في متشابه القرآن ومشتبه الفقهاء
فئة : مقالات
الملخّص
يعالج هذا المقالُ قضيةً غاية في الأهمية، في الفكر الإسلامي القديم والمعاصر، وهي قضية ذات وجهين؛ يتعلق الوجهُ الأولُ منها بعلم من علوم القرآن هو: "المحكم والمتشابه". ويتعلق الوجه الثاني بأصل من أصول الفقه هو: "سد الذرائع". وقد مثلت هذه القضية بوجهيها إشكاليةً كبرى للعقل المسلم، عبر كل العصور التي مرّ بها، لأنها مثلت عائقًا وحجر عثرة أمام هذا العقل. وسوف أتـناول الوجهين معًا من خلال عرض وجه نظر الفقيه والفيلسوف ابن حزم الأندلسي؛ وهي وجهة نظر لا مثيل لها -فيما أعلم- في الفكر الإسلامي كله، عبر تاريخه الطويل. وسوف ينقسم المقال من ثم، إلى المحورين الآتيين:
- في متشابه القرآن
- في مشتبه الفقهاء
1- في متشابه القرآن
* آيات آل عمران
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}.
اختلف العلماء والمفسرون في معنى المتشابه في القرآن الكريم، ما هو المقصود به، وأن تحديد معنى المتشابه من المحكم في التنزيل العزيز أمر له أهميته القصوى، حتى لا يقع الباحث العالم في دراسة ما نهى الله عن دراسته، وفي بحث ما استأثر الله بعلمه وحده، ولم يعلمه الراسخون في العلم كذلك فما هو؟
يرى ابن حزم أنه لا حكم إلا لليقين وحده والاحتياط كله هو أن لا يحرم المرء شيئًا إلا ما حرم الله تعالى، ولا يحل شيئًا إلا ما أحل الله
هذا المتشابه الذي إذا درسه العالم أو حاول تفسيره وتأويله وقع في المحظور ... وكانت هذه الآيات بمثابة السّلاح المشهر في وجه من يبحث فيما يظن بأنه من المتشابه، فيشهر في وجهه الاتهام بأن في قلبه زيغًا، وبأنه يتبع ما تشابه منه ابتغاء الفتنة، وبقصد تأويل لا يعلمه إلا الله تعالى، وقد تبادلت الفرق الإسلامية قديمًا، المعتزلة والأشاعرة هذا الاتهام، واتهم أهل السنة غيرهم بهذا الزيغ، ومن ثمَّ كانت الآيات الكريمة تستخدم في مواجهة العقل المسلم المتطلع لبحث كل شيء وفي نفس الوقت لا يريد الوقوع في الفتنة، وقد فسر ابن حزم هذه الآيات المتشابهة فيه بعد أن قام باستقراء شامل لموضوعات القرآن انتهى به إلى بيان ما هو المتشابه من القرآن، والذي استأثر الله عز وجل -وحده- بعلمه، ولم يعلمه الراسخون في العلم، وبالضرورة لم يعلمه من هم دونهم.
* المحكم والمتشابه
فأما المحكم: فأصله في اللغة المنع، تقول: أحكمت بمعنى رددت، ومنعت، والحاكم لمنعه الظالم من الظلم، وحكمة اللجام هي التي تمنع الفرس من الاضطراب. وأما في الاصطلاح، فهو ما أحكمته بالأمر والنهي وبيان الحلال والحرام([1])، وقيل هو ما لا يحتمل في التأويل إلا وجهًا واحدًا، و {آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} أحكمت آياتها بأن حفظت من الاحتمال والاشتباه([2]) وأحكمته بالبيان والتفصيل([3])، وقيل ما عرف تأويله وفهم معناه وتفسيره([4]).
وأما المتشابه: فأصله أن يشتبه اللفظ في الظاهر مع اختلاف المعاني([5])، {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَات}؛ أي يشبه بعضها بعضًا، وإن اختلفت ألفاظها ومعانيها([6]) ومتشابهات مشتبهات محتملات([7])، والمتشابه استأثر الله بعلمه دون خلقه([8])، والمتشابهات عند ابن حزم غير المشتبهات، وهي التي بين الحرام البين، ولا تكون إلا في الأحكام فقط([9])، وهو ما سنتناوله في الجزء الثاني من هذا المقال.
موضوعات القرآن: محكم ومتشابه
وفي آيات القرآن الكريم محكم {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} (آية 7: سورة آل عمران)، وقد حض تعالى على تدبر هذه الآيات، وأوجب التفقه فيها والضرب في البلاد لذلك، وفي آيات القرآن أيضًا متشابه {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَات} وهو ما لا يجب البحث فيه، وقد استأثر الله بعلمه، وراح ابن حزم يستقرئ آيات القرآن الكريم أيها محكم يجب التفقه فيه، وأيها متشابه يجب عدم تأويله.
"ونظرنا في القرآن وتدبرنا، كما أمرنا فوجدناه جاء بأشياء منها: "التوحيد ومنها صحة النبوة ومنها الشرائع المفترضة والمحرمة والمندوب إليها والمكروهة والمباحة، ومنها التنبيه على قدرة الله تعالى ومنها أخبار سالفة ومنها وعد ووعيد ... إلخ".
وبعد هذا الاستقراء، ينتهي ابن حزم إلى تحديد المتشابه المنهي عنه:
"فلما علمنا أن كل ما ذكرنا ليس متشابهًا وعلمنا يقينًا أنه ليس في القرآن إلا محكم ومتشابه أيقنا أن كل ما ذكرنا محكم، فلما أيقنا ذلك ضرورة علمنا يقينًا أنما عدا ما ذكرنا هو المتشابه فنظرنا لنعلم أي شيء هو فنجتنبه ولا نتبعه، وإنما طلبناه لنعلم ماهيته لا كيفيته ولا معناه".
* معنى المتشابه عند ابن حزم
يقول ابن حزم: "فلم نجد في القرآن شيئًا غير ما ذكرنا، حاشا: الحروف المقطعة في أوائل بعض السور وحاشا الأقسام التي في أوائل بعض السور أيضًا، فعلمنا أن هذين النوعين هما المتشابه الذي نهينا عن اتباعه([10])، فحرام على كل مسلم أن يطلب:
1- معاني الحروف المقطعة التي في أوائل السور كهيعص، حم، عسق، ن، ألم، طس، طسم.
2- الأقسام التي في أوائل السور مثل والنجم، والذاريات، والطور، والمرسلات عرفًا، وما أشبه من ذلك.([11])
* الراسخون في العلم لا يعلمون المتشابه
اختلف العلماء في قوله تعالى: }وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} (آية 7: سورة آل عمران)، هل هو ابتداء كلام مقطوع مما قبله، أو هو معطوف على ما قبله، فتكون الواو للجميع، ويقول الإمام القرطبي في تفسير (الجامع لأحكام القرآن) إن الذي عليه الأكثر أنه مقطوع مما قبله، وإن الكلام تم عند قوله تعالى: }إلا الله} وإن ما بعده استئناف كلام آخر وهو قوله تعالى:
{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ}([12])، ويختار الزمخشري في تفسير الكشاف الرأي الثاني، ويعتبر -وهو من المعتزلة- أن {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} يعلمون المتشابه مع الله تعالى وأن الواو للعطف([13]).
* بين ابن حزم والمعتزلة
وقد أراد الزمخشري أن ينتصر لآراء المعتزلة الذين أولوا كثيرًا من الآيات التي اعتبرها خصومهم من الأشاعرة وأهل السنة آيات متشابهة، وحتى لا يلحقهم -أي المعتزلة- الوصف الوارد بالآية، اعتبرهم الزمخشري من الراسخين في العلم، وأنهم بذلك يعلمون المتشابه، ويجوز لهم تأويله باعتبار أن الواو للعطف، وبالتالي فهم يعلمون -مثل الله تعالى- المتشابه وإذا كانوا يعلمون ولا يبتغون بتأويلاتهم الفتنة، فإن هذا الوصف لن يلحقهم عندئذ.
لقد أراد الزمخشري أن لا يرمي أحد المعتزلة بهذه الآيات الكريمة، وكان حرف الواو هنا وتفسيره بأنه حرف عطف، وليس حرف استئناف هو الملجأ الذي اتجه إليه ليدرس العقل المسلم كل شيء، ولا يكون عليه قيد طالما هو لا يبتغي الفتنة.
أما ابن حزم، فقد أتاح للعقل المسلم أن يبحث في كل شيء، واعتبر أن كل ما في القرآن محكم عدا الأقسام والحروف المقطعة فقط، دون أن يلجأ إلى حرف الواو، ورغم نفيه لأن يكون
{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} يعلمون المتشابه كما يعلمه الله عز وجل:
"قال قوم: إن قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} معطوف على الله عز وجل، قال أبو محمد (ابن حزم): وهذا غلط فاحش، وإنما هو ابتداء وخبره في (يقولون) والواو لعطف جملة على جملة، فإذا كان التتبع حرام فالسبيل إلى علمه مسدودة فلا سبيل إلى علمه أصلاً، فصح أن الراسخين لا يعلمونه أبدًا: فلو علمه الراسخون في العلم لكان فرضًا عليهم أن يبينوه للناس، ولو لم يبينوه لكانوا ملعونين، ولو بينوه لعلمه الناس، ولو علمه الناس لكان محكمًا لا متشابهًا ولتساوى فيه الراسخون وغيرهم، وهذا ضد ما قال تعالى فبطل قول من ظن أن الراسخين يعلمون"([14]).
نتيجة
وفي اعتبار ابن حزم أن المتشابه هو فقط الحروف المقطعة والأقسام الواردة في بعض السور، وأن كل ما في القرآن الكريم عدا هذين فقط من المحكم الذي يجوز تأويله لفتحٌ لباب الدرس لكل آيات التنزيل العزيز دون خشية الوقوع في ما نهى الله عنه، وإن ذلك يتيح للعقل المسلم أن يبحث في كتابه الكريم بكل حرية طالما هو يملك أدوات ومؤهلات مثل هذا البحث.
2- في المشتبه
* روح التحريم
حينما يسود المجتمع، أي مجتمع، "روح التحريم" أو شهوة تحريم ما لا يحرمه الله نصًّا: لا في قرآن ولا في سنة صحيحة، وإنما خوف الوقوع في الحرام، فهل يمكن أن يكون مثل هذا المجتمع تقيًا نقيًا يخشى الوقوع في الحرمات فيحرم المباحات؟ أم سوف يعتبر هذا المجتمع مجتمعًا "سادي المزاج" مختل النفس يحتاج إلى طبيب وعالم نفساني يعالجه، ليخلصه من عقد الشعور بالذنب والرغبة العارمة في تحريم كل شيء؟ لقد كان الطبيب هو أبو محمد علي بن سعيد بن حزم الأندلسي طبيب القرن الخامس ومعلمه العظيم.
* سد الذرائع
يقول ابن حزم: "لقد ذهب قوم إلى تحريم أشياء عن طريق الاحتياط وخوف أن يتذرع منها إلى الحرام البحت"([15])، ولقد ذهب هؤلاء إلى أن كل ما يكون ذريعة ووسيلة إلى حرام يكون حرامًا، وما غلب أنه ذريعة للحرام يكون حرامًا و"لقد أخذ المالكية والحنابلة بالذرائع وأكثروا منها إكثارًا عظيمًا"([16]).
* معنى الذرائع
الذرائع -لغة- جمع ذريعة، وهي ما كان طريقًا ووسيلة إلى الشيء، والذرائع -اصطلاحًا- كل عمل ظاهر الجواز يتوصل به إلى المحظور([17])، والأصل في اعتبار الذرائع هو النظر إلى مآلات الأفعال، فيأخذ الفعل حكمًا يتفق مع ما يؤول إليه سواء أكان ذلك الذي آل إليه الأول أم لا يقصده، فإذا كان الفعل يؤدي إلى مطلوب فهو مطلوب، وإذا كان يؤدي إلى شر، فهو منهي عنه([18]).
* مقاصد وذرائع
وينتهي المالكية والحنابلة إلى تقسيم أحكام الشريعة إلى قسمين:
القسم الأول: مقاصد: وهي الأمور التي مآلها تحقيق مصلحة أو مفسدة، فالمصلحة مطلوبة، والمفسدة منهي عنها.
القسم الثاني: ذرائع: وهي الأمور التي مآلها أو التي تفضي غالبًا إلى المقاصد فهي مطلوبة إن كانت مفضية إلى مطلوب ومنهي عنها، إن كانت تفضي إلى منهي عنه([19]).
والتعريف الأخير يتناول الذرائع من حيث سدها أو فتحها، وبالتالي يمكن تعريف الذريعة بأنها: الوسيلة المفضية إلى الأحكام الشرعية الخمسة([20]).
* حجج الآخذين بالذرائع
وقد عرض ابن حزم لحجج الآخذين بالذرائع ونقدها نقدًا حادًّا عنيفًا:
- الحمى وما حول الحمى
واحتج الآخذون بالذرائع بما قاله النبي، صلي الله عليه وسلم: "إن الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، وإن لكل ملك حمى وأن حمى الله محارمه"، وفي رأي ابن حزم أن هذا الحديث لا يفيد الوجوب وما هو إلا حض منه عليه السلام على الورع ونص جلي على أن ما حول الحمى ليس من الحمى، وأن تلك المشتبهات ليست بيقين من الحرام، وإذا لم تكن مما فصل من الحرام فهي في حكم الحلال بقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ}، مما لم يفصل فهو حلال بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً}، وبقوله، صلى الله عليه وسلم، (أعظم الناس جرمًا في الإسلام من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته) هذا الحديث إذًا -فيما يرى ابن حزم- ما هو إلا حض على الورع، وإنما هو مستحب للمرء خاصة فيما أشكل عليه، وأن حكم من استبان له الأمر فبخلاف ذلك([21]).
- حجة ثانية
واستدل الآخذون بالذرائع أيضًا بقول، صلى الله عليه وسلم: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين، حتى يدع ما لا بأس به حذرًا لما به بأس"، ويرى ابن حزم أن هذا الحديث كالسابق سواء بسواء، وإنما هو حض لا إيجاب.
- حجة ثالثة
واحتجوا أيضًا بما روي عن النبي، صلي الله عليه وسلم: "البر حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس" ويرد ابن حزم على هذه أيضًا بقوله: "ومعاذ الله أن يكون الحرام والحلال على ما وقع في النفس والنفوس تختلف أهواؤها والدين واحد لا اختلاف فيه، قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}([22]).
* تحريم المشتبه زيادة في الدين
ويقرر ابن حزم، في حسم كامل، أنه من حرم المشتبه وأفتى بذلك وحكم به على الناس، فقد زاد في الدين ما لم يأذن به الله تعالى، وخالف النبي، صلي الله عليه وسلم، واستدرك على ربه تعالى بعقله أشياء من الشريعة، وبين ابن حزم أنه يجب ألا نتكلف الحرام أو المشتبه فيه في كل شيء بغية تحريمه، واستدل على ذلك بقول النبي، صلي الله عليه وسلم، إذ سأله أصحابه فقالوا: أن أعرابًا حديثي عهد بالكفر يأتوننا بذبائح لا ندري أسموا الله تعالى عليها أم لا؟ فقال، صلى الله عليه وسلم: "سموا وكلوا" ورأى ابن حزم أن هذا الحديث "يرفع الإشكال جملة من هذا الباب، يعني باب المتشابه، فقد أمر، صلي الله عليه وسلم، من أطعمه أخوه شيئًا أن يأكل ولا يسأل"([23]).
* ابن حزم يحض على الورع
وابن حزم يحض الناس على الورع، ولكنه لا يحرم عليهم ما لم يحرم، ولا يزيد في الدين ما ليس فيه ما فعل كثير من الفقهاء من قبله ومن بعده: "فنحن نحض الناس على الورع كما حضهم النبي، صلي الله عليه وسلم، ونندبهم إليه ونشير عليهم باجتناب ما حاك في النفس ولا نقضي بذلك على أحد، ولا نفتيه به فتيا إلزام كما لم يقض بذلك رسول الله، صلى الله عليه وسلم"([24]).
* ويحرمون حلالاً كثيرًا
ولقد أدى الأمر بالذين أخذوا بالذرائع إلى تحريم كثير من الحلال خوف الوقوع في حرام مشكوك فيه، ويقول ابن حزم: "وأصحاب مالك يلزمون الطلاق ثلاثًا من يشك أطلق ثلاثًا أم أقل! ويفرقون بين من طلق إحدى امرأتيه ثمَّ لم يدر أيتها المطلقة وبينهما معًا فيطلقون كلتا امرأتيه (...) ويحرمون حلالاً كثيرًا خوف مواقعة الحرام وفي هذا عبرة لمن اعتبر، ليت شعري! كما تشفقون في الاستباحة من مواقعة الحرام أما تشفقون في قطعكم بالتحريم وبالتفريق من مواقعة الحرام في تحريمكم ما لم يحرم الله تعالى؟ وقد علم كل ذي دين أن تحريم ما لم يصح تحريمه عنده حرام عليه"([25]).
* وقعوا في نفس ما خافوا(!!)
ويرى ابن حزم أن التحريم للشك وأن تطليق امرأة الذي شك أطلق ثلاثًا أم لا بحجة الاحتياط في الدين وإحلال فرجها للآخر، وهي لم تطلق زوجها، لأن الطلاق لا يكون إلا بيقين .. فهذا هو الحرام حقًا، ومن قال بذلك منهم "فقد وقعوا في نفس ما خافوا بلا شك، ومن العجب أن خوف الحرام أن يقع فيه غيرهم -وقد لا يقع فيه- قد أوقعهم يقينًا في مواقعتهم بيقين الحرام أنهم حرموا ما لم يحرم الله تعالى، ومحرم الحلال كمحلل الحرام، ولا فرق"([26]).
* الاحتياط لا يحل
وعلى ذلك يقرر ابن حزم أنه لا يحلّ لأحد أن يحتاط في الدين، فيحرم ما لم يحرم الله تعالى، لأنه يكون حينئذ مفتريًا في الدين والله تعالى أحوط علينا من بعضنا على بعض؛ فالفرض علينا ألا نحرم إلا ما حرم الله تعالى، ونص على اسمه وصفته بتحريمه، وفرض علينا أن نبيح ما وراه ذلك بنصه تعالى على إباحة ما في الأرض لنا إلا ما نص على تحريمه، وأن لا نزيد في الدين شيئًا لم يأذن به الله تعالى؛ فمن فعل غير هذا -يقول ابن حزم- عصى الله عز وجل ورسوله، صلي الله عليه وسلم، وأتى بأعظم الكبائر"([27]).
* إلزام وإفحام
ويقول ابن حزم لمن جعل الاحتياط أصلاً يحرم ما لم يصح بالنص تحريمه ملزمًا إياه بنتائج رأيه: "يلزمك أن تحرم كل مشتبه يباح في السوق مما يمكن أن يكون حرامًا أو حلالاً ولا توقن بأنه حلال، ولا بأنه حرام ويلزمك أن تحرم معاملة من في ماله حرام وحلال".
ويقول أيضًا: "وإذا حرم شيئًا حلالاً خوف تذرع إلى حرام فليخص الرجال خوف أن يزنوا وليقتل الناس خوف أن يكفروا وليقطع الأعناب خوف أن يعمل منها الخمر"([28]).
* التحريم في الغالب والأكثر
وقد ورد البعض على ابن حزم بأن التحريم لا يكون في النادر، بل في الغالب أو الأكثر من الأمور والناتج من رأي ابن حزم أن الدين لو أخذ بهذه المقاييس التي لا تنضبط: الغالب -الأكثر- النادر لكان الدين فوضى، فما يراه البعض غالبًا في مكان قد يكون في رأي البعض الآخر كثيرًا في مكان آخر أو نادرًا في مكان ثالث.
يحرر ابن حزم العقل المسلم سواء في مسألة المتشابه أم في مسألة المشتبه ويتفرد برأي حرٍّ ما أحوجنا إليه الآن، في القرن الحادي والعشرين
* لا حكم إلا لليقين
ويرى ابن حزم أنه لا حكم إلا لليقين وحده والاحتياط كله هو أن لا يحرم المرء شيئًا إلا ما حرم الله تعالى، ولا يحل شيئًا إلا ما أحل الله تعالى، فإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أمر من توهم أنه أحدث أن لا تلتفت إلى ذلك، وأن يتمادى في صلاته وعلى حكم طهارته... هذا في الصلاة التي هي أوكد الشرائع، حتى يسمع صوتًا أو يشم رائحة، فلو كان الحكم بالاحتياط حقًا لكانت الصلاة أولى ما احتيط لها، ولكن الله تعالى لم يجعل لغير اليقين حكمًا([29]).
* الحكم بالتهمة والظن لا يجوز
وعلى هذا، فإن الحكم بالتهمة حرام عند ابن حزم لا يحل لأنه حكم بالظن وقد قال تعالى عائبًا لقوم قطعوا بظنونهم فقال: }وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً{ (آية 12: سورة الفتح) وقال تعالى: }إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى{ (آية 23: سورة النجم) وقال، صلى الله عليه وسلم: "الظن أكذب الحديث"([30]).
* الذرائع حكم بالظن
وعلى هذا يكون الأخذ بالذرائع حكمًا بالظن فيما يرى ابن حزم: "فكل من حرم بتهمة أو باحتياط لم يستيقن أمره أو بشيء خوف ذريعة إلى ما لم يكن بعد فقد حكم بالظن، وإذا حكم بالظن، فقد حكم بالكذب والباطل، وهذا لا يحل وهو حكم بالهوى وتجنب للحق ونعوذ بالله -يقول ابن حزم- من كل مذهب أدى إلى هذا"([31]).
* أدلة النص
ويأتي ابن حزم بأدلة النص لينسف حجج خصومه ويجهز عليها الإجهاز الأخير: "ومما يبطل قولهم غاية الإبطال قول الله: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} (آية 116: سورة النحل)، وقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} (آية 59: سورة يونس)، فصح بهاتين الآيتين أن كل من حرم أو حلل ما لم يأت إذن من الله تعالى في تحريمه أو تحليله، فقد افترى على الله كذبًا، ونحن على يقين من أن الله تعالى قد أحل لنا كل ما خلق في الأرض إلا ما فصل لنا تحريمه بالنص لقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} (آية 29: سورة البقرة)، وقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُم} (آية 119: سورة الأنعام)، فبطل بهذين النصين الجليلين أن يحرم أحد شيئًا باحتياط أو خوف تذرع"([32]).
نتيجة
فالحلال حلال، وهو ما في الأرض جميعًا.
والحرام حرام، وهو مبين مفصل بالنص تفصيلاً.
والمشتبه بينهما ليس حرامًا، لأنه لم ينص عليه ولم يفصل.
وما دام لم ينص عليه ولم يفصل فهو حلال، لأنه ليس إلا حرام أو حلال.
قسمة عقلية واضحة بينة بذاتها والاحتياط كل الاحتياط ألا نتخذ الذرائع وسائل لتحريم ما لم يأت به نص كما قرر ذلك الطبيب والعالم القرطبي "ابن حزم".
هكذا يحرر ابن حزم العقل المسلم سواء في مسألة المتشابه أم في مسألة المشتبه ويتفرد برأي حرٍّ ما أحوجنا إليه الآن، نحن المسلمين، في القرن الحادي والعشرين.
قائمة المصادر والمراجع
- ابن حزم (علي بن أحمد بن سعيد الأندلسي)، الإحكام في أصول الأحكام، دار الآفاق الجديدة، بيروت، الطبعة الثانية، 1983م.
- الزركشي (بدر الدين محمد بن عبد الله)، البرهان في علوم القرآن: تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، بيروت، ج2، الطبعة الثانية، 1972م.
- الزمخشري (محمود بن عمر)، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، المطبعة البهية بمصر، ج1، الطبعة الأولى، 1343 ﻫ.
- د. صالح بن عبد العزيز آل منصور، أصول الفقه وابن تيمية، الطبعة الثانية، 1405 ﻫ- 1985م.
- الطبري (محمد بن جرير)، مختصر تفسير الطبري: دار الشروق، القاهرة.
- القرطبي (شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد ابن أبي بكر بن فرح الأنصاري)، الجامع لأحكام القرآن: دار الغد العربي، القاهرة، 1989م.
- محمد أبو زهرة، ابن حزم، حياته وعصره وآراؤه وفقهه، دار الفكر العربي، القاهرة، 1978م.
([1]) الزركشي (بدر الدين محمد بن عبد الله): البرهان في علوم القرآن: تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، بيروت، ج2، الطبعة الثانية، 1972م، ص68
([2]) الزمخشري (محمود بن عمر): الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، المطبعة البهية بمصر، ج1، الطبعة الأولى، 1343 ﻫـ، ص134
([3]) الطبري: (محمد بن جرير)، مختصر تفسير الطبري: دار الشروق، القاهرة، ص54
([4]) الزركشي: البرهان في علوم القرآن، جـ2، ص69
([5]) الطبري: مختصر تفسير الطبري، ص55
([6]) الزمخشري: الكشاف، جـ1، ص134
([7]) القرطبي: (شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد ابن أبي بكر بن فرح الأنصاري)، الجامع لأحكام القرآن، دار الغد العربي، القاهرة، جـ2، 1989م، ص1363
([8]) تفسير القرطبي: جـ2، ص1363
([9]) ابن حزم: (علي بن أحمد بن سعيد الأندلسي).الإحكام في أصول الأحكام، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ج4، الطبعة الثانية، 1983م، ص122
([10]) ابن حزم: الإحكام، جـ4، ص123
([11]) ابن حزم: الإحكام، جـ4، ص124
([12]) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، جـ2، ص1396
([13]) الزمخشري: الكشاف، جـ1، ص136
([14]) ابن حزم: الإحكام، جـ4، ص126
([15]) ابن حزم: الإحكام، جـ6، ص2
([16]) محمد أبو زهرة: حياته وعصره وآراؤه وفقهه، دار الفكر العربي، القاهرة، 1978م، ص424
([17]) د. صالح بن عبد العزيز: أصول الفقه، جـ2، ص479
([18]) محمد أبو زهرة: أصول الفقه، ص269
([19]) محمد أبو زهرة: ابن حزم، ص425
([20]) د. صالح بن عبد العزيز: أصول الفقه وابن تيمية، ج2 الطبعة الثانية، 1405 ﻫ- 1985م، ص480
([21]) ابن حزم: الإحكام، جـ6، ص3
([22]) ابن حزم: الإحكام، جـ6، ص4
([23]) ابن حزم: الإحكام، جـ6، ص7
([24]) ابن حزم: الإحكام، جـ6، ص7
([25]) ابن حزم: الإحكام، جـ6، ص9
([26]) ابن حزم: الإحكام، جـ6، ص9
([27]) ابن حزم: الإحكام، جـ6، ص10
([28]) ابن حزم: الإحكام، جـ6، ص11
([29]) ابن حزم: الإحكام، جـ6، ص12
([30]) ابن حزم: الإحكام، جـ6، ص20
([31]) ابن حزم: الإحكام، جـ6، ص13
([32]) ابن حزم: الإحكام، المصدر نفسه.