في مفهوم الانفصال
فئة : مقالات
سيكون من قبيل الابتسار الجزم بأن المفهوم الفلسفي للانفصال، يرجع أساسًا إلى الأبحاث الإبيستمولوجية المعاصرة وما صاحبها من إعادة النظر في تواريخ العلوم، عند غاستون باشلار خاصة. فيكفي أن نعود بأذهاننا إلى التحولات التي سنتها مدرسة الحوليات في مجال التاريخ، بكتابات مارك بلوك بداية لنتأكد من ذلك. صحيح أن إبيستمولوجية باشلار لم تنمُ بعيدًا عن هذه المدرسة، ويكفي أن نذكر أن كتابه "المادية العقلانية" ظهر في السنة نفسها التي ظهر فيها كتاب مارك بلوك "دفاعًا عن التاريخ"، إلا أن هناك كتابات عرفت النور بعيدًا عن الانشغال الإبيستمولوجي، مثل كتابات موريس بلانشو ورولان بارت، وقد أولت هي الأخرى اهتمامًا كبيرًا لمفهوم الانفصال، مبرزة أهميته لا في مجال الفلسفة وتاريخ الأفكار وحدهما، بل في مجال النقد الأدبي.
وعلى الرغم من ذلك، فإن المجد الذي عرفه المفهوم فيما بعد، وفي فرنسا على أقل تقدير، يرجع بالأساس إلى زمرة من المفكرين الذين تتلمذوا على يد باشلار، والذين اشتغلوا في ميادين متنوعة، فوظفوا المفهوم في أنواع توظيف مختلفة، نذكر من بينهم لوي ألتوسير، وميشيل فوكو، وجورج كانغيليم...إلخ.
تتجلى على هذا النحو الأهمية القصوى التي أولتها فلسفة العلوم وتاريخها عند غاستون باشلار، لانتقاد مفهوم الاتصال إبرازًا للمكانة التي ما فتئ نقيضه يتخذها مع تطور العلوم المعاصرة.
ويُجمل باشلار في كتابه سابق الذكر، مختلف الركائز التي يعتمدها دعاة الاتصال في مجال الإبيستمولوجية وتاريخ العلوم في مجموعة نقاط أساسية منها:
أولاً: أن هؤلاء يحلو لهم التوقف عند بدايات العلم وبواكيره، إذ يكون التقدم العلمي بطيء الحركة، تبدو هاته كما لو كانت حركة مسترسلة متواصلة.هذا التوقف عند الإرهاصات يستبعد الاهتمام بالأزمنة المتجددة "تلك التي يتصدع فيها النمو العلمي وينفجر من جميع جوانبه، فـ"يفجّر" بالضرورة الإبيستمولوجية التقليدية".
وثمة طريقة أخرى يعتمدها خصوم الانفصال، هي إسنادهم نمو العلوم إلى "خدام مجهولي الاسم": "وهكذا، فإن أصحاب الاتصال يحلو لهم الذهاب إلى القول بأن التقدم كان لا يبدو في الأفق عندما كشف عنه العبقري. حينئذ تدخل مفهومات "الأجواء" و"الآفاق" و"التأثيرات" في الاعتبار، وليس من شك في أن مفهوم التأثير هذا هو الذي يسمح لأصحاب النظرة الاتصالية باختراق الأزمنة والعصور.
ويلاحظ باشلار بأنه من السهل أن نتبين لا جدوى مفهوم الاتصال إذا أولينا نظرنا إلى نقل الحقائق والكشوف في العلوم المعاصرة، فـ "وصف الفكر العلمي كما لو كان فكرًا توجهه حقيقة وثوقية لا جدال حولها هو وصف لصورة أكل الدهر عليها وشرب، فنسيج التاريخ العلمي المعاصر هو نسيج الجدال والنقاش، وإن الحجج التي تتبادل فيه وتتصارع، هي مناسبات متعددة لتجلي الانفصال". ثم يضيف إلى كل هذه المسوغات التي تطبع النظرة إلى تاريخ العلوم عاملاً آخر، يعود هذه المرة إلى الموقف الإبيستمولوجي لدعاة الاتصال: "فما داموا يعتقدون باتصال المعرفة العادية بالمعرفة العلمية، فهم يسهرون على الإبقاء على الاتصال عينه، بل يشعرون بضرورة دعمه ومساندته، فيستلذون الوقوف عند العلم الابتدائي، "العلم السهل اليسير، ويأخذون على عاتقهم أن يجعلوا الطالب يشاطر المعرفة الأولية سكونها وثباتها."
لكن حين نشرع في انتقاد المعرفة الأولية، فإننا ننفصل عن بادئ الرأي، لكننا ننفصل أيضًا عن الثقافة العلمية الساذجة، فنتمكن، لا من أن نجاري النمو فحسب، وإنما من أن نتعقب الانفجارات والقطيعات والفواصل، فنتبين آنئذ طبيعة الحركية التي تطبع تاريخ المعرفة العلمية، والمخاض العسير الذي يتحكم فيه، والذي لا يقتصر على سريان تأثيرات هادئة تتبدى لبعض العباقرة في الأفق، وإنما يتمخض عن صراعات ومقاومات وخصامات تنفصل فيها المعرفة العلمية عن ذاتها، وتتنكر لماضيها. وهكذا سيأخذ مؤرخ العلوم على عاتقه، بل المؤرخ بصفة عامة، على حد تعبير ميشيل فوكو: "كشف حدود حركة من حركات التطور، ونقطة انعراج منحنى من المنحنيات، وانعكاس حركة منظمة، وأطراف اهتزاز من الاهتزازات، وعتبة حركات من الحركات، ولحظة خلل عملية دائرية." وحدها هذه الرؤية هي الكفيلة بأن تنقذنا من هوس الارتقاء اللا محدود نحو البدايات، ومتابعة خطوط التطور، وتعيين الغايات واللجوء اللا منقطع لمفهوم الحياة لاستعارة معانيه.
وليس خافيًا ما يتطلبه ذلك من جهد، مادام يقتضي تقويض أساس الميتافيزيقا الحديثة، إذ لا ينبغي أن ننسى، كما ينبهنا فوكو، أن التاريخ المتصل هو الحليف الذي لا محيد عنه للدور التأسيسي للذات الفاعلة، إنه ما يضمن لها استعادة كل ما ضاع منها، وما يؤكد أن الزمان لا يفرق بين الأشياء إلا لكي يعيد إليها وحدتها، وما يعد بأن كل الأمور التي أقصاها الاختلاف، في مقدور الذات الفاعلة - في صورة الوعي التاريخي- أن تتملكها ذات يوم. فتسود عليها وتجد فيها مأواها، "فأن نجعل من التحليل التاريخي خطابًا للمتصل، ومن الوعي البشري ذاتًا فاعلة هي مصدر كل صيرورة ممارسة: هذان وجهان للمنظومة الفكرية نفسها. في هذه المنظومة ينظر إلى الزمان كتوليد لكليات مُوحدة، وإلى الثورات كوعي بالذات".