في تمثلات الفضاء الافتراضي
فئة : مقالات
على الرغم من الكتابات الغزيرة، والعديد من الندوات والمؤتمرات المخصّصة للتداول في ماهية وأبعاد وحدود "الفضاء الافتراضي"، فإنّ هذا الأخير لا يزال مادة بحث غير محددة الإطار، ولا مقعدة الخلفية والمرجعية، دع عنك أن تكون مؤسسةً مفاهيمياً (مبنيّة إبستمولوجياً يقول البعض) حتى لا تكون مثار خلاف، أو مكمن مزايدة.
وإذا كانت "الجهة"، التي تحيل عليها المفردة (مفردة الفضاء الافتراضي) في التمثّل العام، هي شبكة الإنترنت، بأجيالها المتعددة، وتفرعاتها المختلفة، فإنّ المسألة ليست كذلك في الأوساط الجامعية، والأكاديمية، أو في أوساط المشتغلين في مجالات علم اجتماع الشبكات، أو جيوستراتيجية الفاعلين السياسيين والعسكريين، حيث يبدو أنّ للمفردة بعداً "عملياتياً" صرفاً.
ولذلك نجد أنّ هؤلاء، غالباً، يربطون مفردة "الفضاء الافتراضي" بعبارات البيئة، أو المجال، أو "ساحة العمليات"، أو ما سواها، في تمثّل سوسيو/ فضائي محدّد المعنى والإطار الناظم.
وإذا كان من الهيّن تحديد ماهية الإنترنت، وترسيم الحدود التقنية التي تؤطر مجاله، فإنّه من المتعذّر، حقاً، تحديد، أو ترسيم حدود المجال الافتراضي، باعتباره "نطاقاً" دامجاً، شاملاً، غير ثابت الملامح. إنّه يعني، فيما يعنيه، ذاك "العالم" الخائلي، غير المادي، المجهول، اللامحدود، الذي تتموّج من بين ظهرانيه كلّ أشكال التعبير، وأنماط التواصل، ومختلف تجليات العمران البشري.
لكنّه يعني، في الآن ذاته، ذاك "الفضاء" الواسع والمنتشر، والذي تتمظهر في صلبه كلّ السلوكيات والتفاعلات، التي لا تستطيع التمظهر دائماً في "الفضاء المادي"، إمّا بسبب المتاريس القانونية المفروضة، وإما بحكم إكراهات الأبعاد الأخلاقية، أو الدينية، أو القيمية، التي تحدّ من تجسّده على أرض الواقع. ومن ثَمَّ، بقدر ما قد يبدو هذا "الفضاء" مجال حرية وديمقراطية وخلاص من ضغوطات "العالم الواقعي"، فإنّه يبدو، أيضاً، "نظاماً" محبكاً لمراقبة الأفراد والجماعات، وتعميم أساليب الرقابة على حلّهم وترحالهم في الزمان وفي المكان.
بيد أنّ هذا التنافر بين التمثّلين لا ينفي أنّ بينهما بعضاً من عناصر الالتقاء والتقارب؛ فهما يحيلان معاً على البنية/ القاعدة، التي تمثّلها شبكة الإنترنت؛ إذ لا "فضاء افتراضياً" دون هذا الرابط المادي الشامل للشبكات فيما بينها، لتفرز، في المحصلة، هذا البنيان العنكبوتي، الذي صمّمت الشبكة على أساسه، أو صِيغت على منواله.
ثم إنّ هذا "الفضاء الافتراضي" يحيل على بعد جغرافيّ ما، سواء اعتبرنا البعد ذاته "بيئة"، أو "مجالاً"، أو معطىً "ترابياً"، أو "عالماً" حتى.
وعلى الرغم من أنّ هذه الإحالة لا تعبّر عن المماهاة التامة والمطلقة بين المستويات أعلاه، فإنّ التمثل الرائج هو القائم على اعتبار أنّ لـ "الفضاء الافتراضي" وحدة مجالية، من الممكن البناء عليها لتحليل الصراعات المتمحورة حول مراقبته، والتحكم فيه، لا بل اتخاذه أداة لارتهان حركة الأفراد والجماعات، وتتبع أثرها في الزمان والمكان.
ولهذا السبب، فإنّ هذا الفضاء لا يخضع لتمثّل واحد وموحد؛ بل لشبكة من التمثّلات المعقّدة، المتداخلة، والمتنافرة، والمستحضرة لأكثر من بعد، لا بل المكرسة لأكثر من تصوّر ورهان. ولهذا السبب، أيضاً، نرى أنّ هذا "الفضاء الافتراضي"، ولاسيما البنية التقنية المؤسسة له (الإنترنت وتفرّعاته)، غالباً ما أفرزت، ولا تزال تفرز، تمثّلات عديدة كبرى، تشكّلت في مجملها حول "جبهتين" على شفا نقيض في تعبيراتها وتمظهراتها:
+ الجبهة الأولى، التي حمل لواءها مهندسو وتقنيو الشبكات، منذ نوربرت فيينير، أواخر أربعينيات القرن الماضي، إلى عهد جويل دو روزناي، ومنظري أطروحة "مجتمع الإعلام والمعرفة"، نهاية القرن الماضي؛ تدفع هذه الجبهة بطرح مفاده أنّ تطوّرات تكنولوجيا الإعلام، والمعلومات، والاتصال، قد أسهمت بقوّة (ولا تزال) في توسيع هامش الحريات، في تعميق مسلسلات الدمقرطة، وفي زيادة منسوب "سعادة" الناس (على الأقل من خلال تسهيل تواصلهم)، وكرّست الرؤية المثالية، التي حملها "الفضاء الافتراضي"، لا سيّما فيما يخصّ مجانية المعلومة، وإمكانيات تقاسمها، وتقويض مبدأ الاحتكار، الذي طال عمليات إنتاجها، وتوزيعها، واستهلاكها لعقود من الزمن خلت.
ولذلك، فإنّ معظم الكتابات (والبرامج السياسية أيضاً) المتبنّية لهذا التمثل، قد دفعت، ولا تزال تدفع، بهذه الرؤية؛ رؤية أنّ تطوّر شبكات الإعلام والاتصال قد فسح في المجال واسعاً (إذا لم يكن قد كرّسه واقعاً) لطموحات اجتماعية، واقتصادية، وثقافية، وسياسية، غير مسبوقة في تاريخ التقنيات، وفي عمليات تملّك المجتمعات للتقنيات ذاتها على مستوى النفاذ، كما على مستوى الاستخدام سواء بسواء.
بمعنى - يقول أصحاب هذه الرؤية - أنّ تحوّلات العلاقة بين المكان والزمان المترتّبة على شبكات الإعلام، والمعلومات، والاتصال، إنّما تبشر بآمال ديمقراطية متعدّدة، سواء فيما يتعلّق بالنفاذ إلى المعرفة والثقافة، أم فيما يخصّ عمليات إعداد التراب الجغرافي، أو فيما له علاقة بمساهمة المواطنين في إدارة الحياة العامة، وتدبير مكامن الشأن العام.
+ الجبهة الثانية، وتعبّر عن رؤية تشاؤميّة صرفة لهذا "العالم الافتراضي" المتقدّم المدّ، والمتسارع الوتيرة؛ إذ على النقيض من الرؤية المتفائلة السابقة، يعبّر الدافعون بهذا الطرح عن الخشية من أنْ تتجاوز شبكة الإنترنت (والشبكات الرقمية بوجه عام) المعايير المجتمعاتية الثابتة، وتدفع بجهة تفجير الأنساق الاجتماعية، التي رَضِيَ بها الأفراد، وارتضوها، كثابت متوافق بشأنه في الزمن كما في المكان.
إنّهم يؤكّدون أنّ الإنترنت، بعيداً عن أن يكون أداة مساواة، فإنّه قد يسهم في تعميق الانشطارات الاجتماعية القائمة، وتقوية هيمنة النخب على مستجدّاته، ناهيك عن كونه قد يفرز "فجوات رقمية" على المستوى الجغرافي والاقتصادي... وفيما بين الأجيال أيضاً. ولذلك، فهم يتحفّظون منه إلى درجة التحرّز؛ بل يحذّرون من الخضوع له، والانصهار في منظومته، على حد قول مانويل كاسطيلس، كونه سيفاً ضارباً لا يستطيع الإفلات من عقاله، إلا مَن تتوافر لدية القابلية لدرء شرّه، والقدرة على التحكّم في مداخله، وفي مخارجه.
نحن، إذاً، هنا، إزاء تمثّلين "للفضاء الافتراضي" كانا قائمين وملازمين لتطوّر وتموّج الشبكات الرقمية، لكنّهما ازدادا قوّةً وعمقاً، عندما باتت الشبكات إيّاها (والإنترنت تحديداً) عصبَ الاقتصاديّات الوطنيّة، وقلب منظومة الاتصال والتواصل، وتنقّل المعطيات والمعلومات على نطاق كونيّ واسع؛ بل رهاناً متزايداً في العلاقات بين الدول. ولعلّ تزايد المطالبات بضرورة استنبات حكامة جديدة، شفّافة وعادلة، إنّما يعبّر، بجلاء، عن تعمّق الهوّة بين التمثّلين، إلى درجة باتت تهدّد معه مستقبل ووحدانية هذه الشبكات ذاتها.
ومعنى هذا أنّ حكامة هذه الشبكات باتت المستوى الذي يعبّر عن التمثلين معاً: تمثّل أن يبقى الفضاء، الذي تشكّله هذه الشبكات، حراً، ومفتوحاً، وموزعاً، ولا مركزياً، كما تدفع، بذلك، الولايات المتّحدة الأمريكية، مهد الإنترنت، والمتحكّم في مفاصله تقنيات، وبينات تحتية، وخدمات، وبرمجيات؛ وتمثّل (تدفع به الصين وروسيا، وإلى حدّ ما الاتحاد الأوروبي) لا تحفُّظَ لديه كبيراً لأن تكون الشبكة ذاتها حرّة ومفتوحة وغير ممركزة، لكن شريطة ألا تبقى الولايات المتحدة هي المتحكّم فيها، المالك لخباياها؛ بل أن تحول "الصلاحية" ذاتها إلى منظّمة عالمية (الأمم المتحدة في المدى المنظور) تديرها وفق أسس متوافق عليها، أو متفق بشأنها.
ويبدو من قراءة سريعة لحيثيات الرؤيتين أنّ "فضاء افتراضياً" حراً ومفتوحاً قد مثّل نقطة القوّة في الاستراتيجية الأمريكية، ليس في وجه الصين وروسيا وبعض دول الاتحاد الأوروبي (والعالم الثالث أيضاً) فحسب؛ بل، أيضاً، من زاوية تصميم الاستراتيجية ذاتها للحفاظ على موقعها كفاعل مهيمن في حكامة الفضاء إيّاه، ورسم توجّهاته الكبرى.
وعلى الرغم من أنّ التسريبات "الخطيرة"، التي ثوى خلفها إدوارد سنودن، منذ صيف العام 2013م، قد أضعفت تمثّل الولايات المتحدة في الإبقاء على الحكامة القائمة (أعني المتحكّم فيها من لدنها)، إلا أنّ ذلك لم يبلغ مستوى يكون من شأنه تقويض المنظومة "التبريرية"، التي لا تزال الولايات المتّحدة متشدّدةً في الدفع بها في وجه الأصدقاء كما في وجه الغرماء على حدّ سواء.
إنّ "انتصار" التمثّل الحرّ والمفتوح لحكامة الإنترنت (والشبكات الرقمية في وجه عام) لم يفرز "مجالاً" مستقلاً، قائم الذات، قياساً إلى المجال الواقعي الملموس؛ بل أفرز تمثلاً آخر مفاده أنّه قد بات من شأن هذا "الفضاء الجديد" أن يقوّض الحدود التي طالما ميّزت "الفضاء الواقعي" المرتكز على الجغرافيا، والمؤسسات والتشريعات الوضعية. إنّه فضاء خارج الفضاء المادي المعروف، الذي كان ينتظم في أطرِ حدود الدولة الوطنية ذات الأبعاد الجغرافية، والاقتصادية، والسياسية، والثقافية الثابتة، والمعترف بها.
ثمّ إنّ "انتصار" التمثل ذاته إنّما هو، في الآن ذاته، من انتصار نموذج في حرية الفكر والتعبير لا يكتفي بمناهضة تدخل الدولة في هذا الجانب فحسب؛ بل يذهب إلى حدّ ادعاء أنّ هذا "الفضاء" لا يتماهى مع القوانين السائدة، بقدر ما يتطلّع إلى فعل مستقل، قائم الذات، منفصل الهوية، خارج منظومة القوانين إيّاها في الشكل كما في المضمون.
بيد أنّ هذا التمثّل سرعان ما بدأ يطاله التراجع على محكّ المخاطر، التي قد يجرّها بعد "الاستقلالية" هذا "للعالم الافتراضي"، لا سيّما على ضوء تزايد مدّ "الجريمة الافتراضية"، وتقدّم أشكال "اختراق الشبكات بغاية التجسس"، أو التعرض بالتدمير للمرافق القومية الحساسة، ويدفع بالدول والحكومات، من ثَمَّ، إلى أن تدفع بتمثّلها الخاص في حماية الأمن القومي، أو التصدّي للهجمات "السايبيرية"، أو مواجهة الاختراقات، أو ما سوى ذلك.
وعلى هذا الأساس، فإنّ كلّ الحريات، التي وعد، أو يَعِدَ بها، روّاد "الفضاء الافتراضي" (فاعلين ومنظرين)، إنّما يتقوّض مفعولها ومداها أمام الشعور بما يمكن أن نسميه ظاهرة "اللاأمن المعمّم"، أو "الحرب الافتراضية الشاملة". وهو ما يستوجب الرقابة والمراقبة لحلّ الأفراد، والجماعات، وترحالهم، سواء طالتهم الشكوك أم كانوا مجرّد مكمن واهٍ للشبهات.
ما يزيد من هذا التوجّه، لجهة "التضييق" على حريات "الفضاء الافتراضي"، وتطلعه إلى الاستقلالية عن الفضاء الواقعي، "النفخُ" في المخاطر السايبيرية، وإبرازها بمظهر المخاطر الكبرى؛ أي الحاسمة، في حالٍ كما في مآلِ العمران البشري بنيةً وتجليات.
ولهذا السبب، فإنّه لو تمّ استبيان خيارات الناس مثلاً، بين التمثّلين المقدّمين أعلاه، فإنّهم سيذهبون - لا محالة - مذهب الباحث عن الأمن والأمان، حتى وإن كان المقابل في ذلك التضييق على حرياتهم إلى درجة اللجم... بما معناه أنّ التمثّل، غالباً، يكون أقوى بكثير من الواقع الذي يعبّر عنه، أو يفرزه.