في المخاثلة عن وحدة الفكر المتعددة
فئة : مقالات
كل مفهوم بما هو "مفهوم"، وبما هو جدير بتسميته "مفهوما"، هو حدث ليس ناتجا عن تجربة الفكر فقط، بل هو أيضا تعبير عن منظور جديد للعالم؛ أي كونه تصورا للوجود وقد صار "عالما"، إذ إن المفهوم هو قول للوجود ليس من حيث هو وجود "في ذاته"، بل من حيث هو كونه عالما ينكشف للمفهوم، ولذلك لا يقودنا المفهوم نحو الوجود إلا من جهة كونه معطى للفكر؛ أي من حيث كونه حدثا يقوله الفكر في المفهوم، ولذلك لا ينتسب العالم منظورا إليه بالفكر إلى الوجود سوى بتوسط المفهوم؛ أي أن العالم ينتسب للمفهوم، إذ إن العالم هو حدث مفهومي، أو هو المفهوم ذاته منكشفا كعالم، وهو ما يعني أن الوجود بما هو وجود هو الواحد المتحد بذاته، ولكنه متعدد من حيث كونه معطى للفكر؛ أي إنه، من حيث انكشافه في تجربة الفكر، هو عالم متعدد، ولهذا يصح من خلال المفاهيم التي يبدعها الفكر، أن لا نتحدث عن عالم متحد بذاته، بل عن عالم مشترك، كونه متحد بمنظوراتنا للوجود، ولهذا كان العالم بوصفه منظورنا للوجود، متعددا، إن العالم إذن هو إبداع للفكر، وبذلك يتميز العالم عن الوجود، فالوجود من حيث هو وجود علة ذاته. أما العالم، فليس سوى معلول لعلل تأسيسية، هي من تشكل العالم، وتبتكره، وهكذا يكون العالم هو مجال منظورات الذاتيات المشتركة للوجود، وكل منظور للوجود يكون بمثابة تصور له هو ما نسميه العالم، حيث إن العالم تسمية منظورية للوجود، وهذا ما يعني أيضا أن الوجود بسيط، كونه جوهرا، أو ما يتضمن وجوده ماهيته. أما العالم فهو مركب، كون وجوده مرتبط بذوات تؤسسه، وهذه الذوات هي علة هذا العالم، ولذلك يكون عالم كثرة وتعدد، كونه وليد تصورات الذوات المشتركة، ولهذا فالذوات من حيث هي كائنات الوجود هي شرط إمكان العالم، ومعناه أن العالم ينتسب للمفهوم الذي يحمل تصورا عن الوجود، من حيث كونه مجرد ظاهرة تتعين بالمفهوم.
يحيل مفهوم المخاثلة إلى مفهوم الشيء، إلى السؤال الأنطولوجي، ما هو الشيء؟ وبالتالي إلى سؤال الميتافيزيقا الأول: لماذا يوجد ثمة شيء بدلا من لا شيء؟
لقد سعينا من خلال هذا المدخل حول علاقة المفهوم بالعالم، إلى مقاربة مفهوم أساسي لأنطولوجيا الوجود، يشكل في أطروحة "محمد مفتاح" حول "وحدة الفكر المتعددة" منظورا فريدا ونوعيا للعالم، وهذا المفهوم يشكل مدخلا رئيسا لفهم الوجود، من وجهة نظر غائية، ولذلك فأهميته لا تكمن في جديته، من حيث كونه تركيبا جديدا فقط، بل من حيث كونه تصورا متجددا للعالم، أعني مفهوم "المخاثلة" وهو غير مفهوم "المخاتلة" القديم الذي يحيل إلى المخادعة، وذلك لأن مفهوم المخاثلة - بالثاء المعجمة - منحوت من "المخالفة" و"المماثلة" وهو بمثابة أساس الأفعال، والأعمال، والأقوال؛ أما القضية الأساسية في هذا المفهوم كما يصوغها محمد مفتاح، فهي كالتالي:
"ليس هناك شيء متمحض في هذا الوجود؛ وعليه فإن المشابهة، والمخالفة، ليستا إلا في الدرجة"[1].
إذن نحن إزاء مفهوم مركب، وكل المفاهيم كما يزعم دولوز هي مركبة، حيث لا وجود لمفهوم بسيط، ومفهوم المخاثلة مركب ليس لأنه منحوت من مفهومين متباينين، بل لأنه يملك مكونات يكون محددا بها، ولأن القضية التي يطرحها هي تركيبية، إذ هي تتميز عن القضية التحليلية، وذلك لأن القضية التحليلية هي التي يكون فيها المفهوم منطويا على محموله؛ أي على أساس العلاقة بين الموضوع والمحمول، حيث إن المحمول متضمن دائما في الموضوع، وحيث إننا نبقى داخل المفهوم ذاته، شأن القضايا التي نبقى فيها عند حدود المفهوم المعطى لكي نصل إلى أمر ما عنه؛ أي ما يؤكد تطابق المفهوم، كقولنا كل جسم هو ممتد. أما القضية التركيبية، فهي توسعية، ما دامت تقتضي أن نخرج عن المفهوم المعطى لكي ننظر في علاقته بشيء آخر تماما بالنسبة إلى ما فكرناه فيه، حيث لا تكون العلاقة أبدا علاقة هوية ولا علاقة تناقض، ولذلك تكون القضية التركيبية مبنية لا على الطي، بل على الانفتاح، ولهذا فهي امتدادية وتوسعية[2].
يحيلنا مفهوم المخاثلة إلى مفهوم الشيء، إلى السؤال الأنطولوجي، ما هو الشيء؟ وبالتالي إلى سؤال الميتافيزيقا الأول: لماذا يوجد ثمة شيء بدلا من لا شيء؟ وإذن يكون جواب السؤال عمّا هو الشيء، هو التالي: "الشيء هو الحامل القائم أمامنا لخصائص عدة قائمة فيه ومتبدلة"، ويعتبر "هيدغر" أن هذا الجواب هو "طبيعي إلى حد أنه يسيطر أيضا على التفكير العلمي، وليس فقط على التفكير النظري، بل على كل تعامل مع الأشياء وحسابها وتقديرها."[3] ويكشف السؤال عن الشيء، ذلك الترابط بين ماهية الشيء وماهية القضية والحقيقة، وهو ما يعني طرح السؤال على النحو التالي: هل تتعين ماهية القضية والحقيقة على أساس ماهية الشيء، أم تتعين ماهية الشيء على أساس ماهية القضية؟...وهل ماهية الشيء وماهية القضية تعكسان بعضهما فقط لانهما معا تتعينان انطلاقا من الجذر نفسه، لكن من جذر أعمق منهما؟ ولكن ماذا ينبغي أن يكون هذا الأساس المشترك لماهية الشيء والقضية ولأصلهما؟... هل هو اللامشروط؟ هل هو الله باعتبار الشيء مخلوقا، أم هو الأنا بوصف الشيء هو الموضوع قبالة الأنا؟[4] إذ إن قضيته الأساسية تتمحور حول ما يكونه الشيء في الوجود، من حيث ماهيته وكيفيته، ولهذا تتضمن القضية حكما سالبا يطرح عنصر المحض عن كينونة الشيء بما هو شيء، إذ إن الشيء لا يوجد متمحضا، ومعناه أن الشيء المحض هو عدم محض لأنه يفتقر إلى الوجود، وإذا كان الأمر على هذا النحو، فإن الوجود هو كذلك ليس وجودا متمحضا، ومعناه أن الوجود المحض هو ذاته العدم المحض، وكلاهما سيان، ولذلك لا تتعين جهة الوجود في الشيء داخل التمحض، بل في عدمه، أو في نفيه، وهو نفي لا يسلب وجوده، وإنما يؤكد خاصية وجوده على نحو ليس متمحضا؛ أي إنه إثبات لجهة الوجود في الإضافة، إذ إن الشيء ليس ممكنا خالصا، ما دام لا يتعين إلا مركبا؛ أي أن نفي التمحض عن الشيء، هو إثبات له كشيء مشوب أو مزيج أو مشترك لكونه مركبا. والنتيجة هي، أن الشيء ليس هو ما هو (سلب المماثلة عن الشيء)، وهو ليس غير ما هو (سلب المخالفة عن الشيء)، أي ليس لا مماثلا ولا مخالفا، وإنما هو مخاتل، وكل خاصياته تتعين بالليس، لكنه تعيين ليس أحاديا، بل هو تعيين من حيث التضايف، أو التداخل، وما دام أن مفهوم المخاتلة شأنه شأن كل مفهوم، بوصفه مركبا، إذ لا وجود لمفهوم بسيط كما يقول دولوز، فإنه يحتاج إلى مفهومين آخرين يدخلان في تركيبه، وهما الأوساط، والمشوبات. ويعني "محمد مفتاح" بالأوساط افتراض وجود طرفين أقصيين، يحيطان بدرجات سلم واحد، أو بسلمين أو أكثر؛ سواء أكان الوضع أفقيا، أو عموديا، حيث إن الطرفين المتقابلين متنازعان للأوساط التي تتفرع من وسط مشترك، أو مركب: (+-)؛ وبحسب مقتضيات أحوال، فقد تنضم بعض مكونات أحد الأطراف إلى الآخر. ويعني مفهوم المشوبات، التركيب الذي يتحقق بمبدإ العكس، والذي ينتج الشوائب بدرجات مختلفة، والنتيجة هي تأكيد صحة شمولية مفهوم المخاثلة التي تفترض أن كل ما في الكون متفاعل متقابل مشوب؛ وهو بهذا مؤسس على الهويات المتداخلة، لا على التطابقات، أو الاتحادات، أو التماثلات الكلية، ولا على المتباينات المطلقة".[5]
إن النتيجة التي يفصح عنها مبدأ المخاثلة، إنما تعبر عن منظور للعالم، يتلاءم مع كافة المنظورات التي تؤسس لرؤيتها للكون انطلاقا من مبدإ الانسجام، غير أن هذا المنظور بالذات يختلف عن المنظورات الأخرى في الأسس والغايات، وإذا ما تأملنا صيغة الفرضية التي تعبر عن مفهوم المخاثلة، فإننا نجدها تتضمن مفاهيم ليست مترابطة ومكونة فقط لمفهوم المخاثلة بوصفه مفهوما محوريا، بل إنها تشكل مجرى الحدث الذي يقوله مفهوم المخاثلة، وهذا الحدث إنما يحكي سيرة الوجود، من حيث هو كل منسجم، أما المفاهيم التي تشكل مجرى الحدث، بوصفها مكونات لمفهوم المخاثلة، فهي:
-التفاعل والتقابل والمشوب، غير أن كل مفهوم من هذه المفاهيم لا يؤول مفردا، لكون كل منها يحيل إلى ما يجاوره باستمرار، وبذلك يكون المفهوم مجاورا، وسياق المجاورة هو شرط إمكان تفاعل المفاهيم، كما هو شرط إمكان تكاملها، ما دامت مرآة تعكس دينامية الكل، وليس الكل هنا سوى الكون ذاته، يقول محمد مفتاح:
"إذا كانت دينامية الكون واضحة، فإنها تتحقق بدينامية التكامل، والتفاعل، بين النظام واللانظام، والانتظام واللاانتظام، أي بين ثنائية ضرورية للوجود، وبين ما فوقها الذي هو مطلوب للاستكشاف والتوليد والتنظيم والاستغلال...ومعنى هذا أن التقابل طبيعي، وإذا كان الأمر هكذا، فإنه متجذر في الفكر البشري"[6]
إذن ليس التقابل في الاشياء عينها من حيث كونها أشياء للوجود فقط، بل هو في الفكر أيضا ما دام بمثابة عنصر مكون له، ومن ثمة يكون هذا المكون هو شرط إمكان منظورية الفكر، من خلال آلية يستعيد بها الفكر أشياء العالم كما تظهر للفكر، على نحو التقابل، أي على نحو طبيعة الكون التي انكشفت للفكر، بما هو ليس فكرا طبيعيا وحسب، بل هو تفكير أيضا في الطبيعة وحولها، أي بما هو تفكير في ذاته الطبيعية، وفي ذات الطيعة في نفس الآن. وذلك لأن التقابل يرجع للطبيعة مادام طبيعيا، كما يرجع للفكر مادام مكونا متجذرا فيه، وبما أن الفكر مساوق للطبيعة، فهو بحد تكوينه هو المقابل للطبيعة، الماثل أمامها، ولكنه أيضا هو عينها الماثل فيها، ؛ أي إنه في الطبيعة وخارجها، وما دام يمتلك هذه الخاصية، فإنه يكون بطبيعته التقابلية بمثابة منظور تعبر من خلاله الطبيعة عن نفسها، ويعبر من خلاله الفكر عن نظام الطبيعة الذي ينكشف له كظاهرة معطاة في الطبيعة، كما يكشفه في ذات الآن في صيغة مبادئ تنتظم لها الطبيعة، ولذلك كان من طبيعة الفكر أن يصنف الأشياء والكائنات، والكيانات، والأفكار على أساس، ما يسميه المفكر محمد مفتاح بالمنهاجية الثنائية كالذكر والأنثى، والخير والشر، والداخل والخارج، والظاهر والباطن، والفوضى والنظام.[7]
هذا المنظور يكشف عن وحدة الفكر والطبيعة، حيث يكون الفكر محايثا للطبيعة كونه منها، ويكون في ذات الآن متعاليا عليها، كونه تعبيرا عنها، ولكنه ليس متعاليا استطيقيا يفرض مبادئه عليها، فيكون بمثابة مشرع لقوانين هي بمثابة مبادئ قبلية مملاة على الطبيعة، بل هو متعال محايث، حيث يظل منسجما مع مبدإ الحس المشترك من حيث كونه "يتكيف مع الطبيعة الكوانتية للقوانين التي تحكم العالم المادي، على الأقل في الظروف العادية وبالنسبة إلى أجسام عيانية على المقياس البشري، (أو حتى أقل)...والحقيقة أنه لكي نتخيل أن الحس المشترك هو مجرد نتيجة لقوانين الطبيعة، وان هذه القوانين لها بنياتها المنطقية الخاصة، فإن هذا يعتبر انقلابا وانعكاسا كاملين لأنماطنا المعتادة في التفكير"[8].
إن الأمر هنا يتعلق بنوع من التفاعل الذي لا يعني سوى كون الفكر مجرد منظور للطبيعة من حيث هو يعبر عن حياتها، ما دام مجرد نتيجة لقوانين الطبيعة، وهذا هو ما يسميه محمد مفتاح بمفهوم "التطبيع"، لكن ما هي علاقة هذا المفهوم بمفهوم المخاثلة؟ وما الذي يطويه مفهوم التطبيع؟
إن التطبيع ليس مفهوما بسيطا أو محايدا، بل هو يأتي في سياق مفهوم الوحدة بوصفها تنطوي على قوانين ومبادئ تنتظم لها الحياة، ولذلك فإن التطبيع هو تعبير عن علاقة التناسق والانتظام ما بين الطبيعة الطابعة وما بين المطبوعة، إذا صحت استعارتنا لهذا التمييز السبينوزي، فالتطبيع إذن هو مجرى سريان هذه العلاقة، ما بين صفات الجوهر، وما بين أحواله وأنماطه، ولذلك كان مفهوم التطبيع حدثيا، لا يخبر عن وحدة الوجود كوحدة للفكر والامتداد فقط، بل يكون هو حدث هذه الوحدة الأبرز. وما دام الأمر كذلك فهو شرط إمكان "التخاثل" من حيث كون التخاثل نمطا لوجود الشيء، من حيث هو تعبير عن حالته التي لا تكون ممكنة إلا بفعل التطبيع، إذ إن كل شيء ليس وجودا خالصا، أي ليس مطابقا لذاته، ولا هو مخالف، بل هو نمط وجود فحسب، أي هو مخاثل، حيث يكون تعبيرا عن حالة التطبيع التي تسري على الوجود بأسره؛ وإذا كانت المخاثلة تعبيرا عن التطبيع، فإن التطبيع بدوره يعبر عن الوحدة من حيث كونها مبدأ لكل تعدد وانشطار، للكاووس والكسموس، غير أن التطبيع هو حدث الانتظام والاتساق الأبرز للكون في الوحدة، ولذلك "تتضمن الوحدة قوانين كلية، عامة وخاصة، أي شاملة لكل ما في الكون، وعامة تنطبق على أجناسه، وأنواعه، وخاصة بكل ذات ذات".[9]
إذن فهده الوحدة ليست سوى وحدة للطي، فهي تنطوي في ذاتها على قوانين كلية وضرورية، غير أن انطباق هذه القوانين على الأشياء، إنما يثم من خلال التطبيع، ولذلك فالتطبيع هو الحدث الذي يجعل التمفصل ما بين الأجزاء والكل ممكنا واقعا وليس صرفا، ما دام هو مبدأ لسريان قوانين الوحدة على الكل. إن ما يعبر عنه مفهوم التطبيع بالذات بحسب مفتاح هو القاعدة التالية:
"إن كل ما يعزى إلى الطبيعة من قوانين هي ما يسري على الإنسان، ويجري عليه، ويسري على مصطنعاته، ويجري عليها بالضرورة؛ أي أن كل أفعال الإنسان واعماله، محكومة بقوانين تكوينية، والقوانين التكوينية هي تجليات لقوانين الطبيعة".[10]
يتضمن مفهوم التطبيع وفق هذه القاعدة المبادئ التالية:
أ-مبدأ المحايثة من حيث كون الطبيعة مكتفية بذاتها ومنطوية على قوانينها التي ليس لها مصدر براني عن ذاتها؛
ب- مبدأ الكلية والضرورة، إذ إن قوانين الطبيعة كلية تتسم بالشمولية والكونية، وهي لذلك ضرورية من حيث خضوع كل الكائنات لها؛
ج- ويترتب على ذلك سريان قوانين الطبيعة على الإنسان، ومن ثمة فليس الإنسان هو من يملي مبادئه على الطبيعة، وفق مبادئ العقل القبلية، كما هو الشأن في الترنسندنتالية الكانطية، بل الطبيعة هي التي تملي قوانينها على الإنسان، ولذلك ليس لا يشكل الإنسان استثناء بالنسبة إلى تلك القوانين، حتى ولو كان يحمل تصورات قبلية يراها تنطبق على الطبيعة؛
د- حضوع كل الأفعال الإنسانية للقوانين التكوينية بوصفها تجليات لقوانين الطبيعة، ومعنى ذلك أن الطبيعة لا تشرع فقط قوانين تخضع لها أفعال الإنسان المادية فقط، بل تشرع كذلك لأفعاله الأخلاقية، وهو ما يعني أيضا أن كل أفعال الإنسان هي أفعال مشروطة لا تتعالى على الطبيعة، وإنما تكون معبرة عنها؛
بعبارة أخرى، ليس الإنسان وفق هذا التصور سوى منظور للطبيعة، ولعل هذا التصور يقترب من التصورات الكوانتية للطبيعة أكثر من اقترابه من التصورات المثالية، بما في ذلك مثالية كانط النقدية، وذلك بالرغم من نزعة محمد مفتاح اللاتجريبية، وذلك لأن وحدة الفكر المتعددة عند مفتاح لا ترجع إلى مبادئ عليا لكل الأحكام التحليلية أو التأليفية بما هي أحكام قبلية، وإنما ترجع لقوانين تكوينية محايثة للطبيعة ومساوقة لها، ومنفعلة بها، لا شأن لها بسؤال كيف تكون الطبيعة ممكنة؟ بل هي تهتم بسؤال كيف هي الطبيعة من حيث هي طبيعة، أي من حيث كونها أساس كل أساس، ومن حيث كونها الوحدة التي تطوي قوانينها في ذاتها، حيث أن مفاهيمها وقوانينها كما يقول "رولان أومنيس": "مقولبة في صورة رياضية جامدة لا مفر منها كما تعبر عن ذلك ميكانيكا الكوانتم، إذ إن قوانينها كلية كونية، وتحكم عالم الأجسام المألوفة لنا تماما... ونحن الذين نسكن هذا العالم، لا نستطيع أن نجعل رؤيتنا الخاصة تسود فوق تلك القوانين المتغطرسة التي تبدو مفاهيمها كأنها تتدفق من نظام أعلى من ذلك الذي توحي به الأشياء التي نستطيع أن نلمسها أو نراها ونعبر عنها بكلماتنا العادية...لا مناص في أن مثل هذه النظرية سوف تسقط فلسفة الفرضيات التقليدية للمعرفة...لقد تعرفنا أخيرا على النظام الخفي الذي يحكم الأشياء التي نراها ويعطي للغة معناها، إن الطريق التجريبي الذي رفع بيكون لواءه جعلنا ندنو كثيرا من قلب الأشياء وجوهرها. وفوق ذلك نحن لسنا بحاجة إلى كثم أنفاسنا مع كانط في سجن الأفكار الفطرية التي تنشأ بالسليقة، فكل ما نستطيعه هو تقييد الفكر، في حين أن قدوم الصورية من شأنه أن يحث الفكر ويدفعه قدما نحو مستقبل إمكانات غير محدودة...ومن ثم، إذا أردنا أن نفهم فإنه يجب علينا أن نعول على كل ما هو كلي وشمولي ومؤسس على وقائع، بدلا من الاعتماد على ما ثبت أنه بالفعل عرضة للخطأ...فنحن لا نفسر الواقع انطلاقا من تمثلنا الذهني له، مسلمين جدلا بصحته دونما شك؛ بل نريد أن نفسر هذا التمثل، بمعية الحدس والحس المشترك الذين يرافقانه، انطلاقا من معرفتنا بقوانين الكون التي اكتشفها العلم لنا"[11].
يستحضر "محمد مفتاح" في مشروع قراءته الجديدة للأصول هذا المعطى حول وحدة العلم انطلاقا من منظور تركيبي ما بعد حداثي، أي من خلال منهاجية مركبة، بحثا عن كيفية تكون الأنساق المنتظمة ذاتيا، ولذلك يؤكد أن هذه المنهاجية "نسجت من الفيزياء والبيولوجيا والكوسمولوجيا والرياضيات والمنطق والاقتصاد؛ وتحضر هذه العلوم بالمفاهيم الآتية: الزمان، والمكان، والمادة، والملاحظ، والدينامية، والانشطار، والتفاعل، والانتظام، والمتناهي، واللامتناهي، والوحدة، والاختلاف، والفوضى، والنظام، والخطية، والدورية، والانعكاس، والمعلومة، والخطاب، والتواصل، واللعب، واتخاذ القرار، والعمل."[12]
هكذا تصير كل المفاهيم مرتحلة، إذ إنها ليست ممكنة سوى بالترحال، من خلال عمليات الاقتراض والاستعارة، مما يعني أن التقارض عملية ضرورية، وعليه فإن محلل الخطاب يمكن أن ينتقي ما يحل به مشاكل التحليل من أي علم أو فن، وكذلك هو حال رجل السياسة، أو الطب، أو الحرب، أو علم الطبيعة، أو علم الأحياء، ولتأكيد اختياراته الاستراتيجية يكشف محمد مفتاح عن أساس فرضيته المتعلقة بمفهوم التطبيع، ولهذا فهو لا يتردد في القول: "هكذا استنبطنا فرضية قوية هي تطبيع الإنسان، بمعنى أن قوانين الطبيعة تجري على الإنسان كما تجري على غيره"[13] وهو يستند في دفاعه عن فرضيته على العلوم المحضة مثل الفيزياء، وطب الأعصاب، ووظائف الدماغ. كما يبرهن على تماسك فرضيته، بالقانون الذي انتهت اليه الفيزياء، أي قانون التراكب (+_)، وهو التناظر: وجود يستلزم وجودا مقابلا؛ وبخلاصات الطب الذي انتهى إلى كون الدماغ محكوم بمنطق نعم ولا: (+ـ) لا منطق إما وإما: (0.1).[14]
إن النتيجة التي يفصح عنها مبدأ المخاثلة، إنما تعبر عن منظور للعالم، يتلاءم مع كافة المنظورات التي تؤسس لرؤيتها للكون انطلاقا من مبدإ الانسجام
والنتيجة هي أن المنطق الذي يحكم الدهن البشري، ليس منطقا صوريا للذهن، بل هو المنطق الطبيعي، الذي يفرض صوريته على الإنسان، بمعنى أن منطق العقل الصوري ليس هو معيار الحكم على الأشياء، حيث إن هذا المنطق لا يملي إرادته على الطبيعة، بل إن منطق الطبيعة هو الذي يملي إرادته على العقل- الجسد. ولهذه المسألة نتائج متعلقة بالمفهوم الأساس الذي تتمحور حوله مقاربة مفتاح الجديدة، أعني مفهوم المخاثلة، فإذا كانت كل فاعليات الدهن البشري محكومة بهذا المنطق، فإن مستنبطات تفرض نفسها، ومنها التقابل بين البداية والنهاية، وما بينهما أوساط، والأوساط مشوبة، تبعا لخاصية الانعكاس. وهذا إنما يعني في نهاية التحليل، وحدة الفكر بما هي انكشاف لوحدة وجود متناغم منسجم، لا وفق علة كافية كما هو الحال عند ليبنتز، وإنما وفق علة ذاته، ما دام أن المخاثلة هي تعبير عن المحايثة المؤسسة لتناغم الوجود.
[1]- محمد مفتاح، وحدة الفكر المتعددة، قراءة جديدة في الأصول، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط 2016، ص 45
2- للتمييز بين الأحكام التحليلية والأحكام التركيبية، أنظر، نقد العقل المحض لكانط، ترجمة موسى وهبة، مركز الإنماء القومي، بيروت، ط 1 بدون تاريخ، ص 48
[3]- مارتن هيدغر، السؤال عن الشيء، ترجمة اسماعيل المصدق، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2012، ص 69
[4]- المرجع عينه، ص ص 83-84
[5]- المرجع ذاته ص 46
[6]- المرجع ذاته، ص 39
[7]- المرجع ذاته، ص 39
[8]- رولان أومنيس؛ فلسفة الكوانتم، ترجمة أحمد فؤاد باشا، سلسلة عالم المعرفة، ع 350، أبريل 2008، ص 253
[9]- محمد مفتاح؛ وحدة الفكر المتعددة، ص 38
[10]- المرجع السابق، ص 39
[11]- رولان أوميس، فلسفة الكوانتم، ص 219
[12]- محمد مفتاح، المرجع نفسه، ص 52
[13]- المرجع نفسه، ص 87
[14]- المرجع نفسه، ص 87