في جدل العقل والدين في الفضاء العام
فئة : مقالات
حاز مفهوم الفضاء العام اهتماماً بالغاً في الفكر الفلسفي منذ أن أنجز الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس رائعته المعنونة بـ"نظرية الفعل التواصلي". يذهب في هذا الكتاب إلى أنّ الفضاء العام، ينبني على مركزية الفعل التواصلي المؤسَس على العقل العملي العام بين الفاعلين من المستوى الأصغر للحياة الاجتماعية إلى المجالات الجمعية الأكثر تنظيماً، والتي يتمّ فيها التباحث والنقاش من أجل المصلحة المشتركة، وهو الفضاء الذي يشهد تشكل القيم المدنية الكبرى، مثل الالتزام والتسامح والتماسك الاجتماعي والصالح العام، إلى غير ذلك من المفاهيم التي تنتظم كلها في سبيل استخدام العقل بشكل منفتح على التنوع والاختلاف والحوار والنقد.
بهذا المعنى، يقابل العقل العملي العام الاستخدام المنغلق والوسائلي الذي ينبني على منظومة من القواعد المنطقية الصارمة والشروط التجريبية الدقيقة التي تنتهي في النهاية إلى سيطرة نموذج نسقي شمولي واستبدادي ترتب عليه نتائج عملية خطيرة، وهذا الأمر كما ينطبق على الحضارة الغربية ينطبق على الحضارة الإسلامية، من هنا يصبح تفعيل دور العلوم العقلية والاجتماعية من خلال إنتاج معقولية نقدية تحررية تقوم على إعادة صياغة تصور للعقل وفق مقتضى الانفتاح والتواصل و"إيتيقا النقاش"، حيث "تهيمن قوة الحجة الأفضل والخطاب غير الإكراهي" بتعبير هابرماس، وهي إيتيقا تقوم على عقل تواصلي يعتمد النقد والحجاج للتوصل إلى وفاق تكون له صلاحية كليّة تضع حداً للخلافات والعنف.
ينبني الفضاء العام على مركزية الفعل التواصلي المؤسَس على العقل العملي العام بين الفاعلين من المستوى الأصغر للحياة الاجتماعية إلى المجالات الجمعية الأكثر تنظيماً
ودون أن نستغرق في تجريد مفاهيمي مدرسي حول تعريف وأهمية مفهوم الفضاء العام عند هابرماس، نركز في هذا المقال على علاقة الدين بالفضاء العام تحديداً في التجربة الإسلامية الوسيطة، لكن لن نقف عنده فقط بل غايتنا استثمار هذا النحو من التفكير في الاتجاه الآخر، التفاتاً إلى إمكانيات تأثير الفضاء العام في الدين الاجتماعي الإسلامي المعاصر.
من المعروف أنّ هابرماس، لم يهتم بدور الدين في تشكيل الفضاء العام منذ البداية، ونسي أنّ تراجع الدين في مقابل زحف الحداثة لم يكن إلا فرضية تحتاج إلى اختبار مستمر إثر التحولات المتلاحقة التي تعيشها المجتمعات المعاصرة. وانتظر إلى حدود سنة 2001 ليعيد الاعتبار إليه في محاضرته الشهيرة "ما بعد العلمانية" أثناء تسلّمه جائزة السلام من قبل بائعي الكتب الألمان. هذا لا يعني أنّ كثيراً من الباحثين سلّموا بذلك، بل قام عدد منهم بالاستدراك على مفهوم هابرماس للفضاء العام ودور الدين فيه. برهن الباحث الإيطالي أرماندو سالفادوري على التأثير البالغ للدين في تكوين الفضاء العام في السياقين الغربي والإسلامي.
لم يهتم هابرماس بدور الدين في تشكيل الفضاء العام منذ البداية، ونسي أنّ تراجع الدين في مقابل زحف الحداثة لم يكن إلا فرضية تحتاج إلى اختبار مستمر إثر التحولات المتلاحقة التي تعيشها المجتمعات المعاصرة
وبصرف النظر عن السياق الغربي، يرى سالفادوري أنّ التجربة الإسلامية اجترحت تاريخياً سبيلاً، مبتكرة في الجمع بين الدين والعقل في الفضاء العام، يشرح ذلك أرماندو سالفاتوري في رحلة شيقة للبحث في جينيالوجيا الفضاء العام، حيث ذهب إلى أنّ التراث الإسلامي يتميز بشبكة علاقات بين التفكير العملي والتفكير العام في بناء الرابطة الاجتماعية والمحافظة عليها.
و لذلك، فإنه ليس من المستغرب أن يركز عدد كبير من الكُتّاب، منذ القرن الحادي عشر وما يليه، جلّ اهتمامهم على فكرة المصلحة على أنها المبدأ الكلي العام الذي يضفي على كلّ الأوامر قيمة قانونية، إنّ مفهوم المصلحة يقدّم البرهان التصوري لتحديد وجهات النظر ذات الطابع النظري الموجهة نحو الممارسة الواقعية، والتي تدور حول الصالح العام الذي يصلح أن يكون أساساً لتجسيده في الواقع.
يلاحظ سالفادوري أنّ كلمة المصلحة من الجذر "صلح"؛ أي أن يكون الإنسان صالحاً، بمعنى أن يلتزم بكل القيم الإيجابية، بدءاً من الانصياع إلى الحق والأمانة والفضيلة وحتى العدل والاستقامة، إنّ المصلحة وما يرتبط بها من فكرة الاستصلاح- التي تدل على طريقة التفكير لتحقيق المصلحة- (...) منهج متكامل لتحديد الصالح العام وتنميته، عبر التوصّل إلى معيار فكري عملي يمكن من خلاله تحقيق المصلحة التي تبنى عليها الأوامر الإلهية. كما أنها تختلف عن فكرة المنفعة في القانون اليوناني، من حيث إنها لا ترتبط بهذا العالَم، ولكنها تربط بما هو صالح أو خير في هذا العالم وبما هو صالح أو خير فيما بعده، ولا بما هو صالح في الجوانب المادية، بل في الجوانب الروحية أيضاً، ويرتبط كذلك بفكرة المحبة التي تؤديها الوظائف الخدمية في مؤسسات الوقف بصفتها مؤسسة حيوية لتحقيق المصلحة وتطبيقها.
ليس من المستغرب أن يركز عدد كبير من الكُتّاب، منذ القرن الحادي عشر وما يليه، جلّ اهتمامهم على فكرة المصلحة على أنها المبدأ الكلي العام الذي يضفي على كلّ الأوامر قيمة قانونية
إنّ التفكير بمنطق المصلحة، يعكس التوتر المستمر بين تعقد العالم الاجتماعي، حيث لا تتحدد المصالح والأدوار بطريقة خالصة ويستطيع الفاعلون تعريفها بدقة من ناحية، وبين الأمر الأخلاقي في الشريعة بأن نفعل الخير ونبتعد عن الشر من ناحية أخرى. إنّ هذا التوتر بين المستويين هو الذي يجعل التفكير العملي المرتبط بالفعل يتطور وينمو، إنه يأخذ شكل إرساء حجر الأساس لصياغة قوانين حول الإنسان على أنه فاعل حر مختار مسؤول عن أفعاله.
ثم يخلص سالفاتوري إلى أنّ المصلحة- وفق نظرية الشاطبي - أعادت بناء الصياغات المحورية بطريقة سوسيولوجية تركز على القدرات التفاعلية للإنسان البسيط الذي يسعى دائماً نحو تحقيق المصلحة، وبالتالي فهو تفكير عملي تأويلي مرتبط بالحس العام.
بكل تأكيد، إنّ الدين في الفضاء الإسلامي لم ينفصل عن العقل واستعماله العمومي كما بيّن سالفاتوري ببراعة، لكن بقي استعمالاً محدوداً بالأطر الفقهية المكبلة، مشدوداً إلى النص وحده بجهاز تشريعي محدود. ولا يمكن التردد في الادعاء أنّ معضلة التاريخ الإسلامي مع الإسلامتكمن أساساً في تكبيل وتعطيل فاعلية العقل في التدخل في الدين، وإثقاله بشروط عصيّة تنتهي في الأخير إلى "تعارض العقل والنقل" بالتعبير التيمي. إن الفضاء العام شرط تاريخي جديد لفتح مسارات وإمكانات الفهم و الممارسة في الدين.
أصل هنا إلى الغاية من هذا المقال، فالمطلوب اليوم الغوص البحثي في تأثير الفضاء العام على إعادة تشكيل العقل الديني.
المصلحة وما يرتبط بها من فكرة الاستصلاح ...منهج متكامل لتحديد الصالح العام وتنميته، عبر التوصّل إلى معيار فكري عملي يمكن من خلاله تحقيق المصلحة التي تبنى عليها الأوامر الإلهية
قد يكون من عناية التاريخ في الوقت الراهن وجود فضاء عام يزامن تبلور أحدث استخدامات العقل الإنساني، وهي فرصة تاريخية لا يجدر تجاهلها، تحصّن العقل بفضل الاستعمال العمومي الشفاف، وتقيه كل انحراف خارج قيم الحق والخير والجمال. ويمتد هذا التأثير في الدين على الأقل في مستويين لا نميز بينهما إلا إجرائياً:
أولاً: ترشيد الفهم الديني على المستوى النظري عبر مرتكز رئيس يعتمد مبدأ "تنسيب" الحقيقة الدينية؛ فالدين يستعصي عن الولوج إلى الفضاء العام كلما آمن بواحدية الحقيقة واحتكرها في صيغة واحدة وزمن واحد، و يَسْلُس وُلوجُه بقدر ما ينسّب الحقيقة وماهيتها ومصادرها وتجلياتها، ولا معنى للفضاء العام بدون مبدإ التعدد والحرية. لا يمكن للدين إلا أن يزداد انفتاحاً في الفضاء العام عكس الادعاءات التخويفية بأن وسائط الإعلام، كإحدى دعائم الفضاء العام، تكرّس الرؤية المنغلقة. الدين يتجه انفتاحاً كلما اتسع انتشاره واحتك بتضاريس وثقافات أخرى، تتمطط قيمه وتتسع لتشمل كليات المجتمع ومعاييره. تتسع الجغرافيا وتتقلص المسافات ومعها تنكشف مساحات متجددة في الدين، بقدر تجدد ممارسات الإنسان في الواقع الجديد المختلف. إنّ قيمتي الكاشفية والمكشوفية تكسر تلقائياً كلّ المعابر والجدران العازلة بين الدين والعقل، كأنهما غازٍ ومغزُو؛ إنهما ساحات وممرات، تحتمل الذهاب أو الإياب، الانعطاف أو الوقوف، الإسراع أو الرجوع، سرعات دنيا أو قصوى، بعدد العقول والتطلعات.
ثانياً: تلافي الاستغلال السلوكي على المستوى التطبيقي عبر مبدإ "أخلاقية" الممارسة الدينية. في هذا الإطار يصعب استدراج الدين إلى معترك السياسة دون حسيب أو رقيب.
إنّ الدين في الفضاء الإسلامي لم ينفصل عن العقل واستعماله العمومي كما بيّن سالفاتوري ببراعة، لكن بقي استعمالاً محدوداً بالأطر الفقهية المكبلة، مشدوداً إلى النص وحده بجهاز تشريعي محدود
أكد الربيع العربي هذا المنحى وشهدنا في أكثر من قطر عربي تصدي التيارات المدنية للحركات الدينية التي تستبد بفهم أحادي للدين. أصبح الفضاء العام ساحة مكشوفة لتداول الأفكار والمشاريع، ورأينا تراجعاً عن كثير من التأويلات الضيقة للنصوص الدينية، واللجوء إلى نصوص كلية أكثر انفتاحاً. يتضمن هذا الرهان في نهاياته المعرفية معركة حاسمة تسترجع الدين من الترحيل "الأخروي" الذي يختزل الدين في أهداف أخروية تحنيطية لا غير، تضعه خارج التاريخ، فتصبح لدينا ظاهرة "المجتمعات القيومية" على حد تعبير اليامين بن تومي التي تحدد رسالة الإنسان في العبور نحو دار البقاء بأقل الخسائر، والعمل من أجل الظفر بمقعد مريح في الجنة بدل بذل الجهد في ضمان مقعد مريح للدين في العقل العام.
إنّ الفضاء العام يعني أننا نعيش حالة تاريخية يمكنها أن تؤدي وظيفة تجسير العلاقة بين كاشفية العقل ومكشوفية الدين في المجال الإسلامي بشرط تجديد النظر في مفهوم المصلحة/الصالح العام كأداة وموضوع يمثل قلب الفضاء العام.