في مساءلة رشدية: الجابري وطه عبد الرحمن
فئة : قراءات في كتب
صدر قبل أسابيع كتاب الدكتور عبد النبي الحري الموسوم بـ "طه عبد الرحمن ومحمد الجابري: صراع المشروعين على أرض الحكمة الرشدية"، عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، وهو دراسة لعلمين شغلا الدرس الفلسفي العربي المعاصر. وبالنظر إلى الدراسات التي تزخر بها المكتبة العربية، والتي تناولت كل من الجابري وطه عبد الرحمن، إما احتفاءً أو نقدًا أو نقضًا، يلح السؤال: ما هي الإضافة التي قدمها الكاتب؟ أقصد الدكتور الحري. والقارئ الحصيف لا يعدم الإجابة؛ فهي في نظري تكمن في طبيعة الاشتغال المنهجي الذي خطه الباحث لنفسه على مستويين:
الأول: اقتصاره بالدرس والتحليل على إحدى أبرز القضايا الخلافية بين الرجلين حد "الصراع" بتعبير الباحث، والمقصود "الحكمة الرشدية"؛ فهذه القضية تستبطن تصورين مختلفين حد التناقض في تقويم التراث.
الثاني: اختطاط الحري لنفسه خطًا محايدًا نسبيًا، ومحاولته وضع مسافة بينه وبين المشروعين، وإخفاء تحيزاته الفكرية التي تتفلت من فينة إلى أخرى، وهذا ليس أمرًا معيبًا مادام الباحث متمسكًا بمقاربته المنهجية الصارمة.
تضمن الكتاب قسمين مع مقدمة، تضمن كل باب مدخلاً وثلاثة فصول، ولأن الدراسة مقارنة، فقد خص الباحث القسم الأول للجابري، عرض فيه مذهب الأخير في دراسته للتراث الرشدي ومنطلقاته الفلسفية والإيديولوجية. أما القسم الثاني، فيعرض فيه الباحث منطلقات ما أسماه بالنزعة المضادة للرشدية كما جسدها طه عبد الرحمن.
واقتضت الضرورة المنهجية، التي التزم بها الباحث، بيان الخطوط العريضة للرؤية الفلسفية لكل من الجابري وطه عبد الرحمن، حتى يتبين القارئ المسارات التي اتخذها كل واحد منهما لنفسه في تقويم التراث عمومًا، والموقف من المتن الرشدي على وجه الخصوص.
تتأسس استراتيجية الجابري النقدية على ما أسماه بـ"الفصل والوصل"؛ أي فصل التراث عنا ليكون معاصرًا لنفسه، ووصله بنا ليكون معاصرًا لنا، وللجابري مطمح هو تجاوز ما أسماه القراءات السلفية للتراث، وقد سعى الدكتور الحري إلى بيان العناصر المؤسسة لمقاربة الجابري المتضمنة في كتاب "نحن والتراث"، حيث ميز بين مستويين في هذه المقاربة:
الأول: عناصر الرؤية، وتتأسس على ثلاثة اعتبارات؛ أما الأول فأن الفلسفة الإسلامية منتج أصيل عكس آمال وأحلام ومشاكل وآلام المجتمع الإسلامي، وأن تاريخ هذه الفلسفة يبدأ مع التعرف على الفلسفة اليونانية، ثم الجزم بأن الرشدية هي ما يصلح لنا اليوم.
الثاني: خطوات المنهج المتمثلة في القطيعة مع الفهم التراثي للتراث؛ أي التحرر من الرواسب التراثية في عملية فهمنا للتراث، ثم فصل المقروء عن القارئ عبر مسلكيات ثلاث هي البنيوية والتاريخية والإيديولوجية، وأخيرًا وصل التراث بنا وإعادته إلينا في حلة جديدة من خلال اختراق حدود اللغة التراثية لقراءة المسكوت عنه.
توقف الكاتب في محطات كثيرة عند هذا الإعجاب الكبير الذي خصه الجابري لابن رشد، من خلال استفهامه، أقصد الحري، الأقرب إلى الإنكار عن المدح والثناء الكبير الذي يبديه الجابري لفيلسوف قرطبة، وهو موقف يشاطره الحري فيه عدد من المفكرين، منهم المحسوب على التيار الرشدي كمحمد المصباحي، وسالم يفوت، ومحمد وقيدي؛ فهؤلاء تحضر نصوصهم في الكتاب نقادًا يستند إليهم صاحبنا في نقده إلى جانب آخرين كرضوان السيد وناصف نصار...إلخ
يرى كل من ناصف نصار ورضوان السيد، أن هذا الإعجاب الذي يظهره الجابري لابن رشد تحكمه دوافع أيديولوجية صرفة، تنخرط في قضية النهضة القومية العربية، وهذا ما يبرر في نظر صاحب الكتاب تغييب الجابري للعدة النقدية التي وصفها بالأسلحة الثقيلة والخفيفة في قراءته للمتن الرشدي، هذا المقصد الإيديولوجي في رشديات الجابري زحزحت هذا الأخير، في نظر الباحث، عن قواعد الصناعة الفلسفية التي تقتضي دراسة ابن رشد من أجل ذاته، وليس من أجل توظيفه في معارك إيديولوجية لا علاقة له بها.
أما بخصوص الرؤية المنهجية عند طه عبد الرحمن، فقد قاربها الباحث الحري منطلقًا من أرضية استخلصها من متابعته للمشروع النقدي الطهاوي، وهي المقاربة التي رسمت الخطوط الأساسية لما خطه الكاتب حول موقف طه من الرشدية، ومفادها أن " كل قول عن الصورة التي يرسمها طه عبد الرحمن لابن رشد، يمر من الصورة التي يرسمها الجابري لابن رشد؛ فما يقوم الأخير ببنائه من مشاهد لتلك الصورة يقوم الأول بهدمها وتحطيمها في إطار لعبة فكرية لتبادل الأدوار وتوزيعها بين البناء والهدم."
وضمن هذه المسلكية في التحليل للمتن الطهائي، يوثق الباحث القضايا التي عابها طه على الجابري ومنها:
-استناد المقاربة الجابرية إلى الآليات الاستهلاكية أو الفرعية، وهي على ضربين؛ آليات عقلانية مجردة، وآليات فكرانية إيديولوجية، انتهت به إلى موقف المفاضلة، حيث فضل الجابري وانتصر للبرهان على حساب البيان والعرفان.
-اكتفاء الجابري بالاشتغال على المضامين بدل الآليات، فعوض التوسم بالآليات المأصولة اكتفى بنقل آليات استقاها من التداول الغربي بشكل انتقائي متضارب من مثل، إبستمولوجية جون بياجي، ولالاند وبشلار، وفلسفة التاريخ الهيجلية والماركسية...إلخ، ثم إن هذه الآليات نفسها لم يلحظ الجابري تقادمها في عقر دارها ولم ينتبه إلى شروط إنتاجها، مما جعله في نظر طه يقع في خطأ التفاوت بين القصد والفعل.
واستخلص الباحث من متابعته لهذا الحوار الفكري، أن إبطال التقويم التفاضلي للتراث الإسلامي العربي في خطاب الجابري، هو بالنسبة لطه شرط ضروري لإثبات نظرته "التكاملية" إلى التراث العربي الإسلامي، غير أن طه عبد الرحمن، في نظر الباحث، لم يتجاوز حد الادعاء، فإذا كان منطق المفاضلة هو الذي حكم الجابري في انتصاره لابن رشد وبرهانيته، كما هو الأمر عندما اعتبر الشاطبي امتدادًا لهذه البرهانية الرشدية، فإن المنطق نفسه هو الذي حكم طه المؤطر برغبة في تحرير الشاطبي من برهانية ابن رشد، وتنسيبه للعرفان.
بناء على ذلك، يقرر الباحث عبد النبي الحري أن سر الإبداع وعنصر الجدة في المشروع الطهاوي لا يعدو أن يكون مجرد استبدال للتسميات مع المحافظة على المسميات نفسها، وهي العقل المجرد (=البرهان) والعقل المسدد (= البيان) والعقل المؤيد (= العرفان).
وهكذا لاحظ الكاتب كيف أن طه عاب على الجابري المفاضلة لكنه مارسها، فقد تنزل عنده ابن رشد إلى المرتبة الأدنى في حين يجعل ابن خلدون يتبوّأ المرتبة الأعلى، ويضع الغزالي في المنزلة بين المنزلتين، مع أن هذا الأخير كان أقرب إلى العرفان، لكن السبب عنده؛ أي طه، في تنزل الغزالي هذه المرتبة الوسطى هو تمسكه بالمنطق الأرسطي مثل ابن رشد، وهذا يسقط طه في فخ القراءة الفكرانية.
فالبعد الإيديولوجي في المشروعين أمر مشترك، وهذا ما سجله الباحث، فإذا كان الجابري يسعى إلى استثمار العناصر المضيئة في التراث من أجل بناء مستقبل قومي عربي، فإن كتاب "الحق العربي في الاختلاف الفلسفي" هو في نظر الباحث مرافعة للدفاع عن أطروحة قومية الفلسفة.
إن فكرانية طه عبد الرحمن وإيديولوجيته لا تقل عن إيديولوجية الجابري، مع فارق أساسي هو أن الأول يصارح القارئ منذ البداية بنيته الإيديولوجية، بينما يخفيها الثاني.