في الذكرى الأربعمائة لميلاده بليز باسكال ... إرثٌ لا ينفذُ ومعينٌ لا ينضبُ
فئة : ترجمات
في الذكرى الأربعمائة لميلاده
بليز باسكال ... إرثٌ لا ينفذُ ومعينٌ لا ينضبُ[1]
بحلول يوم التاسع عشر من شهر يونيو حزيران من سنة 2023، يكون قد مضى على ميلاد الفيلسوف وعالم الرياضيات والفاعل في أكثر من واجهة، بليز باسكال، أربعمائة سنة، وبهذه المناسبة كتب عالم الرياضيات الفرنسي الحاصل على ميدالية فيلدز سنة 2010 نصا تقريظيا في حق هذا العبقري الفذ الذي ندين له بالشيء الكثير.
إنها سنة 2023 ميلادية، وفيها نحتفي بمرور أربعمائة سنة على ميلاد بليز باسكال؛ ففي المئوية الأولى لميلاده سنة 1723 كما في المئوية الثانية سنة 1823 لم نُنجز شيئا يستحق الذكر بالنسبة إلى هاتين المئويتين؛ إذ إن ذلك ما لم يكن في مركز المزاج الذي خيّمَ إبّان تلك الفترة؛ لأن باسكال في كل الأحوال، كان يسبّبُ إزعاجا في عالم اكتسحته الأنوار والنزعة العلمية، بوصفه فيلسوف القلب، والإيمان وفيلسوف المفارقات، الذي حكم فولتير بجنونه، غير أن الأمر لم يسرْ، إلى حد ما، على ذات المنوال بالنسبة إلى المئوية الثالثة لميلاده؛ ففي سنة 1923، عند الخروج من مهالك الحرب العالمية الأولى، اكتشف العالمُ والرّعب يستبدُّ به أنّ تقدم التّقنيات والعقل لا يكفيان لتحقيق تقدم البشرية، ولأن باسكال فيلسوف للوضع البشري، فقد كان أحقَّ بأن تُقام له احتفالات رائعة، وهو ما مثل بحقّ ثأرا لاحقا لباسكال من ديكارت؛ إذ صار فيلسوفاً شهيرا للأمة الفرنسية، فتم تكريسه باعتباره عملةً قوية، حيث تم الشروع في دراسةِ رهانه والتعليق عليه في جميع فصول الفلسفة، وطفقنا نقرأُ تأملاته الطافحةِ حكمةً حول علاقتنا بالثقة وبالإيمان ونعاود قراءتها. "الإنكار والإيمان والشك هي بالنسبة للإنسان بمثابة العَدْو للفرَس."
في سنة 2023، ستكون الاحتفالات بذكرى ميلاد باسكال أطول وأكثر تنوعا، ومن المؤكّد أن وجوها عديدة للرجل سيتم تشريفها، تلك الوجوه التي تتردد فيها أكثر من غيرها أصداء قرننا هذا، القرن الحادي والعشرين، الذي يخيم عليه الالتباس ويملأه الاضطراب؛ لأن باسكال فضلا عن أنه فيلسوف عميق، ومُساجلٌ لامع ولاهوتي صارم، هو أيضا عالم رياضيات جسور ومبتهج بالبحث الذي مارسه في سن مبكّرة وشُغف به أيما شغف؛ إذْ لم يكن قد أتمَّ عامَهُ السادس عشر حين برهن على نظريته الرائعة التي تحمل اسمه جاعلا منها أساسا لمصنف كامل حول المخروطات. ارسم سداسيا داخل قطع ناقص وضم الجانبين المتقابلين مثنى مثنى، ولَكَ بعدها الشعور بمتعة الإعجاب. فتكون التقاطعات الثلاثة متساوية بشكل دقيق كما لو أن الأمر تمّ برسم معجزة.
وباسكال كان يعرف لماذا أطلق على هذا الشكل الهندسي اسم السداسي الصوفي (l’hexagramme mystique) ... هنا نوجد قبالة شخص حبّرَ العلم بروحه أكثر ممّا كتبه بذهنه. فهو يذكّرنا بمقدار ما يمكننا تحصيلُهُ من لذةٍ من وراء رسم موضوعات بسيطة على ورقة كما هو الحال بالنسبة إلى القطوع الناقصة والمثلثات، ومقدار ما يمكن جلْبُه من متعةٍ حين العثورُ على مصادفة سعيدة مع تقديم تفسير أو شرحٍ رائق وجميل لها.
فيما بعد سيمنحُ باسكال لموهبتهِ ما تستحق من تقدير، فالمراسلات التي جمعته بعالم الرياضيات بيير دو فيرما (Pierre de Fermat)، بقدر ما كانت شهادة ميلاد لحساب الاحتمالات، مثّلت في الوقت نفسه فصلاً مدهشا في الرياضيات وفصلا رائعا من تاريخنا؛ ففي اللغة الأنيقة التي كُتِبَتْ بها، نرى باسكال متلاعباً بما يفصل العوالم من سدود، فهو يستوحي ويستلهم أفكاره من مشكلة "دنيوية" هي مشكلة اللاعب، لاعب القمار من أجل تدشين وافتتاح محور جديد للعلوم الرياضية. ففي ظل حقبة كان كل شيء فيها منذورٌ للبناء، قدَّم هذ الثنائي العبقري في علم الرياضيات (المكون من باسكال وفيرما)، عبر بعضٍ من رسائلهما المختارة، اكتشاف حساب الاحتمالات إلى العالم. فأي متعةٍ تضاهي تلك التي يكون المرء موعودا بتحصيلها حين اقتفائه لأثر باسكال في طرَائفه ومُجاملاته وفي محاجّاته! لقد كان فخورا، مثل طفل، بتواصله وتراسله مع بيير دو فيرما أعظم علماء عصره: "مثلك تماما نفاذ الصبر يتملكني، ورغم أنني لازلت في سريري، فإنني لا أقوى على منعي نفسي من أن أقول لكم أني تلقَّيتُ البارحة مساءً، من السيد كاركافي (M. Carcavy) رسالتكم حول الجولات التي أعجبت بها إعجابا أعجز عن قوله. لا أملك وقتا للتوسع في ذلك، لكن أقول بكلمة واحدة: لقد وجدتم جولتا لعبة النرد وجولات في مكانها الصحيح؛ وأنا راض على ذلك تماما، لأن الشك ما عاد يساروني الآن إطلاقا في أنني أقيم في كنف الحقيقة، عقب اللِّقاء المثير للإعجاب الذي جمعني بكم".
لقد وظف باسكال واستثمر ببراعة في مجال الرياضيات أشكال وصور الفكر المفضّلة لديه؛ أي قيامه بإعادة الكتابة من خلال تغيير المنظور، الإقران والمزاوجة بين الأضداد، ثم إقامة العلاقة بين الموضوعات. هكذا نجد تحديداته المتعددة للموضوعات المِزواجة، والسهولة التي طبعت تعامله مع اللانهاية دون تعلُّق بوضع معادلة دينامية – معادلة للعلاقة بين التشكيلات- كلاهما يُذكّراننا، مثلما فعلت فيلسوفة العلوم كاترين شوفالي (Catherine Chevalley)، باستحالة فصل باسكال الرياضي عن باسكال الفيلسوف.
وفضلا عن ذلك، نجد صور التعارض الفلسفي القائم بين ديكارت وباسكال قائمة في أسلوبهما الرياضي؛ فأحدهما مهووس باللاّنهاية، بينما الآخر ليس كذلك، أحدُهما يقبل الاستدلال بالخلف في حين يرفضُه الآخر، وهكذا دواليك، وهو ما يعني بكل تأكيد، أن الرياضيات أكثر من كونها مجرَّد حسابات؛ لأنها أولا وقبل كل شيء علم للاستدلال وللتمثيل الرمزي للعالم. لذلك، فإن اكتشاف باسكال لحساب الاحتمالات يعدو كونه مجرد مُثلَّث صارت خصائصه معروفة من قبل الجميع؛ لأنه يمثل الشهادة الأدبية المباشرة على بحث رياضي تملأه البهجة ومتّصفٍ بالطابع الاجتماعي، ووثيق الصّلة بالعالم، ويتّخِذُ من قلب الفكر الإنساني مستقراً له.
التجربة بوصفِها حَكماً
يعدّ باسكال أيضا المجرّب المتميّز في عصره، مما جعل وحدة قياس الضغط تحمل اسمه، فقد وجد شغفُه بالسّجال في تجربة توريشللي مادة لممارسة فعاليته وتجديد نشاطه، ولمّا كان توريشلي يروم البرهنة على وجود الفراغ، ضدا على السكولائية الأرسطية (نسبة إلى أرسطو) التي شاخت، فقد ضاعف باسكال الجهاز التجريبي الذي اعتمده الفيزيائي الإيطالي، داخل زخم من المتغيرات ودرجة من البراعة التجريبية، محصّلا لذة ماكرة من وراء تسديده ضربةً قاضية للخصم، ولردّ الضربة اعتقد أنصار أرسطو أن جواهر طيّارة توجد في الفضاء الفارغ ظاهريا من الأنبوب، وهو ما لم يتأخر ردُّ باسكال عليه مقترحا: طيِّب فلنعاود إجراء التجربة بواسطة النبيذ: لأنه "يصعَدُ" أكثر، فإن ارتفاع السائل يجب أن يكون أقل...والحال أن العكس هو ما تمت ملاحظته ! "أنبوب زجاجي بطول 46 قدم، مفتوحٌ من أحد طرفيه، بينما تم إغلاق الطرف الآخر بإحكام، مملوءٌ بالماء أو بالأحرى بالنبيذ القاني الحمرة حتّى يكون مرئيا بدرجة أكبر، وتمّ إغلاقه ورفعه في هذه الحالة عموديا نحو الأفق، الفتحة المغلقة إلى الأسفل داخل وعاء مملوء بالماء، مع إغماسه فيه قرابة القدم، فإذا قمنا بفتح الفتحة المغلقة، فإن النبيذ الموجود في الأنبوب سينخفض إلى أن يصل إلى حد بعينه من الارتفاع..."
نبيذ أحمر في أنبوب من الزجاج بارتفاع 46 قدما و14 مترا! لكم أن تتخيلوا كم كانت هذه التجربة تجربة مدهشة ودقيقة! وهي من الرهافة والدقة على مستوى إعادة انتاجها، حيث بلغ الأمر، منذ الخمسينيات من القرن الماضي، بمجموعة من الأكاديميين مستندين إلى تجارب، حدّ المجادلة في أن يكون باسكال قد أجرى بالفعل تلك التجربة. وهي التجربة التي لم تتم إعادة بنائها، بما تتطلّبُه من صرامة، إلا سنة 2010 في جامعة أورساي (l’université d’Orsay). إنها لَمغامرة علمية في ذاتها أن تتم البرهنة على تطابق الملاحظات الحديثة مع ما قَدّمَهُ باسكال من تقارير في تلك الحقبة، ولكن مع ما قدّمَهُ أيضا رفيقُه في الدرب عالم الرياضيات روبيرفال (Roberval).
والأمر الآخر الحديث جدا في مقاربة باسكال هو رفْضُهُ لأسبقية العقل على المادة واتخاذُهُ التجربة حكماً، غير أنه يؤكّدُ في الوقت نفسه، عجزنا عن بلوغ معرفة حقيقة بالعالم، بالنظر إلى اتساع نطاق التحيزات من تحيزات معرفية وأخرى حسية، وما تمارسه أفعالنا من تأثير على أذهاننا، كل ذلك يجعلنا منا كائنات ذاتية، طريق المعرفة الموضوعية غَيرُ سالكةٍ أمامها. واليوم نجد أن دراسات تجريبية لدان كاينمان (Dan Kahneman) وأموس طفيرسكي (Amos Tversky) وأنطونيو دامسيو (Antonio Damasio)، وعمليات تحليل ما تلحِقُهُ شبكات التواصل الاجتماعي من تشويهات بالواقع، كُلُّها تنتصب أمامنا كي تذكرنا براهنية هذه اللَّعنة الباسكالية ونفاد حُكمها، لقد جعل دامسيو لكتابه عنوان "خطأ ديكارت"، وما كان أحْراهُ أن يضع مكانه "نفاذُ بصيرة باسكال"!
وباسكال ملهم دقيق للسياسة أيضا، صحيحٌ أنه لم يُخَلّف مُصنفا في هذا الفن، كما أنه ليس على شاكلة مكيافيلي، حتى إن الاعتقاد ذهب به، وهو ما لم يعدم لهُ سبباً، إلى أنّ إرادة حكم العالم، هي تقريبا مثل ادعاء وزعم حكم مستشفى للمجانين: "لا نتمثل أفلاطون وأرسطو إلا بأثواب مدّعي العلم الواسعة. رجلان من ذوي الصلاح شأنهما شأن سائر الناس بمُضَاحكة الأصدقاء، تلهيَّا بتصنيف "الشرائع" و"السياسة" فصنّفا هذه وتلك لاعبِبَيْنِ، وهذا الشَّطر من حياتهما كان أقلّها فلسفة وترصّناً. وما أحراهما أن يعيشاه ببساطة وسكينة. وكأني بهما كتبا في السياسة لينظّما مستشفى مجانين"
لكن على الرغم من ذلك، نجد الفكر الباسكالي يفرضُ نفسه هنا وهناك في المناقشات السياسية بصورة منتظمة، عبر لمساتٍ صغيرةً، فهنا نجد متظاهرة ضمن الموكب المهيب لمظاهرة بتاريخ 7 مارس من هذه السنة في باريس، وهي تلوّحُ في سرور بعَلَم يحمل الألوان الثلاثة للراية الفرنسية، وعليه كُتِبَتْ إحدى أجمل شذرات باسكال: "القوة دون عدالة استبدادية"
وهناك مُصنّف للإيكولوجيا السياسية يعترف لباسكال بأنه رائد وله عصا السّبق في الفكر الإيكولوجي ليس بحكم مواقفه الفلسفية وحسب، ولكن أيضا بحكم ما كان يُكنُّه من تعلّق بالصّلات والروابط القائمة بين الكائنات والأشياء.
" أيسر حركة تهم الطبيعة جمعاء والبحر بأجمعه يتغيّر من رمية حجر"
هنا أيضا يكون ما يرسمُهُ باسكال هو لوحَتُنا الشخصية الأكثر مطابقة لنا، نحن المشغولين باللّهو واللّعب بكل أنواع الأشياء وأصنافها، بينما الأزمة الإيكولوجية ستكون سببا في هَلاكنا وخسراننا المبين:
"رجل في سجن، لا يعرف هل صدر الحكم عليه، وما هي إلا ساعة حتى يعرف ذلك. فإذا كانت هذه الساعة كافية للعمل على إبطال الحكم، لو عرف أنه صدر، فإنه لأمر مضاد للطبيعة أن يصرف هذه الساعة في لعب الورق عوضاً عن أن يصرفها في الاستعلام عن صدور الحكم. "
لكم كانت صدمتي كبيرةٌ في يوم من الأيام حين حاولت أن أفهم النتائج المتناقضة والمتضاربة لاستطلاعات الرأي التي أظهرت أن إلزام أخذ اللقاح لسنة 2017 قد تم اتباعه، وسنتان بعد ذلك، تبعه تعزيز ملحوظ للثقة في التطعيم: "حقا، إنه باسكال! تماما كما ورد في نص الرهان: العادة تفضي إلى الإيمان، لا العكس!
وعلاوة على ذلك، فإن هذا الرهان الذي تم الإعلان عنه أول الأمر في إطار ديني، يحتفظ بالكثير من الرّاهنية من جهة ما هو رهان سياسي، وقد فهم السينيمائي إريك روهمر (Eric Rohmer) هذا الأمر تماما، حين أنطق إحدى شخصياته في فيلم "(إMa nuit chez Maud») ليلتي عند مو"): "بالنسبة إلى شيوعي، يبقى نص الرهان هذا راهنيا إلى أقصى حد، فأنا أشكّ بعمق في أن يكون للتاريخ معنى، وأجد نفسي في وضع باسكالي."
إن هذا الرهان يمثّلُ حجةً تضطلع بدورها على الوجه الأكمل في أيامنا هذه داخل سياق الإيكولوجيات السياسية، لكن حتى وإن لم تكن لدينا إلا فرصة ضئيلة جدا لتغيير المجتمع، وإذا كانت تلك هي الفرضية الوحيدة التي تتيح لنا العيش والبقاء على قيد الحياة، فلابد لنا من تثمينها والاعتزاز بها، وبالنسبة إلى العديد من النشطاء والمناضلين، يظل ذلك هو العلاج الوحيد لآلام الحصر أو القلق المرضي المرتبط بالبيئة (l’écoanxiété).
أول مُقاول في مجال التكنولوجيا
ستكون خاتمة نصي بالوقوف عند وجه لباسكال لازال أقل شهرةً، هو باسكال بصفته أول مقاول ورائد أعمال في مجال "التكنولوجيا"، فبقراءتنا للتعليمات الخاصة بآلته، التي أُطلق عليها في فترة لاحقة "باسكالين" Pascaline باعتبارها أول آلة حساب تجاري، نجد في "خطاب الآلة" هذا جميع مكونات "التكنولوجيا" الحديثة: مغامرة رجال الأعمال القائمة على العلم والمستندة إلى الأبحاث النظرية ومهارة الصّنعة، والبحث الذي يحفّزه بلوغ الكمال وتقريب المثال الموجود في التصميم، والتوجه بطلاوة الحديث السلس إلى للمشتري المحتمل، مع الانشغال بهاجس الملكية الفكرية.
"السبب الثاني الذي أتوقع أنه قادر على أن يُضلَّك، عزيزي القارئ، هو تلك النّسخ السيئة من هذه الآلة التي يمكن أن ينتجها الحرفيون[...] إن خاصية وميزة هذا الوليد قبل أوانه ازعجتني، وأخمدت تماما الحماسة التي اشتغلت بها لإكمال وإتمام نموذجي، إلى حدّ أنّى منحتُ إجازة ًلجميع عمالي، وقررت بشكل حاسم ترك الشركة تماما" (إنه خطاب جيد، فيه يستدرُّ باسكال دموعَنا بينما كان يعيش في يسرا دائما) أثناء مأدبة عشاء أقيمت سنة 2023، ألقى أحدُ العلماء البارزين لشركة غوغل كلمة أمام بضع عشراتٍ من المدعوّين المنخرطين في قطاع التكنولوجيا، مُعْلِنا في بدايتها عن شغفه الكبير ببسكال، أمام اندهاش الجميع، باستثنائي أنا، ساردا المسارات التي اقتفى فيها أثره. نعم إن بليز العظيم يعتبر وجها يمارس سلطته ووصايته في أسمى موقع لدى نجوم التكنولوجيا الفائقة، بيد أن باسكال كان أيضا مقاولا ورائد أعمال في مجال التكنولوجيا المنخفضة (low tech)، وأباً لابتكار ثوري تماما، إذ غالبا ما ننسى أن ننسب له الفضل في أول خط للحافلات ! فعربته، العربة التي كانت تركب مقابل خمسة قطع من عملة السول (carrosse à 5 sols)ربطت منذ 1662 بوابة القديس أنطوانبقصر اللوكسمبورغ، خطُّ حقّق نجاحا تجاريا، لتظهر بعدهُ أربعةُ خطوط، ممثِّلاً بذلك الربط الأول في العالم!
مقاول وفيلسوف ولاهوتي وعالم رياضيات ورجل منفتح على العالم، ومساجل وكاتب... لقد كانت الحيوات المتعددة لباسكال متمازجة، متشابكة لمْ يقم بينها انفصال يُذكر؛ فقد مثّل باسكال هذا الكلّ حتى خالطه المرض وخطفَهُ الموت. "آخر فصل من الرواية دامٍ، مهما كانت جميلة في سائر أقسامها: يُهال التراب على الرأس، ويُقْضى الأمر إلى الأبد."
ليس الأمر كذلك؛ لأن مغامرات المثقف تستمر بعد موته، فبليز باسكال بلغ من العمر 400 سنة، لكن مساره يعكسُ الكثير من أوجه الفكر البشري! لذلك فإن أعظم تكريم يمكن أن نقدّمَهُ لهذا الكنز الوطني والتراث الإنساني، لازال وسيظل هو قراءَتَهُ في نصوصه، خصوصا في الوقت الحالي، بعد أن جعلت المكتبات على شبكة الإنترنيت الأمرَ أيْسرَ من أي وقت مضى ...
[1] CÉDRIC VILLANI, Pascal,l’inépuisable, L’OBS/N°3056-04/05/2023 (Cahier numéro un de l’édition n° 3056 du 4 au 10 mai 2023)
[2] عالم رياضيات فرنسي من مواليد 1973، حصل على ميدالية فيلدز المرموقة سنة 2010، نشر العديد من الأعمال العلمية التي تعمل على تقريب المفاهيم العلمية من مدارك الجمهور. تم انتخابه في البرلمان سنة 2017 كمرشح للحزب الذي أسسه ماكرون (الجمهورية إلى الأمام) LREM، ترشّح لمنصب عمدة مدينة باريس سنة 2020، كما التحق بجيل الإيكولوجيا Génération Ecologie سنة 2020