في الحدود الفاصلة بين الحق والقانون: - موقف روسو نموذجا -
فئة : مقالات
في الحدود الفاصلة بين الحق والقانون:
- موقف روسو نموذجا -
ذ. خاليد الخطاط
ارتبط مفهوم الحقّ فلسفيا بالفعالية الإنسانية والحرية والكرامة والعدالة، واهتم المحدثون بالبحث فيه، بما هو فكرة ومبدأ وممارسة على ضوئها تتحدد إشكالية الأساس الذي يقوم عليه، أهو أساس طبيعي أم وضعي؟. كما يبقى تحديد القاعدة التي يستمد منها قوته مختلفة باختلاف الأطروحات الفلسفية التي تردها، إما للإكراه أو الإلزام القانوني أو الإلزام الأخلاقي أو للطبيعة الإنسانية ذاتها. وهل الحق يخدم الفرد بما هو كيان مستقل، أم إن الحقّ هو وسيلة لتنظيم النشاط الجماعي كأولوية دون اعتبار الفرد وحقوقه؟ وهل تحديد الحق يكون بموجب فعل إنساني أم إنه معطى طبيعي؟
يحاول هذا المقال الإجابة عن هذه الإشكالات باستدعاء النموذج الروساوي الذي يبقى متفردا وأصيلا في رسم الحدود الفاصلة بين الحق والقانون بشكل واضح.
مدخل:
يفصح تاريخ القانون الطبيعي قبل روسو عن أساسين مختلفين لمفهوم القانون الطبيعي، معهما يتبدل مضمونه ودلالته؛ فعندما يؤسس على الحساسية يكون القانون الطبيعي معبرا عن قانون مشترك بين جميع الكائنات الحية. أما في الحالة التي يكون العقل أساسا له، فيكون قانونا خاصا بالإنسان دون باقي الكائنات الحية.
يطرح المفهوم الأول الذي يؤسس القانون على الحساسية، سؤال العدالة بما هي مساواة بين كل الكائنات الحية. هذا في الوقت الذي يستلزم في القانون الطبيعي المؤسس على العقل فحص العلاقة بين القانون الطبيعي بما هو مساواة طبيعية، والقانون المدني بما هو مساواة مدنية: إذ بموجب الانتقال من حالة الطبيعة إلى الحالة المدنية، يؤكد بعض الفلاسفة أن القانون الوضعي ينبغي له أن يضمن ويحترم القانون الطبيعي ويسهر على حفظه، في حين يرى آخرون أن ما هو سابق بالطبيعة عليه، يخضع لما تستلزمه الحالة المدنية التي تكون فيها السيادة للدولة.
بموجب الانتقال من حالة الطبيعة إلى الحالة المدنية، يؤكد بعض الفلاسفة أن القانون الوضعي ينبغي له أن يضمن ويحترم القانون الطبيعي ويسهر على حفظه
يتخذ القانون الطبيعي وجهين: قانون يرمي إلى تحقيق الحفاظ المشترك على جميع الكائنات الحية، وقانون طبيعي آخر سنته الطبيعة، ليكون مخصوصا بكائن حي عاقل هو الإنسان؛ فالوضع الأول للقانون الطبيعي هو ما ذهب إليه فقهاء القانون الرومان الذين يأخذون كلمة طبيعة للدلالة على وحدة العالم دون تمييز بين موجودات العالم. فشيشرون يبين أن الرواقيين يعتبرون العالم كلا واحدا، ناظرين إليه كنظام متمتع بالاتساق الذي ينفي عليه أن يكون معلول الصدفة[1]. إن النظام المبثوث في الكون بأكمله دليل على العدالة[2] المكتوبة بحروف الطبيعة النابعة من العناية الإلهية التي تشمل الكون وجميع موجوداته دون تمييز بموجب[3] قانون التناغم. لذلك، ينظمون آلهة حركتهم الخاصة، ويراقبون الحفاظ على جميع الكائنات الأخرى[4].
لقد شكلت هذه النظرة للعالم وموجوداته مرجعا أخلاقيا يسائل الغاية من خلق العالم؛ فمن أجل من وجد إذن؟ لقد وجد «بدون شك من أجل الحيوانات العاقلة؛ أي من أجل الآلهة والبشر الذين هم الأكثر كمالا من باقي الموجودات. فلا شيء يعادل العقل، ولذلك وجب الاعتقاد أن العالم وما يحويه وجد من أجل الآلهة والبشر».[5]
هذا المنظور الرواقي الذي عرض له شيشرون يفضي إلى تثبيت تسلسل هرمي بين الموجودات المشكلة للعالم. الكائنات العاقلة أحسن وأرقى مرتبة من باقي الكائنات. تفاضل قد ينظر إليه على أنه إخلال بالنظام، مادام الإنسان لا يحفظ وجود الحيوانات التي يتغذى بلحومها. هذا الموقف يقول به أمبدقليدس الذي رأى فيه نقضا للعدالة الطبيعية وقانون حفظ البقاء المتبادل الذي كفلته الطبيعة لجميع الكائنات.
يتفق روسو مع شيشرون[6] في الموقف القاضي بأن العالم وجد من أجل الكائنات العاقلة، ويؤسس لهذا الاتفاق بالتمييز الذي غاب عن القدماء عند حديثهم عن القانون الطبيعي دون التفريق فيه بين ما هو خاص بالطبيعة، وما هو ملزم للإنسان. «إن فقهاء القانون من الرومان [يقول روسو] يخضعون الإنسان وسائر الحيوانات الأخرى، بلا فرق ولا تمييز، للناموس الطبيعي عينه؛ لأنهم بالأحرى إنما يقصدون من هذه التسمية القانون الذي تلزم الطبيعة نفسها به، لا القانون الذي تندب الغير له، أو قل بالأحرى؛ لأن هؤلاء الفقهاء استفادوا من كلمة قانون دلالة خاصة، فالبادي منهم أنهم لا يعنون بها، في هذا السياق، سوى العلاقات العامة التي أقامتها الطبيعة بين جميع الكائنات الحية لحفظ بقائها المشترك»[7].
إن هذا البعد الكوني للقانون الطبيعي نجد له حضورا حتى في فكر القرون الوسطى الديني؛ ففي كتابات الاعترافات لأوغسطين نفي ما يعزز هذا الأمر، إذ يقر أنه لم يكن يعرف «هذا الدليل الداخلي، الذي لا يحكم بقاعدة العرف، وإنما على أساس قانون الاستقامة الذي أوجده الله ذو القدرة غير المحدودة، فكيف يكون ظلما حب الله من كل القلب والروح والعقل؟»[8].
إن المجتمعات البشرية التي يأتي فيها بعض أفرادها بتصرفات منافية للحق الطبيعي، لا يعني أن هذا الحق غير معروف عندهم كما يقر بذلك غروسيوس، بل هذا الأمر يمكن أن يصدق على الحق الإلهي مادامت معرفته لدى الجميع قد لا تتحقق. كل الناس حتى وإن لم يطيعوا الحق الطبيعي، فهذا لا يرجع لعدم معرفته. هناك شيء ما يقدم نفسه على أنه الحق الطبيعي، وجميع الأمم «تعتقده على نحو واحد... ولأن أي تأثير كوني يفترض سببا كونيا، فإن سبب الرأي المشترك لا يمكن أن يكون آت من شيء آخر غير من ذاك الذي نسميه حسا مشتركا»[9]؛ كل اعتقاد متقاسم بين كل الأمم، لا يمكن أن ينتج إلا عن الطبيعة المشتركة بين الأفراد. لذلك، كان هذا الحقّ حقا طبيعيا.
يرى غروسيوس أن كلمة حق لا تدل على شيء غير ما هو عادل وصحيح؛ إقرار ينم عن ترادف حاصل بين الحق الطبيعي والقانون الطبيعي الذي يمنع إتيان الشر والظلم مكان الخير والعدالة الذي يوافق طبيعة مجتمع الكائنات الموهوبة بالعقل[10]. وبناء عليه، يكون تصرف الإنسان بموجب ما هو صالح له وحده دون غيره تصرفا مضادا للطبيعة. إذا سلك كل فرد بحسب ما هو صالح له، كما أقر بذلك غروسيوس، كانت الحياة الاجتماعية غير ممكنة، بل ومستحيلة بفعل حلول اللانظام مكان النظام الذي سنته الطبيعة.
المجتمعات البشرية التي يأتي فيها بعض أفرادها بتصرفات منافية للحق الطبيعي، لا يعني أن هذا الحق غير معروف عندهم كما يقر بذلك غروسيوس
بقيت الدلالة المعطاة للحق الطبيعي من لدن غروسيوس مقصورة على مجتمعات الكائنات البشرية في الوقت الذي يتم فيه الكلام عن الكائنات الحية بدون تمييز. هذا الأمر يجعل من مطلب العدالة الكونية غير حاصل، مادام النظر لم يأخذ في الحسبان النظام الكوني في وحدته، لتكون المساواة بين الموجودات ممكنة بموجب قانون طبيعي واحد.
أولا- القانون الطبيعي: اتصال أم انفصال فيما بين حالة الطبيعة والحالة المدنية؟
يشي تاريخ الفكر الفلسفي ذي الصلة بالحق الطبيعي على تباين المواقف بخصوص علاقته بالمجتمع؛ إذ يناقش في هذا المستوى كإشكالية في صلته بالحق المدني الذي يقدم نفسه كبديل حظي بالاتفاق والإجماع لتنظيم الحياة الاجتماعية. فهناك من الفلاسفة من يرى أنه خلال الانتقال من حالة الطبيعة إلى الحالة المدنية، وجب في الحق المدني أن يكفل احترام الحق الطبيعي وما يترتب عنه، وبالتالي يكون الحق المحدث بموجب الاتفاق خادما للحق الطبيعي الذي تمتع به كل أفراد المجتمع قبل هذا الاتفاق. في الوقت ذاته، اتخذ البعض موقفا مضادا يكون بمقتضاه الحق الطبيعي تابعا للحق المدني لحفظ الدولة وسلطتها.
يرى بوفندروف أن الانتقال إلى الحالة المدنية وجب فيه أن يأخذ في اعتباره ضرورة العمل على احترام الحق الطبيعي؛ إذ يجب أن «تروم القوانين المدنية كلها إلى ما فيه خير للدولة. ولا ينبغي لها أن تتضمن من القوانين إلا ما يتعلق بها»[11]. وإذا كان خير الدولة يتجلى في السكينة والهدوء العمومي، فإن قواعد القانون الطبيعي هي الأكثر نفعا في تحقيق هذا المراد. ولذلك، وقبل كل شيء، كان من اللازم تمكين حكام الدولة من القوة الكاملة التي بها يكونون قادرين على بلوغ ذلك. إن قوة وفعالية القوانين المدنية في جزء منها، تتحدد بقدرتها على توضيح الحقوق الطبيعية[12] برفع كل غموض قد يلف بها.
يتبنى جون لوك فكرة خضوع إملاءات ومقتضيات القانون المدني بشكل لا مشروط لقواعد ومبادئ الحق الطبيعي في انسجام مع تصوره لحالة الأفراد الطبيعية التي جعلتهم متساوين متمتعين بالعقل ومواهبه التي ترشدهم لضرورة حفظ بقائهم ووجودهم؛ فالناس لا يقبلون الخروج من حالة الطبيعة والعيش وفق الحالة المدنية، وما يستتبعها من التزامات إلا لأجل الاستفادة من حقوقهم الطبيعية وصونها بموجب قوانين مدنية. فالإنسان في الطور الطبيعي يكون حرّا، سيّدا على نفسه وأملاكه، ندّا لأعظم الأسياد، غير خاضع لأية سلطة قط[13]، فلمَ يتخلّى عن كل هذه الامتيازات التي يكفلها له حاله الطبيعي؟
على الرغم من كون حالة الطبيعة تكفل للإنسان الحرية والملكية من منظور لوك، إلا أنها تفتقر لما يضمن الاستمرارية في التمتع بهذه العطاءات الطبيعية. فأملاك الفرد معرضة دائما للسطو وحرمة العدالة والإنصاف، وللانتهاك، ما يجعل ديمومة التمتع بالأملاك غير مضمونة. هكذا يكون الطور الطبيعي فاقدا لضمانات عدة، منها:
غياب قانون معروف ثابت متواضع عليه، يكون بمثابة مقياس يفصل بين الحق والباطل، ويكون مرجعا لفض النزاعات والخصومات. فعلى الرغم من أن السنة الطبيعية واضحة كل الوضوح ومعرفتها حاصلة لدى كل الكائنات العاقلة[14]، إلا أن التحيز للمصلحة الخاصة والرغبة في الاستزادة يجعل القانون الطبيعي موضوع انتهاك، بالرغم من كونه الشريعة الوحيدة التي نصبتها الطبيعة للفصل في كل القضايا تحت مسمى الحق الطبيعي.
إن القانون الطبيعي فاقد للقوة التي تجعله موضوع التزام لدى الكل، لغياب حكم معروف غير متحيز متمتع بصلاحيات الفصل في حالات الخلاف مدعم بسلطة تجعل أحكامه نافذة[15]. وهذا الأمر هو من بين الدواعي التي تبرر لدى لوك مطلب إنشاء المجتمع المدني الذي يوفر شروط إقرار مقتضيات القانون الطبيعي. يقول لوك بهذا الخصوص: «ومع أن البشر يتنازلون عن المساواة والحرية والسلطة التنفيذية التي تمتعوا بها في حالة الطبيعة، فينضمون إلى المجتمع ويمنحونها إليه، ليتصرف بها المشرع وفق ما يقتضيه خير هذا المجتمع. فلا يعقل أن تمتد سلطة المجتمع إلى ما لا يوجبه الخير العام؛ ينبغي لها أن تقيه من شر المساوئ الثلاثة التي أشرنا إليها سابقا، والتي تجعل حالة الطبيعة محفوفة بالمخاطر والمصاعب. إن من يبتغي تغيير وضعه، إنما يقبل على ذلك صونا لذاته وحريته وأملاكه على وجه أمثل: فلا يعقل أن يعمد مخلوق عاقل إلى تغيير وضعه طواعية باختيار وضع أسوأ. لذلك كل من يتولى السلطة التشريعية العليا في أية دولة من الدول، يكون ملزما بأن يحكم على أساس قوانين ثابتة وقائمة ومعروفة لدى الشعب لا على أساس أحكام مرتجلة. يعينه قضاة نزهاء لهم صلاحية الفصل في الخصومات بناء على تلك القوانين».[16]
هكذا، ينظر لوك إلى المجتمع المدني كمصدر لسلطة التشريع التي أنشأها؛ سلطة لا يمكنها أن تفرض واجبات على المجتمع وأفراده دون أن تروم تحقيق الخير العمومي منها. فلما كان الأفراد في حالة الطبيعة أحرارا متساوين بفضل العقل الذي يأمرهم بحفظ حياتهم ووجودهم في انسجام تام مع القانون الطبيعي الذي سنته الطبيعة، لحفظ الخيرات الخاصة بالفرد والنوع الإنساني تحقيقا للسلم الكوني، جاء العقد الاجتماعي الذي وضع الأفراد كل خيراتهم وما منحتهم الطبيعة من سلطة بين يدي المجتمع مقابل ضمان الاستمرارية في الانتفاع والتمتع بها، ومعاقبة كل من سعى إلى نفيها. لكل هذا، وتحقيقا لغاية إنشاء المجتمع المدني وليكون بمقدوره ذلك، رأى لوك أن سن أي قانون وضعي والاعتراف بأية سلطة عمومية، إنما هو مشروط بحفظ الحقوق الفردية، وحد سيادة الدولة بحدود الحق الطبيعي.
وجب في الحق المدني أن يكفل احترام الحق الطبيعي وما يترتب عنه، وبالتالي يكون الحق المحدث بموجب الاتفاق خادما للحق الطبيعي الذي تمتع به كل أفراد المجتمع
إن التصور الذي أعطاه لوك للدولة في علاقتها بالحقوق الطبيعية، كان مرفوضا من لدن هوبز، وهو أمر مفهوم لكون الواحد منهما يمنح حالة الطبيعة مضمونا فلسفيا مخالفا للآخر، سواء من جهة المنطلقات أو من جهة النتائج المتوصل إليها، وما ترتب عنها من تصورات بخصوص المجتمع المدني والدولة والقانون الطبيعي والقانون المدني. فهوبز يدافع عن الملكية المطلقة، وتأسيس الدولة بالنسبة إليه هو لحظة انتقال من حالة الطبيعة إلى الحالة المدنية التي تستوجب التخلي عن حق الطبيعة للدولة المتمتعة بسلطة مطلقة على جميع المواطنين. فحلول الدولة محل حالة الطبيعة يمتح مشروعيته لدى هوبز من كون هذه الحالة «هي حالة حرب الجميع ضد الجميع، وفيها يكون كل واحد محكوما بعقله الخاص، وكل شيء يمكن أن يستخدمه سوف سيشكل له عاملا مساعدا في حفظ حياته تجاه أعدائه، فينتج عن ذلك، أنه في حالة كهذه يملك كل إنسان الحق على كل شيء، بما فيه الحق على جسد آخرين».[17]
ولذلك كان «السبب النهائي، وغاية وهدف البشر (الذين هم محبون للحرية[18]على نحو طبيعي ولامتلاك سلطة على الآخرين.) من خلال فرض قيد على أنفسهم (والذي يجعلهم يعيشون داخل الدولة)، إنما يكمن في التحسب لما يضمن المحافظة على أنفسهم، وتحقيق المزيد من الرضا في الحياة...وبعبارة أخرى، يكمن هدفهم في الخروج من حالة الحرب البائسة هذه التي، كما سبق ذكرها، هي نتيجة ضرورية للأهواء الطبيعية التي تسير البشر، عند انتفاء قوة فعلية تنظم حياتهم، ويجعلهم يحترمون تنفيذ تعهداتهم التعاقدية خوفا من العقوبة، كاحترام القوانين الطبيعية»[19] التي تشكل نقيضا للأهواء الطبيعية التي تحمل البشر على التحيز والغرور والانتقام.
ثانيا- إشكالية التمييز بين الحق الطبيعي والقانون الطبيعي:
يمتاز روسو عن سابقيه من الفلاسفة عدا هوبز، بتمييزه بين الحق الطبيعي والقانون الطبيعي، وهو بذلك وضع حدّا للسجالات القديمة المتصلة بمشاركة الحيوانات في القانون الطبيعي. فهو يرى «أنه من الواضح أن هذه الحيوانات لا تستطيع، وهي مجردة من أنوار [المعرفة] والحرية، أن تعي بهذا القانون، ولكن والحال أن لها من طبيعتنا بعض الشيء بفضل الحساسية التي تتمتع بها، فقد حكم بعضنا بأنها تشاركنا في هذا القانون الطبيعي، وبأنه يتعين على الإنسان أن يلزم نفسه بنوع من الواجبات نحوها»[20]. ويبدو في واقع الأمر، أنه إذا كنت ملزما بألا أفعل البتة شرّا لأحد من أمثالي؛ فالسبب الأضعف كونه كائنا عاقلا لا كونه كائنا حساسا. وبما أن صفة الحساسية مشتركة بين البهيمة والإنسان، كان لكل منهما الحق في ألا يسيء الآخر معاملته على غير جدوى أبدا[21]، على هذا المنوال، يكون القانون الطبيعي مخصوصا بالكائنات العاقلة الحرة، في الوقت الذي يكون فيه الحق الطبيعي مشتركا بين جميع الكائنات الحساسة. هذا التحديد على أساس طبيعة الكائنات، لم يكن الوعي به حاصلا لدى السابقين الذين أقام بعضهم القانون الطبيعي على أساس الحساسية، وبعضهم الآخر أقامه على أساس العقل، ما جعل الخلط بين الحق والقانون ناتجا عن ازدواجية الأساس التي عرفها القانون الطبيعي.
في محاولة تحديده لمفهوم الحرب العادلة على أساس الحق، يعرف غروسيوس الحق على أنه لا يدل إلا على ما هو عادل وصحيح، كما أسلفنا تبيان ذلك من قبل؛ فالحق عنده متوافق مع مجتمع الكائنات الحائزة على العقل. وإذا كان الحق منافيا للظلم، كانت الحرب بين هذه الكائنات التي تجمعهم حياة مشتركة سببا من أسباب التفرقة بينهم. بقي الحق مع غروسيوس لصيقا بالمجتمع والمصلحة المشتركة والمصالح الخاصة المتباينة لأفراده.
ينظر لوك إلى المجتمع المدني كمصدر لسلطة التشريع التي أنشأها؛ سلطة لا يمكنها أن تفرض واجبات على المجتمع وأفراده دون أن تروم تحقيق الخير العمومي منها
وكلمة الحق عند غروسيوس لا تستقر على معنى واحد، وهو نفسه يحذرنا من الخلط بين المعاني المختلفة لها، بالرغم من أنها كلها تعود للمعنى الأول الذي يجعلها في ارتباط بالعدل، وما هو صحيح. وعلى أساس ذلك، لا ينبغي «الخلط بين دلالة كلمة حق التي أقبلنا على شرحها [يقول غروسيوس] وأخرى مختلفة عنها، والتي تمتح أصلها منها. فهي متعلقة بالشخص، حيث يكون الحق دالا على خاصية أخلاقية مرتبطة بالشخص وفقا لحكمه الخاص، وما يتصوره من وسائل لبلوغ غايته»[22]. فإذا كان فقهاء الرومان يسمون ما يمكن المرء من تحديد ما هو صالح له ملكة، سماه غروسيوس حقا بموجبه يكون للفرد قدرة على التحكم في الذات، والتي حملت عنده تعبير الحرية.[23]
على هذا النحو، ارتبط الحق بالواجبات الواجبة في حق الذات والآخرين وتجاه الدولة بما هي دين عمومي على الفرد تأديته. لقد باتت الحرية الفردية تشكل مصدر إلزام أخلاقي موجه لسلوك الفرد وتصرفاته. إن الواجب في الأصل لا يكون محكوما بالحق، بقدر ما يكون الإلزام الكامن فيه نابعا من القانون. كما نستقي دلالة أخرى للحق، حيث يكون فيها مرادفا للقانون بمعناه الواسع، والذي يشكل قاعدة للأفعال الأخلاقية الموجبة للأخذ بما هو صالح ومستقيم[24] متوافق ومبادئ العدالة.
هذا التحديد يجعل الحق الطبيعي مختلطا بالقانون الطبيعي لدى غروسيوس الذي يؤكد هذا الاستنتاج بقوله: «الحق الطبيعي قاعدة تقترح علينا ما هو صحيح بموجب العقل، وتمكننا من معرفة إذا ما كان فعل ما متوافقا والطبيعة المعقولة، بعيدا عن أي انحراف أخلاقي، ومتمتعا بما تمليه الضرورة الأخلاقية. ومعتبرا لما يسمح به أو يمنعه الله خالق الطبيعة»[25]. صار الحق الطبيعي محددا لما هو صالح وما هو غير ذلك، فنصب نفسه معيارا للحكم على الأفعال الإنسانية، محددا إمكانية التصرف والمنع، شأنه في ذلك شأن القانون الطبيعي؛ فصارا يقومان معا بالوظيفة نفسها، مادام غروسيوس يصور الواحد منهما على شاكلة الآخر.
لقد أولى هوبز أهمية لأهواء الإنسان في حالة الطبيعة وأرجعها للحق الطبيعي، ومادام الكل يتمتع بنفس الحقوق، وكانت حالة ما قبل الاجتماع حالة الاستقلالية التامة والمساواة بين كل الأفراد، كان قيام حرب الكل ضد الكل سائدة؛ فالجميع له الحق في استعمال ما يراه مناسبا من الوسائل لحفظ بقائه وحياته. وهكذا، فإن «الحق بمقتضى الطبيعة، وهو ما يسميه الكتاب بوجه عام Jus Naturale، هو حرية[26] كل إنسان في أن يستخدم قوته وفق ما يشاء هو نفسه من أجل الحفاظ على طبيعته، وبعبارة أخرى الحفاظ على حياته، وبالتالي في أن يفعل كل ما يرى، بحكمه وعقله»[27]. وبما أن الناس متساوون في حق بلوغ غاياتهم، كان الحق الطبيعي منطويا على عدالة ضمنية بموجبها تكون الوسائل مبررة للغاية. وفي غياب أية سلطة في هذه الحالة، كان كل فرد حائز على سلطة الحكم والتنفيذ.
أولى هوبز أهمية لأهواء الإنسان في حالة الطبيعة وأرجعها للحق الطبيعي، ومادام الكل يتمتع بنفس الحقوق
ويتخذ هوبز موقفا متميزا أصيلا - مقارنة مع باقي المفكرين السابقين عليه - بخصوص التمييز بين الحق الطبيعي والقانون الطبيعي؛ فبعدما عرض لتعريف الحق الطبيعي على أنه حرية استخدام القوى والوسائل لحفظ البقاء، ها هو يعرف القانون الطبيعي على نحو صريح بقوله: «إن قانون الطبيعة Lex Naturalis، هو مبدأ أو قاعدة عامة يجدها العقل، وبها يمنع الإنسان من فعل ما هو مدمر لحياته أو ما يقضي على وسائل الحفاظ عليها، ومن إهمال ما يظن أنه يمكن أن يحفظها»[28]. فالقانون الطبيعي مصدره العقل، والحق الطبيعي أساسه الحرية في الفعل من عدم إتيانه. وفي هذا الأمر، ينتقد هوبز كل من تكلم قبله في هذا الموضوع دون إقامة هذا التمييز، إذ كان الخلط حاصلا عندهم بين الحق والقانون[29]. لهذا يختلفان اختلاف الالتزام والحرية. ولذلك، فهما لا يصلح اجتماعهما معا في الموضوع الواحد.
إن الحق الطبيعي يمنح للناس في الطور الطبيعي حرية استعمال جميع الوسائل للحفاظ على ذواتهم، بينما يحدد القانون الطبيعي قاعدة عامة صادرة عن العقل لمنعه من فعل ما يدمر حياته أو حياة الآخرين. وطالما كانت السيادة للحق الطبيعي، ظل الناس مهددين بالقتل من لدن أشباههم في كل لحظة، حيث كان الحق الطبيعي محرضا على الحرب منافيا لدعوى القانون الطبيعي الذي يدعو للسلم والنظام. وهكذا، كان المرور من حالة الحرب إلى حالة السلم مشروطا بإقرار القانون الطبيعي، والتخلي عن الحق الطبيعي بشكل متبادل.
هذه النظرة المتشائمة لحالة الطبيعة، يرفضها جون لوك الذي اعتبرها حالة سلم بامتياز؛ فسلمها وهدوءها يعودان إلى المساواة الطبيعية بين أفرادها الذين يخضع سلوكهم للقانون الطبيعي الذي يمتلك كل واحد منهم سلطة معاقبة من انتهك بنوده تجاه غيره. فالحرية التي تضمن هذا الحق للجميع، لا تعني بالمقابل حق الإساءة للنفس أو الآخرين. صحيح أن هذا الطور الطبيعي موسوم بالحرية، لكنه «ليس طورا من الإباحية. فالإنسان فيه حائز على حرية التصرف في شخصه وممتلكاته دونما أن يكون له حق القضاء على حياته، أو حياة المخلوقات المملوكة لديه، ما لم يستدع ذلك غرض أشرف من مجرد المحافظة عليها. إن الطور الطبيعي سنة طبيعية، الجميع خاضع لها والعقل هو تلك السنة»[30]؛ فالبشر فيه متساوون وأحرار.
يرى روسو أن دعاة الحق الطبيعي أطلقوا اسم القانون الطبيعي على مجموعة من القواعد يتوقعون من ممارستها على نحو كلي تحقيق الخير والمنفعة المشتركة دون أن يكون لهم دليل على ذلك
الحرية والمساواة اللتان تسمان حالة الطبيعة محميتان بالقانون الطبيعي الذي ينظم الحياة البدائية ويحظر التعدي على الآخرين. إنه قانون يلزم الجميع باحترام الحقوق الفردية والجماعية على حد سواء. وفي معرض دفاعه عن تمتع هذا الطور بالقانون الطبيعي، يستدعي جون لوك قول هوكر: «إن القوانين التي أشير إليها سلفا (أي قوانين الطبيعة وسننها) تلزم الجميع إلزاما مطلقا، من حيث هم بشر، حتى ولو لم يكن يبنهم شركة صريحة أو اتفاق قطعي حول ما ينبغي فعله أو ما ينبغي تركه»[31].
يرى لوك أن خرق القوانين الطبيعية من لدن أي فرد هو بمثابة استخفاف بالقواعد المشتركة التي يقرها العقل والعدالة القائمة على المساواة بين الأفراد؛ كل فرد له الحق نفسه الذي يتمتع به الجميع في معاقبة المخالفين والعمل على تنفيذ قوانين الطبيعة. الجميع له سلطة تنفيذية متساوية مع سلطة الآخرين للدفاع عن النفس وحفظ البقاء والممتلكات. السنة الطبيعية التي لا تجد طريقا لها إلا ردع الخارجين عنها. فلكي «يكف كل امرئ عن التعدي على حقوق الآخرين أو إلحاق الضرر بهم، ولتحترم السنة الطبيعية في هذا الطور، كان لكل فرد بمفرده حق معاقبة الخارجين عنها للحيلولة دون خرقها».[32]
في المحصلة، إذا كان غروسيوس قد استدعى الحق الطبيعي والقانون الطبيعي لحل المشاكل البشرية داخل المجتمع، فإن كلّا من هوبز ولوك جعلا منهما مطلبا لتنظيم حالة الطبيعة. في الوقت الذي يعادل فيه غروسيوس بين الحق الطبيعي والقانون الطبيعي لضمان العدالة المطلوبة مع التمتع بالحقوق الفردية والمشتركة التي لا وجود لهما معا في الآن نفسه في حالة الطبيعة، يقع في مفارقات وتناقضات تجعل من الجمع بينهما لا يستقيم، مادام الجمع بين الفردي والمشترك لا يتم إلا في حالة المجتمع. لهذا السبب رفض هوبز ولوك وجهة نظر غروسيوس؛ فهما يميزان بين الحق الطبيعي والقانون الطبيعي داخل حالة الطبيعة نفسها. فالحق الطبيعي حسب هوبز يحرض على العنف والفوضى، مادامت العدالة في هذا الكور قائمة على المساواة الطبيعية الضامنة للحقوق الفردية التي تفضل الحرب في ظل غياب قاض مقبول من لدن الجميع، يمكن من تنفيذ الأحكام التي لا تصغي إلا لسلطة كل فرد. أما القانون الطبيعي المتقوم بالعقل السليم، فيدعو للنظام والسلام، وهو الأمر المتفق عليه من طرف الفلاسفة الثلاثة سالفي الذكر.
إذا كان القانون مطلبا حاصلا في حالة الطبيعة كما هو الأمر في الحالة المدنية كموضوع للطاعة، فإن التمييز بين الحق الطبيعي والقانون الطبيعي نظر إليه كإشكال قائم في الموروث الفلسفي من منظور جان جاك روسو. فبالرغم من المحاولات التي قام بها هوبز على الخصوص للوقوف على خطوط الفصل بينهما، إلا أن الإطار الذي تم فيه هذا الأمر لم تحصل بشأنه أفكار صحيحة. فالتداخل بين حالة الطبيعة وحالة المدنية بقي قائما، وتمخضت عنه استنتاجات خاطئة لم تمكن من بلوغ حد التمييز والتفرقة بين الحق الطبيعي والقانون الطبيعي.
ثالثا- الحق الطبيعي والقانون الطبيعي في كتابات روسو:
- مؤلف «خطاب في أصل التفاوت وفي أسسه بين البشر»
في مقدمة الخطاب، يربط روسو تعريف الحق الطبيعي بمعرفة الإنسان الطبيعي، ويرد كل العتمة التي شابت هذا التعريف للجهل بطبيعة الإنسان؛ ففكرة «الحق ولاسيما فكرة الحق الطبيعي، فكرتان متصلتان بطبيعة الإنسان. لذلك، وجب أن تستنبط مبادئ هذا العلم من طبيعة الإنسان عينها، ومن تكونه، ومن حالته»؛ [33] فتعريف الحق الطبيعي مشروط بمعرفة طبيعة الإنسان. والأمر نفسه ينطلي على تعريف كلمة قانون طبيعي. فعدم المعرفة بالطبيعة الإنسانية بشكل جيد، يجعل التواضع حول تعريف موحد صائب للقانون الطبيعي أمرا عسيرا. لذلك، كانت التعريفات المقدمة بشأن هذا القانون فاقدة للانتظام ومستخلصة من معارف وصفات لا يكتسبها البشر إلا بعد خروجهم من حالة الطبيعة.
البحث في القانون الطبيعي يسمح لنا بمعرفة وتأمّل الأسس التي يقوم عليها المجتمع المدني
في تحليله للموروث الفلسفي الخاص بالقانون الطبيعي، يميز روسو بين ما ذهب إليه فقهاء القانون من الرومان الذين «يخضعون الإنسان وسائر الحيوانات الأخرى، بلا فرق ولا تمييز، للناموس الطبيعي عينه؛ لأنهم بالأحرى إنما يقصدون من هذه التسمية القانون الذي تلزم الطبيعة نفسها به لا القانون الذي تندب الغير له، أو قل بالأحرى لأن هؤلاء الفقهاء استفادوا من كلمة قانون دلالة خاصة؛ فالبادي منهم أنهم لا يعنون بها، في هذا السياق، سوى العلاقات العامة التي أقامتها الطبيعة بين جميع الكائنات الحية لحفظ بقائها المشترك»[34]، وهي دلالة تحيل على حتمية تضبط وتحدد العلاقات بين مختلف الكائنات الحية من إنسان وحيوان ونبات. ودلالة ثانية أخذ بها المحدثون الذين «لا يعنون بكلمة قانون إلا قاعدة واجبة على كائن أخلاقي؛ أي كائن عاقل وحر منظور إليه من جهة علاقاته بكائنات أخرى، فإنهم، من ثم، يقصرون صلوحية القانون على الحيوان الوحيد الموهوب بالعقل؛ أي على الإنسان»[35]. إنها تحيل على قاعدة للسلوك، يمكن الانضباط لها ويمكن خرقها، وهي مخصوصة بالكائنات العاقلة، وهي في علاقات بينها داخل المجتمع.
يرى روسو أن دعاة الحق الطبيعي أطلقوا اسم القانون الطبيعي على مجموعة من القواعد يتوقعون من ممارستها على نحو كلي تحقيق الخير والمنفعة المشتركة دون أن يكون لهم دليل على ذلك. وهذه الطريقة هي في نظر روسو «سهلة لوضع الحدود ولتفسير طبيعة الأشياء بملاءمات اعتباطية أو تكاد»[36]. فحتى وإن كان الناس يبحثون عن السعادة بشكل طبيعي، فهذا لا يكون كافيا لتبرير نزوعهم هذا بقانون يصفونه بالطبيعي. هذه محاججة لا قيمة لها؛ لأن فائدة القوانين للناس لا تعني أنها طبيعية، فحتى الاتفاقيات يمكنها أن تكون مفيدة. وهكذا، يمكن أن تتأتى السعادة بشكل طبيعي، كما يمكنها أن تحصل بناء على ما هو اصطناعي.
في نقده لموقف المحدثين الذين يعنون بالقانون الطبيعي قاعدة يجب الالتزام بها، يقدم روسو ما ينفي شرط التزام إنسان الطبيعة بهذه القاعدة. فإذا لم يكن بين البشر في حالة الطبيعة أية علاقة اجتماعية تترتب عنها واجبات متبادلة، فإن أية علاقة أخلاقية يستحيل قيامها. لذلك «ليس ممكنا أن يكونوا أخيارا أو أشرارا، ولا أن تكون لديهم فضائل ولا رذائل»، [37] فالمتوحشون ليسوا أشرارا؛ لأنه لا فكرة لديهم عن معنى أن يكونوا أخيارا. وإن «جهل بعض الناس بالرذيلة أكثر نفعا لهم من معرفة بعضهم الآخر بالفضيلة»[38]. ولما استحالت أية معاملة بين المتوحشين، فإنهم ما كانوا يعرفون من ثم الغرور، أو الاحترام ولا الاحتقار، وما كانوا يعرفون معنى "مالك ومالي" ولا أية فكرة حقانية عن العدل[39].
على الرغم من الاختلافات والتناقضات الحاصلة بين المحدثين بخصوص تعريف القانون الطبيعي، إلا أنهم أجمعوا واتفقوا على أمر واحد يقضي بضرورة امتلاك الإنسان الطبيعي القدرة على الفهم والاستدلال لإدراك مضمون هذا القانون وطاعته. فبموجب ذلك، كان الناس مضطرين، في «سبيل تكوين المجتمع، الاستعانة بأنوار لا تنمو إلا بمشقة كبيرة ولقلة قليلة من الناس داخل المجتمع نفسه»[40].
مؤلف «في العقد الاجتماعي - الرواية الأولى -»
في الكتاب الثاني من الرواية الأولى لمؤلف العقد الاجتماعي أو محاولة في صورة الجمهورية، وخصوصا الفصل الثاني منه "في مجتمع النوع البشري العام"، نجد أن هذا الفصل يتضمن مقاطع تتحدث عن القانون الطبيعي[41]، وهي غير واردة في الرواية النهائية.
ينتقد روسو نظرية القانون الطبيعي التي رأت أن هذا القانون موجود، وعلى أساسه تعاقد الناس فيما بينهم. وليكون هذا الأمر ممكنا، يرى روسو أن الناس والنوع البشري بأكمله كانت لهم معرفة بهذا القانون، وهذه المعرفة تستلزم حيازة الإنسان للعقل. ولما كان العقل منفيا عن الإنسان في حالة ما قبل العقد، وكان حصوله وتطوره مشروطين بالاجتماع ونمو الأهواء كما يقر بذلك روسو، استحالت إمكانية معرفته وكان العقد مجرد وهم.
يستعيد روسو فكرة القانون الطبيعي في علاقتها بالمجتمع الإنساني العام الذي يجمع النوع البشري بكل أفراده، وهو يقر أن فكرة النوع الإنساني لا تقدم للذهن سوى فكرة جماعية صرفه لا تتأسس على أي اتحاد حقيقي بين الأفراد الذين يشكلونه. وعليه، إذا ما تصورنا النوع البشري كشخصية معنوية متمتعة بالشعور والوجود المشترك الذي يجعلها موحدة ويمدها بالفردية التي تلزم كل جزء فيه يتصرف من أجل الغاية العامة للكل، كان الشعور المشترك الذي ينعم به هو شعور الإنسانية، وكان «القانون الطبيعي يشكل المبدأ الفعال لكل هذه الآلة».[42] وهكذا كان القانون الطبيعي المؤسس على الشعور كما بتته الطبيعة في الإنسان مرتبطا بالإنسانية وشعورها الصافي من كل الحسابات الخاصة والمصالح الفردية دون أن يكون موضوع معرفة حاصلة بفعل العقل.
إن المصلحة الشخصية من منظور روسو، تخنق الإنسانية وتمنع كل تجلّ للقانون الطبيعي ومعانيه. فـ «معاني القانون الطبيعي الذي يجب أن ندعوه بالأحرى قانون العقل، لا تأخذ في النمو إلا عندما يجعل نمو الأهواء السابق جميع مبادئه عاجزة».[43] هكذا إذن، يميز روسو بين القانون الطبيعي الخاضع للشعور والقانون الطبيعي الخاضع للعقل. وهذا التمييز يجعل القانون الطبيعي الأول مرتبطا بالمجتمع العام، حيث يكون للإنسانية جمعاء الشعور نفسه. في الوقت الذي يكون فيه القانون الطبيعي المؤسس على العقل الذي يحكم العلاقات الاجتماعية كما هي في الواقع.
بموجب العقل، تتعارض المصلحة الشخصية والخير المشترك؛ فالعقل في حالة الاستقلال يدفعنا إلى الإسهام في الخير العام بفضل رؤيتنا لمصلحتنا الخاصة. فعوض أن تتحد المصلحة الخاصة بالخير العام، فإنهما يتنافيان في الوضع الطبيعي للأشياء، وتكون القوانين الاجتماعية عبودية، عندما «يريد كل واحد أن يفرضها على الآخرين دون أن يخضع لها هو نفسه»[44]، لذلك كان من الضروري أن يحمل كل أحد على المشاركة في المصلحة العمومية قهرا، أو أن يفضل مصلحته الخاصة.
لقد عالج روسو مسألة الحق الطبيعي والقانون الطبيعي، آخذا في الحسبان التمايز الحاصل بينهما ومبرزا له. وقد كان على وعي تام أن مطلب معرفة القانون الطبيعي في حالة الطبيعية غير ممكنة الحصول وحتى حصولها لا يفيد في شيء، مادام أنه في هذا الطور لا أحد مدين للآخر بشيء، ولا أحد يعترف لغيره سوى بما ليس له حاجة فيه[45].
إذا كان هذا هو وضع القانون الطبيعي في حالة الطبيعة، فلمَ خاض فيه روسو وخصص له فصلا؟ يجيبنا روسو أن البحث في القانون الطبيعي يسمح لنا بمعرفة وتأمّل الأسس التي يقوم عليها المجتمع المدني، ومن ثمة طبيعة الحقوق المدنية والسياسية التي ينبغي العمل من أجل تحصينها تشريعيا، مادام القانون الطبيعي يهم النوع البشري بأكمله ومعرفته تحتاج الدربة والتجربة. يقول روسو: »جميع أنواع العدالة آتية من الله الذي هو منبعها الوحيد، لكن لو كنا نعرف كيف نتناولها من ذلك المقام العالي لما كنا محتاجين لا إلى حكومة ولا إلى قوانين»[46].
يسمح لنا هذا التدرج في البناء باستخلاص نتيجة مهمة مفادها؛ أن معالجة إشكالية القانون الطبيعي تشكل لبنة أساسية في مشروع النقد الذي باشره روسو لمختلف نظريات العقد الاجتماعي السابقة على طرحه، ومطلبا إبستيمولوجيا فرضته غاية مؤلف العقد الاجتماعي الذي أخذ على عاتقه تأسيس فكرة الشعب والبحث في أسس الحق السياسي وطبيعة القوانين ومبدأ العدالة المدنية. يقول روسو بهذا الخصوص في الفصل الرابع من الكتاب الثاني الوارد في الرواية الأولى لمؤلف العقد الاجتماعي: «ينبغي إذن أن توجد اتفاقيات وقوانين لكي تجمع بين الحقوق والواجبات وتعيد العدل إلى موضوعه... كان يجب علي هنا أن أشرح ما أعني بكلمة قانون؛ لأنه ما دمنا نكتفي بربط هذه الكلمة بمعاني مبهمة وميتافيزيقية، سوف يمكننا أن نعرف ما هو القانون الطبيعي، وسنبقى جاهلين لما هو القانون في الدولة».[47]
الجهل بالإنسان الطبيعي يفشل كل محاولة لتحديد القانون الذي استمده الإنسان من الطبيعة نفسها
إن التلازم الذي أقامه روسو بين القانون الطبيعي والقوانين في النظام المدني السياسي يعود في الأصل إلى أنهما معا يشترطان حصول المعرفة بهما من جهة، ولكليهما يتغيا الخير المشترك لا المصلحة الشخصية. ولما استحالت إمكانية التعارض بين الإرادة العامة والقانون الطبيعي: «وبما أن ما يبت فيه يرتبط ضرورة بالخير المشترك، فينتج عن ذلك أنه يجب أن يكون موضوع القانون عاما، وكذلك الإرادة التي تمليه، وفي هذه العمومية المزدوجة تمكن خصوصية القانون الحقيقية».[48]
هكذا، نكون أمام معنيين للقانون؛ معنى ضيقا يهم القوانين الخاصة المعبرة عن الإرادة العامة لكل دولة، وهي قوانين وضعية في نهاية المطاف تروم الخير المشترك لأفراد هذه الدولة؛ ومعنى عاما يروم الخير الأكبر بغض النظر عن مصالح الأفراد أو مصالح الدول بما هي كيانات فردية فيما بينها. وهكذا كان «تعيين الأفعال الخاصة التي تشترك في جلب هذا الخير الأكبر بواسطة قوانين خاصة هو ما يشكل القانون في معناه الضيق والوضعي. وكل ما يشارك في جلب هذا الخير الأكبر دون أن يُعَيَّنَ من لدن القوانين يشكل أفعالا تهم التمدن، والأدب. والعادة التي تجعلنا مستعدين لممارسة هذه الأفعال حتى ولو كانت مضرة لنا هي ما نسميه القوة أو الفضيلة».[49]
- مؤلف «العقد الاجتماعي أو مبادئ الحق السياسي»
يفتتح روسو مؤلف العقد الاجتماعي أو مبادئ القانون السياسي بالكلام عن موضوع الكتاب وغايته. إنه يحاول البحث فيما إذا كان من الممكن أن توجد في النظام المدني قاعدة إدارية مشروعة وموثوقا بها، مع اعتبار البشر كما هم والقوانين كما يمكن أن تكون[50] لتحقيق التوفيق الدائم بين الحق وما تقتضيه المصلحة، حتى لا يحصل بون بين العدل والمنفعة.
من خلال تحليل المقصد الذي حدد لهذا المؤلف، يمكن الاتفاق على أن الرؤية المؤطرة لروسو هي رؤية مستقبلية محكومة بالإجابة عن سؤال الأسس القويمة التي ينبغي أن يتأسس عيلها النظام المدني السياسي للانتقال من حالة الطبيعة إلى الحالة المدنية التي ينبغي لها أن توحّد بين الحقوق والواجبات.
يظهر أن القانون الطبيعي لن يحظى بمكانة خاصة في هذا المؤلف، مادام البحث سينصب على النظام المدني الذي ينظر إليه روسو على أنه «حق مقدس، وهو أساس جميع الحقوق الأخرى، بيد أن هذا الحق لا يصدر البتة عن الطبيعة، وبالتالي فهو مبني على الاتفاقات. ويبقى علينا أن نعلم ما هي هذه الاتفاقات».[51]
خلاصات:
يتفق روسو مع فلاسفة العقد الاجتماعي بخصوص ضرورة استدعاء حالة الطبيعة والعودة إليها، لفهم أسس قيام المجتمع المدني؛ فهم لا يرونه أمرا طبيعيا، إنه يعبر عن وضع مؤسس على الاتفاق. وبالرغم من حصول هذا الاتفاق بخصوص منطلق البحث في أساس المجتمع، إلا أن النتائج التي توصل إليها هؤلاء الفلاسفة متباينة ومتعارضة.
في الوقت الذي يعتبر فيه هوبز حالة الطبيعة حالة حرب الكل ضد الكل. فالإنسان الطبيعي في هذا الطور يتساوى مع أشباهه في ملكة الجسد والتفكير وغريزة حفظ البقاء التي توجه رغباته وأهوائه نحو السيطرة والهيمنة والقضاء على الآخرين، يرى لوك أن حالة الطبيعة هي حالة الحرية الكاملة والمساواة والسلم، لكنها تفتقد لوجود سلطة سياسية تحفظ للأفراد حريتهم وممتلكاتهم، ما يجعل مطلب قيامها وتأسيسها ضروريا، وهي بذلك ليست فرضا منطقيا كما يقر بذلك هوبز، وإنما هي واقعة حاصلة فعلا.
منح روسو حالة الطبيعة مضمونا مخالفا لما قدمه هوبز ولوك. صحيح أن مطلب حفظ البقاء يكون بمثابة الغاية القصوى التي توجه تصرفات الأفراد في هذا الطور، لكن حاجاتهم محدودة بحدود الحاجات الطبيعية التي تضمن بقاءهم، ولما كانت الطبيعة قادرة على توفيرها انتفت الحاجة للآخرين، وانتفت كل صلة اجتماعية أو أخلاقية بهم. لقد أهملت الطبيعة إعداد الإنسان الطبيعي للمدنية، عندما تكفلت به وبحاجاته. ولما كان الإنسان في هذا الطور في غير حاجة لمعونة الآخرين، استحالت فكرة الاجتماع والحرب والتملك، بل وكانت حالة التفكر حالة مدنية خالصة منافية للحالة الطبيعية، حيث لم يكن للكلام من ضرورة أو إمكانية الحصول، وحتى الرغبة في المعرفة باتت غير ممكنة.
إن ما يميز حالة الطبيعة عند روسو هو غياب البعد الأخلاقي فيها. فالمضمون الأخلاقي يبقى بلا قيمة في غياب الآخر. الناس في هذا الوضع الطبيعي، لا يحوزون أفكارا عن الجمال أو التقدير أو الإعجاب وغيرها من القيم الأخرى. إنهم يتمتعون بمساواة تامة مادام الكل خاضع للنظام الطبيعي، فلا عبودية ولا إذعان في هذا الطور، ولا تقدم فيه مادام اتحاد قوى الأفراد بما هو شرط لحصوله تعذر في الحالة الطبيعية.
بهذا التصور المعطى لحالة الطبيعة ووضع الإنسان الطبيعي فيها، يكون روسو قد خالف فلاسفة العقد الاجتماعي السابقين عليه. وهذا التفرد إنما مرده لا يعود إلى ما توصل إليه من أفكار توصيفات لحالة الطبيعة، بل هو في أصل تفرد في المنهج المعتمد والاحتياطات والتنبيهات التي أخذ بها روسو في رحلة البحث في هذا الموضوع؛ فكل الفلاسفة «الذين تولوا البحث في أسس المجتمع استشعروا ضرورة الارتداد إلى حالة الطبيعة، ولكن لا أحد منهم وصل إلى هناك؛ فبعضهم لم يترددوا في افتراض أن الإنسان لديه، وهو في تلك الحالة، معنى العدل والجور، دون أن يقيموا الدليل على أنه كان كاسبا لهذا المعنى وجوبا، أو أن هذا المعنى كان نافعا له».[52] هذا التداخل الذي سجله روسو بخصوص الحالة الطبيعية والحالة المدنية، تمخضت عنه استنتاجات خاطئة بخصوص التمييز بين الحق الطبيعي والقانون الطبيعي.
إن النقد الذي وجهه روسو بخصوص موضوع قانون الطبيعة مؤسس على النقد الذي خص به التصورات الفلسفية لحالة الطبيعة، والصفات المنقولة الخاصة بالحالة المدنية والمنقولة إليها. لذلك، كانت التحديدات الفلسفية لقانون الطبيعة باطلة من الأساس. فالجهل بالإنسان الطبيعي يفشل كل محاولة لتحديد القانون الذي استمده الإنسان من الطبيعة نفسها. ويمكن أن نجمل نقد روسو للمواقف الفلسفية بخصوص قانون الطبيعة في المستويات الآتية:
- نقد معرفي- إبستيمي: يقضي بضرورة التمييز بين القانون الذي تلزم به الطبيعة نفسها، والذي يخص نظامها وانسجامها، والقانون الذي تندب الغير له، والذي يتوافق وطبيعته دون استنتاجه من الوجود الموضوعي للعالم.
- نقد منهجي: لا يمكن استنتاج طبيعة القوانين من فائدتها، وإنما من طبيعة الإنسان وما يتوافق وتكوينه.
- نقد أنثروبولوجي: لا يمكن للإنسان أن يعرف القانون الطبيعي الذي يتأسس عليه المجتمع، إلا إذا كان اجتماعيا بالطبع؛ لأن استعمال العقل دليل على أن الإنسان في حالة الاجتماع حائز على معنى العدل واللاعدل في الوقت الذي يكون فيه الإنسان في الطور الطبيعي محكوما بالغريزة وحدها.
بناء على هذا النقد السابق، يضع روسو محددا عاما، يمكن به تحديد القانون الطبيعي. فكل ما يمكن تبينه بخصوص قانون الطبيعة، هو أنه ليكون هذا القانون قانونا «وجب على إرادة الشخص الملزم بالقانون لا أن تذعن له عن معرفة ودراية وحسب، وإنما لزم زيادة عن ذلك - لكي يكون القانون طبيعيا -أن يتكلم مباشرة بلسان الطبيعة».[53]
وإذا كان التمييز النوعي الذي للإنسان بين سائر الحيوان لا يقيمه الذهن بقدر ما يصنعه كون الإنسان كائنا حرّا، فإن الحرية هي بمثابة فيصل يجعل الإنسان الطبيعي خاضعا للقانون الطبيعي كخضوع الإنسان للقوانين في حالة الاجتماع. فلا «توجد حرية بلا قوانين، ولا أحد فوق القوانين، فحتى في حالة الطبيعة نفسها، لا يكون الإنسان حرا إلا بفضل القانون الطبيعي الذي يحكم كل شيء».[54]
هكذا، وبناء على النقد الأخير، يكون روسو مقرّا بوجود قانون طبيعي لا يتأتى للإنسان معرفته، إلا بعد حصول تقدمات على ذهنه لتحصل له المعرفة بالقانون. وهذا مطلب مشروط بالاجتماع مادامت خاصية العقل منفية في حق إنسان الطبيعة.
وعودة إلى فكرة الحق الطبيعي الذي اشترط روسو معرفته بحسن معرفة طبيعة الإنسان الأصيلة، يرى أن فحص النفس وعملياتها الأكثر بساطة يظهر وجود «مبدأين سابقين على العقل، أحدهما يحثنا بقوة على طلب طيب عيشنا وحفظ بقائنا، والآخر يملأ نفوسنا نفورا طبيعيا من رؤية أي كائن حساس يهلك أو يتألم، ولاسيما إذا كان بشرا مثلنا، فمن التعاضد والتآلف الذي من شأن الروح الإنساني أن يقيمهما بين هذين المبدأين [...] تتفرع، على ما يبدو لعياني، جميع قواعد [الحق][55] الطبيعي»[56]. دونما الحاجة إلى الاجتماع البشري.
يعتبر روسو حفظ البقاء والتحنن أساسا لقواعد الحق الطبيعي، وهما سابقان عن العقل في الانسان. فالإنسان وهو في حالة الطبيعة يكون في غنى عن أية حكمة تعلمه واجباته نحو غيره. حب الذات شعور طبيعي يدفع كل حيوان إلى السعي إلى حفظ بقائه وحفظ بقاء النوع الإنساني. الفضيلة الوحيدة للإنسان والطبيعية هي فضيلة التحنن، وهي فضيلة «زاد في كليتها وفي نفعها للإنسان أنها سابقة[57] عنده على استعمال أي ضرب من ضروب التفكر، وهي صفة طبيعية غاية الطبيعة»[58]. لا يكتسبها الإنسان بفعل الاجتماع؛ فبفضلها تكون مبادئ الحق الطبيعي مغروسة في الطبيعة الأصيلة التي تمنع قيام أي شكل من أشكال الحرب. و«يضطر العقل بعدئذ إلى إعادة إرسائها على أسس أخرى، عندما تؤول به تطوراته المتعاقبة إلى خنق أنفاس الطبيعة»[59].
ينجم عن مشاركة الإنسان الحيوان في الحساسية، نظام من الحقوق والواجبات متقوم بضرورة التصرف وفق قانون الطبيعة الذي يتوافق وطبيعة الأشياء دون محاولة تصوير العدالة الطبيعية وفق مفاهيم ميتافيزيقية مجردة. إنها أساس الخيرية في الإنسان الذي لا يستطيع «أن يفعل الشر لإنسان آخر، بل ولا لأي كائن حساس، باستثناء الحالة الشرعية الذي يكون فيها حفظ بقائه مهددا، فيضطر إلى إيثار نفسه»[60].
نخلص في نهاية تحليل ما ورد في الكتاب الثاني من مؤلف العقد الاجتماعي في روايته الأولى، وخصوصا الفصيلين الثاني والرابع منه، إلى أن روسو يميز بين القانون الطبيعي الصرف الذي لا تتأتى معرفته للناس في حالة الطبيعة ويكون محركه الشعور. والقانون الطبيعي المعقلن -المشروط بالاجتماع وتقدمات العقل - الذي يأمرنا بمعاملة الناس معاملة تتوافق والخير المشترك الذي تطلبه الإرادة العامة. يقول روسو: «وإذا أطلقنا هذا المبدأ العام على المجتمع العام الذي تعطينا الدولة فكرة عنه، ونحن محميون من لدن المجتمع الذي نحن أعضاء منه، أو من لدن المجتمع الذي نعيش فيه، وفي حين أن النفور الذي نشعر به من فعل الشر لا يقاومه خوفنا من تكبده، فسوف ننزع بفضل الطبيعة والعادة والعقل إلى معاملة الناس الآخرين تقريبا كما نعامل مواطنينا، ومن هذا الاستعداد الموطد بالأفعال تنشأ قواعد القانون الطبيعي المعقلن، الذي يختلف عن القانون الطبيعي بالمعنى الصحيح، ذلك القانون الذي ينبني فقط على شعور حقيقي، لكنه مبهم ومكظوم من لدن حبنا لأنفسنا في غالب الأحيان».[61]
لقد حاول روسو في فصول الكتاب الثاني من مؤلف العقد الاجتماعي فحص مختلف النظريات المفسرة لنشوء وتأسيس النظام المدني؛ إذ لم يكتف فيها بنسف القول بالقوة أساسا للنظام الاجتماعي وحسب، وإنما نزع الطابع القانوني الذي ألصقته هذه النظريات بمفهوم الحق الطبيعي المتقوم بالقوة التي نزع عنها طابع الشرعية، فالقوة لا ينتج عنها حق البتة. ولما كانت كذلك لم تبق سوى الاتفاقات كأساس للسلطة المشروعة بين البشر[62]. ففي الوقت الذي لم يكن بوسع الناس خلق قوى جديدة، لم يبق أمامهم سوى توحيد قواهم وتوجيهها نحو حفظ حقهم الطبيعي في العيش والبقاء.
صحيح أن بنود العقد محددة بطبيعته، لكنها حتى ولو لم تتحدث صراحة بصوت القانون الطبيعي، إلا أنه لا يمكنها أن تتعارض مع مقتضياته. فلا ينبغي تأويل دعوة روسو للتعاقد والاتفاق بين البشر إشارة لاستبعاد القانون الطبيعي وإسكاته صوت الطبيعة، وهو الذي يقر في مقدمة الفصل السادس من مؤلف العقد الاجتماعي بأن ما هو خير ويلائم النظام هو كذلك بطبيعة الأشياء وبمعزل عن الاتفاقات البشرية. ولكن روسو يبرر ضرورة وجود عقد بين الأفراد، لكونهم غير قادرين على تمثل القانون الطبيعي والعدالة الإلهية على نحو مكين. فالعدالة الكونية لن تكون مقبولة مادامت بنودها غير مدركة ومعروفة للجميع. فإذا اعتبرنا الأشياء من منظور بشري، بقيت قوانين العدالة بلا طائلة «في غياب عقوبة طبيعية. فهي لا تجلب سوى الخير للشرير والسوء للعادل حين يرعيها في حق الجميع دون أن يراعيها في حقه أحد»[63]. لذلك، كان وجود الاتفاقات والقوانين أمرا ضروريا مطلوبا من أجل أن تتحد الحقوق بالواجبات وتنطبق العدالة على موضوعها.
الربط بين الحق والواجب كفيل حسب روسو، بإحداث تغير واضح في الإنسان. فبفضل الانتقال من حالة الطبيعة إلى الحالة المدنية تحصل تقدمات على المستويين المعرفي والأخلاقي، فتحل فيه العدالة محل الغريزة، ويصل له الوعي بالخير المشترك بما هو تجسيد لقانون الطبيعة بفضل تقدمات الذهن. وهذه التغيرات الحاصلة بفعل الحالة المدنية يردها فيكتور كولدشميت إلى إحداث المؤسسات السياسية التي تهدف إلى تأسيس الدولة، وتكوين المواطن وإلى اختراع فن السياسة الذي جاء لمساعدة الطبيعة دون إلغائها في الفرد الإنسان. وهذا الاحتفاظ بالمعطى الطبيعي هو ضرورة لجعل الوضع المدني قويا ودائما وقادرا على نقل مقتضيات حالة الطبيعة من مستواها الأصلي إلى مستوى جديد.[64]
[1]- Cicéron, De la nature des dieux: livre second, trad. Fr. précédée d'une introduction sur le stoïcisme et la religion de Cicéron, avec un résumé analytique du livre, par E. Maillet, LIBRAIRIE CLASSIQUE EUGÈNE PARIS, 1887.p.8. [En ligne], [consulté le 05/05/2018], disponible à l’adresse: http.//gallica.bnf.fr/ark. p. 9
[2]- «ينبغي أن تشير إلى أن العدالة بما هي فضيلة فردية، لا يمكن الحديث عن سيادتها فيه إلا إذا نظرنا إليه ككل يلعب فيه كل جزء دوره بما يجب...والعدالة تسود داخل المجتمع، عندما تقوم كل طبقة من طبقات المجتمع بوظيفتها... والعدالة تسود في الفرد، عندما يأمر العقل بما يجب أن يكون.». انظر:
- Les grandes notion de la philosophie, collection ellipses, Jean-Pierre ZARADER Directeur de la collection, Edition Marketing S.A., 2002. P, 243
[3]- نعود ونؤكد من جديد، أن الإنسان الطبيعي لا يعرف لا الخير ولا الشر، وهذا ما يجعل حالة الطبيعة لديه، حالة حياد أخلاقي كما بينا ذلك في الفصل الخاص بحالة الطبيعة.
[4]- Cicéron, De la nature des dieux: livre second, Op. Cite., p.29
[5]- Ibid., p.66
[6]- «يوجد قانون حقيقي واحد، هو الصواب القويم، يتوافق مع الطبيعة، حاصل في جميع الكائنات، متوافق معها. الإنسان الصادق يسخي لوصاياه ودفاعاته. إنه أبدي غير قابل للتغيير». انظر: المرجع نفسه، ص.88
[7]- جان جاك روسو، خطاب في أصل التفاوت وفي أسسه بين البشر، ترجمة بولس غانم، تدقيق وتعليق وتقديم عبد العزيز لبيب، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2009، ص.55
[8]- AUGUSTIN, Confession, trad.fr. M. Moreau, édition numérique réalisée par l’abbaye Saint Benoit de port, Valais, 2013, p. 34
[9]- Grotius, Hugo, Le droit de la guerre et de la paix, Traduit par Jean Barbeyrac, Op. Cite., p.54
[10]- Ibid., p.50
[11]- Pufendorf, Samuel Von, Les devoirs de l'homme et du citoyen: tels qu'ils lui sont prescrits par la loi naturelle, Tome 2, trad. du latin... par Jean Barbeyrac, Centre de Philosophie politique de l'Université de Caen, 1984,p. 120. [En ligne], [consulté le 18/06/2018], disponible à l’adresse: http: //gallica.bnf.fr/ark.
[12]- Ibid., p. 120
[13]- J. Locke, Traité du gouvernement civil, trad. de l'anglais par M. Locke, Libraire CALIXTE VOLLAND, paris. 1802. p.202
[14]- يقر جون لوك بهذا الأمر في الفصل الثاني من رسالة في الحكم المدني؛ فهو يرى أن القانون الطبيعي معروف لدى جميع أفراد البشر بحكم العقل، وهو من صنع إله قادر وحكيم. وهذا التصور المعطى يقضي بوجود أصل طبيعي للأخلاقية في الإنسان، ويعتبر كل تصرف مناف للطبيعة تصرفا لا أخلاقيا.
[15]- بعد عرضه لتصوره لحالة الطبيعة وما تتميز به، يأتي لوك على ذكر المخاطر التي تهدد هذا الطور، وتجعل من مسألة نشوء المجتمع وقيامه أمرا حاصلا. وقد عرض لذلك بالتفصيل في الفصل التاسع المعنون بـأغراض المجتمع السياسية والحكومية في كتابه: في الحكم المدني.
[16]- J. Locke, Traité du gouvernement civil, trad. de l'anglais par M. Locke, Op. Cite., p. 202
[17]- توماس هوبز، اللفياتان الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة، ترجمة ديانا حرب وبشرى صعب، مراجعة وتقديم رضوان السيد، هيئة أبو ظبي للثقافة والثرات العلمي ودار الفارابي، الطبعة 1، بيروت، 2011، ص.140
[18]- يعرف هوبز الحرية على أنها غياب للمعوقات الخارجية التي قد تذهب غالبا بجزء من قوة الإنسان على إتيان ما يريده، ولكنها لا تقدر أن تمنعه من استخدام القوة التي بقيت لديه طبقا لما يمليه عليه حكمه وعقله. انظر: توماس هوبز، اللفياتان الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة، مرجع سابق، ص.139
[19]- المصدر نفسه، ص. ص 175-176
[20]- جان جاك روسو، خطاب في أصل التفاوت وفي أسسه بين البشر، مصدر سابق، ص.58
[21]- المصدر نفسه، ص.58
[22]- Grotius, Hugo, Le droit de la guerre et de la paix, Traduit par Jean Barbeyrac, Op. Cite., p.41
[23]- Ibid., p.41
[24]- Ibid., p.46-47
[25]- Ibid., p.48-49
[26]- يعرف هوبز الحرية على النحو التالي: «وأعني بالحرية، وفقا لمعنى الكلمة الصحيح، غياب المعوقات الخارجية، وهذه المعوقات قد تذهب غالبا بجزء من قوة الإنسان على فعل ما يريد، ولكنها لا تقدر على أن تمنعه من استخدام القوة التي بقيت لديه طبقا لما يمليه عليه حكمه وعقله». انظر: توماس هوبز، اللفياتان الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة، مرجع سابق، ص.139
[27]- المرجع نفسه، ص.138
[28]- المرجع نفسه، ص.139
[29]- المرجع نفسه، ص.139
[30]- J. Locke, Traité du gouvernement civil, trad. de l'anglais par M. Locke, Op. Cite., p.34-35
[31]- Ibid., p.52
[32]- J. Locke, Traité du gouvernement civil, trad. de l'anglais par M. Locke, Op. Cite., p. 41-42
[33]- جان جاك روسو، خطاب في أصل التفاوت وفي أسسه بين البشر، مصدر سابق، ص.55
يذكر روسو أن هذه العبارة جاءت في قولة للسيد بورلاماكي Burlamaqui. توفي عام 1748، حقوقي سويسري، صاحب مبادئ الحق الطبيعي 1747 ومبادئ الحق السياسي 1751
[34]- جان جاك روسو، خطاب في أصل التفاوت وفي أسسه بين البشر، مصدر سابق، ص.55
[35]- المصدر نفسه، ص.55
[36]- المصدر نفسه، ص.56
[37]- جان جاك روسو، خطاب في أصل التفاوت وفي أسسه بين البشر، مصدر سابق، ص.98
[38]- المصدر نفسه، ص.100
[39]- المصدر نفسه، ص.106
[40]- المصدر نفسه، ص.56
[41]- يورد عبد السلام الشدادي ملاحظة حول عنوان هذا الفصل قائلا: «كان العنوان الأولي الذي شطب عليه هو التالي: في أنه لا يوجد مجتمع بالطبيعة بين البشر. وفي قطعة من مخطوط نوشاطيل ر30، نجد العنوان التالي: في القانون الطبيعي والمجتمع العام. يجب الإشارة هنا إلى أن هذا الفصل يحتوي على مقاطع من مقال «القانون الطبيعي» المنشور في الأنسيكلوبيديا سنة1755 والمنسوب إلى ديدرو». جان جاك روسو، في العقد الاجتماعي أو مبادئ القانون السياسي، ترجمة عبد السلام الشدادي، مصدر سابق، ص. 54 الهامش(ا)، ص. 332
[42]- جان جاك روسو، في العقد الاجتماعي أو مبادئ القانون السياسي، ترجمة عبد السلام الشدادي، مصدر سابق، ص. 54الهامش(ا)، ص. 322
[43]- المصدر نفسه، ص. 322
[44]- المصدر نفسه، ص. 322
[45]- المصدر نفسه، ص. 334
[46]- جان جاك روسو، في العقد الاجتماعي أو مبادئ القانون السياسي، ترجمة عبد السلام الشدادي، مصدر سابق، ص. 334
- مضمون هذه الفقرة ورد في الكتاب الثاني، الفصل السادس المعنون بـ «في القانون» من الكتاب الثاني المضمن للصيغة النهائية لمؤلف العقد الاجتماعي: «ومهما كان نوع العدالة فهي صادرة عن الله، والله وحده منبعها. لكن لو كنا قادرين على أن نأخذها من دلك المقام العالي لما كنا بحاجة لا إلى حكومة ولا إلى القوانين.» المصدر نفسه، 114
[47]- المصدر نفسه، ص. 334
[48]- المصدر نفسه، ص. 335
[49]- جان جاك روسو، في العقد الاجتماعي أو مبادئ القانون السياسي، ترجمة عبد السلام الشدادي، مصدر سابق، ص. 338
[50]- المصدر نفسه، ص. 52
[51]- المصدر نفسه، ص. 54
[52]- جان جاك روسو، خطاب في أصل التفاوت وفي أسسه بين البشر، مصدر سابق، ص.66
[53]- جان جاك روسو، مصدر سابق، ص.57
[54]- Jean-Jacques Rousseau, LETTRES ÉCRITES DE LA MONTAGNE, in Collection complète des œuvres, Genève, 1780-1789, vol. 6, in-4° édition, p.100. En ligne, www.rousseauonline.ch version du 7 octobre 2012. http: //www.rousseauonline.ch/Text/lettres-ecrites-de-la-montagne.php.
[55]- في النص الفرنسي وردة كلمة Droit وتمت ترجمتها في النص العربي بكلمة قانون. لذلك أقبلنا على استبدالها في النص العربي بكلمة حق حتى يبقى النص وفيا للتمييز الذي يقيمه روسو بين مفهوم حق Droit ومفهوم Loi.
[56]- جان جاك روسو، خطاب في أصل التفاوت وفي أسسه بين البشر، مصدر سابق، ص ص.57-58
[57]- يحث روسو وبدون أدنى غموض أن التحنن سابق على العقل والتفكير، وفي ذلك يرى جاك دريدا شرط كونيته، انظر:
-DERRIDA Jacques, De la grammatologie, Ed. Minuit, Paris, 1997, Deuxième partie, chap. 3, p.246
[58]- جان جاك روسو، خطاب في أصل التفاوت وفي أسسه بين البشر، مصدر سابق، ص.101
[59]- المصدر نفسه، ص.58
[60]- المصدر نفسه، ص.58
[61]- جان جاك روسو، في العقد الاجتماعي أو مبادئ القانون السياسي، ترجمة عبد السلام الشدادي، مصدر سابق، ص. 338
[62]- المصدر نفسه، ص. 62
[63]- المصدر نفسه، ص. 114
[64]- Goldschmidt, Victor, «Individu et communauté chez Rousseau», Revu de théologie et de philosophie, N°3, 1982, p. 248