في مفهوم التّنوير
فئة : مقالات
يعد مفهوم التّنوير من بين أهم المفاهيم التي شغلت عقول الفلاسفة والمفكرين في القرون الأخيرة، ويعد موضوعًا راهنًا بالنسبة لأمّتنا الإسلاميّة، رغم أنه لم يظهر عندنا بشكل جليّ وواضح, بل لازال مفهومًا ملتبسًا ومجهولاً عند كثيرين. ولهذا، فإنني سأعمل في هذا المقال على تسليط الضوء عليه؛ فما هو التّنوير؟ وأين ظهر؟ وما هي العوامل التي ساهمت في نشأته؟ وهل هو مرتبط بالإلحاد؟ وما هي القضايا التي يدافع عنها الإنسان التّنويري؟ وهل هناك تنوير واحد أم أنه متعدد ومتنوع؟ وهل من الممكن أن ينشأ تنوير خاص بنا نحن المسلمين؟ سأحاول أن أجيب عن هذه الأسئلة, غير أنه لا يفوتني أن أشير إلى أن موضوعًا كهذا لا يمكن أن يلم به بحث صغير، لذا فإن هذه السطور هي مجرّد مقال بسيط متواضع لا ندعي أنه قد ألمّ أو أجاب عن كلّ الأسئلة التي يطرحها بشكل دقيق عميق تفصيلي.
إن التّنوير في اللّغة هو وقت إسفار الصبح, فيقال: صلى الفجر في التّنوير. والتّنوير في أصله يعود لمصدر نوّر, ونجد في المعجم أن كلمة نوّر تأتي بمعنّى: أضاء, ويقال نوّر المكان, ونوّر الصّبح؛ أي أسفر وظهر نوره، ونوّر على فلان أي أرشده وبين له أمرًا. ويقال: نور الله قلبه بمعنى هداه إلى الحقّ والخير، وعمل على تنوير فكره؛ أي جعله متنورًا. وأمّا الأنوار، وقد سمي عصر بهذا الاسم، وهو عصر الأنوار، فهو جمع تكسير من أفعل تفضيل من النّور, فيقال هذا أنور من ذاك أي أوضح وأبين, والأنوار الحسن المشرق اللّون. وأما النّور، فهو الضّوء وسطوعه والنّور ما يبين الأشياء ويري الأبصار حقيقتها. ولفظة النّور في اللّغة العربيّة وفي النّصوص الإسلاميّة قديمة. وقد حملت سورة قرآنيّة اسم "النّور"، ثم إن هناك كثيرا من الآيات الّتي ذكرت كلمة النّور للإشارة إلى الإسلام أو الإيمان الذي يخرج الإنسان من الظلمات.
وأمّا لفظة التّنوير في أوروبّا، فظهرت أول مرة في فرنسا, وذلك حين استخدم الأب ديبوس لفظ عصر التّنوير في العام 1733, واستخدمه روسو في الخطاب الأول العام 1750 واستخدمه جان لورون دالمبير الذي ساهم في الموسوعة سنة 1751, ثم استخدمه آخرون في كلّ أنحاء فرنسا. وأمّا في ألمانيا، فقد ظهر لفظ التّنوير عندما تساءل كانط في نقاش حوله سنة 1784 عن: هل نحن نعيش الآن في عصر متنور؟ وكانت الإجابة لا, بل نعيش في عصر التّنوير.[1] أمّا في بريطانيا، فقد استغرق اسم التّنوير أكثر من قرن حتى ظهر باللّغة الإنجليزيّة ذلك أنه أطلق أول مرة على مذهب فلاسفة فرنسا المتنورون لفظ: تفلسف، وبعد سنوات طويلة ظهر مصطلح الاستنارة، وبعدها في العام 1899 استعمل أحد مترجمي كتاب هيغل فلسفة التّاريخ كلمة تجليّة أو إيضاح الفرنسيّة, وذلك لأنه ليس هناك لفظ متداول في اللّغة الإنجليزيّة يدل على تلك الحركة التنويريّة. وقد ظهرت الطبعة الحادية عشرة الشهيرة لدائرة المعارف البريطانيّة في العام 1911 من دون أن تتناول موضوع التّنوير، إلا أنه في الطبعة الرابعة عشرة في سنة 1929 تضمنت الموضوع, وأطلقت؛ أي دائرة المعارف البريطانيّة, اللّفظ على الألمان خصوصًا, ولم ينطبق على الفرنسيّين والإنجليز إلا بشكل عرضي.[2]
وقد ارتبط اسم التّنوير فلسفيًّا بحركة قامت في أوروبّا تعتمد فكرة إعمال العقل في فهم الواقع، كما أن هذه الحركة وقفت ضدّ الحروب الدينيّة المذهبيّة, بل إنّها لم تظهر إلا نتيجة الصراعات الدّينيّة الدّمويّة التي عرفها القرنان السادس عشر والسابع عشر.[3] وعليه فالتّنوير هو حركة اجتماعيّة وحركة عقليّة[4] تقف ضدّ أية عصبيّة مذهبيّة، ولذا يمكن أن نستنتج أن الإنسان التّنويري لا يقف إلى جانب طائفته ضدّ طائفة أخرى, بل إنه يرتفع عن جميع الطوائف، لأنه يؤمن بقيمة الإنسان قبل كلّ شيء. ولنا في القصّة الشهيرة لوقوف فولتير مع عائلة جان كالاس خير مثال عن مواقف الإنسان التّنويري.
ولقد ارتبط التّنوير بانتشار المعرفة العلميّة والاقتداء بآراء العلماء، ومما مهد الطريق أمام هذه الفكرة؛ أي فكرة المعرفة العلميّة, هو انتشار البروتستانتيّة التي سبق أن طرحت فكرة الإيمان الفردي, و"أن كل شخص ينبغي أن يتصرف وفق تقديره هو" فكذلك أصبح من واجب الإنسان أن يتطلع إلى الطبيعة بنفسه[5] من خلال التجربة والخطأ وتصحيح الخطأ؛ أي بواسطة العلم. ومعلوم أن عصر التّنوير, كما قدمت, هو تقدير للنشاط العقلي،[6] يستهدف نشر النّور، حيث كان الظلام من خلال من كانوا يدافعون عن النظريات الباليّة القديمة من رجال دين وساسة مستبدين. ولذلك، نجده ارتبط بجماعة "أصحاب الأقلام" الذين وضعوا الموسوعة وأشرفوا على صالونات باريس الثقافيّة. فالموسوعة هي الأثر البارز الذي خلقه التنوير في القرن الثامن عشر, وهي عبارة عن عمل ضخم تضمن كلّ المعرفة العلميّة المتاحة في ذلك العصر، وكان واضعوها التنويريون يأملون أن ينتجوا بها أداة فعالة في الصراع ضدّجهالة السلطة[7] والحقّ أن من يقرأ تاريخ الفكر الإسلامي، يلاحظ أنه وجدت في تاريخنا جماعة فلسفيّة سبقت الموسوعيين؛ أعني جماعة إخوان الصفاء وخلان الوفاء،* التي ألفت الرسائل الموسوعيّة في الإلهيات والطبيعيات والأخلاق والديانات والسياسة...إلخ، يقول إخوان الصفاء عن رسائلهم: "وقد عملنا في هذه العلوم والآداب إحدى وخمسين رسالة, كل واحدة منها في فنّ من العلوم ونوع من الآداب, فاطلبها واقرأها, تجدها سهلة من غير تعب وكدّ." وقالوا في أجمل عباراتهم: "ولا تشغلن بذكر عيوب مذاهب النّاس, ولكن انظر هل لك مذهب بدون عيب."[8] فضلاً عن أن الباحث في الفكر الإسلامي ينتبه لفرقة المعتزلة التي رأت أن الله كان يرغب في سيادة العقل، لأنه أشرف شيء خلقه.[9] وقديمًا قيل: إن المعتزلة تهدم الإسلام من الداخل, مع أنّ هذه الفرقة الكلاميّة لم تظهر إلا لتقاوم الفكر الغنوصي, كما أن إخوان الصفاء لم يظهروا إلا لتقويم الشريعة و"نفي شبهة الملحدة وجحدة الأنبياء." فأنقذوا الإسلام، ولم يهدموه. فلم لا نرى في العقلانيّين والتّنويريين اليوم منقذين للإسلام؟ أم أنه لا شيء قد جد منذ القدم, فتيار العقل محاصر في كل زمان ومكان في أرضنا العربيّة المغاربيّة.
وهل يمكن أن نقول ترتيبًا على ما سبق: إن التّنوير أو العقلانيّة ليست دخيلة علينا, وإنّما هي جزء من ثقافتنا وتراثنا, والعقل، وإن كان غائبًا عنا في إسلام اليوم، فإنه لم يكن غائبًا في تراثنا، رغم المحاربة التي تعرض لها؟ ولطالما سمعنا وقرأنا أن استعمال العقل واجب وأن الإسلام لا يجافي العقل, مع أن الواقع يقول خلاف ذلك دائمًا, كما أن التّاريخ الإسلامي لم يفسح مجالاً للتيار العقلي إلا نادرًا. ولذلك، فمن الضروري التوقف هنا لمناقشة هذا الموضوع لكن بإيجاز شديد.
يرى عبد الله العروي أن العقلانيّة والعقل ليسا مسألة نظرية صرفًا, وإنّما هما مسألة عمليّة, تتعلق بمدى تجسّد الفكرة في الواقع.[10] وهذا هو الأمر الذي لم يحدث عندنا، لأن العقل ظل مستسلمًا لمسلمات الدّين والإيمان, فلم يستطع تجاوز التّراث، خلاف ما حدث في الغرب، فالعقل هناك قاد ثورة فكريّة وعلميّة أدت إلى مقتل بعض أصحابها على يد الكنيسة. في حين أن من قتلوا في تاريخنا كانوا ضحايا نقص الإيمان، وليس العلم بمفهومه الحديث.[11] أي أنهم كانوا أصحاب عقائد مختلفة, إمّا صوفيّة أو كلاميّة...إلخ. وعليه، فإن فرضيّة التّلازم بين الإسلام والعقل بمعناه الفلسفي الحديث، حسب العروي، غير صائبة.
وقبل الختام، لا بد من الحديث عن مسألة العلاقة بين الإلحاد والتّنوير، إذ يذهب الأستاذ عبد الله العروي إلى القول إن فلسفة التنوير "تمثل نسقًا فكريًا يحاكم نظامًا معينًا أينما وجد وتصرفًا معينًا أينما شوهد"[12] هذا النظام والتصرف متجسدان في الدّين وفي السلطة السياسيّة. ولقد ربط بعض أعداء التّنوير هذه المحاكمة الفكريّة بالإلحاد، مع أن التّنوير في بداياته لم يكن عملاً معاديًا للدين. فآراء ديدرو, مثلاً, كانت قريبة من آراء اسبينوزا حول وحدة الوجود، كما أن فولتير كان يؤمن بوجود قوة خارقة للطبيعة. وهذان الفيلسوفان وغيرهما كانا من رواد التّنوير الغربي، ثم إن الاتجاه المهيمن على الأنوار, وفق الفيلسوف تزفيتان تودوروف, لا يجد نفسه في الإلحاد, بل في الدّين الطبيعي. كما أن هذه المحاكمات التي يقوم بها التّنوير لا تهدف إلى التشكيك والقدح في الأديان, وإنّما تهدف إلى إشاعة روح التّسامح والدفاع عن حريّة الاعتقاد.[13]
وننهي هذا المقال بالفكرتين التّاليتين:
الأولى: يمكن أن نستخلص صفات الإنسان التّنويري وأهم القضايا التي ينبغي أن يدافع عنها مما ذكرناه, فنقول إنه شخص يؤمن بالعقل وبالنّقد وبالحريّة وبالتّقدم، وأنه يعيد التّذكير بما أصبح في الغرب مسلمات بدهية, فيكتب مثلاً عن الكرامة الإنسانيّة والحريّة والمساواة والتّسامح الدّينيّ...إلخ، وبرنامجه هو الإحياء الثقافي ونشر الثقافة النقديّة, كما أنه يدين كلّ الفكر الطائفي, وكلّ تعصب مذهبي. والتّنوير إصلاح يسعى من أجعل العقل والحريّة والعدالة والمساواة، ولعلّه في أوطاننا قد تأخر عن موعده كثيرًا.
الثانيّة: التّنوير ليس واحدًا, حسب غيرترود هيملفارب, بل إن له أشكالا كثيرة عرفها الغرب؛ فالتّنوير البريطاني مختلف عن التّنوير الفرنسي في كونه ركز على الفضائل الاجتماعيّة دون أن يعادي الكنيسة بشكل جذري, في حين ركز الأخير على العقل وعلى مهاجمة الكنيسة بقوة, كما أن كلا التنويرين مختلفين عن التّنوير الأمريكي الذي اهتم بالحريات السياسيّة, وإن كانوا جميعًا يتشاركون في الهدف, وهو الإصلاح وجعل هذا العالم مكانًا صالحًا للعيش. فضلاً عن السمات العامة، وهي العقل والطبيعة والحقوق... إلخ، فحريٌ بنا إذن, وهذا أمر ممكن, أن نبحث عن تنويرنا الإسلامي وفق طابع حضارتنا الفريد, ولاسيما أن بعض فلاسفة التّنوير تحدثوا بشكل إيجابي عن الإسلام, فروسو, على سبيل المثال, قال في كتابه السياسي الشهير العقد الاجتماعي: "وكان لمحمد نظرات صائبة جدًّا, فقد أحسن ربط نظامه السياسي ومادام شكل حكومته قد دام في ظلّ خلفائه, فإن هذه الحكومة كانت واحدة تمامًا, وصالحة في هذا"[14] ثم إن البروتستانتيّة التي ساهمت في ظهور التّنوير الأوروبي, حيث مثلت الإصلاح الدّيني, تعتبر قريبة من الإسلام فكريًا وروحيًّا.
[1] غيرترود هيملفارب, الطرق إلى الحداثة, تر: محمود سيد أحمد, سلسلة عالم المعرفة, عدد367 سبتمبر 2009، ص 16
[2] غيرترود هيملفارب, مرجع نفسه, ص ص 16- 17
[3] برتراند رسل, حكمة الغرب, تر: فؤاد زكريا, سلسلة عالم المعرفة, عدد365، ط2، يوليو 2009, ج2، ص 126
[4] غيرترود هيملفارب, الطرق إلى الحداثة, مرجع سابق, ص 8
[5] برتراند رسل, مرجع سابق, ص 126
[6] برتراند رسل, المرجع نفسه, ص 126
[7] برتراند رسل, المرجع نفسه, ص 130
*أدرج الأستاذ الجابري جماعة إخوان الصفاء ضمن تيار العقل المستقيل في الإسلام, بيد أن الأستاذ جورج طرابيشي قام بنقد هذا الرأي وأكد على عقلانية إخوان الصفاء. وأما عن نسبة هذه الجماعة للشيعة الإسماعيليّة ففي الأمر نقاش, وقد تعرض لهذا الموضوع الأستاذ فراس السواح في كتابه طريق إخوان الصفاء.
[8] إخوان الصفاء, رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء, بيروت, دار صادر، مج3، ص 501
[9] "يرى المعتزلة أن الله وهب الإنسان العقل ومن خلاله يصلح حاله في بناء نظامه الاجتماعي المناسب, فأية نظرية هذه التي سيقبلها العالم بأجمعه وتصلح لكل مكان وزمان؟ فالله لا يفكر بدلاً من الإنسان، والذين يقولون هذا لم يدركوا ما هو الله, لذا لا يتخيلونه إلا بمثال الملك ورعيته, وهذا ما حارب المعتزلة من أجل إلغائه بمبدئهم المشهور: نفي الصفات." انظر: رشيد الخيون, جدل التنزيل مع كتاب خلق القرآن للجاحظ, منشورات الجمل.
[10] عبد الإله بلقزيز, نقد العقل المعقول, مجلة النهضة, العدد الثامن، ربيع صيف 2014، ص 27
[11] الفضل شلق, العروي ومفهوم العقل, مجلة النهضة, مرجع سابق, ص 54
[12] عبد الله العروي, الإيديولوجيا العربية المعاصرة, المركز الثقافي العربي, ط2، 1999, ص 43
[13] تزفيتان تودوروف, مشروع الأنوار, تر: حسن العمراني, مجلة يتفكرون, عدد1, ص 255
[14] جان جاك روسو, في العقد الاجتماعي, تر: ذوقان قرقوط, بيروت، دار القلم, ص 204