في الطّريقِ إلى مقامَاتِ الأوْلياءِ
فئة : مقالات
الطريقُ لا يُسعى إليه بقدم أو قلب أو إرادة، بل هو اختيار من ربٍّ يريد لمن أراده الخير. تقرأ عن الطريق غير أن تمضي فيه وتوضع عليه، ويخالطك وتذوب فيه. في إحدى المرات خرجتُ غير قاصدٍ وِجهة بعينها، وقد أُسري بي دون أن أدري إلى رحاب المشهد الحسيني في القاهرة المحروسة، جلست وحيدًا قرب منتصف الليل في المسجد، وعلى غير العادة فتح لي البوّاب ودخلت، دون صلاة أو ذِكرٍ كانت جلستي، فنحن مع الله دومًا في صلاةٍ دون أن ندرك.
مرّ أحدهم ووزّع علينا (بسبوسة)، نظرت في كافة أرجاء المسجد؛ فوجدت من فيه لا يتجاوزن في العدد أصابع اليد اليمنى، اقتربت أو اقترب منّي اثنان لا أعرفهم، أحدهم لون بشرته أسمر لكنه مضيء كالبدر إذا تبسّم، وكل حديثه تَبسّمٌ، كان أصل جلبابه أبيض لكنه بفعل السياحة في الأرض أضحى بالنسبة لي غير معلوم لونه.
كان عثمانُ صامتًا كثيرًا على عكس محمّد الذي يرافقه صدفة دون ميعاد، كان كثير الكلام يبشّر بطريقته الصوفية، وعثمان يبتسم. لم أُلقِ بالاً لحديث محمد، وقد أدرك ذلك على الرغم من إظهار الاحترام والتقدير له ولما يقوله. وبعد أن خرجنا من المسجد وأكلنا وشربنا، صمت محمدٌ طويلاً، وكان في أحيانٍ يؤمّن على كلام عثمان.
مرّت سيدة جميلة ترتدي زيًّا مصريًا يعود إلى الأربعينيات، وكانت لافتة للنظر. سألتُ عثمان عن الزواج؛ فأخبرني أنه يريد أن يتزوج، لكن ليس له من أمره شيء، فهو في سياحة في الأرض لمدة عام، بلا عنوان ولا وجهة محددة، وفي تلك الحال لا يحسن أن يقيم علاقة مع أحد إلا الله بتوجيهات من الشيخ.
كان عثمان نقشبنديًّا، ويظهر لعابد الصورة أنه درويشٌ جاهلٌ، كلما أتى ذكر الصوفية، أذكر بعض المعلومات من سطور قديمة قرأتها، لكن عثمان إذا تحدث تشعر أنه يقرأ من اللوح المحفوظ، ويجري الكلام منه سلسبيلا نابعًا من أنهار الجنّة.
تحدّثتُ مع عثمان عن حلاّج الأسرار، وبايزيد البسطامي؛ فذكر عنهم ما حصّلته بعد مكافحة وتفتيش في بطون الكُتب. سألته عن تعليمه؛ فأخبرني أنه اكتفى بالتحصيل المدرسي عند الثانوية، ولم يدخل الجامعة إذ لم ير من دخول الجامعة كبير فائدة له، واختير أن يكون في جامعة أهل الله المفتوحة على الدوام، كل خطوة جديدة فيها تطوي ألف مسافة من مسافات أهل العلم الظاهري.
لم يقلل عثمان من قيمة العلم أو الحياة، ولم يكثر الحديث عن إعجازٍ أو خارق، بل كان حديثه دائمًا يشير إلى أن الطبيعة في حدّ ذاتها معجزة؛ فكل معجزة طبيعية بعد ذلك! كلما نظر عثمان إلى السماء هام وجدًا ونطق بالحكمة دون وعي. ذبتُ في الطريق مع عثمان ونسيتُ محمدًا! ونسيت أنّي لم أصلِّ يومها نافلة أو فرضًا، ولا أزال أذكر من كلامه حين أخبرته عن صلاتي التي ضيّعت، وأنا في تيهي أسير دون أن أسير.. لا تصلّي وأنت في هذه الحالة طالما أنك لا تدرك ماذا تفعل.
مضى بنا السير عبر مقامات آل البيت في القاهرة، حتى استقرّ بنا المقام في أحضان أم الحنان (السيدة زينب) قبل دخول الفجر ساعة أو يزيد..
في هذا الرحاب كل شيءٍ طاهر، وكل من دخله يُولد من جديد، فما فات فات، وليس هناك فرض أو حد، تدخل تذوب، تذكر تغيب، تجلس تغتسل، تخرج بمدد لا تترجمه الرموز والأقلام.
أذكر أنني قابلت امرأة تستند إلى المقام من الخارج، قريبة من باب الدخول، وهي في كامل زينتها، ترتدي الثياب البيضاء كعروسٍ قادمة للزفاف؛ شدّني ما هي فيه من حال وصورة فجلست أتحدث معها، وبعد أن غابت ظللت مدة أذكر وجهها كلما أردت أن أمسك بأمل في الحياة.
استمعنا قبل الفجر لإنشاد أحدهم أبيات رابعة العدوية (أُحبّك حُبّين)، كان الجو ملائكيًا كله رضا ونور، غبت عن عثمان ساعتها، خاصة بعد صلاة الفجر حين لقيت أحد أصدقاء المدرسة القديمة من الأشقياء. يجلس مع شيخه الذي يعلّم التلاميذ القرآن وأحكام التلاوة، لفت نظري أنه طول زمنِ اللقاء الذي جلسنا فيه يُقبّل قدم الشيخ ويديه، ابتسمتُ كثيرًا حين رأيت مصطفى على هذا الحال؛ فقد كنا في الغابر من الوقت نُشكل حلقة الشياطين السبع، نلهو ونلعب ونشاغب إلى آخر الحد؛ وكانت آخر أخبار مصطفى التي أعرفها أنه يعمل مع إحدى الراقصات طبّالاً، فسبحان من يبدّل الأحوال.
كان عثمان في ليلة الإسراء قد حكى لي موقفًا، جعلني أغيب حين رأيت مصطفى، فيبدو أن الله يُظهر لي صدق كلام عثمان في التّو واللحظة... كنا قد توقّفنا أمام مقام السيدة فاطمة النبوية، وكان هناك رجلٌ رثُّ الهيئة لكنه إلهيُّ الحديث، أخبرني عن أمور شتّى مما حدث لي وما يحدث لي، ولم أندهش ساعتها من كلامه، لكن ما أدهشني هو صورة الرجل القديمة وصورته الحالية، إذ أصرّ على أن يريني صورته قبل عام واحد من وقفته في الخدمة، كانت صورته القديمة كصورة الباشاوات في الأفلام المصرية، أما صورته الحالية فليس فيها من الحياة والرفاهية سوى قلبه ونظرة عينيه.
أخبرني عثمان أن الوليّ غير الدرويش؛ الوليُّ يتحدث عن الرياضية وعن غلاء الأسعار، وعن السياسة، وعما يدور على ألسنة العوام؛ هو رجلٌ مثله مثل الآخرين يسير بين الناس و لا يميزه شيء عنهم، الوليّ بشرٌ كسائر البشر!
مضى عثمان بعد أن أعطاني مسبحته التي أخبرني عنها، أنه لو توقّف عن التسبيح استمرت هي تسبّح. ظلّت معي المسبحة فترة طويلة أسبّح بها وتسبّح هي عنها، حتى انتهت علاقتي بالمسبحة لتنتقل إلى يد تؤمن بالله (الخير- الجمال) وتحمد الله عليها، بعيدًا عن إزعاج الرسالات المنتشر.
تذكّرت قصة مصطفى وعثمان، وأنا أنتقل إلى مقامات الأولياء قاصدًا الزيارة لصعيد مصر، وحكيت قطعة منها لصديقي بسيوني الذي اتفقت معه في كثيرٍ مما يقول رغم أننا نختلف في المشارب، وحين هممت بتسجيل اللقاء حرفًا، تذكّرت قصة أخرى للمُخلصين من أبناء الطريق الصوفي، بخلاف عثمان الذي إن تبسَّم يُريك وجه الله الحنون.
كان عليٌّ ومصطفى العراقيان اللذين نزحا إلى القاهرة من أتباع الطريقة الكسنزانية، وهي طريقة علم وذِكر وحياة، طريقة طعام وحبّ وصلاة. عرفتُ الطريقة عن بعد ومن خلال الأنترنت؛ حيث اتصل بي أحد خلفائها، وأخذ عليّ العهد باتباع الطريقة. كنتُ في نفس المكان الذي أوجد فيه الآن وأنا أبايعه... لكنني بمجرد ترديد البيعة وراء الخليفة، كنت أشعر أنني أجلس في السماء السابعة وأقرأ سورة النجم.
كانت صورة البيعة على النحو التالي[1] :
بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صلِّ على سيدنا محمّد الوصف والوحي والرسالة والحكمة وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا... أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن سيدنا محمدًا رسول الله. آمنت بالله وحده وملائكته، وكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره من الله تعالى، وآمنت بأن سيدنا محمد هو خاتم النبيين وسيد المرسلين. يا ربَّ توبة.
أستغفر الله العظيم من كل ذنب، تبت وبايعت وعاهدت على يد قدرتك يا رب العالمين.
أستغفر الله العظيم من كل ذنب. تبت و بايعت و عاهدت على يد سيدنا محمد [ .....].
بعد انتهاء الخليفة والمريد من ترديد عهد الطريقة يقول الخليفة: أعطيتك هذه البيعة وكالة عن حضرة الشيخ محمد الكسنـزان... قبلتَ ؟ فيجيب المريد: نعم، قبلتُ. ثم تقرأ سورة الفاتحة .
رددتُ البيعة مرتين، مرة على يد شخص لا أعرفه، ومرة على يد مصطفى، ولقنني الأذكار التي يحسن ترديدها طيلة اليوم. التزمتُ بالأذكار فترة طويلة، ثم فتُرت الهمّة وانهمكت في العمل مع مصطفى وعليّ ونسيتُ الأذكار، مما جعل مصطفى يتقبّل فكرة أني مُحبٌّ ولستُ مثلهم سالكًا. قابلتُ مع مصطفى الكثيرين من الزائفين ممن يريدون أن يأكلوه هو، وعليّ؛ فمصطفى كان صادقًا صدقًا لم أر مثله، وكنت أنصحه دومًا أن يتمهّل في الإقدام على أية خطوة، فمن حوله مجرد لصوص في مصر!
كان مصطفى يجود من كبده وقلبه، ولا يتوانى عن تقديم (كلِّ) ما لديه للآخرين، طالما أنه سيقدّم شيئًا للطريقة الكسنزانية، ماحيًا بما يفعل كل ما أراه من خلل وبعد عن الطريقة في من يلتفون حوله.
صنع لي مصطفى سبحة من 500 حبّة بيديه، ولا تزال معي حتى الآن، ذكرت عليها الله كثيرًا، وكلما أراها أذكر.. أقام حضرة في بيته القريب من المعادي، وأصرّ بعدها عليّ أن أقرأ شيئًا من موسوعة الكسنزان، وأن نشاهد حلقة من حلقات الشيخ المصورة على الكمبيوتر، وفعلنا بحبّ، وكان المجلس كلّه محبّة قبل أن يُخالطه أهل الأهواء.
عزفتُ عن اللقاء الكثير لمجموعات لا أعرفها كان يتعرّف عليها مصطفى، وتدخل الطريقة صورةً لا حقيقةً ! حتى أتى الشيخ الكسنزان إلى القاهرة، وفي المشهد الحسيني التقيته، وكان لقاءًا جميلاً... تعرّفت بعده على خليفته علاء الذكي الألمعي الذي كان وجهه يشعُّ نورًا، ولا أزال أذكر سعيي معه على كورنيش النيل ذات ليلة وحديثنا الطويل حول العلم والتصوف.
غاب مصطفى، وإن كنت أذكره وعليًّا دائمًا، لكني تذكرتُه في قنا وأنا في إحدى الحضرات مع أحد مشايخ التصوف الذي جالسته لوقت قصير، وسألته الكثير من الأسئلة أذكر منها: لماذا لا ينخرط الصوفية في الواقع ويشاركون الناس ما يهتمون به؟ ولماذا لا تصعد كلماتهم إلى سماء الإعلام؟ ألا ترى أن هذه الأعداد الغفيرة من الصوفية بيدها أن تطرح خطابًا مختلفًا عن الدين غير ما نراه من خطابات تُبعد الناس وتفرقّهم وتزهّدهم في الدين وأهله؟!
كان ردّ الشيخ على بعض الأسئلة، أن هناك خللا حادثًا عند الصوفية؛ فبعض المشايخ ورِث الطريقة عن أبيه دون أن يكون على دراية بمسالكها أو بلُبّها، ودون أن تكون له تجربة صوفية. وهناك بعض المخالفات عند الصوفية، كحضور النساء في حضرات الذكر! قال كلامًا كثيرًا لا أودّ أن أذكره لأن الشيخ في كل ما قاله متناقضٌ مع ما يعيشه، حتى أنني لستُ وحدي من لاحظ هذا التناقض! فالشيخ نفسه وارثٌ عن أبيه، وهو قليل العلم والبضاعة الصوفية؛ وما ينكره يُنكَر عليه من خلال أدبيات الصوفية المسجّلة في هذا الشأن. لذلك لم أرِد أن يطول الوقتُ كثيرًا في حوار معه، وتركتُ غيري ممن هو بعيد الاهتمام بهذا الشأن يحادثه، ولم أستخبر بعدها عما دار في الحديث، لأنه كما عرفت فيما بعد لم يقل شيئًا مفيدًا!
كانت الجماهير الغفيرة في الساحات أكثر صدقًا وإخلاصًا ممن يجلسون على الكراسي أو توضع لهم الوسائد؛ فالسيدة التي ترسم الحنّاء للسيدات في الفناء أمام المسجد وترتدي من الثياب ما يلفت النظر إلى هيئتها، بمجرد أن تنظر إلى وجهها تستريح، حتى أنني لحظة أن وقع نظري عليها، ناديت أحد أصدقائي والتففنا حولها للحظات.
في الليل كانت نفس السيدة جالسة، لكنها قد خلعت عنها بعض المسابح والعمائم التي كانت ترتديها نهارًا، بعض الشباب ينادونها بأمي؛ جلست جوارَها أتحدث معها عن الموالد والأولياء، كان حديثها دافئًا لا يُملّ منه. طلبتُ منها أن ترسم بالحنّاء على ذراعي كلمة (هُو) التي تشير إلى لفظ الجلالة (الله)، وقد فعلت ذلك بعدما شرحت لها، وبعد أن انتهت من رسم الكلمة على ذراعيّ، رسمتها لنفسها على ظهر يدها .. حاول أحد الشباب أن يتشاجر معنا، لأننا أغراب عن المكان؛ فكانت هي السبب في ردعه ومن معها.
في حضرة سيدي أبي الحجاج الأقصري، الكلّ في فرح يحيا سعيدًا، الشرطة المصرية تجلس في جانب بعيد تشاهد، الشباب بالسيوف والعصي يرقصون، الإبل تتزيّن، الجمل صوفيٌ يأكل إذا جاع ويصوم عن الزاد طول الطريق، الطريق زاده ومطلبه. في الإنجيل يُقال: إن الله هو الطريق، ومع الله كل تعبٍ يهون.
عمُّ وافي، بعد حديث أحد الصوفية عن الطعام، لخّص الكلام في جملة واحدة: "الله هو الطعام"! ومن قبل أحدهم، قال: "الله هو الحب"!. لفت نظري في مقام سيدي أبي الحجاج الأقصري حجرة السيدة تريزا، التي يجهل بعض المجاورين للمقام والقائمين على رعايته، مكانتها وقصتها؛ فبعد أن فتح لي أحد خُدّام المقام حجرتها، وجدت الفوضى تعمّها مما يُنبئ عن عدم التقدير.
اسم تريزا اسم مسيحي، والأقصري مسلم، وكلاهما تحتضنه مصر (الفرعونية)؛ فالمعبد الذي يحوي المسجد والكنيسة، لا يزال شاهدًا على احتواء مصر لكل البشر على اختلاف معتقداتهم، بمحبة وسلام تصل حد الاختلاط في علاقة زوجية؛ يدخل كل هؤلاء في بعض (فادخلي في عبادي وادخلي جنّتي).. المكان جنّة تذوب فيه كل الخلافات، ويعلن ميلاد الإنسان.
يرقصُ الشباب وتُلقى عليهم الفواكه من أعلى السيارات، تفاح يتساقط وفواكه أخرى، وإن وقعت حبّة على الأرض نسي الشباب ما علق بها من تراب ويبلعونها في الداخل، ويكملون الرقص غير عابئين بكل التراب من حولهم. تراب البشر الزائفين الذين يحرّمون الحلال ويكدّرون عيشة الإنسان، تراب الكهنة الذين نبتوا بفعل غفلة صاحب الزمان، تراب المشايخ الذين يلقون من أعلى المنابر بخناجر من نار ظنًّا منهم أنهم يبشرون بجنّة!
يخبرني وليد الذي أتى من أسوان إلى الأقصر للسلام وحضور حفلة الزفاف، أن المولد كان قد عُطّل منذ سنوات بغرض تأمين السيّاح الذين يتوافدون على الأقصر، وأنه قد عاد منذ العام الفائت بعد زوال حكم مبارك، لكنه اليوم في أبهى صورة رغم تهديد من في الحكم الآن بإزالة مراسم الاحتفال، وهدم أشباههم لأضرحة ومقامات لأولياء هنا وهناك.
نعود إلى قنا في مكعب مصغّر يُسمّى فندقًا ويُوصف بالجديد؛ في التلفاز صورة لشيخ زائف، ما أعرفه عنه قديمًا أنه كان يعمل في ميكانيكا السيارات والخراطة. يستنجد الشيخ الزائف بسياسي زائف ليدعم رؤيته لما يحدث في مصر الآن، يسير على نفس وتيرة الكذب السياسي، كلاهما يجتهد ليؤدي دور العاهرة، وشتان بين العُهر الأصلي والعُهر المُقلد.
المُكعّب الذي جئنا نستريح فيه يبعث على الشقاء ويفصلنا عن عالم اللاَّ مكان الذي كنا فيه؛ فالعمّال لا يتقنون فن الخدمة، وإن كان أحدهم قد ابتسم لنا باعتبارنا زنادقة غفر الله لنا، وحتما دولة الكفر زائلة، ودولة إيمانه ستبقى!
على الحائط بجوار مبنى الزجاج الذي يحاول الجسد أن يستريح فيه (جرافيتي) يقول: قاطعوا منتجات النصارى! الغريب أننا في مصر مسلمون ومسيحيون لا ننتج شيئًا، فأية منتجات يود من رسم على الحائط أن نقاطعها؟! بجوار هذا الجرافيتي، جرافيتي آخر لصورة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر! وبجوار الحائط أحد الدكاكين يبيع المثلجات، البائع يستمع لشيخ سلفي كان في أحداث بدء الثورة مشهورًا ولا يزال بقَولة قالها وانتشرت: (إحنا بتوع الدين)!
النّاسُ في الشوارع كارهون لمن يتحدثون باسم الدين، في المثلثات والمربعات والأماكن الخالية من الروح والآدميين، يتحدثون عن أهل الدين الصوريين بحفاوة. في مقام سيدي عبد الله القرشي الذي استقبل القناوي عند مجيئه مصر، نقف على الأعتاب ونستأذن في الدخول، وبوجه بشوش يستقبلنا خادمُ المقام، لعله من آل البيت الكرام؛ لا تجوز في حقّه الصدقة، لكنه يقبلُ الهدية بعد إلحاح، يكره الصور ويبتعد عن الكاميرا، يدخل اثنان من الحضر جاءا خصيصًا لتطييب المقام وزيارته، ينشد أحدهما أبياتًا شعرية، كلها مديحٌ وثناء، وبعد أن يفتح المقصورة الرجل ذو الوجه الباسم، يمسك أحدهما بالمصحف ويقبّله، والآخر يرش المسك في أرجاء المقصورة. يمتلئ المقام، يدعو أحدٌ ممن في المقصورة، يؤمّن الحضور على دعائه، وفي الدعاء يدعو على الرئيس الإخواني لمصر؛ فترتفع الأصوات عالية (آمين) كأننا في جدب وننتظر الغيث .
أتذكر ذلك الشاب الذي التقيته في حضرة الذكر بعد انتهاء مولد سيدي عبد الرحيم القناوي، الذي أخبرني أنه بمجرد أن فكّر حسني مبارك ووزير داخليته أن يُلغي فاعلية الاحتفال بمولد سيدة الحنان السيدة زينب، لم يكمل عامه في السلطة وأخزاه الله! ربّما بعد هذا الدعاء يتحقق لمحمود وغيره سقوط حكم الرئيس الإخواني.
روى محمود خبرًا يقول: إن الرئيس- الذي تسرف جماعته في تشبيه قياداتهم بالأنبياء، فمرة أحدهم يوسف الذي خرج من السجن، وأخرى لقمان الحكيم- طلب من نقابة الأشراف نسبًا يريده في النهاية متصلاً بعمر بن الخطاب، وكما كان عمر فاروقًا وعادلاً كما يُوصف في الأدبيات، يصبح الرئيس الحالي بجرة قلم فاروقًا عادلاً.
محمود وغيره كثيرون، ينتقلون من القاهرة إلى جميع الموالد في مصر، ولديهم خريطة لكل الأماكن، لا يحملون إلاّ أجسادهم في السفر، ويرزقون بنيّاتهم، مخلصون للغاية لما يدينون به. يحكي محمود الخوارق دون أن يشعر بخارق أو معجز؛ فالغيث الذي نزل من السماء يصيب رؤوس العباد، وهو بينهم لا يصيبه، يكون مدد السماء سببًا لجذب محمود، فمنذ سنته التاسعة، وهو صبي يجلس ليخدم عباد الله، يقدّم الطعام والشراب، وفي حديثه إصرار عجيب على أهمية الإطعام والإنفاق، وهو لا يملك إلاّ قلبه.
يسألني أحدهم عن معنى الخدمة وأنا هناك؛ فأخبره أن كلّ شخص يقدّم ما في مستطاعه. أجلس أنا وبسيوني الذي يكبرني قلبًا وكرمًا وإن كان يصغرني ببضعة أعوام في خدمة سيدة عجوز تستند إلى عمود يقابل الباب الرئيس لمقام سيدي عبد الرحيم القناوي، السيدة جالسة وأمامها رجال كثيرون وأحد الرجال سمته بهيٌّا يقول: (كريمة يا ست) قاصدًا السيدة زينب رضي الله عنها وعلى كل محبيها. يجلب لنا طعامًا (عيش وطعمية) آكل كسرة، وأسأله أن يصب لنا الشاي، حتى نمضي إلى حيث قُدّر لنا. هذا اللون من الخدمة على بساطته أجمل من الجلوس في فندق يُمنح سبعاً من النجوم !
في جامع الفناء في مراكش (مدينة الأولياء السبع)، كنت أسير نهارًا بمفردي، وكان الجو في حرارته يشبه جو الأقصر، وإن كان الفناء لا يشبه المعمار العربي بالنسبة لي، كان كل شيء يباع في الفناء، لم أسترح في المكان كما استرحت وأنا جالس في وسط الباعة الجائلين أمام جامع الكُتبية، جلب لي أحدهم الشاي، وأخذنا نحكي أكثر من ساعة، لا تملّ مجلسهم أبدًا. في وسط المكان هناك، يجلس أحدهم مستظلاً بشجرة، يصنع أساور من نحاس ويكتب عليها اسم من يريد شراءها، أحدهم يبيع قبّعات إفرنجية، وأحدهم يطلي بفرشاته نماذج مصغّرة لأثر الكتبية ويبيعها، وأحدهم يرسم لوحات يتكسّب من ورائها. لا زلت أذكر أحد الباعة الذي ناداني؛ حيث كان لديه أعشاب تُباع بالجرام لتقوية الباه و تحقيق مكاسب جنسية هائلة.
حين انتقلنا بعد رحلة كانت كلها عناء ومشقة إلى سيدي أبي الحسن الشاذلي في حُميثرة، كان أمام المسجد بائع طاعن في السن ذو وجه ملائكي وصوتٍ خافت يبيع الأعشاب، منها ما هو لوجع البطن والمعدة، ومنها ما هو لمرضى السكر؛ فسألته متذكّرًا (مراكش): (مفيش حاجه للتقوية والستات)، فأجابني مبتسمًا وأنا أضحك: "المقوّي ربنا ".
كانت زيارة مقام الشاذلي الكبير سريعة ودون إطالة، وقد بدأناها بزيارة السيدة زكية خادمته والمقيمة في جواره. توضأتُ من ماء البئر المجاور للعجوز الباسم، وصليتُ ركعتين خفيفتين، ثم عدنا إلى مركبتنا التي لم يحالفها الحظّ أن تكمل المسيرة دون عتل فقد كدنا أن نُدفن في ليلتنا هذه في الصحراء إلا أن الله تغمدنا برحمته، ونجونا من حادث ربما بعده بُنيت لنا قبة وكتب عليها هنا يرقد (العظماء السبعة)!
* خالد محمد عبده باحث مصري مركز دال للأبحاث و الإنتاج الإعلامي
[1] : راجع صيغة البيعة كاملة هنا: http://www.kasnazan.com/article.php?id=237.