في خذلان الأنوار للأنوار: فيبر وخيبات العقل
فئة : مقالات
في خذلان الأنوار للأنوار: فيبر وخيبات العقل
استلهم فيبر روح عصره، في صياغة فلسفة يمكن عدها التجريب الأمثل لأمجاد الحرية والأنوار، في الدولة والإنتاج والاقتصاد والأخلاق والقانون والسياسية، وَلَمَّ هذه التوليفة ضمن رهان «العقلنة»، لدرجة يمكن عده من الأسماء التي أكدت جدوى الأطروحات القائلة بخيرات العلم المُعَمَّم في التجربة الغربية، حيث يجري تنظيم كل المقولات والمطالب والتخصصات والمجالات ضمن رؤى علمية ممنهجة، بل لعله كان من السباقين لفكرة تجاوز «قصص الحذف» حين جمع الفلسفة بالاقتصاد وعلم الاجتماع والسياسة والأخلاق والقانون والعلم والتاريخ، وافترض أن هناك خيطا ناظما يلمها، حد أن ربط «البروتستانتية» بروح «الرأسمالية»، فصنع بحق فلسفة يمكن عدها بالنظرة الأولى على الأقل «تمجيدية» في رؤيتها للعلم والحداثة والتنظيم الإداري، ولكل أشكال العقلنة، وصفا وفهما للحالة الإنسانية كما هي.
لكن خلف هذا المشهد التمهيدي العام والمختصر، الذي يضع فيبر في قلب العلم والعقلنة والحداثة، هناك فهم آخر يحتاج إلى كشفه والتعريف به، وهو الذي يضع فيبر أيضًا ضمن خانة الأوائل الذين افتتحوا جروح الزمن المعاصر؛ ذلك أن عقلانية فيبر كانت أيضا درساً في ضبط معالم الحرب والصراع وشروط العبودية وصرامة العالم الخالي من سحره ومعانيه، فكان بحق رمزًا من رموز الفصل الذي حصل بين الحركة التنويرية للقرن الثامن عشر، بكل وعوده الأخلاقية والسياسية المُنْتَشِيَة بمشروع السلام الدائم، وأصوات التسامح والحرية، ومطلب تعميم خيرات العلم والمعرفة، وفض أغلال التراتبيات التقليدية، وبين القرن العشرين بكل صور الوحشية والاستعمار والحرب والعنف والشناعات، التي جرت على مسرح هذا الزمن وعاينها الجميع بوضوح شديد، تدليلا على أنه ممن عايشوا بحق فكرة «مفارقات الحداثة» بكل تفصيلاتها، فكان جزءًا من أفكار الحرب، رغم كونه سليل تجربة الدعوة للسلام، وصاغ مشروعا في صرامة العلم والمعرفة واستعبادهما وانضباطهما، وهو الذي ورث من عند الموسوعيين فرحة تعميم الخبر السعيد، بجعل المعارف متاحة للجميع، وكان صاحب نظرية احتكار العنف من قبل الدولة وتزكية «الكاريزما» التي منحت المشروعية للأنظمة الشمولية، وهو سليل الواجب الألماني في أخلاق كانط وكونية مشروع السلام، وكان القائل بصيرورة التعقل والتقدم، وتلميذ نيتشه الذي يراها صنما وجب كسره وتدميره.
وبين فرحة الأنوار وشؤم ما بعدها، يقع القرن التاسع عشر، أو بالأحرى قرن ماكس فيبر ومن معه، بوصفه «زمن المفارقات» و«عصر التقابلات»، فهو على غرار القراءات السطحية لم يكن مجرد داعم لعقلانية الغرب ومقولات الحداثة وسلطة العلم، بل كان أيضا من أوائل المنبهين من جُبة العقلنة، حين أعلن أن مسار الحداثة يقف بين مفترق طرق، فهو بفعل رغبة الانضباط والصرامة، صار مشروعا ينحو تدريجيا إلى «الانغلاق» وهيمنة «الأقفاص الحديدية»، وهو في بحثه العميق عن «تحرير الإنسان» وجعله مالكا للحقيقة من خلال «تفكيك سحر العالم»، بنى صرح عالم «خالٍ من المشاعر» و«فاقد للمعنى». وهذا بالذات ما جعل فيبر هو صاحب الصيحة الأولى التي تقول إن قيم الأنوار صارت تصطدم لأول مرة بذاتها، وأنه وباسم تعميم الخبر السعيد بسلك طريق تعميم المعرفة، صار العالم أكثر قربا من سجونه المعاصرة وأقفاصه الحديدية التي تضع الأغلال على الحرية والعدالة والمعنى.
أولا: في مديح الحداثة وروح الأنوار
على الرغم من كل هذه المفارقات والمشكلات، وتخبط فيبر في قراءته للأنوار والحداثة والعقلانية، إلا أن روح مشروعه انطلقت من فكرة «مديح البيروقراطية»، بوصفه مديحا للتنظيم والعقلنة؛ إذ هي بالنسبة إليه تلتزم بالمعايير التي يجدها الإنسان الحديث مقبولة، فإنها تصير بمقتضى هذا الاعتبار تعبيرا عن روح الحداثة، ورمزا من رموزها المركزية؛ لأنها رسخت مبادئ هذا الأفق الحداثي: العقلانية، الذاتية، الاستقلالية، الحرية، الفردانية. ووفقا لهذا المنظور، يمكن عد فيبر المنظر المركزي لمقولة البيروقراطية؛ إذ سعى جاهدا إلى إبراز التفوق الغربي من خلال إبراز تفوقها، وجعل الذات الحديثة منتصرة عما سواها بفضل علمية التنظيم الذي أقامته هذه المقولة، المحملة بمسار تطور الوعي الغربي.
يقود هذا الانتصار إلى إبراز التتويجات التي ترسخت بفضل هذه العقلانية الغربية، التي وضعت أرجلها على الأرض الصلبة التي وفرتها العقلانية الإدارية والتنظيمية؛ بما في ذلك الرأسمالية ذاتها، التي توجت نموذجيتها بالنسبة إلى فيبر حينما أقرت تصوراتها على عقلانية حديثة[1]، قائمة في صميمها على "تقدير العوامل التقنية الأكثر أهمية، والمرتبطة بالسمات الخاصة بالعلم الحديث، لا سيما بعلوم الطبيعة القائمة على أساس الرياضيات والتجريب العقلاني"[2]، ومنتهى هذا التعقل كان في التشكل الإداري الذي اتخذته كأساس لها؛ إذ في اعتبار فيبر "وحده الغرب من استخدم في نشاطه الاقتصادي، نظاما تشريعيا وإدارة بلغت مستوى من الكمال القانوني والصوري"[3].
هكذا تكون البيروقراطية تتويج نهائي للصرامة العلمية، ولو في سياق نظري صوري، يصب في خدمة النظام الإداري وترتيباته، بنوع من الشمولية، التي تلم شتات الموضوعات كلها، بدءً من الشق الاقتصادي لهذه الحداثة الغربية ممثلة بنظامها الرأسمالي؛ مرورا بعقلنة فكرة الدولة ذاتها[4]، وأيضا بالنظام الديمقراطي بوصفه تعبيرا عن الأفق السياسي المحبب عند حداثيي المنظومة الغربية، وصولا لموضوعات الدين والتدين وما يلازمها من أسئلة أخلاقية وروحية -بمعانيها التي طرحها في كتابه المركزي "الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية"؛ وفي النهاية يكون هذا الإطار النظري والعلمي الوسوم بكونه نظاما بيروقراطيا بمثابة الدائرة المغلقة التي تحتوي كل الأجزاء الموجودة بنوع من الصرامة والدقة.
يعني هذا أن البيروقراطية بالنسبة إلى فيبر هي محل ثقة، وتختزل صورة التنظيم العقلاني للزمن الحديث، لكونها تنقل السلطة من منطقها التقليدي، إلى نموذجيتها العلمية المؤسسة على تراتب موضوعي، يحافظ على الحرية الشخصية من متاهات السلطويات التقليدية، ويجعلها محمية بإطار قانوني يسندها؛ إذ لا تكون السيادة في التداول البيروقراطي دلالة على الإلزام والإجبار، وإنما هي دلالة على التمتع بالإرادة الإنسانية في التدبير؛ ما يعني أن فيبر قد "وصف الشكل البيروقراطي للسيادة كأعقل نموذج للتنظيم"[5]، وعقلانيته تأتي من هذا الأفق التحرري الذي منحه لفكرة التراتبية، التي تحولت بمقتضى التنظيم البيروقراطي إلى سلطة مقننة ومعقلنة ومنضبطة بإطار قانوني يحميها.
وتكمن أوجه العقلانية في قدرة البيروقراطية على مجاراة الخصوصية المعقلنة للزمن الحديث، في كل ما يتعلق بها من موضوعات؛ لأنها تنحو نحو التخصص والجدارة والاستحقاق، بوصفها سمات ترتكز على منطق الكفاءة والجهد، لا على التراتبية الاجتماعية والأسرية، وهي أيضا غير خاضعة لأيّ إلزامات أو إشراطات محسوبة على فكرة الشرف أو البطولة أو الزهد، كما في المجتمعات السابقة، ويعود هذا التميز إلى كون أن "بيروقراطية الدولة الحديثة، مثلها مثل النظام الاقتصادي الرأسمالي، تتميز بتمركز القوى الاقتصادية والعسكرية، وكذلك بتقسيم العمل واختصاص في التكوين"[6]؛ أي إنها رؤية فوق اعتبارية للوجود الإنساني، وتستند على منطق العمل والجهد، ولا تأخذ في الحسبان الاعتبارات التي تخرج عن سياق ما يمكن ملامسته وقياسه بشكل كمي وعلمي.
ليس هذا وحسب، بل إن البيروقراطية بالنسبة إلى فيبر هي النظام الذي يسمح بالتعبير الحر والصريح عن هذه "الإرادة الفردية" في إطار "الفعل الاجتماعي"؛ إذ لا تتوقف عن منحه هذه الروح العلمية في تدبير الارتباطات الاجتماعية، وفق تراتبية مُفكَّر فيها؛ وبالنسبة إليه يعد "التسيير البيروقراطي الوسيلة الخاصة التي يمكن بها تحويل "الفعل الجماعي" إلى "فعل اجتماعي" منظم بصفة معقلنة"[7]؛ إذ تسمح منهجيتها العلمية بتكريس البعد التنظيمي والاجتماعي، فهي لا تعبر عن تصور الجماعة وتنظيم التراتب والمهام فقط، وإنما تفضي إلى نوع من التكافل الاجتماعي؛ لأن الموظف يكون في حالة وجود هذا النظام مرتبط بنظام إداري واحترافي، ماديا ومعنويا[8]، عكس الهيكلة التي يخضع لها في الأنظمة الأخرى، والقائمة على منطق الوجاهة الشخصية بالأساس.
ولربما يكون تعديد الأوجه المميزة للبيروقراطية بمثابة التكرار شبه الكلي لأطروحات فيبر المركزية، والتي أجمعت على فكرة واضحة، على الأقل في مدخلها العام تقول بالتميز الكلي لهذا النظام، دونا عن غيره. والسبب الأساسي الذي حسم تميز هذا النظام يعود إلى "تفوقه التقني الخالص على أي شكل آخر. فحال هذا الجهاز البيروقراطي المتطور تماما بالنسبة إلى هذه الأشكال-ويقصد الأشكال الإدارية الأخرى كنظام النبلاء وسيادة الأعيان- هو شبيه بحال الآلة إزاء الأنواع غير الآلية في الإنتاج. في كل من الدقة والسرعة والوضوح والإلمام بالملفات والمثابرة والكتمان والتوحد والطاعة الصارمة والاقتصاد في الاحتكاك والتكاليف المادية والشخصية"[9]؛ وبإطلالة سريعة سيبدو أن هذه الشروط هي ذاتها التي يتأسس عليها المنطق الحديث؛ إذ ليست الحداثة إلا نوع من الوضوح والسرعة والدقة وغلبة الآلة؛ وبهذا المعنى تصبح البيروقراطية وكأنها نوع من الاختصار النظري للحداثة برمتها.
وهذا يفيد أن البيروقراطية هي ذاتها تحتاج إلى مراقبة صارمة، لتأكيد سريان عملها بشكل فعلي مع مبادئها الموجهة[10]، كما في الإمكانية الدائمة لتحولها إلى رؤية معقلنة لواقع إداري لا يتماشى بشكل منسجم مع النظام الديمقراطي، الذي من المفترض أنه حامٍ لها. وعلى هذا الأساس، يكون من اللازم "التحري من المبالغة فيما يتعلق بمدى سير البيروقراطية توازيا مع سير الديمقراطية، وإن بدا أن هذا خاصا بها"[11]؛ إذ من المحتمل جدا أن تسهم البيروقراطية في عرقلة سلامة الفعل السياسي ومساراته الديمقراطية المطلوبة، كما في الحالة الواردة التي بموجبها يمكن لهذا النظام أن يخدم مصالح فئات أو جهات معينة بدعمها سياسيا، بمقتضى منطق التراتبية الموجودة؛ وهنا أهمية التنبيه الذي صاغه فيبر، لتأكيد مدى الحاجة إلى جعل تقارب الديمقراطية والبيروقراطية مؤسسا على قواعد مضبوطة ومنضبطة لمطالب العقلنة؛ إذ "إن الديمقراطية في حد ذاتها، ورغم تشجيعها الذي لا مفر منه وغير المقصود للبيروقراطية أو من أجله، هي عدوة لسيادة البيروقراطية"[12]؛ فهي تخلق دوما مطبات ومشاكل وحواجز[13]، تعرقل سير التعقل البيروقراطي المطلوب.
والمحصلة النهائية للدفع بمشروع العقلنة إلى أبعد مداه، من خلال إقامته في الاقتصاد والسياسة والأخلاق، وتنظيمه إداريا في سياق الروح البيروقراطية، وتذويب كل هذا الأفق مع النفحة الدينية التي تحتضن كل هذا المسار، يعني الانتقال إلى عمق عالم الحداثة، بوصفه "عالم النسق الاقتصادي الحديث، وهو العالم المرتبط بالشروط التقنية والاقتصادية الخاصة بالإنتاج الآلي والمكنني الذي يحدد، بقوة لا تقاوم، نمط حياة مجموع الأفراد المولودين في إطار هذه الآلية-وليس فقط الذين يتعلق بهم مباشرة الكسب الاقتصادي-"[14]؛ أي إنها تلم الإنسان الحديث في كليته، حتى في الحالات التي يبدو فيها هذا الإنسان غير منخرط ضمن بنية هذا النظام العقلاني الصارم والمتحكِّم.
لكن ومع كل هذا الإعجاب الذي ليس في المحصلة إلا نتاج للقراءة المتسرعة لفيبر؛ يبقى الثابت أن هناك قراءة أخرى مخالفة لفيبر، تقول بشكل ضمني أن كل التهليل ولغة الأفراح التي صاغها في حديثه عن البيروقراطية والعقلنة والحرية والدولة المنضبطة لمعايير الصرامة، ليست في أصلها إلا تعريف أولي للزمن الحديث والمعاصر، قبل الانتقال إلى المستوى الأهم والأعمق، حيث يجري وضع فيبر في خانة «الفلسفة النقدية»، بل قد تصل حد أن تكون «فلسفة انهزامية» قصدها التعريف بمنزلقات الحداثة وشؤمها، وبأن كل هذه الوعود قد تتبخر كما في تعبير ماركس، وهي القراءة العميقة التي باستحضارها لن يبقى ممكنا القول إن فيبر هو النزعة المقابلة لماركس، بقدر أنه سيبدو وكأنه ذاته «ماركسيا أكثر من ماركس»، لأن نقده جاء من داخل مقولات الحداثة، وضمن قراءة هادئة، أو على الأقل أقل ثورية؛ أو في أضعف الحالات كان فيبر هو صاحب تلك النبرة التشاؤمية التي منحت لثورية ماركس شرعية مضاعفة، رغم كل ما قيل بشأن «مديحه للبيروقراطية»، أو بالأحرى «مديحه للحداثة».
ثانيا: ما بعد مديح البيروقراطية ... فيبر وخيبات العقل
في مقابل هذه النظرة التمجيدية للبيروقراطية والحداثة، هناك في المقابل تصورا مغاير، ينتهي إليه فيبر بعد حسم مقدماته بشأن أفق الزمن الحديث وانتظامه المحكم، يبدو هذا وضحا في بعض المؤاخذات التي لم يجد فيبر بُدّاً من تسجيلها، لتأكيد حدود الأفق الحداثي، المُتَبَدي في مقولة البيروقراطية أو في غيرها من المنطلقات الدالة على هذه العقلانية؛ فهو في رؤيته لفكرة الإنتاج والعمل مثلا، اعتبر أن فكرة تنظيم الأدوار والمهام والحقوق بشكل مؤسساتي قانوني، وغير خاضع للأشخاص، لا يعني نهاية المشكل بالنسبة للشخص الموظف، بوصفه منخرطا في سياق القواعد العلمية للزمن الحديث، ولا يعني استقلاله التام عن السلطة الوصية والإلزامية، بقدر حدوثه لوصاية لكن من طينة مغايرة؛ إذ يحدث في الغالب أن يتحول تغول البيروقراطية إلى سلطة توجيهية، لا تكرس مبادئ العدالة التوزيعية للخيرات والخبرات والجهود، ولا إلى الاستفادة المتساوية من الامتيازات التي تطرحها الدولة؛ لأن البلوغ إلى هرم السلطة في النظام الإداري، وفي الأنظمة المعقلنة بشكل عام، سواء كانت سياسية أو اقتصادية، هو تعبير عن امتياز ليس بالضرورة مستحقا، "والحقيقة أن النظام البيروقراطي هو الأداة المتقدمة جدا تقنيا للسلطة بالنسبة إلى من يحوزها في يده"[15]، وهو انحياز في حالة حدوثه يصبح جنيا على المكتسبات الإنسانية للزمن الحديث، خاصة وأن هذا الانزياح من السهل جدا حدوثه؛ لأن "الإدارة البيروقراطية هي دائما من حيث توجهها إدارة إقصاء للجمهور، فهي تحاول قدر الإمكان إخفاء علمها وعملها عن النقد"[16]، وهي بهذا كأي نظام مفرط في عقلانيته وإيمانه بالعلم، يصبح قابلا للتحول إلى نزعة علموية، توحي بنوع من الديكتاتورية، بسبب رفض النظر إلى عيوبها[17] الممكنة.
يعني هذا أن الزواج الذي حدث بين أنظمة التعقل، السياسية والاقتصادية والإدارية، قد دفع بمسلسل الحداثة إلى تتويجاته الأخيرة، وبدا الأمر للوهلة الأولى وكأنه حماية مطلقة للحرية، لكن تجاربه أثبتت أنه نسق معقلن بشكل منضبط، لدرجة يصبح تحوله إلى "قفص حديدي" بالنسبة إلى فيبر أمرا ممكنا للغاية. خاصة حين تكون "الطهرية" هي ذاتها حاملة لروح دنيوية، بفعل فكرة التلازم التي حصلت بينها وبين فكرتي العمل والإنتاج الرأسماليتين، بوصفهما تجسيدا لهذه الروح النسكية التي صارت "على ما هي عليه، انطلاقا من خلية الرهبان في الحياة المهنية، وحين بدأت تسيطر على الأخلاقية الدنيوية، فقد كان ذلك من أجل المساهمة في تشييد العالم المذهل"[18]؛ أي صار الهدف دنيويا وإنتاجيا بالخالص، ولم تكن أشكال التعقل التي نظمت العمل، من خلال استثمار التقارب الرأسمالي-البروتستانتي[19]، إلا دفعا بهذه الدنيوية المفرطة إلى أبعد مداها، إذا ما نظرنا للأمر، من الجهة المقابلة لتميز هذا التقارب الحاصل بالنسبة لفيبر في الزمن الحديث.
وبالمختصر، تعد صيغة "القفص الحديدي" نوعا من الاستعارة التي وضعها فيبر للتعبير عن الواقع الذي ينشأ عن هيمنة النظام البيروقراطي في الاقتصاد من خلال وجهها الرأسمالي، وفي السياسة وباقي مظاهر التعقل الأخرى كما في صور النظام الديمقراطي أو الأخلاق البروتستانتية أو التفكيك الذي طال سحر العالم، والتي تكرست في عمومها بفضل فكرة تقديس الإطار النظري للحداثة الغربية؛ ويمكن في سياق إبراز بعض ملامح النقاش الخاص بتوظيف هذه الاستعارة التي نحتها فيبر، أن نشير إلى وصف "مايكل لوي" حول الموضوع، يقول: "يستنتج ماكس فيبر النّيتشوي بتحفّظ -وليس بالضرورة عن حبّ- الطّابع المحتوم للرأسماليّة بوصفها مصير الحقبة الحديثة، وهو ما تشير إليه آخر صفحات كتاب الأخلاق البروتستانتيّة، حيث يستنتج فيبر، بنوع من القدريّة المتشائمة، أنّ الرأسماليّة الحديثة تحدّد، بقوّة لا تقاوم، أسلوب عيش جميع الأفراد الذين يولدون ضمنها -ولا تقتصر في ذلك على الأفراد المعنيّين بالتملّك الاقتصادي. والحقّ أنّه توجد تأويلات أو ترجمات عدّة لعبارة فيبر stahlhartes Gehäuse: البعض يراها "زنزانة"، والبعض الآخر يراها "قوقعة" كالتي يحملها الحلزون على ظهره. والأرجح أن يكون فيبر استلهمها من صورة "قفص الحديد الجليدي" التي نحتها الشّاعر الإنكليزي البيوريتاني بونيان (Bunyan)[20].
ومشكلة هذا الطوق المفروض تكمن في ديمومته؛ إذ سيظل هذا النمط محدِّدا "حتى يستنفد آخر طن من الوقود المتحجر"[21]؛ أي استنفاد آخر ما قد تجود به الطبيعة؛ إذ لا سبيل لتوقفه إلا بانتفاء موضوع الاستغلال الكامن في خيراتها، وحدوث الأمر بهذا المعنى يصير مستحيلا، بسبب واقعية بقاء توازي الرغبة في السيطرة والخيرات معا، وجنبا إلى جنب. وتأكيدا لهذا المعطى، قام فيبر باعتماد رأي "باكستر"، للإقرار بحقيقة أنه "لا ينبغي أن ينوء هَمُّ الثروات الخارجية بثقله على كاهل قديسيه، إلا "كمعطف خفيف الوزن يمكن خلعه في أي لحظة"، غير أن الحتمية حولت هذا المعطف إلى قفص من حديد"[22]؛ أي في النهاية يصبح الانغماس الكلي في العالم الحديث والمعقلن بشروطه المادية والتقنية والربحية التي جرى مدحها سابقا كمدخل، هو الهاجس المتحكم في كل الإرادات الموجودة[23].
والمهم في كل هذه التفصيلات، أن فيبر ذاته لم يستطع الذهاب بعيدا في إبداء الإعجاب، بالمنظومة الغربية الكاسحة بعقلانيتها، وتوقف تمجيده لهذه النظم المُعزَّزة برؤية إدارية منضبطة، على أعتاب توجس وتخوف شديدين من المستقبل؛ إذ بالنسبة إليه "لا أحد يعرف من سيقيم في القفص مستقبلا ولا ما إذا كان سيظهر، في نهاية هذه السيرورة العظيمة، أنبياء جدد بكل معنى الكلمة، أو نهضة فعالة على صعيد الأفكار والمثل العليا القديمة"[24]، ولأنه حديث عن المستقبل، أو بدقة أكبر، عن افتراضات قد تنشأ عن هذه الحداثة المحتضنة لهذه التناقضات، فإنه يمكن القبول أيضا بالفرضيات النقيضة، على نفس القدر.
هكذا صاغ فيبر وجها مغايرا لفلسفته المعهودة على الأقل إذا ما جرت قراءته سريعا، والتي بسببها صار موسوما بألقاب «عَرّاب البيروقراطية»، والابن البار للحداثة والعقل والعلم ونزعات الضبط والانضباط القانوني والحقوقي والمؤسساتي، في حين أنه لربما هو على نقيض هذه النزعة من «التفاؤل الساذج»، وأقرب إلى روح الفلسفة النيتشوية التي يعد سليلا لها، قبل أن يكون تلميذا نجيبا لغيرها، باستثناء أن نزعة التشاؤم التي أرادها زَيَّنها بلغة هادئة، لا هي صادمة كما هو حال نيتشه، ولا ثورية هكذا بالمطلق كما هو شأن ماركس، وإنما سمتها أنها نوع من «الرومانسية العالمة»، التي يتملكها الإحساس بالضياع، لكنها تقاومه لإقامة فهم أوضح، يكون جوابا عن مفارقات الحداثة، وقبلها عن إحراجات فيبر ذاته، ورهانه أن يكون درسه نقدًا لأنوار العقل بالعقل، بكشف خيباته وازدواجيته وخيانته لذاته، ولعلها الازدواجية التي ثَبُت للتاريخ أنها التعريف الأصدق والأمثل للمتن الغربي في رؤيته لذاته وللغير.
[1]- ماكس فيبر، الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، ترجمة محمد علي مقلد، مراجعة جورج أبي صالح، منشورات مركز الإنماء القومي، بيروت، ص7
[2]- المرجع نفسه، والصفحة.
[3]- المرجع نفسه، والصفحة.
[4]- بالعودة إلى الصيغة المفاهيمية التي يقترحها فيبر للدلالة على مشاريعه وأطروحاته الكبرى، سيبدو واضحا أن المعاني والدلالات التي يُحملها لمفهوم الدولة، هي أيضا متجاوبة بشكل كبير مع التنظيم الإداري لها، من خلال ربطه لمعناها مع تصوره العام لفكرة البيروقراطية؛ يقول: "فمن الصفات الشكلية المميزة للدولة اليوم: وجود نظام إداري وقانوني يمكن تغييره عن طريق لوائح، توجه هيئة الإدارة {بصورة منظمة أيضا من خلال لوائح} تبعا لها ممارسة أفعال التنظيم التي تقوم بها". ينظر:
- ماكس فيبر، مفاهيم أساسية في علم الاجتماع، ترجمة صلاح هلال، مراجعة وتقديم وتعليق، محمد الجوهري، منشورات المركز القومي للترجمة، 2011، ص95
وهو ما يعني أن طبيعة الدولة مؤسسة على تصور إداري محكم، قد يتم فيه تغيير بعض القرارات استجابة لإملاءات اللوائح المقررة؛ ولكن الذي لا يمكن تغييره هو وجود هذا النظام الإداري المنضبط ذاته للدولة؛ بما في ذلك المهام التي تضطلع بها، كما في احتكارها للعنف، الذي لا يمكن تأسيسه إلا وفق تصور بيروقراطي، يضمن حسن استخدام هذا العنف، الذي تحتكره الدولة بشكل مشروع ضدا عن غيرها.
[5]- ماكس فيبر، الاقتصاد والمجتمع الاقتصاد والأنظمة الاجتماعية والقوى المخلفات السيادة، مرجع سابق، ص77
[6]- المرجع نفسه، ص79
[7]- المرجع نفسه، ص261
[8]- ماكس فيبر، الاقتصاد والمجتمع والأنظمة الاجتماعية والقوى المخلفات، السيادة، ترجمة محمد التركي، مراجعة فضل الله العميري، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، توزيع مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1/مايو2015، ص 261
[9]- المرجع نفسه، ص239. وللوقوف بشكل أكبر على الإشادات التي يمنحها فيبر للبيروقراطية يمكن العودة أيضا إلى الصفحات التي تليها؛ وحينها سيبدو واضحا كم الإعجاب الذي يبديه فيبر بهذا النظام؛ إذ يضيف في الصفحات اللاحقة مجموعة أوصاف وخصائص، تبرز في كليتها أهم السمات المميزة للبيروقراطية، بوصفها دلالة على نجاح الأفق الحداثي، في استيعاب مشكلات الإنسان الحديث والمعاصر، لما فيه مصلحة وتطور ونمو وزيادة في الفاعلية والإنتاج؛ يقول مثلا في سياق تأكيد هذه الأفضلية: "إن الشركات الرأسمالية الحديثة والكبيرة جدا هي في حد ذاتها، عادة ما تكون بمنزلة أنماط نظام بيروقراطي صارم صعب المنال. فحركة معاملاتها ترتكز دائما على الدقة المتزايدة والاستمرارية وقبل كل شيء على السرعة في تنفيذ العمليات (...) والنزعة البيروقراطية تقدم قبل كل شيء أفضل الإمكانيات لتنفيذ مبدأ تفكيك العمل في الإدارة حسب وجهات نظر موضوعية بحتة مع تقسيم مختلف الأعمال على موظفين هيئوا من حيث الاختصاص وواصلوا دائما تدريبهم بتمرنهم الدؤوب" ينظر: المرجع نفسه، ص ص239-240 بتصرف.
[10] - على هذا الأساس، يكون القول بنجاح البيروقراطية، وكأنه قول بنجاح الحداثة، من خلال تفوق فروعها التي تختزن صور التعقل المميزة لها عما سواها؛ لكن في مقابل هذا الإقرار، يفيد هذا التقابل معطى آخر أساسي. يقوم على ضرورة اعتبار نقائص هذا النظام إن وجدت أو مفارقاته؛ وكأنها نقائص ومفارقات الحداثة ذاتها. وهذا بالذات ما تفرزه القراءة الشمولية للزمن الحديث في أطروحات فيبر المركزية؛ إذ يختزل الزمن الحديث من خلال أطره المركزية، كالبيروقراطية والرأسمالية وتغول العلم وهيمنة التعقل، تناقضات ومفارقات ترتبط بالأسئلة المركزية للحرية ولباقي مقولات الزمن الحديث وأسسه ومنطلقاته.
[11]- ماكس فيبر، الاقتصاد والمجتمع الاقتصاد والأنظمة الاجتماعية والقوى المخلفات السيادة، مرجع سابق، ص265
[12]- المرجع نفسه، ص266
[13]- المرجع نفسه، والصفحة.
[14]- ماكس فيبر، الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، مرجع سابق، ص148
[15]- ماكس فيبر، الاقتصاد والمجتمع الاقتصاد والأنظمة الاجتماعية: القوى المخلفات السيادة، مرجع سابق، ص266
[16]- المرجع نفسه، ص267
[17]- ليست البيروقراطية نموذجا مكتملا للتعبير عن تفوق الحداثة وتميزها؛ ولا يُنظر إليها على وجه العموم بوصفعا حامية للإنسان الحديث من سلطة وعبثية الشخصنة المطلقة، لاقتراحها إطارا توجيهيا مؤسسا على رؤية قانونية معقلنة؛ بل هي في ظن الكثيرين -وربما فيبر على وعي كلي بهذا رغم دفاعه عنها- تكون محملة بتناقضات ونواقص بالكثرة؛ وكثيرة هي الكتابات التي "تشكو من عدم فاعلية الموظفين وعبثية الإجراءات البيروقراطية ومن التضخم المتزايد للجهاز الإداري؛ وقد كانت كلمة "بيروقراطية" في اللغة العامية بمنزلة لعنة، وُصفت بها تجاوزات النظام، في حين كان استعمالها كمفهوم علمي نادرا جدا". ينظر: ماكس فيبر، الاقتصاد والمجتمع الاقتصاد والأنظمة الاجتماعية، مرجع سابق، ص77. ولمزيد بيان حول أهم الانتقادات التي قُدمت للبيروقراطية في الزمن الحديث يمكن العودة أيضا للصفحات اللاحقة من نفس المرجع؛ لإبراز الوسوم التي تبرز هشاشة النظام، ولربما يكون وسم "سلطة الكراسي" أكثرها تعبيرا عن مشهد الضعف الذي يميز هذا النظام في أفقه العام والأساسي.
[18]- ماكس فيبر، الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، مرجع سابق، ص148
[19]- طبعا بالنسبة إلى فيبر يعد هذا التقارب أساسيا، إلى درجة أنها تختزل أطروحة كتابه "الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية"؛ وإن تكن بعض إفرازاتها تحيل إلى الأفق الدنيوي، الذي يفرض نوعا من "القفص الحديدي" على الزمن الحديث، يقول فيبر تأكيدا على فكرة أن هذا التقارب يمثل أطروحة كتابه المركزية: "وُلد أحد العناصر الأساسية في روح الرأسمالية الحديثة، بل في روح الحضارة الحديثة ذاتها أيضا، ونعني: السلوك العقلاني القائم على فكرة الشغل، من روح النسكية المسيحية، وهذا ما يجهد مؤلفنا لكي يبينه". ينظر: المرجع نفسه، ص147
[20]- ينظر: مايكل لوي، الرأسمالية بوصفها دينا بين والتر بنيامين وماكس فيبر، ترجمة جهاد الحاج سالم، منشور على الموقع الإلكتروني لمعهد العالم للدراسات بتاريخ 26 فبراير2018. ونشر المقال في نسخته الأصلية بالفرنسيّة تحت عنوان «Le Capitalisme comme Religion: Walter Benjamin et Max Weber»، في العدد 23 من مجلة "إدراكات سياسيّة" (Raisons Politiques) الصّادر في الفصل الثّالث من سنة 2006. والذي يمكن تسجيله هو كم الاهتمام الزائد بالتعبيرات الأدبية والاستعارات والتشبيهات، في فلسفة فيبر، من قبل أيضا صيغة "تفكيك سحر العالم"، وهو ما يعني أن الصرامة العلمية التي يبديها تُخبئ في الواقع اعترافا ضمنيا بالقدرة الأدبية والفنية على اختزال عمق الموضوعات الوجودية بدقة عالية، وفي الأمر دلالة ربما على تملص القضايا الكبرى من قبضة التعبير العلمي الصارم، حتى في معاقله الكبرى كما في تجربة فيبر مثلا.
- ماكس فيبر، الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، مرجع سابق، ص148
[21]- ماكس فيبر، المرجع نفسه، ص148
[22]- المرجع نفسه، والصفحة.
[23]- وهذا يعني إن الشروط العقلانية للعالم، أدت إلى تحييد التلطيف النسكي بالتدريج، ودفعت إلى تمجيد منطق الربح، وبهدوء "أصبحت الثورات الدنيوية تكتسب نفوذا على البشر متناميا لا يمكن رده، نفوذا لم يُعرف له مثيل فيما مضى، أما اليوم، فقد أفلتت روح النسكية الدينية من القفص نهائيا؟ إذ لم تعد الرأسمالية الظافرة بحاجة إلى هذا الدعم منذ أن استندت إلى قاعدة ميكانيكية"؛ فالقيم الدينية التي حملت هذه الروح النفعية بنِيَّة قد تكون حسنة؛ صارت أضعف من أن تواجه تسلط أشكال العقلنة كما في الرأسمالية المنظمة إداريا، والمدفوعة بهم الربح الدنيوي الخالص. ماكس فيبر، الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، مرجع سابق، ص148
[24]- ماكس فيبر، المرجع نفسه، ص148