجعة نقدية فاحصة، ووضع حد لهذه "الحلقة المفرغة من التخبط والألغام العاطفية، وذلك بأن يتولى المسلمون بأنفسهم الالتفات لمراجعة التراث بنظرة ناقدة فاحصة لا تتخلى عن ثوابته والقيم التي سعى لتجسيدها، ولكنها في الوقت نفسه لا تسجن نفسها في قصوره وتتعامل مع عيوبه بتقديس وهمي[7]. ولم يكتفِ الأفندي بمجرد الدعوة إلى هذه المراجعة، بل بادر إلى خوض غمارها بأسلوب تحليلي نقدي قل نظيره بين الكتاب الإسلاميين التقليديين، مبينًا أنه ليس "كل من يؤيد مبدأ الحكم الإسلامي قديسًا بالضرورة، بل إن التاريخ السياسي الإسلامي هو بالعكس حافل بالمجرمين الذين ادعوا الحكم باسم الله والشريعة زورًا وبهتانًا"[8].
وهي الآفة التي لم ينجُ منها الفكر الإسلامي المعاصر الذي قبل بمفهوم الدولة الحديثة، باعتبارها مؤسسة تقوم على مبدإ القهر، وهو مفهوم يختلف جذريًا عن "المفهوم الإسلامي الأصيل للكيان السياسي كإطار تعاوني تسعى الأمة من خلاله للتدرج في آفاق الكمال والحرية".[9]
هذا، وتجدر الإشارة هنا، إلى أن الأفندي، يتقاطع، في هذه الفكرة الأخيرة، مع المفكر المغربي طه عبد الرحمن، الذي اعتبر، في كتابه "روح الدين" أن الإسلاميين المعاصرين يعيدون إنتاج الأنموذج القمعي للدولة الحديثة، في مختلف تنظيراتهم الفكرية وأوراقهم المذهبية.[10]
وتجدر الملاحظة، بهذا الصدد، إلى أن الأفندي الذي يدعونا إلى نبذ مفهوم "الدولة الإسلامية" وراء ظهورنا، يدعونا في الوقت ذاته، إلى بناء "دولة حديثة بهوية إسلامية" تستلهم أنموذج المدينة، دولة يتم إنشاؤها بالتراضي بين جميع المواطنين مسلمين أو غير مسلمين، وتستلهم أيضا الأنموذج البريطاني والأمريكي والكندي، حيث الدستور في البداية عبارة عن معاهدة بين المكونات، لم تفرضه جهة معينة كما هو شأن الدستور الفرنسي والبلشفي الذي فرض بالقوة من أعلى، من دون أن يترك المناسبة، تمر دون أن يوجه نقدًا لاذعًا لأبي الأعلى المودودي الذي أعجب بالأنموذج البلشفي فرض الدستور من أعلى.[11]
إن وجه المفارقة عند الأفندي هو كيف يمكن الجمع بين نماذج، "نبوية" و"بريطانية" و"كندية" و"أمريكية"، مختلفة من حيث السياقات الزمنية، فضلاً عن الاختلافات الجذرية في الأسس المحددة لكل واحد منها والمقاصد المترتبة عنها؟
فقد الجدل حول الخلافة الإسلامية أهميته، ولا معنى للاستمرار في الجري وراء سرابه
فقد كان النبي الكريم صاحب دعوة دينية بالدرجة الأولى، بنى جماعته على أسس توائم بين الديني والقبلي، حيث الأولوية للجماعة وللقبيلة على الفرد، في حين، أن الأنموذج الحديث للدولة تم تشييده على أساس المواطنة التي تعطي الأولوية للفرد ولحقوقه وحرياته بالدرجة الأولى.
إنه بقدر ما كان عبد الوهاب الأفندي جذريًا وواقعيًا في نقده لمفهوم "الدولة الإسلامية" كان أنموذجه البديل الذي اقترحه حالمًا وطوباويًا، وكأني به يواجه حلم إقامة الدولة "الإسلامية" الذي راود ملايين الشيوخ والشباب المسلمين، بديلاً للدولة الغربية "الكافرة"، بحلم آخر، لا يقل جاذبية وإثارة عن الوهم السابق، يتمثل في دولة تنبثق من "مفهوم إسلامي للسلطة ككيان سياسي أصيل يترقى في آفاق الكمال والحرية"، لم يبين لنا الكاتب ماهية هذا المفهوم للسلطة، المقول عنه "إسلامي"، وما الذي يميزه عن المفاهيم السائدة، الثيوقراطية أو العلمانية، ولا كيف يترقى في مدارج الكمال الإنساني والحرية البشرية.
يرى الكاتب أن الفكر الإسلامي فكر في الدولة الحديثة محملاً بأوزار النظرية التقليدية وتناقضاتها وتشويشاتها، فجاءت تنظيراتهم للدولة حافلة بشتى ألوان الحنين لأنموذج "المستبد العادل" و"المهدي المنتظر"، المستلهم للأنموذج النبوي، الذي يملأ الأرض عدلاً وإنصافًا.
هكذا، نجده قد حدد مظاهر الخلل في النظرية السياسية الإسلامية "المعاصرة" في نقطتين اثنتين:
1-إصرار النظرية التقليدية على تفسير أنموذج الخلافة الراشدة، باعتباره الدليل على أن الحكام يجب أن يكونوا أشبه بالقديسين، والنتيجة عدم وضع الضوابط القواعد التي تقيد من سلطتهم وتضع حدًا لاستبدادهم، حتى لو كان عادلاً. انطلاقًا من تجربة الخلفاء الراشدين وما عرفته من عدل وفضيلة.[12]
يتولى المسلمون بأنفسهم الالتفات لمراجعة التراث بنظرة ناقدة فاحصة لا تتخلى عن ثوابته والقيم التي سعى لتجسيدها
2-تفسير أعمال الخلفاء بمعزل عن محيطها وبيئتها وظروفها التي تمت فيها؛ أي النظر إلى التجربة في تاريخيتها.[13]
لا شك أن الأستاذ الأفندي قد وضع أصبعه على أهم مكامن الخلل في التصورات السياسية الإسلامية، وجاء نقده لها مزدوجًا، حيث انتقد مفهوم الدولة الإسلامية كهيكل تسلطي بالإضافة إلى تعريته عن الميول التسلطية للحركات الإسلامية المعاصرة، فضرب بذلك عصفورين بحجر واحد.
لكن دعوته إلى قيام "دولة إسلامية محورية" تقوم في سائر الدول الإسلامية، من المحيط إلى المحيط، تتميز ديمقراطية مستقرة واقتصاد قوي وحياة ثقافية نابضة بالحياة، ويرشح لهذا الدور تركيا وماليزيا[14]؛ تعتبر فكرة طوباوية ومغرقة في الميثالية، ولا تقل وهمًا عن أنموذج "الخلافة الإسلامية" الذي يريد الإسلاميون إحياءه في عصرنا، والذي لم يدخر الأفندي جهدًا في بيان تهافته وتناقضه وعدم صلاحيته لعصرنا.
ذلك أن المعضلة، التي تواجه المسلمين اليوم، يقول الأفندي، تتمثل في ضرورة الإجابة عن سؤالين محوريين؛ أولهما: لماذا تعذر استمرار أنموذج الخلافة الراشدة، ولماذا عجز المسلمون طوال هذه السنين عن استعادته بعدما انهار؟ وثانيهما: في أية ناحية أخطأ مفكرو المسلمين في فهم وتفسير ملامح ذلك الأنموذج[15]؟
فقد فشلت النظرية التقليدية في فهم ذلك الأنموذج وتفسيره التفسير الصحيح كان السبب الأساسي في ترك ذلك الأنموذج ينهار، "فقد صور هؤلاء المنظرون التقليديون أنموذج الخلافة الراشدة، على أنه أنموذج يتحتم على الأمة أن تطارده، حتى تتقطع أنفاسها دون أن تدركه أبدًا".[16]
كان النبي الكريم صاحب دعوة دينية بالدرجة الأولى، بنى جماعته على أسس توائم بين الديني والقبلي، حيث الأولوية للجماعة وللقبيلة على الفرد
لقد وقع هؤلاء المنظرون، في نظر الأفندي، في التناقض التالي: الإقرار بأن الدنيا لن تعرف أمثال الخلفاء الراشدين، ولكنهم ظلوا يسبغون على الخليفة المنتظر صفات لا تتوفر إلا في نبي أو قديس.[17]
يرفض عبد الوهاب الأفندي، على غرار محمد عابد الجابري، التشاؤم الخلدوني الذي يرى أن الأنموذج التقليدي للدولة الإسلامية غير قابل للإصلاح من الداخل، وهو ذاهب إلى موته الحتمي لا محالة، ويتبنى؛ أي الأفندي شأنه شأن الجابري أيضًا، فكرة فيلسوف قرطبة، أبي الوليد بن رشد، المتفائلة بإمكانية إصلاح الدولة الإسلامية من داخلها.
لقد كان ابن خلدون يحلل واقع الدولة كما يعاينه ويراه، في عصره. أما ابن رشد، فقد كان يعبر عن حلمه وأمله، وهو يقرأ كتاب سياسة أفلاطون، في أن يرى مدينة إسلامية فاضلة، تختلف عن مدينة زمنه التي أصابها الفساد من كل صوب واتجاه.
لكن، ما لم ينتبه له الأفندي، هو أن مآل ابن رشد كان في نهاية المطاف، هو التشاؤم واليأس من إمكانية إصلاح هذه المدينة من داخلها، حيث ترك فلسفته، النظرية والعملية، واتجه للاشتغال على الكتب الطبية، عسىاه يجد فيها علاجًا جذريًا لأمراض عصره.
الأمر يخص أنموذجًا للدولة العربية لم يعد قادرًا على مواكبة العصر، ويحتاج إلى مراجعة نظرية جذرية
لا يتعلق الأمر بدولة قائمة تحتاج إلى الإصلاح والترميم الداخلي، ولكن الأمر يخص أنموذجًا للدولة العربية لم يعد قادرًا على مواكبة العصر، ويحتاج إلى مراجعة نظرية جذرية، تقتلعه من جذوره وتبني محله أنموذجًا قابلاً للحياة في هذا العصر، يقوم على صرح مؤسساتي، تراقب فيه السلطة سلطة أخرى، أو مجموعة من السلطات الموازية لها، في إطار من توازن القوى والفصل بين السلطات.
إن من يريد إصلاح الدولة عليه ألّا يعول على صلاح الحاكم العادل، كما يدعو إلى ذلك جل الإسلاميين، أو يرتكز على مثالية المحكومين وجماعتهم التي يجب "أن تكون شمسًا ساطعة منيرة تجسد العطاء والبذل"، كما يقول الأفندي، الذي يواصل قائلاً أنه لن " تكون هناك حدود لعطاء مثل هذه الجماعة وما يمكنها أن تقدمه للبشرية"، وهو بذلك يقترح تصورًا بديلاً شبيهًا بذلك الذي نظر له الشهيد السيد قطب في كتابه معالم في الطريق والقائم على أساس إحياء أنموذج "المجتمع القرآني الفريد" الذي لا يمكننا العثور عليه إلا بين ثنايا كلمات الشهيد الساحرة، وأيضًا أحلام الدكتور الأفندي الوردية والجميلة.
[1]- الأفندي، عبد الوهاب، لمن تقوم الدولة الإسلامية؟، بيروت، الأهلية للنشر والتوزيع، 2011
[2]- نفس المرجع، ص13
[3]- نفسه، ص33
[4] - ن م وص.
[5]- نفسه، صص31-32
[6]- نفسه، ص33
[7]- نفسه، ص40.
[8]- نفسه، ص150
[9]- ن م وص.
[10]- طه عبد الرحمن، روح الدين: بين ضيق العلمانية وسعة الائتمانية، بيروت، ط1، المركز الثقافي العربي، 2012
[11]- الأفندي، المرجع السابق، صص226-227
[12]- ن، م، صص 199 و200.
[13]- نفسه، ص200
[14]- نفسه، ص34
[15]- نفسه، ص197
[16]- نفسه.
[17]- نفسه، ص197 و198