في مفهوم القبيلة لدى عبد الله العروي
فئة : مقالات
مما لا شك فيه تتعدى القبيلة مساحتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية إلى ما هو سياسي؛ وتنبري بوصفها مؤسسةً محوريةً في السيرورة التاريخية للمجتمع المغربي؛ وعليه هل يتم رصد السياسي بناءً على الوقائع؟ أم أنّ بناءه لا يتجاوز ملاحظته باعتباره منظمًا شكليًّا للكل الاجتماعي؟ فالبرهنة البنيوية لا تتوانى في بنائها عن الاستعانة بمفاهيم "الدولة القائمة" أو "الدولة الغائبة"، وأنّ أساس النظام الاجتماعي هو السلطة والطاعة.
هذه البرهنة وعلى الرغم من مشروعيتها تستدعي بعض التريث، خصوصاً وأنّ كل طاعة ليست بالضرورة سياسية، وأنّ المجتمع لا يعيش نظامًا واحدًا، بل أنظمة متعددة يساهم فيها الأشخاص والمجموعات الاجتماعية، مما يؤدي في النهاية إلى بروز نظام يتسلط على الأنظمة الأخرى، لكن هذا البروز ما يلبث أن يظهر حتى يختفي مرة أخرى، وتبدأ من جديد الدورات التسلطية.
فهل ينبغي رسم حدود السياسي بالرجوع إلى العلاقات الاجتماعية؟ أم بتجاوزها إلى النظام الرمزي/الثقافي؟ أم أنّ الأمر يتعلق بتفاعل للكل داخل سيرورة تاريخية مدمجة؟
ومع ما عرفه ويعرفه المجتمع المغربي من تحولات اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية/رمزية، ومع التركيب الذي يتميز به، فهل مازلنا في حاجة إلى تحيين أسئلة عبد الله العروي حوله؟ وهل للمواضيع السوسيولوجية التي اقترحها علينا أي تواتر نحو حاضرنا؟ وهل يمكننا اعتبار العروي حلقة وصل بين الإسطوغرافيا الوطنية والأدب الكولونيالي والسوسيولوجيا المغربية المعاصرة؟ وفيما يتعلق بالقبيلة ألا يمكننا تعميم استنتاجاته؟ ولفهم ما تعنيه القبيلة بالنسبة إلى العروي سننطلق من الأسئلة التالية:
ما هي القبيلة؟ هل هي شكل مورفولوجي؟ أم هي مضمون ثقافي؟ أم هي مجال جغرافي؟ وبالتالي أليست القبيلة هي كل هذه الخصائص مجتمعة بوصفها نسقًا؟ وهل هناك ظروف خاصة تظهر فيها القبيلة ثم تختفي؟ أم أنّها موجودة بشكل دائم؟ وهل للقبيلة وظيفة سياسية أم أدوار سياسية؟ وهل من الممكن أن تتوفر القبيلة على اقتصادها الخاص؟ وبالتالي ما هي العلاقة التي للقبيلة مع مجالها الايكولوجي؟ وما هي العلاقة التي تربط المخزن مع القبيلة؟ هل يستقيم الحديث عن قبائل مخزنية وأخرى غير مخزنية؟
1- القبيلة بين التراث والكولونيالية وبدايات الدولة الوطنية:
لم تشغل تلك الأسئلة فقط تفكير العروي، بل سبقه إلى ذلك الكولونياليون، وقبلهم الإسطوغرافيون الوطنيون، فالتراكم النظري الذي أنتجه الكولونياليون والتراكم التراثي الذي تركه الإسطوغرافيون المغاربة، ما زال يسدل ستاره على إشكالية بلورة مفهوم للقبيلة منسجم يمكن حصره في إطار نظري وبالتالي تعميمه.
يؤكد العروي منذ البداية أنّه سيشتغل على النظريات التي قدمت تحليلاً لعلاقات القوة بين المخزن والنخب المحلية، والتي ناقشت "السيبة" ودرجة الوعي بالهوية المحلية، بغض النظر عن التفكير الخلدوني ومفهوم القبيلة في شكلها الهلالي، وعمقها الجينيالوجي الذي شكل أساسًا نقديًّا لدراسات الكولونياليين.
فمن الترابط/التعارض بين الأدبين الكولونيالي والتراثي ينطلق العروي لسبر مفهوم "القبيلة" من خلال "تأصيب" لقواعد السلطة المنافسة للمخزن، ومنه يخلص إلى سؤال مفصلي حول الشروط العامة التي تظهر فيها مؤسسة تسمى "قبيلة" بشكل متواتر داخل المجتمع، حيث يعمد العروي إلى محاولة تجاوز المصادر التاريخية الوطنية والدراسات الكولونيالية في الوقت نفسه، ومن جهة ثانية يريد وضع مفهوم القبيلة في إطاره التاريخي بعيدًا عن الاستعمالات الإيديولوجية؛ [1] لتصبح بالتالي موضوعًا للتفسير وليس منطلقًا لتفسير سيرورة تاريخية معينة.[2]
فالعروي يريد تجاوز فكرتين شائعتين عن القبيلة: الأولى مفادها أنّ للقبائل المغربية الأصول الجينيالوجية نفسها، والفكرة الثانية مفادها أنّ للقبيلة بعد إثني يتمثل في العمق الأمازيغي. فالحديث عن القبيلة: "...هو بالضرورة حديث عن شأن وضع لم يسبق له أن توقف عن التطور، تم شرحه بنظريات متحولة."[3]، حيث يعترف العروي بأنّ أطروحة "مونطان" هي الأطروحة الوحيدة التي اقترحتها الإثنولوجيا طيلة فترة الاستعمار، إذ تؤسس لنظرية تفسر بشكل عام المجتمع الشمال إفريقي، بما تحمله من إيديولوجيا ونظمنة لجغرافية المؤسّسات.[4]
وقد بنى العروي اعترافه هذا على ثلاثة محاور يقدمها "مونطان" في كتابه "المخزن والأمازيغ": أولا تشتغل القبيلة بوصفها مؤسسة مرتبطة بالفلاحة والملك الجماعي خارج مفهوم دولة المخزن، ثانيًا تعتمد على عمقها الإثني لتدبير نفسها وإعادة بناء السيرورة التطورية التي تحكمها، ثالثًا أَدمجَ العروي المحورين في نظرية للقبيلة الأمازيغية تقوم على العرف، السيبة والمخزن.
فالبنية الثابتة داخل هذه النظرية هي "تقبيلت"، وهي الخلية البدائية التي تتكاثر لتشكل "اللف"، والذي يظهر عندما تحاول قبائل مخزنية أو المخزن نفسه إضعاف القبيلة التي بدأت تشتغل بالعرف مقابل الشرع، لتتولد الصراعات وتحل السيبة التي هي فوضى تدخل الفرحة على القبائل، وذلك لتمنحها الفرصة لإعادة إحياء مؤسساتها القديمة والنداء على "الأمغار" المخلّص من الهيمنة المخزنية؛ وعلى الرغم من أنّ القبائل كلّها تكرارية في بنياتها، فإنّه لا تقبل أية قبيلة أن تختفي طوعًا أو أن تصهر في قبيلة أخرى؛ فلا يحصل ذلك إلاّ إذا قهرت بالقوة أو نزلت بها خطوب، وقد تختفي أو تضعف نتيجة الكوارث الطبيعية.[5]
وينتقد العروي هذه النظرية، كون مونطان أرجع بروز المخلص الأمغار إلى سببين: سياسة المخزن ودينامية المؤسسات القبلية؛ حيث يعطي العروي أسبابًا أخرى تسرّع هذا البروز: ارتفاع ديون القائد تجاه السلطة المركزية، تفقير الفلاحين، والتركيز على تنمية مناطق فلاحية دون أخرى. كما أنّ مونطان يغفل التمردات القروية وتمردات من يحملون السلطة الدينية، كما أنّ ظاهرة الأمغار تمّ تجاوزها بظاهرة القيدوية الشيء الذي لم ينتبه إليه مونطان، لينتقل بنا إلى أطروحة "بيرك"، الذي حاول الحصول على أجوبة واضحة لأطروحة مونطان لكنّه في الأخير لم يحصل على شيء، وبالمقابل اكتشف التناغم والتكامل بين "البنية الاجتماعية" و"البنية الايكولوجية للقبيلة بعيدًا كل البعد عن العمق الأمازيغي الذي أقرّه مونطان.
فإذا كان مونطان قد اقترح "تقبيلت"، باعتبارها خليةً بدائيةً أوليةً في تكوين القبيلة، فإنّ "بيرك" لا يوافقه الرأي، بينما يحدد "التقبيلت" مكانًا لصراع العشائر والعائلات و"الأخص" هو من يشكل "تقبيلت" أو لا يشكلها؛ أما فيما يخص العرف فهو يوجد أيضًا عند القبائل العربية كما يوجد عند القبائل الأمازيغية، ويمكن ملاحظة ذلك في حديث الشيوخ المسننين عندما يقولون: "راسي عريان" أي رأسي مكشوف، وهي شبيهة بتادة عند الأمازيغ.
فعناصر القبيلة تتناغم مع المعطيات الطبيعية، لتتضخم مرة وتنحسر أخرى، وبالتالي فالتقبيلت ليست واقعًا طبيعيًّا بقدر ما هو افتراضي في الأذهان يتجلى واقعيًّا عند الأزمات، حيث لا يظهر إلا عندما يتعلق الأمر بالمعطى الإيكولوجي، وذلك للدفاع أو وضع حدّ لصراع الأخص بينهم؛ فالخيط الناظم إذن بين الانحسار والتضخم هو الأسماء؛ فما تبقى من أسماء في سكساوة تفقد معناها الأنثربولوجي لكونها غير مرتبطة بالمخزن نفسه ولا بالقبائل المخزنية، بقدر ما هي مرتبطة بالأساس بالأماكن الجغرافية.
لقد نقل بيرك مجال الصراع من القبيلة/الخارج إلى مجال القبيلة/ الداخل، وذلك كون الصراع الدائم والثابث هو الذي يقوم بين "الأخص" داخل التقبيلت حول الحظوة والريادة، وحول حقوق السقي والرعي وتدبير "تغديرت" داخل المجال المملوك للتجمع العشائري المشترك.
أمّا الصراع القبيلة/الخارج فلا يظهر إلاّ لمامًا مع التهديد بالسطو على المجالات الأيكولوجية للقبيلة من طرف القبائل الأخرى أو رفض الانصياع لأداء الضرائب أو "المونة" للحركة المخزنية، والذي يتطور إلى "لفّ" أو "صفّ".
لكن مع النظرية الانقسامية للأنغلوساكسونيين الذين اهتموا بالمغرب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فإنّ هذا الاهتمام النظري لم يطور ببحث أكاديمي علمي إلاّ بعد إنشاء الدولة الوطنية بالمغرب، من خلال الدراسة التي قام بها "غيلنر"، والتي حاول من خلالها تقديم المغرب بوصفه قبيلة كبيرةً انقساميةً، واستدعى الزاوية ليجعلها السبب الرئيس في الانقسامية الأمازيغية، وأدمج المفهومين في مفهوم "الهامش"، ليؤكد أنّ القبائل الأمازيغية في علاقتها بـ"المركز" والسلطة المخزنية كانت دومًا مستقلة إداريًّا وسياسيًّا، لكنّها لم تكن مستقلّة ثقافيًّا.
ويعيب عليه العروي أنّه لم يعرف القبيلة، ولم يستطع أن يستخرج لها مفهومًا قابلاً للتحقق الواقعي، وذلك كونه أراد فقط إسقاط البنيوية والانقسامية ومفهوم الهامش في الأنثربولوجيا السياسية على المجتمع المغربي، دون عناء التحقق من قابلية المجتمع المغربي في تكوينه الفسيسفائي للمطابقة مع النظرية الانقسامية؛ وبالتالي لم يبدل سوى المصطلحات التي اقترحها "مونطان" و"بيرك"، حيث أصبحت الديمقراطية الأمازيغية هي الانقسامية، والانحسار هو الهامش.
فاستعراض هذه النظريات بالنسبة إلى العروي، ليس سوى استجلاء لحقائق بعيون مغايرة للمجتمع المغربي في مقابل التراث الإسطوغرافي المخزني؛ حيث يسعى إلى تجاوزهما معًا من أجل بناء مفهوم للقبيلة يمكّن من تحليل مقنع للتاريخ المغربي من جهة، ويساهم في تراكم معرفي علمي لمقاربة الحاضر من جهة ثانية.
2- المستوى القبلي بين السيبة وعدم المشاركة:
لم يظهر مفهوم "السيبة" في الكتابات الخلدونية، حيث إنّ ابن خلدون ارتكز على العصبية ركيزةً أساسيةً ومنبعًا للفعل التاريخي في تأسيس الدول ودوامها وزوالها[6]؛ فمفهوم السيبة لم يظهر وبِحِدّة إلا في نهاية القرن التاسع عشر، ويشير، من بين ما يشير إليه، إلى كثير من المعاني والمدلولات، والتأويلات التي تمتح من القاموس العربي ومن الفهم العامي.
فالسيبة هي حالة من المعارضة والتعارض، حيث يكون المخزن فيها معرضًا من طرف القبائل الرحل، والقبائل المستقرة، ثم القبائل الأمازيغية، وفي بعض الحالات بتحالف مع الزوايا؛ فهذه المعارضة تنبني أساسًا حول لواء الفقه الذي يحمله المخزن في مقابل لواء العرف الذي تنادي به القبائل مهما كانت أصولها عندما يشتد عليها الخناق الاقتصادي، أو عندما يهمشها المخزن نفسه؛ فالمخزن يعرف عدوه جيّدًا عندما يعرف السيبة بالجاهلية.[7]
كما أنّ السيبة لا تتخذ شكلاً واحدًا على الرغم من بروزها للأسباب نفسها، فعندما يشد المخزن الخناق على القبائل تضعف قدرته على إدماجهم في نسقه، وبالتالي يصعب إشراكها في نظام المصالح السياسية، ومنه تنحصر تلك القبائل وتتراجع إلى الأقاصي البعيدة عنه، لتبقى فقط القبائل المشاركة في النظام؛ لتحشد القبائل غير المشاركة قواها وتحالفاتها وتبدأ دورة السيبة.
فمما يبدو أنّ النظام القبلي لا يحرك السيبة كما درج على ذلك الباحثون، ولكنه نظام الإنتاج الفيودالي، وذلك راجع بالأساس لخلط عميق بين القبيلة والترحال، حيث يتم ربط النظام القبلي بالتجمع الترابي، لتصبح بذلك القبيلة: "الوحدة الجماعية الصغيرة التي تمتلك وجودًا في ذاتها دون الحاجة إلى أصول جينيالوجية، لتتمثل بذلك في إطار شامل ينعكس فيه الأيكولوجي والاجتماعي...".[8]
فبنية هذه الوحدة لها تقريبًا المورفولوجية نفسها، لكن تختلف أدوارها بحسب المناطق والسيرورات مما يجعل التعميم شبه مستحيل في هذه الظروف، كونها تنبني على المعطى الأيكولوجي وتدحضه في العمق، حيث لا يتعلق الأمر بتجمع أصيل وأصلي، ولكن باقتسام واع ومستمر للمصالح المشتركة، ليصبح بذلك المستوى القبلي وظيفة تربط الإنسان بالطبيعة.[9]
فمن هذا المنظور يصبح المستوى القبلي عند العروي هو الضامن والدافع لدوام البنية القبلية، إذ هذا المستوى لا يهبها ولادتها التاريخية وإنّما يتوسط بين مستويات القاعدة البيولوجية، التبرير الإيديولوجي والمستوى فوق الحربي-السياسي.
فالمستوى القبلي يعيد فقط إنتاج البنية القبلية في مضمونها الاجتماعي وفي علاقة الفرد بمحيطه الإيكولوجي، إلاّ أنّه لا يعيد إنتاج النظام القبلي الكلي، وذلك كون هذا النظام هشّاً من جهة، ومن جهة أخرى رهين بالسيرورة السياسية والاقتصادية والظواهر الطبيعية، ليخلص العروي إلى أنّ هذا التعارض الموضوعي، هو الذي أفشل محاولات تعريف القبيلة بوصفها تنظيمًا اجتماعيًّا شموليًّا، كما أفشل أية محاولة لتدميرها، وذلك كون العشيرة[10] هي المحرّك الأساس لبنية النظام القبلي باستمرارها لتقسيم العمل داخل المجال.
خلاصة:
كنّا نبحث عن مفهوم للقبيلة عند العروي، إلاّ أنه هو نفسه لا يجد لها تعريفًا يستقيم مع الأدب النظري الذي أنتج حولها، بقدر ما يحيلنا إلى مستوى ضمن مستويات أخرى تتفاعل داخل المجتمع المغربي، والذي هو المستوى القبلي، حيث تشكل العشيرة البنية الواضحة الوحيدة المستقرة في سيرورته.
فماهية القبيلة تظل غير محددة والإشكالية المورفولوجية للقبيلة محلولة نظريًّا، لكن تحولاتها التاريخية تشكل إلى يومنا هذا عائقًا بامتياز، وذلك راجع بالتحديد إلى التركيب والتعقيد الذي تتميز به إلى جانب تنظيمات أخرى موازية/متفاعلة معها، وبالتالي ألا يمكننا القول إنّ القبيلة لم تكن الحقيقة الوحيدة المحرّكة للتاريخ السياسي المغربي؟
[1] عبد الكبير الخطيبي، النقد المزدوج، مطابع عكاظ، 1990، ص 13
[2] المختار الهراس، القبيلة والدورة العصبية: قراءة في التحليل الخلدوني للمجتمع المغاربي، مجلة المستقبل العربي، ص 65
[3]Les Origines sociales et culturelles du nationalisme marocain (1830-1912), Paris, 1977
[4] نفسه ص 170
[5] عبد الله حمودي، الشيخ والمريد، ترجمة عبد المجيد جحفة، دار توبقال، 2000، ص 103
[6] المختار الهراس، القبيلة والدورة العصبية: قراءة في التحليل الخلدوني للمجتمع المغاربي، مجلة المستقبل العربي، ص 65
[7]- Les Origines sociales et culturelles du nationalisme marocain (1830-1912), Paris, 1977
[8] نفسه، ص 183
[9] نفسه، ص 184
[10] نفسه، ص 185