في الفصل الجذري بين الدين والدولة قراءة في كتاب «دين الليبرالية» لسيسل لابورد
فئة : قراءات في كتب
أولا: الإشكالية والمنهج
هل يمكن لدولة ليبرالية أن تقيم دينا معيَّنا بقوانينها ومؤسساتها؟ وهل يمكن لمسؤولي الدولة الالتجاء للعقائد الدينية لتبرير القوانين؟ وهل يمكن عرض الرموز الدينية للأغلبية في المجال العام؟ وهل يمكن أن ينحصر منصبُ كهنة الكنيسة في الذكور فحسب؟ وهل يمكن للمشاريع التجارية الدينية أن تحجب خدماتها عن المواطنين المثليين والمتحولين والمتحيرين جنسيا؟ وهل يجب إعفاء الرافضين لمبدأ الخدمة العسكرية لدوافع أخلاقية (conscientious objectors) من القوانين العامة؟ وهل يجب حماية الأقليات الدينية من التمييز كما هي الحال مع الأقليات العرقية؟
تفصح هذه الأسئلة عن الوعاء الإشكالي الذي راهنت عليه سيسيل لابورد Cécile Laborde، لمناقشة السؤال المؤرق المتصل بالفصل بين الدين والدولة في الأنظمة الليبرالية، في كتابها الأخير الذي وسمته بـ «دين الليبرالية»[1]. وإذا كان هذا العمل في الجوهر تحصيلا لمسار تأملي في هذه الإشكالية باشرته لابورد من موقعها كأستاذة للنظريات السياسية في جامعة لندن، ومديرة مركز الدين والنظرية السياسية في جامعة لوس أنجلوس منذ ما يربو عن عقدين[2]، فإن جدة أطروحة الكتاب تعد حصيلة للمنهج الحجاجي الذي توسلت به للدفاع عن الليبرالية. فقد جعلت لابورد مناقشة الأسئلة المتقدمة مشروطة بالبحث مبدأ في قضية مركزية، تتصل بموقع الدين في النظرية السياسية الليبرالية، ولا سيما أنه لم يُنظّر له بشكل كاف. ومن ثمة كانت الحاجة ملحّة في إمعان النظر قصرا في كيفية ارتباط القوانين والمؤسسات الليبرالية بالمظاهر المتنوعة للحياة الدينية، في أبعادها الرمزية، والاجتماعية، والأخلاقية؛ وذلك وفق تصور يزاوج بين تفسير الدين وتفكيكه، قصد إبراز القيم المتعددة التي تحققها جوانب محددة منه.
ولعل من حسنات هذه المقاربة، ليس فقط إقامة قطيعة مع المناولات السياسية الغربية، التي تمتع فيها الدين ومعتنقوه بنوع من الاستثناء البحثي، ولكنها أسعفت اطراداً في تجاوز النظرة الغربية التي تختزل الدين في المسيحية، وتسقط من اعتبارها نماذج دينية أخرى، من شأنها أن تثبت كونية النظريات المتصلة بالدين والعلمانية.
ويقوم النظر في الإشكاليات المتقدمة من جهة أخرى، على إعادة صياغة للنظرية الليبرالية، وذلك من خلال تسليط الضوء على الأرضية الأعمق والمشتركة بين المدارس الفلسفية المختلفة، على امتداد دين الليبرالية. ويرتبط الأمر تحديدا بإشراك مذهبين فكريين متمايزين؛ وهما مذهب المنظّرين النقديين للعلمانية والدين، من جهة، ومذهب منظري العدالة الليبراليين الذين يتبعون مدرسة المساواتية egalitarianism)).
واقتضت هندسة الكتاب بناء على المتقدم من الاختيارات المنهجية التمييز بين قسمين كبيرين؛ اعتنى الأول بقياس الدين، وذلك من خلال تحليل ردود المساواتية حيال الدين النقدي، وهكذا استوجب الفصل الأول قراءة مشاريع مجموعة منتقاة من المفكرين الذين جعلوا من الليبرالية موضوعا للنقد والمساءلة. في حين اختص الفصل الثاني ببسط مشكلة الإعفاءات، التي تعد من أخطر الأسئلة الليبرالية الحرجة، وانفرد الفصل الثالث أيضا، بمناقشة مشكلة ثانية تتمثل في معضلة حيادية الدولة. وكان من البداهة أن يعكف القسم الثاني من الكتاب، المخصوص بتفكيك الدين، على الدفاع عن الليبرالية، إذ تجشم الفصل الرابع أمر الجواب عن سؤال عدم اعتراف الدولة بالدين الرسمي في علاقته بتفكيك الدين، وناقش الفصل الخامس موضوع سيادة الدولة وحرية تكوين الجمعيات، وجعل الفصل السادس من تفكيك الدين وسؤال الممارسة الحرة موضوعا له. وانفردت خاتمة الكتاب بصياغة تعريف لدين ليبرالية، استوعب حصيلة المطارحات التي احتواها الكتاب[3].
ثانيا: قضايا الكتاب
تتوزع قضايا الكتاب في الإجمال في إشكالات مترابطة، اقتضى المنهج فصلها على النحو الآتي:
1- المساواتية الليبرالية ونقد الدين
تقوم نظرية المساواتية الليبرالية للدين والدولة على مبدإ أساس، يعتبر أن الدين لا يحتاج إلى تخصيص في الدولة الليبرالية، ولا سيما أنها توفّر مجالا من العدالة يمكن لمواطن داخله ممارسة تصور لما يراه حياة خيرة. وتلتزم الدولة بناء على هذه النظرية بأمرين اثنين؛ أولهما احترام الدين وحمايته، وثانيهما عدم التأسيس لأيّ مُعتقد بصفة رسمية؛ بيد أن رجاحة هذا التصور تضمر جوانب مشوشة، تعفي من قبوله في الكلية. وتتصل أساسا بالطابع الفضفاض لمفهوم «الخيرية»، الذي يجعل من العسير مقارنته بالدين في المبدأ. من ثمة رأت لابورد الحاجة ماسة إلى مراجعة المساواتية الليبرالية، وفق تصور أكثر تعقيداً لماهية الدين، يتجاوز التناظر البسيط والمبهم لمفهوم الخير، وفق مقاربة تفكيكية، استلزمت خطوتين مترابطتين:
1-1- تحدي الدين النقدي:
يقصد به محاججة مجموع الانتقادات الموجهة للتفريقات الليبرالية للدين والدولة، والتي سعت إلى إثبات قصور المنظور الليبرالي في جوهره الرامي إلى إقامة حدود مستحيلة بين الدين والدولة. وبينت لابورد أن الدين النقدي ناجم أساسا عن سوء فهم للمذهب الليبرالي، تتضح معالمه من جهة في الخلط بين الأصل والتبرير، ولا سيما أن بعض خصوم هذا المذهب توسلوا بالنقد التاريخي، وجعلوا منه نقدا فلسفيا لليبرالية، بل نجدهم قصروا النظر بالأساس على استعادة التاريخ المشوه لليبرالية، والادعاء أنها مسيحية المنشأ والمنزع[4]. وعوّل نقاد الليبرالية من جهة ثانية على ممارستها، فأمعنوا النظر اختصاصا في واقع الأقليات الدينية في الدول الليبرالية[5]، حيث يبدو جليّا أن خطابات مقولات الحرية والمساواة لا تعدو أن تكون إيديولوجيات مشرعنة للممارسة الاعتباطية للسلطة.
لم يخرج الدين النقدي، وهو يعالج التعامل الليبرالي للدين عن ثلاثة تصورات لافتة؛ أولها دلالي يقول بعدم وجود مرجعية مستقرة صالحة كونيّا لتصنيف الدين، باعتباره مصطلحا عابرا للتاريخ والثقافات. وحتّى تلك التصنيفات التاريخية اتفاقا، هي في الأصل نتاج لنزاعات مسيحية حول الحقيقة، غير مفصولة عن الحروب الدينية، وتشكيل الدولة القومية الحديثة بأوروبا، وعن النزعة الاستعمارية[6]. ويمعن التصور الثاني، وهو ذو مرجعية بروتستانتية، النظر في التعامل القانوني والسياسي مع الدين، ويحاجج في أن القانون الليبرالي منحاز إلى الأديان الفردانية المبنية على الاعتقاد، ولا سيما أن مرجعيته المذكورة أعلتْ من شأن الإيمان على حساب الأعمال. وخلص التصور الثالث الموسوم بـ "الواقعي" إلى أن الدين في المنتهى لن يخرج عن أمرين اثنين؛ إمّا أن يستحيل ممارسة مجرّدة للسلطة التعسفية، أو يعمل على إقامة دين بديل، هو الليبرالية[7].
1-2- الجواب المساواتيّ الليبراليّ:
حرصت سيسيل لابورد قبل استعراض جواب مساواتيّ لليبرالية على صياغة تعريف جديد لهذه النظرية، يعتبرها من جهة مستقلة عن رؤية علمانية شاملة، من حيث إنها لا تقصي المؤمنين من جمهور أنصارها المدافعين عنها، ولا تحمي في الوقت ذاته المعتقدات والممارسات بشكل فريد من التعصب والقمع والتمييز. وردّا على كل أشكال النقد المتقدمة، تذكّر لابورد أن نظرية المساواتية الليبرالية لا تنظر إلى الدين بوصفه مساحة من الاهتمام الخاص بشكل فريد، ولا سيما أن كل المواطنين بموجب تلك النظرية يستحقون احتراما متساويا بوصفهم مواطنين، مهما كان تصورهم المحدد للخير، سواء أكان حياة من التأمل الفكري أم العبادة التقية، أم المتعة الاستهلاكية. ولما كان النقد البروتستانتي يؤاخذ على المساواة الليبرالية إعلاءها من شأن المعتقد، وتمتيعه بكثير من الحرية، مقابل التأطير القسري للممارسات، التي تقع تلقائيا ضمن المصالح المدنية للدولة (حجاب المسلمات مثلا)، فإن لا بورد تحاجج بأن الدين في المبدأ يجب أن يكون مُختارا ليحظى بالاحترام[8].
2- المساواتية الليبرالية ومعضلة الإعفاءات
تستمد هذه الإشكالية راهنيتها من حجم الإعفاءات الممنوحة على أساس ديني في الدول الليبرالية، من قبيل تنظيمات الطعام، وقوانين اللباس، والخدمة العسكرية...وهو ما يحفّز على الاستفهام: كيف نبرر منح إعفاءات خاصة من القوانين العامة مع الحيادية والمساواة؟
تقترح لابورد ثلاث استراتيجيات لتجاوز هذه المشكلة[9].
2-1- إذابة الدين:
تشترط مبدأً توسيع الدين إلى تصنيف شامل يستوعب الأذواق، والالتزامات، والهويات، والاعتقادات، والمنظورات...حيث لا يقاس عليها، بل يذاب فيها. وبناء على الفهم، يشدد رولاند دروكلين على أنه بدل الاشتغال بماهية الدين، يستلزم العناية بعلاقة الحكومة ومواطنيها...والحد من الأسباب التي قد تقدمها الحكومات لأي قيد على حرية المواطن إطلاقا[10].
2-2- دمج الدين في المجال العام:
تقوم هذه الاستراتيجية على قياس الدين على تصنيفات مقارنة تستحق بدورها اهتماما متساويا، وذلك بغية حمايته. ويفترض هذا الأمر تمتيع المتدينين بـ «حرية متساوية وليست خاصة»، بالقدر الذي تعامل فيه الالتزامات الدينية كجزء من طبقة أوسع من الالتزامات والمشاريع التي يهتم بها الناس، سواء أكانت دينية أم لا[11].
2-3- تضييق الدين:
وتتأسّس على الرفض الضمير العلماني للإعفاءات، انطلاقا من فكرة مؤدّاها أننا نملك مصلحة ذات درجة أعلى باتباع إملاءات ضميرنا، ولا سيما أن كثيرا من الأشخاص غير المتدينين يمكن أن يعترفوا بقوة الواجبات الضميرية، في سياق ما يسميه كل من تشارلز تايلور وجوسلين ماكلور «الاعتقادات الأخلاقية المؤسّسة للهوية الأخلاقية»[12].
3- المساواتية الليبرالية ومعضلة حيادية الدولة
تتصل معضلة حيادية الدولة بالفكرة الليبرالية القديمة القائلة بأن عدم اعتراف الدولة بدين رسمي، يجب تعميمها إلى حيادية الدولة تجاه الخير. وتعبّر عن هذه القناعة ثلاثة مبادئ أساس؛ يتمثل أولها في «الاستقلالية الأخلاقية» التي تعتبر الليبرالية شكلا من الحكومة، تتمتع فيه القرارات السياسية باستقلال عن أي مفهوم محدد للحياة الخيرة أو ما يعطي القيمة للحياة؛ غير أن هذه القناعة التي دافع عنها دوركلين[13] ما تلبث أن تبث عدم صلاحيتها. أما التحديات التي تواجه المجتمعات المعاصرة من قبيل زواج المثليين والإجهاض... فيبدو التعارض جليا بين الحيادية الليبرالية والأخلاقيات الشخصية. ويتصل ثاني هذه المبادئ بما يعرف بـ «الانتقاص المدني»، والذي يتمظهر أساسا في بعض الاجراءات الليبرالية في مجال التعليم والقضاء، والتي تجعل بعض المواطنين يشعرون بمواطنة ناقصة لأسباب دينية بحثة. أما ثالث هذه المبادئ، فيتعلّق بـ «الاختلاف الجوهري»، الناجم أساسا عن وصاية الدولة الليبرالية على مجال العدالة[14].
4- تفكيك الدين: في عدم اعتراف الدولة به رسميا
تراهن لابورد على تقديم تفسير بديل للمساواتية، يتجاوز ذلك التفسير التقليدي الذي يحرص على حيادية الدولة حيال الدين أو الخير. وكان من مقتضيات هذه الغاية تفكيك مفهوم الدين، والبحث في أبعاده المرتبطة بفهم الطبيعة العلمانية للدولة، بالقدر الذي يجعل من العلمانية متطلبا معياريا أدنى للشرعية الليبرالية، ولا سيما أنها لا تركز على واجبات واتجاهات المواطنين، بل على مؤسسات الدولة وواجبات مسؤوليها. وتنطلق لابورد من خلاصة قيمة لران هيرشل مضمونها أن غالبية الناس في العالم يعيشون تحت أنظمة ثيوقرا دستورية، حيث يكون الدين منصوصا عليه بشكل رسمي في الدولة[15]، فميزت بناء على ذلك، بين ثلاثة أصناف من الأنظمة السياسية الليبرالية جعلتها نماذج لتفكيك الدين فيما سمته بالعلمانية الدنيا.
4-1- الدولة القابلة للتبرير:
تتصل جذور هذا النموذج بالحروب الدينية بأوروبا الناجمة عن الإصلاح البروتستانتي، حيث ظهرت العلمانية حلّا مناسبا لتأمين الشرعية السياسية في المجتمعات التي قسّمها الصراع الديني، وكانت الليبرالية مؤسسة لشرعية الدولة كما رسمها الفيلسوف الأخلاقي والسياسي جون رولز[16]؛ بيد أن هذا الاختيار يعتبر في الجوهر نوعا من القهر الديني المدعوم من الدولة، التي تعمد إلى تبرير القوانين الموجهة للعقل الجماعي للعوام. وهنا تسقط الدولة العلمانية في أخطاء تمس جوهر المساواة الليبرالية، خاصة حينما تتلبس بسلوك الإكراه الديني.
4-2- الدولة الشاملة:
ينجمُ هذا النموذج عن الخلط السامي بين الدولة والشوفينية الوطنية، وهو بذلك يمسّ جوانب المواطنة المتساوية، من حيث كونه ينطلق مبدأً من اعتبار الدين نوعا من الهوية غير المناسبة نموذجيّا لاعتراف الدولة، ولا سيما في سياقات سياسية، باتت فيها الهويات الثقافية (ومنها الدين)، مسببة للخلاف اجتماعيا، كما هو الحال في الهند أو إسرائيل، أو مصر المعاصرة. لذلك، عندما يتم التفكير في البعد الثقافي والرمزي للعلمانية، فإن القيمة المعيارية المرتبطة، ليست فصل الدين عن الدولة، بل بدلا من ذلك، شمولية كل الهويات.
4-3- الدولة المحدودة:
يستحضر هذا النموذج إشكالا ليبراليا تقليديا، شكل هاجسا أساسا لمفكري هذا المذهب من جون لوك إلى دووركين، ويتمثل في مدى التزام الليبرالية بمثالية الحرية الشخصية. والأهم الاستفهام عن مدى سلطة الدولة وحدّها؟ وتظهر راهنية هذا الإشكال في الطريقة التي تتدخّل بها الدولة في قضايا متصلة بالجنس، والتعليم، وقوانين الطعام، واللباس...وتعيد هذه الوضعيات إلى الواجهة المقولة الضعيفة للخير الليبرالي، التي تتناقض كلية مع حرية الأفراد في تطوير قدراتهم الأخلاقية، بما في ذلك القدرة على تشكيل مفهومهم الخاص للحياة الخيرة وتطويرها وملاحقتها[17].
5-5- سيادية الدولة وحرية تكوين الجمعيات أو حرية التنظيم:
من المحقق أن سيادة الدولة تبقى شرطا مسبقا للتسويات القانونية حول العدالة، بما في ذلك التنظيمات الدينية، ومع ذلك يبقى حد الاختصاص القضائي سؤالا راهنا؛ لأن اختصاص الدولة بالسيادة المذكورة دون غيرها من المؤسسات، لا يعفيها من احترام تكوين الجمعيات، أو حرية التنظيم كقيمة ليبرالية جوهرية. وترفض لابورد انطلاقا من هذه القناعة أية نظرية اختزالية لتكوين الجمعيات، وتحدد بالمقابل مصلحتين أساس ينبغي أن يعتبرهما تكوين الجمعيات في الدول الليبرالية؛ وهما مصلحة التماسك، ومصلحة الأهلية.
تفيد مصالح التماسك إلى قدرة الجمعيات على العيش بموجب مقاييسها ومقاصدها والتزاماتها المعلنة، حيث يشكل الأفراد جمعيات بحثا عن مفاهيم الخير التي يجدونها قيمة. وهكذا تغدو مصالح التماسك معززة للنزاهة، وتختزل في الجوهر المقصد الذي اجتمعوا بشأنه[18]. وجعلت لابورد هذه المصالح مشروطة أساسا بتأسيس الجمعيات على مبدأ التطوع، ووجود اتساق بين المقصد الرئيس للجمعية وأعضائها، بالقدر الذي يخول لها الإفادة من الإعفاءات القانونية. أما مصالح الأهلية، فتفيد قدرة الجمعيات على العيش بموجب التزاماتها، ومقاصدها، ومعاييرها المعلنة[19].
6- تفكيك الدين في حرية الدين: الإعفاءات الفردية والعدالة الليبرالية
تفضي القرادة النقدية للأطروحات الليبرالية المساواتية إلى الوقوف قصور رؤية أصحابها للدين، خاصة وأنهم أسقطوا من الاعتبار جملة من أبعاده المعيارية المختلفة، ومن ثمة ينجلي زيف الاعتراض المساواتي الليبرالي، الذي جاءت به الأطروحات المذكورة، والذي يقول إن حيادية الدولة تمنع أحكام البروز الأخلاقي من جهة، وتفترض أن الإعفاءات الدينية بروز أخلاقي للدين من جهة ثانية، وهو ما دفعهم إلى القول بأن حيادية الدولة تمنع الإعفاءات الدينية.
يفرض استيعاب وتمثل قضية الإعفاءات عدم تفسير الدين كواجب ضميري، بل تمثله شكلا من الالتزام الثقافي الحامي للنزاهة، والمُعطي لمعنًى تمت مقاومته في الغالب الأعم من قبل المنظرين السياسيين. وحجة ذلك أن التزامات الهوية الحامية للنزاهة أقلّ بروزا من التزامات الواجب، ولا سيما أن انتهاك النزاهة الناتج من تقييد على الثقافة أضعف من نظيره الناجم عن إكراه الأفراد على عدم التصرف على فكرتهم عن الواجبات الدينية. ولما كانت عدالة الدولة في التحصيل لا تعني أنها ملزمة بضمان نجاح مشاريع الحياة، فإن وجودها في الواقع مقصور على تقديم إطار عمل عادل يتوافق على خطط الحياة المختلفة والمتضاربة. من هنا، تظهر الحاجة الماسة لإعمال مبدأين لإقرار عدالة الإعفاءات. يتمثل الأول في ما نعتته لابورد بـ «العبء غير المتناسب»، والذي يمنح لكل الأفراد إمكانية الحصول على فرصة عادلة لا تثقل التزاماتهم الحامية للنزاهة بشكل غير متناسب. في حين يستمد المبدأ الثاني المتمثل في «انحياز الأكثرية» أهميته من اعتبار القاعدة السياسية –القانونية تختصّ بتكييفات للأغلبية الدينية المصممة بها. ومن ثمة، فإن كثيرا من الإعفاءات المخصوصة بالأقلية يمكن أن تبرّر تحت مبدأ، إما العبء غير المتناسب أو انحياز الأكثرية أوكليهما[20].
خاتمة:
لعل من حسنات تفكيك الدين الذي باشرته لابورد في القسم الأعظم من هذه الدراسة، هو أنه أسعف بإعادة بناء النظرية الليبرالية، والتخلص من المفاهيم الضبابية المتصلة بحيادية الدولة تجاه الخير، وبدا جليا أن الحيادية المقيدة من مستلزمات الدولة الليبرالية، وهي لا تحتاج إلى الانفصال عن الدين عندما لا يهدد شرعيتها، ولا تحتاج في الوقت ذاته أن تكون لا أدرية حول البروز الأخلاقي والالتزامات الحامية للنزاهة.
[1] لابورد سيسيل، دين الليبرالية، ترجمة عبيدة عامر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، بيروت، 2019
[2] يمكن الحديث اليوم عن مشروعي علمي لهذه الباحثة متصل بهذه الإشكالية من ثمراته نذكر:
- Pluralist Thought and the State in Britain and France, 1900-25, (2000).
- Republicanism and Political Theory (2008) avec Cécile labored comme Editeur scientifique.
- Critical Republicanism (2008).
- Français, encore un effort pour être républicain! (2010).
- Religion, Secularisme, and constitutional demogracy (2016).
- Negotiating religion (2017).
[3] لابورد سيسيل، دين الليبرالية، م.س، ص 7-20
[4] Rawls (John), Politcal Liberalism, New york Clombia University Press, 1996, pp, 148-149
[5] من أمثلة ذلك:
- Mahmood (Saba) and Danchin (Peter), «Immunity or Regulation? Antinomies of Religious Freedom», Saouth Atlantic Quarterly, Vol.113 N°1, winter 2014
[6] Dunn (Richard S), The Age of Religion Wars (1715-1559), new York, 1979
[7] لابورد سيسيل، دين الليبرالية، م.س، ص 36-40
[8] ن.م، ص 47-61
[9] ن، ص63-97
[10] Dworklin (Ronald), Religion without God, H.U.P, 2013, pp, 132-133
[11] Eisgruber (Christopher.L) and Sager (Lawrence.G), Religion freedom and the constitution, H.U.P.2007, pp, 202-203
[12] Maclure (Jocelyn) and Taylor (charles), Secularisme and and Freedom of Conscience , H.U.P.2011, p, 76
[13] Dworklin (Ronald), «Liberalism», in: Ronald Dowrklin, A Matter of principle, H.U.P, 1985, p 191
[14] لابورد سيسيل، دين الليبرالية، م.س، ص 100-149
[15] Hirschl (Ran), Constitutional Theyocracy, H.U.P, 2010
[16] Rawls(John), Political Liberalism, Columbia University press, New York, 1996
[17] لابورد سيسيل، دين الليبرالية، م.س، ص 153-214
[18] Shorten (Andrew), «Are there Rights to Institutional Exemptions?», in Journal of Social Philosophy, Vol. 46, N° 2, 2015, pp, 242-263
[19] لابورد سيسيل، دين الليبرالية، م.س، ص 215-262
[20] لابورد سيسيل، دين الليبرالية، م.س، ص 236-315