في ضرورة إعادة بناء أسئلة النهضة
فئة : مقالات
شهد العالم العربي في الربع الأخير من القرن العشرين ميلاد مشاريع فكرية عديدة، اتجهت أغلبها إلى الإحاطة بمعضلات الواقع العربي، محاولةً بلورة مجموعة من الأسئلة القادرة على مواجهة التحديات المطروحة في المجتمعات العربية. وقد تنوعت المشاريع الناشئة، وهي تواجه واقعًا معقدًا، محاولة التفكير في الإشكالات التاريخية الكبرى التي أفرزها هذا الواقع، ومُعلنةً في الوقت نفسه فشل مشاريع النهضة العربية الأولى في الإصلاح والتغيير؛ أي مشاريع القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. لهذا السبب تحدث بعض الباحثين الذين اشتغلوا بفكر النهضة العربية، عن النهضة الثانية، قصد تركيب ما يسعف بتطوير كيفيات مواجهة مظاهر التأخر التاريخي التي ما تزال تشكل علامات بارزة في مختلف جوانب الواقع العربي.
ضمن هذا السياق، نشأت مشاريع في الإصلاح الفكري والسياسي، معبرة عن المخاضات الجديدة الجارية في قلب المجتمع العربي، ومعينة لأشكال التطور التي عرفها الفكر العربي المعاصر، وهو يعيد النظر في الاختيارات والعقائد والمواقف التي بلورتها إشكالية النهضة منذ نهاية القرن التاسع عشر وطيلة عقود القرن العشرين. ونظرًا لصعوبة وتعقد الإشكالات التاريخية التي تجري اليوم في الواقع العربي، وخاصة بعد الثورات المجهضة وما تلاها من نكوص وتراجع، فقد كان المحتم أن تتجه المساعي النظرية الجديدة لمعاينة هذه الإشكالات بتشخيص خلفياتها وأبعادها، والعمل على مقاربتها من زوايا مختلفة ومتعددة، بهدف محاصرتها والحد من نتائجها السلبية على الواقع.
تضمنت الجهود الفكرية الجديدة، موقفًا ضمنيًا يشير إلى أن المجموعة العربية لم تنجح خلال العقود التي توالت بعد الاستقلال السياسي لأغلبيتها في حل إشكالات التأخر التاريخي القائمة في المستوى السياسي أو في المستوى الاقتصادي أو في مستوى الذهنيات، إذ لم تنفع الطفرة النفطية ولا برامج ومخططات الدولة الوطنية بمختلف أشكالها في توقيف مسلسل تنمية التخلف واستكمال التحرير وتحقيق التقدم، فظلت كثير من شعارات النصف الأول من القرن العشرين دون تحقق، بل إن الهزائم والانكسارات الجديدة التي حصلت، وما فتئت تحصل في الواقع العربي، تعبر بكثير من الجلاء عن إخفاق تاريخي مزمن ومتواصل.
ونرى أن اشتداد حدة الصراعات السياسية والإيديولوجية القائمة اليوم في فضاء الفكر العربي، بين دعاة الحداثة والتحديث ودعاة الأصالة والتأصيل، يؤشر بكثير من القوة على أشكال متعددة من الممانعة المتواصلة في الثقافة العربية، إذ لم يتمكن العقل العربي من حل إشكالية تصالحه مع ذاته وتوافقه مع العصر، رغم مرور ما يقرب من قرنين من الزمان على مسلسل انخراطه المتفاوت في الأزمنة الحديثة.
ولأننا في هذا المجال بالذات، نؤمن بالتاريخ ونحتكم إليه، فإننا نعتقد أن المشكلات التاريخية العديدة التي تطرحها إشكالية الانخراط في مسلسل امتلاك الحداثة والتحديث، تدل على وجود عوائق وصعوبات ترتبط بوجودنا التاريخي في أبعاده المختلفة، كالذهنية الاجتماعية والسياسية...إلخ. ومن هنا فإن الدعوة إلى نقد التراث، والعمل على بلورة ملامح عصر تنوير عربي جديد، وكذا أطروحات العودة إلى الأصول ودعاوى الإسلام السياسي، تندرج جميعها في سياق تاريخي يتوخى مواجهة إشكالات الوضع العربي، لبناء ما يسمح بتعبيد الطريق المؤدية، كما قلنا سابقًا، إلى التصالح مع الذات، والتواصل الإيجابي مع منجزات العصر، وهو الأمر الذي يعني في نهاية التحليل تخطي وتجاوز عتبة التأخر التاريخي السائد.
تتبلور التيارات المذكورة في تفاعل مع متغيرات الواقع ومستجداته، محاولة إنشاء مشاريع في النظر قادرة على توجيه الواقع العربي، ويعكس تنوع تيارات الفكر العربي ملمحًا إيجابيًا يعبر عن تعقد أسئلة الواقع من جهة، وعن مظهر من مظاهر كفاءة العقل العربي من جهة ثانية، في بناء الأسئلة الجديدة المحفزة على تركيب التصورات المساعدة على تخطي العقبات وتجاوز المحن والنكبات.
لهذا عملت النخب العربية المثقفة، وتعمل، في كل منعطف تاريخي، وعلى امتداد القرنين الماضيين، على بناء مشاريع في الإصلاح والنهوض. ويستطيع المهتم بتطور مجال الصراع الفكري في العالم العربي، أن يتبين أن ملامح التوجهات الفكرية الإصلاحية المتصارعة في مجال النظر العربي، تعكس، إضافة إلى كل ما قلنا، نوعية التفاعلات التي يحققها الفكر في علاقته بالواقع، كما تعكس أشكال التطور التي تعرفها تيارات الفكر العربي، إذ تسمح الأسئلة الجديدة ببناء زوايا أخرى في النظر إلى إشكالات الواقع.
ونفترض أن مفعول الرجّات التاريخية المتواصلة في المجتمع العربي، طيلة سنوات العقد الثاني من هذا القرن، تدعونا مجددًا إلى مزيد من مواجهة مصيرنا السياسي والاجتماعي، وذلك لأن معضلات التاريخ الكبرى في مجتمعنا تستدعي مواصلة الجهد ومضاعفته، بل تكراره دون تردد ولا كلل إذا ما اقتضى الأمر، بحكم أن العلل التي يعاني منها مجتمعنا تقتضي ذلك.
إن انتصار الجيوب المحافظة في مجتمعنا وثقافتنا، وسعيها لتقليص المكاسب الحداثية التي نشأت بفعل جهود الجيل الذي سبقنا، تدفعنا لإنجاز التفاعلات المطلوبة لبلوغ المزيد من ترسيخ قيم الحداثة وأخواتها من قبيل الفكر التاريخي والنقدي ومختلف القيم المرتبطة بهما في مجتمعنا. وتستدعي الأوضاع العربية اليوم، وبكثير من الاستعجال، لزوم التفكير في سِجلاَّت جديدة من الأسئلة، التي تسعف بمزيد من كسر وإعادة بناء مقدمات ومفاهيم خطابات النهضة العربية، وذلك بتعبيد الطريق المناسب لتجاوز أعطابنا المتزايدة، فهل نستطيع ذلك؟