في تشريح الخطاب الديني: مثالب ومطالب
فئة : مقالات
لم ينشغل الفكر الإسلامي المعاصر بشيء أكثر مما انشغل بقضايا النهضة والتجديد، ذلك أن فترات الانحطاط والتدهور أعقبت مشاهد من التخلف والسُّبات على كافة الصُّعد، بدءا بالشأن الثقافي والعلمي الذي شهد انتكاسة حقيقية بعد سطوة فكر الجمود والتقليد، تحت حجة أنه لا إبداع أكثر مما كان، وأنه لم يترك الأولون للآخرين شيئا لينشئوه، وكان من النتائج الخطيرة والمأساوية عن ذلك توقف حركة الاجتهاد وانسداد أبوابه، وتم التعويل على المدونات الفقهية الموجودة، فأهملت مساحات شاسعة من الإنتاج العلمي الإسلامي.
وأمام هذه الأخطاء التاريخية، اصطدم العقل المسلم بعوائق عدة أكبرها كان على مستوى المنهج، إذ افتقد مرونته وحيويته واندفاعيته بافتقاره لأدوات الاستمرار والتكيف مع الأحداث والوقائع المستجدة، حيث إنه ارتهن لمقولات الأقدمين، واحتمى بها ناسيا أن للزمن حصته من النظر.
والواقع أن سر تعثر هذا العقل منهجيا سببه إهمال البعد المقصدي في النصوص، مقابل إعمال النظرة الحرفية والظاهرية التي لا تستلهم بواطن الأشياء ومراميها الخفية، لكن ضمور المنهج القصدي لم يكن وليد قدر محتوم بقدر ما كان انعكاسا طبيعيا لمسار غير سليم ولاختيار غير موفق في المبتدأ والمنتهى.
وإذا كان الجويني قديما قد تحدث عن احتمال شغور الزمان من سلطة علمية وسياسية، فإنه نبه على أهمية الانطلاق من الدرس المقاصدي في حل معضلات التخلف الاجتماعي التي تصيب كيان الدولة وتعرضه للانهيار، ولا تخفى على باحث قيمة هذا الموقف الذي تنبأ لحوادث سبقته بقرون، والرجل كان على قدر من الذكاء والبصيرة.[1]
فكيف اليوم وقد تلاطمت أمواج العالم في جميع الاتجاهات، وصار سلطان الحكم في الأرض مشروطا بامتلاك زمام المعرفة؟ فكل أسباب التمكين ترتاض بلجامها، ولا يفلح من ابتغى عزة في غيرها، وبها نال العالم الإسلامي حظوته أيام الفتوحات العلمية زمن الترجمة والاجتهاد.
والمسلم ـ في العصر الذي نعيش فيه ـ مدعوٌ وبإلحاح شديد إلى مساءلة الذات من خلال استدعاء الموروث الثقافي إلى الواقع ومواجهة أسئلة الإنسان برؤية حضارية؛ فالحياة تمضي تحت وقع السرعة والتغيير، وتعرف ضروبا شتى من التناقضات والصراعات يحتاج معها الناس إلى حلول ناجعة وفاعلة، تعيد النعم وتبيد النقم بتعبير القدامى.
ولذلك يحتاج الفكر الإسلامي المعاصر إلى وقفة مع النفس أولا، حتى يكون بمقدوره البت في نوازل زمانه ويستعيد عافيته، ولعل من الخطوات المهمة والمستعجلة في هذا الدرب، أن يجدد خطابه على المستويين الداخلي والخارجي، فيحاول المزج بين النص والمصلحة والواقع، ليكون مشدودا بأصالته وبواقعيته؛ فالنص منطلقه والمصلحة غايته والواقع محله، وكل ذلك يصح أن يكون أداة موجهة عند التنظير والتنزيل.
فليس غريبا أن يصبح الخطاب الديني مادة أساسية في صلب الحوارات الثقافية والإعلامية، حتى أفاض الكثير من القيل والقال نقدا ونقضا وتقريضا، ليس في العالم الإسلامي فحسب، بل على المستوى العالمي أيضا، فالأزمة بين فحوى الخطاب الديني والتطلعات التنموية البشرية لم تكن وليدة المرحلة ولا مقصورة على الدين الإسلامي، بل عانت بسببه المسيحية من سلبية رجال الدين في القرون الوسطى، ومن فقدان خطاب القساوسة لمعطيات عمارة الأرض التي هي أمل كل إنسان طموح.
والخلل موجود كذلك في الخطاب الإسلامي قديما وحديثا، مما أسهم في تفاقم أزمة أخرى مضافة إلى جملة العقبات السياسية والاجتماعية التي تواجه دعاة التغيير والإصلاح في المجال الإسلامي، والقصور في الخطاب الديني لا يعني قصورا في الدين عينه؛ فثمة بون شاسع بين الدين كوحي رباني منزل يشكل نظرية متكاملة وخالدة للحياة، وبين التدين وتأويل الدين كتجربة بشرية أفرزت إخفاق المسلمين في ترجمة هذه النظرية إلى واقع حضاري.
وتاريخيا يذكر أن الخطاب الديني قد ترنح أمام تحديات اجتماعية وسياسية كبرى، توالت عليه منذ أواسط الخلافة الراشدة، عندما اختلط الخطاب مع الثقافات الوافدة من الفرس والروم بعد عصر الفتوحات، ودخلت على المجتمع المسلم أنماط حياة وفكر حديثة مغايرة لمعهود العرب زمن الرسالة، ومباينة للحياة العامة في عصر الخلفاء الذين ظهرت في عهدهم تحديات اقتضت منهم مرونة فورية وشجاعة خاصة في التعامل مع النص المحكم.
ومنذئذ، والفجوة بين المدارسة والممارسة في الخطاب الديني تتسع، حتى بلغت أوجها في عصور التقليد والانحطاط، حتى أثمرت أوجاعا عديدة في تفاصيل الحياة المعاصرة، وألقت بظلالها على الإنسان والعمران، فولدت قصورا مستحكما يرجع إلى خلل حاد في المفاهيم والمصطلحات الناشئة، وانضواء الكثير من منابر الخطاب الديني تحت اللواء الرسمي للأنظمة الحاكمة.
ثم إن عوار الخطاب الديني لا ينكشف في مسائل العبادة والشعائر، بل أمام تحديات كبرى كحقوق الأقليات والنساء والديمقراطية والتداول السلمي للسلطة وحماية المال العام، حيث احتاج الأمر إلى خطاب ديني متنور قادر على التعامل الفوري مع مثل هذه المستجدات في هذه المرحلة.
وسيحتفظ الزمن بأسئلة أخرى على قدر من الأهمية تعوزها شجاعة عمر بن الخطاب للبت فيها برأي نافذ وقرار حاسم وعقل وهاج لا يعطل المدارك، وضمنها تبين علاقاتنا ومصالحنا مع الحضارات والأمم الأخرى في وقت يشهد اكتساحا قويا لفتوحات العولمة وتحديات جسام في السياسة والاقتصاد، مما يحتاج معه إلى تقديم خطاب مقبول عالميا ينظم بذكاء حالات الفصل والوصل مع الآخر، ويفتي في التكنولوجيا بلسان المختبر قبل المنبر، ويحدد الصلات الضرورية بين هواجس الطائفية وحوافز العالمية.
فما يحتاجه تجديد الخطاب الديني أكبر من مفردة هنا وشعار هناك؛ فالحاجة ماسة لإجراء تحول جذري في الفهم وآلية العمل، وليس مجرد تقاطع مفاهيمي اصطلاحي مع نداءات عالم الحداثة؛ فلردم الهوة ووصل الصلة بين مسميي الأصالة والمعاصرة لا بد أن يكون الخطاب الديني الجديد مستوعبا للخصوصية الجغرافية والسياسية والثقافية لعالم اليوم، ويكون هذا الخطاب في بنيته وتركيبته العامة وفي مآلاته الغائية متساوقا مع خطاب الألفية التي نشهد تحولاتها الكبرى، في مصاريفه المتعددة مع الذات والمحيط كهوية وانفتاح.
فلا نقدم خطابين متوازيين أحدهما خطاب داخلي يعتمد معيار التقوى وآخر خطاب خارجي يلوذ بمبدإ التقية، بل لا بد أن يكون خطابنا ـ مهما تنوع ـ حاملا للحد الأدنى من المعقولية، حتى يتسنى تلقيه كخطاب حي وليس كحزمة من الشعارات المجردة والمتناقضة، والتي تغذي عوامل ارتباكه التي تزيد في إساءة فهمنا وفي تعويم مرامي الخطاب ما لم تسبب عسرا في الهضم عند المتلقي المستهلك فضلا عن المتلقي الناقد.
فحري به ألا يظهر بوجهين متباينين مع الأنا ومع الآخر ومع الطبيعة في كل تجلياتها، لينعتق من كل سلبيات تتلبس به من مظاهر التدليس والانتهازية والمراوغات التكتيكية، ولا شك أن هذا يستلزم وجود اقتناع راسخ بأهمية الإصلاح واستراتيجية التطور؛ فلا يكون طرح خطاب التجديد رياضة لغوية أو ممارسة نظرية أو لمجرد اضطرار إعلامي لمجاراة الجيران ودفع التهم.
كما يحتاج هذا الخطاب أن يكون قادرا على الوفاء باحتياجاتنا الحضارية، ليدخل الدين في حياتنا كفاعل حضاري وكقيمة مجتمعية غير منحصرة في شكلية الطقس، وهذا يعني إفساح المجال للدين ليكون مكونا أساسا في التنمية البشرية التي نطمح إليها؛ لنسهم في مضمار الرقي بالإنسان، وليس لنرفع الحرج الديني عنا فحسب بأداء التكاليف.
ثم ينضاف إلى ذلك، أن يكون الدين في هذا الخطاب سبيلا إلى فتح جغرافيتنا النفسية قبل الجغرافية على الآخر المخالف، هذه الجغرافيا النفسية التي لا زالت متمترسة خلف أسوار المذهبية والأنا التفاضلية، فيكون الدين بهذا المفهوم فاعلا في التواصل مع العوالم الأخرى وليس دافعا إلى حالات التنافي معها.
وثمة أمر آخر في تهافت الخطاب الديني الجديد وجب التنبيه إليه، وهو فقدان القدرة على تشخيص أمراض وأعطاب الخطاب، ليكون ذلك أدعى إلى توصيف العلاج المناسب، ومن الإجراءات المهمة التي يجب الانطلاق منها لإجراء فحص في الخطاب، فهم مقولة "الإسلام صالح لكل زمان ومكان" على وجهها المقبول، فإذا كانت هذه المقولة توطئة للإلزام باستمرارية التشريع الإسلامي في الزمن الاطرادي، فإنها لا تعني ضغط الأحداث والتطلعات في حقبة من الزمان وبقعة من المكان وإسقاطهما على الحاضر والمستقبل، بإغفال خصائصهما الموضوعية وملابساتهما الشرطية، بغرض إثبات صلاحية الدين في الماضي والعاجل والآجل، ووجب تأويلها لإفادة معنى مرونة الدين في جريانه في مسالك الحياة، في أفق طواعيته للتلاقح مع معطيات الزمان والمكان وتجاوبه لمعانقة مجرياتهما في حدود الموافقة بين النص والمصلحة.
فما لم يستشعر المشتغلون بشؤون النهضة بعمق هذه المشكلة على وجه التحقق، وما لم يحضر هذا الإحساس في مشاريع الإصلاح الديني، فلا يمكن أن يحدث أثر ظاهر بين المقال والمقام، مع العلم أن معظم العاملين في الحقل الإسلامي ينقصهم الوعي الحقيقي بوجود خلل في الخطاب الديني يستدعي استدراك تقويمه، وإن وجد هذا الوعي، فهو محكوم بكوابح التاريخ وشروط النصوص الفقهية المنعكسة في مرآة العقل الاجتهادي.
لكنه يجب الأخذ في الحسبان أن الحديث في مبحث تجديد الخطاب الديني قضية بالغة الخطورة وقول في المقدس؛ فالمسألة في غاية الحساسية وخاصة في السياق الجماهيري التقليدي، وعدم الوعي بأبعادها وحيثياتها من شأنه أن يؤدي إلى نتائج عكسية ليست في صالح القضية؛ فالتجديد غير المدروس بعناية فائقة وعبر مراحل متدرجة، قد يكون مرفوضا جملة وتفصيلا، مما يؤدي إلى مزيد من الالتفاف حول مطالب التغيير والإصلاح.
فتقليب النظر وإجراء خطوات في هذا العمل التجديدي، قد يولد نوعا من الممانعة والصد، مما يفرض على الفاعل الديني والثقافي كل في مجاله بذل أقصى الوسع وتقديم تضحيات في حجم التحديات، فهذا العمل أشبه ما يكون بحرث الرمال وانتظار الأمطار.
ثم إنه لا تكفي أعداد التآليف وحركة النشر وحدها في تعميق النظر في الموضوع، وإن كانت آلية مباشرة في إثارته، بل لابد من إيجاد مؤسسات ميدانية لربط هذه الآمال مع الواقع ونسج الصلات بين الباحثين والنخب والفاعلين الجمعويين وبقية المتدخلين.
[1]- لقد كرس الإمام الجويني كتابه المهم: "غياث الأمم في التياث الظلم" لحل مشكلة انحلال السلطة العلمية والسياسية من خلال مقاربة مقاصدية، وعيا منه بـأهمية الانطلاق من الكليات الأساسية للشريعة عند مزاولة مشاريع الإصلاح والنهضة.