في ماذا ينفعنا الفنّ؟ ماثيو أرنولد مواجها فوضى المنع
فئة : مقالات
في ماذا ينفعنا الفنّ؟
ماثيو أرنولد مواجها فوضى المنع
في سياق ثقافي يصرّ على تقييم الفن بمنظورات دينية وأخلاقية يبقى الجدل قائمًا ومتعدّدا، يبقي الفن والجمال عرضة إلى السقوط في منحدرات وهوات حضارية، نرى أثرها اليوم على الحس الجمالي للإنسان عموما، والإنسان المتدين خصوصا من اختاروا التطرف والتعصب لإيديولوجيات لم تعد بحاجة اليوم إلى من يبرر لها أحقية تواجدها، حتى في المجتمعات التي دافعت عنها وسوقتها وجعلتها جزءا من إيديولوجيتها الاجتماعية. كان بيندكست كروتشه بنيديتو كروتشه فيلسوفًا مثاليًا ومؤرخًا وسياسيًا تناول موضوعات عديدة في كتاباته، من بينها علم الجمال والفن. وله عدة كتب من أهمها كتاب فلسفة الفن أو المجمل في فلسفة الفن. كان يقول إن سؤال ما هو الفن يمكن أن نجيب عنه مازحين أن الناس كلهم يعرفون ما هو الفن، وإذا لم يكونوا على معرفة بما هو الفن، فهم لا يستطيعون طرح مثل هذا السؤال، فكل سؤال يفترض أن يكون الشخص السائل ملمّا به.
وعلى الرغم من تعدد التعاريف التي تحاول استجلاء عناصر هذه المفاهيم، فإن هذه الأخيرة تكشف لنا تعدد المنظورات إلى الجانب الفني. فهناك من يعتبر الفن بمثابة حدس ورؤيا قبل كل شيء كما هو حال كروتشه، ومنها من يرى أن الفن هو بمثابة تفسير للحياة وتقديم خبرات وتجارب حولها، ومنها كذلك من يعتبر الفن صنعة تخلف أثرا ً بالغا للاهتمام. وهكذا، فما نريد نحن أن نقف عليه ليس هو الجانب المفاهيمي فقط، بل نريد أن نتجاوز ذلك إلى مسألة أخرى أشار إليها عادل مصطفى في كتابه دلالة الشكل: دراسة في الإستطيقا الشكلية وقراءة في كتاب الفن لكلايف بل.
لماذا يقوم الفن في ثقافتنا العربية والإسلامية تقويما أخلاقيا ودينيا من خلال نصوص وتشريعات غايتها في غالبيتها التحريم والمنع والإلغاء لكل ما هو جميل؟
للجواب عن هذا السؤال، سنختار قصيدة «بانت سعاد» لكعب بن زهير، وهو من الشعراء المخضرمين الذين عاشوا بين الجاهلية والإسلام، وواحد من أصحاب المعلقات المشهورة في الثقافة العربية. ذات يوم أنشد قصيدةٌ جادةٌ في مدح الرسول والاعتذار له، يقول مطلع هذه القصيدة:
بانَت سُعادُ فَقَلبي اليَومَ مَتبولُ
مُتَيَّمٌ إِثرَها لَم يُفدَ مَكبولُ
وَما سُعادُ غَداةَ البَينِ إِذ رَحَلوا
إِلا أَغَنُّ غَضيضُ الطَّرفِ مَكحولُ
هَيفاءُ مُقبِلَةً عَجزاءُ مُدبِرَةً
لا يُشتَكى قِصَرٌ مِنها وَلا طولُ
تَجلو عَوارِضَ ذي ظَلمٍ إِذا ابتَسَمَت
كَأَنَّهُ مُنهَلٌ بِالراحِ مَعلولُ
شُجَّت بِذي شَبَمٍ مِن ماءِ مَحنِيَةٍ
صافٍ بِأَبطَحَ أَضحى وَهُوَ مَشمولُ
تقول هذه الأبيات فيما تقول: إنَّ بطلة القصيدة، سعاد، نحيلةٌ إذا نُظرت من الأمام، وكبيرة العجز إذا نُظرت من الخلف، أسنانها حين تبتسم تنمُّ عن ثغرٍ باردٍ، كأنه تناول قدحين من خمرٍ ممزوجٍ بماءٍ شديد البرودة.
السؤال حسب هذه القصيدة، وهي تعبير فني في نهاية المطاف هو كيف تلقى النبي هذه القصيدة؟
فهو لم يجتزئ، ولم يَخلط المقولات، ولم يُحمِّل الأبيات ما لا تَحتمِل، بل قام، ببساطةٍ، وخلع بردتَه على مبدعها، تعبيرًا عن أعلى درجات التكريم. هذا يجرنا إلى قضية محورية، وهي أن بين الفن والأخلاق علاقةٌ منطقية دقيقة، وتحتاج منذ البداية إلى حنكة كبيرة في ترسيم الحدود، وإلا ستُفضي إلى جدلٍ عقيمٍ لا يُثمر، ونزاعٍ طويل لا ينتهي؛ معنى ذلك أن الفن وجهته جمالية بالأساس. أما الأخلاق، فموكولة بمقولة «الخير»؛ أي إن الفن يوصف بالجودة أو الرداءة (الفنية)، حسب أذواقنا وتوجهاتنا وثقافتنا وتربيتنا، ولا يصح أن يوصف بالشر أو الخير كقيم أخلاقية. وكي نفهم هذا الأمر بشكل جيد، يمكننا أن نشاهد أن أكثر الناس تعفُّفًا وترفعًا عن الهذر واللغو لا يجدون في أنفسهم غضاضةً ولا يستشعرون ذنبًا في تلقِّي النكات الجريئة في السياق الحياتي المناسب؛ فالضحك البريء «خير» وجلاء لصدى القلوب، والنُّكتة البارعة بمثابة عمل فني ينطوي على حبكة مُتقنة ودلالة شكلية وأداء فني، يضحكنا ويمتعنا حتى لو كان يستعمل ما يعتبره الأخلاقيون نكتا ساقطة.
وقد نوَّه بِل إلى هذه المسألة منذ البداية، ومنذ البداية هدَتْه دقَّته المنطقية إلى أن يفصل فصلًا قاطعًا بين الفن واللافن؛ فالعمل الذي ينطوي على شكلٍ دالٍّ هو عمل فني، وهو خير بطبيعته أيًّا كان موضوعه أما العمل الذي لا يحوز على شكلٍ دالٍّ ولا يؤدِّي إلى انفعالٍ إستطيقي، بل يُثير انفعالات الحياة، فهو ليس عملًا فنيًّا.
ما يثير الانتباه في هذا الصدد أنه بالرغم من كل ما تحقق مع الإنسان المعاصر ما زال هناك من يطرح السؤال التالي: ما جدوى الفن؟ أو بماذا ينفعنا الفن؟ وحينما نريد أن نبحث في عمق هذه التساؤلات وغيرها تواجهنا مثل هذه الإجابات إن الفن لا يشيد المدن الصناعية، لا يشق القنوات، لا يمد في سكك الحديد وهكذا. وحينما كان هؤلاء المستهزئون ذوو الميولات العملية يلقون شباكهم بحثا عن مثال تظهر فيه بدقة جميع مثالب وعيوب الفن. ظهر شخص اسمه "ماثيو أرنولد" بمقالة بعنوان الثقافة والفوضى، ليواجه أولئك الذين يدعون أن الفن لم يقدم للبشرية أية قيمة أو فائدة مرجوة. كانت نظرة الناس وما زالت إلى الفن على أنه ذلك العبد المعطر في خدمة التعاسات الإنسانية، أو إنه العقيدة التي تنشر روح الخمول والكسل والفوضى وسوء الأخلاق، فكيف ينتهي هذا الوهم؟.
لن ينتهي ما دام هناك من لا زال يتقن فوضى التحريم والتجريم والتأثيم، وما دام هناك من يلقي بشباكه ليقرأ في هذا الوجود نواقص الفن. ففي مقالة كتبها أرنولد بعنوان "الثقافة والفوضى" يعزي فيها أصحاب القلوب الميتة، فالفن هو ترياق لأعمق المخاوف التي يواجهها الإنسان، ومن يعتقد بعدم جدواه، فليجرب كلفة عدم وجوده، وسيرى كم سنساهم في حصاد شرور العالم.
العمل الفني العظيم بحسب أرنولد يحمل في داخله "رغبة في إزاحة الخطأ الإنساني وتجاوز اضطراب البشر ومحو معاناتهم"، إذ إن أعظم الفنانين كانوا يأملون أن يجعلوا العالم مكانا أفضل مما هو عليه. إن الفن بمنزلة صرخة احتجاج على الأوضاع القائمة. لذلك، فإن ما تقوم عليه فلسفة أرنولد هو أن "الفن نقد للحياة".
يفسر بوتون فلسفة أرنولد قائلا، إن الحياة ظاهرة تحتاج إلى النقد؛ لأن البشر يتعرضون باستمرار وبسبب النقص في طبيعتهم إلى مخاطر متعددة، منها خطر عبادة آلهة باطلة، وعجزهم عن فهم أنفسهم، كذلك السقوط في فهم الآخرين بشكل خاطئ، كما أنهم يسيطر عليهم الخوف والقلق بطريقة هدامة. بالتالي، فإن الأعمال الفنية المختلفة من شعر ورواية ومسرح وتصوير زيتي وسينما "تستطيع أن تكون وسيلة تفسر لنا وضعنا الإنساني". وعندما يأتي الحديث عن المكانة الاجتماعية والطرق المختلفة التي يتفاوت بها الناس على السلم الاجتماعي، فهي بالطبع تحتاج إلى النقد أو الفهم والتحليل، يقول بوتون: "ليس من المفاجئ أن أعمالا فنية أبدعها فنانون كثيرون عبر العصور كانت تفند السبل المتبعة في تحديد منازل الناس ودرجاتهم في المجتمع. إن تاريخ الفن حافل بتحديات نظام المكانة، تحديات قد تتخذ شكلا ساخرا أو غنائيا أو غاضبا أو حزينا أو طريفا".